إثبات النفس

بيان إثبات النفس على الجملة

النفس أظهر من أن تحتاج إلى دليل في ثبوتها، فإن جميع خطابات الشرع تتوجه لا على معدوم، بل على موجود حي يفهم الخطاب، ولكن نحن نستظهر في بيانه، فنقول: من المعلوم الذي لا يرتاب فيه أن الأشياء مهما اشتركت في شيء، وافترقت في شيء آخر، فإن المشترك فيه غير المفترق فيه، ونصادف كافة الأجسام مشتركة في أنها أجسام، يمكن أن يُفرض فيها أبعاد ثلاثة متقاطعة، ثم نصادفها بعد ذلك مفترقة بالتحرك والإدراك، فإن كان تحركها لأجل جسميتها، فينبغي أن يكون كل جسم متحركًا؛ لأن الحقائق لا تختلف،١ وما يجب لنوع يجب لجميع ما يشاركه في ذلك النوع وتلك الحقيقة. وإن كان لمعنى وراء الجسمية، فقد ثبت على الجملة مبدأ للفعل، فذلك المبدأ هو النفس، إلى أن يتبين أنه جوهر أو عرض. مثال ذلك أنا نرى الأجسام النباتية تغتذي وتنمو وتولد المثل، وتتحرك حركات مختلفة من التشعيب والتعريق، فهذه المعاني إن كانت للجسمية، فينبغي أن تكون جميع الأجسام كذلك، وإن كانت لغير الجسمية بل لمعنى زائد، فذلك المعنى يسمى نفسًا نباتية، ثم الحيوان فيه ما في النبات ويحس ويتحرك بالإرادة، ويهتدي إلى مصالح نفسه، وله طلب لما ينفع، وهرب عمَّا يضر، فنعلم قطعًا أن فيه معنى زائدًا على الأجسام النباتية. ثم نجد الإنسان فيه جميع ما في النبات والحيوان من المعاني، ويتميز بإدراك الأشياء الخارجة عن الحس، مثل أن الكل أعظم من الجزء، فيدرك الجزئيات بالحواس الخمس، ويدرك الكليات بالمشاعر العقلية، ويشارك الحيوان في الحواس ويفارقه في المشاعر العقلية، فإن الإنسان يدرك الكلي من كل جزئي، ويجعل ذلك الكلي مقدمة قياس، ويستنتج منه نتيجة، فلا الإدراك الكلي يُنكَر ولا المدرك لذلك يُجحَد، ولا العرض ولا الجسم القابل للعرض ولا النبات ولا الحيوان غير الإنسان يدرك الكلِّي، حتى يقوم به الكلي فينقسم بأقسام الجسم؛ إذ الكلي له وحدة خاصة من حيث هو كلي لا ينقسم البتة، فلا يكون للإنسان المطلق الكلي نصف وثلث وربع، فقابل الصورة الكلية جوهر لا جسم ولا عرض في جسم، ولا وَضْعَ له ولا أين له فيُشار إليه، بل وجوده وجود عقلي أخفى من كل شيء عند الحس، وأظهر من كل شيء للعقل، فثبت بهذا وجود النفس، وثبت على الجملة أنه جوهر، وثبت أنه منزه عن المادة والصور الجسمانية.

تقسيم يظهر فيه مبادئ الأفعال

فنقول: كل مبدأ يصدر منه فعل، فإما أن يكون له شعور بفعله أو لم يكن، فإن لم يكن له شعور، فإما أن يكون فعله متحدًا على نسق واحد، وإما أن يكون مختلفًا، وإن كان له شعور فإما أن يكون تعقل أو لم يكن، فإن كان له تعقل، فإما أن يكون فعله متحدًا على نسق واحد، وإما أن يكون مختلفًا، فهذه خمسة أقسام،٢ فما كان فعله متحدًا وليس له شعور، فذلك المبدأ يسمى مبدأً طبيعيًّا كما في الأجسام الثقيلة من الهبوط، وفي الخفيفة من الصعود. وإن كان فعله مختلفًا وليس له شعور فهو النفس النباتي، فإن النبات يتحرك حركات مختلفة، وإن كان له شعور وليس له تعقل فهو النفس الحيواني، وإن كان له تعقل ومع التعقل اختيارٌ في الفعل والترك فهو النفس الإنساني، وإن كان له تعقل وفعله على نهج واحد غير مختلف فهو النفس الفلكي.

رسم النفوس الثلاثة

فنرسم النفوس الثلاثة بمراسمها، فإن شرائط الحد الحقيقي متعذر الوجود ها هنا، بل وفي كل الموجودات.

فنقول:
  • أما النفس النباتية: فهي الكمال الأول٣ لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتغذى وينمو ويولد المثل.
  • وأما النفس الحيوانية: فهي الكمال الأول لجسم طبيعيٍّ آليٍّ من جهة ما يدرك الجزيئات ويتحرك بالإرادة.
  • وأما النفس الإنسانية: فهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفاعيل بالاختيار العقلي، والاستنباط بالرأي، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.

وقولنا الكمال الأول؛ أي من غير واسطة كمال آخر؛ لأن الكمال قد يكون أولًا وقد يكون ثانيًا.

وقولنا لجسم طبيعي؛ أي غير صناعي، لا في الأذهان بل في الأعيان.

وقولنا آلي؛ أي ذي آلات يستعين بها ذلك الكمال الأول في تحصيل الكمالات الثانية والثالثة، ولفظ الكمال أولى من لفظ القوة؛ لأن القوة تكون بالنسبة إلى ما يصدر عنها من الأفعال، أو بالقياس إلى ما تقبله من الصور المحسوسة والمعقولة. وإطلاق لفظ القوة عليهما يكون باشتراك الاسم، فيكون الحد مشتملًا على لفظ مشترك، وإن عنِي بالحدِّ أحدهما كان الحد ناقصًا.

ولفظ الكمال يشمل القوتين بالتواطؤ فهو أولى، فإن قيل إنه صورة، كان ذلك بالإضافة إلى المادة التي تحلها، فيجتمع منها جوهر نباتي أو حيواني.

ولفظ الكمال بالقياس إلى جملة الجواهر، ولاستكمال الجنس به نوع محصل في الأنواع، وهو نسبة الخاص إلى الشيء العام الغير البعيد من جوهره، فهو أولى من لفظ الصورة، ويجب أن يعلم أنه إذا قيل نفس «أي أطلق» على صورة الفلك وعلى صورة النبات والحيوان والإنسان، فإنما يقال باشتراك الاسم، فإن النفوس الفلكية ليست تفعل بآلات، ولا الحياة فيها حياة التغذي والنمو، ولا إحساسها إحساس الحيوان، ولا نطقها نطق الإنسان.

١  أي في لوازم الحقيقة الواحدة.
٢  وهي هذه: (١) ما ليس له شعور، وفعله متحد. (٢) ما ليس له شعور، وفعله مختلف. (٣) ما له شعور، ولم يكن له تعقل. (٤) ما له شعور، وتعقل وفعله متحد. (٥) ما له شعور وتعقل، وفعله مختلف.
٣  قال أرسطاطاليس: «النفس كمال أول لجسم طبيعيٍّ آليٍّ ذي حياة بالقوة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤