سؤالات وانفصالات تحتها نفائس من العلوم

السؤال الأول

فإن قيل: قد قلتم فيما سبق أن النفس قد يكون له استعداد محض بالنسبة إلى المعقول، وقد قلتم إن كل مجرد عن لواحق المواد فهو عقل بالفعل، فما أرى هذا إلَّا تناقضًا، فإن كان النفس مجردًا فهو عقل بالفعل، وإن لم يكن مجردًا فليس بعقل.

فإن قلتم إنه عقل بالفعل، وإنما لا يدرك المعقول لاشتغاله بالبدن، فكيف كان يكون البدن تابعًا له خادمًا في كثير من الأشياء، وكيف يكون معينًا له على التردد في ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج من الفكر الخالية، وكيف يكون تابعًا عائقًا.

قلنا: ليس كل مجرد كيفما كان هو عقل بالفعل؛ أي تكون المعقولات حاصلة له دفعة، بل المجرد التام هو الذي لا تكون المادة سببًا لحدوثه بوجه من الوجوه، ولا سببًا لهيئة من هيئاته ولا لتشخصه، وقولك كيف يكون تابعًا وعائقًا هذا غير مستبعد، فقد يكون الشيء ممكنًا من شيء وعائقًا عنه، فالبدن قد يعين النفس في كثير من الأشياء — على ما سيُتلى عليك — وقد يكون عائقًا عن كثير من الأشياء — على ما سيُتلى عليك — وقد يكون عائقًا عن كثير من الأشياء؛ وذلك إذا أكبَّت على الشهوات ومقتضى صفات البدن، واشتغلت بالحواس الظاهرة والباطنة.

السؤال الثاني

فإن قيل: قد قيل إن النفس إذا حصلت فيها الصورة المعقولة لا يبطل استعدادها، ومعلوم أن الاستعداد مع حصول الصورة بالفعل لا يجتمعان.

قلنا: هذا نوع مغالطة وعماية، فإن الاستعداد إنما يكون بالنسبة إلى ما لم يحصل لا بالنسبة إلى ما حصل. وما يحصل لنا من المعقولات غير متناهٍ ولا يحصل دفعة ما دامت النفس مشغولة بالبدن أو بما صحبها من عوارض البدن، بل إنما يحصل بقدر ما يُكتسب وبقدر ما يفيض عليها من هداية الله وأنوار رحمته.

نعم قد تكون النفس في الاستفاضة والاستعداد مختلفة، فنفس كأنه زيت يضيء ولو لم تمسسه نار، فتطلع على جلايا من المعقولات غير محصورة دفعة واحدة، فيكون الفيض به متواصلًا متواليًا متواترًا غير مفقود، وأخرى له تفكر كثيرًا لا يرجع الفكر عليه برادة، وأخرى متوسطة بينهما. وفي تلك الأوساط تفاوت وأعداد ومراتب لا تحصى، وفيها يتفاوت الناس رفعة ودرجة، وعزًّا وذكرًا وقربًا من الله تعالى.

السؤال الثالث

فإن قيل: معلوم أن النفس إنما تطلع على المعقولات بواسطة ملك يُسمى عقلًا، يفيض منه المعقولات على النفس البشرية، وهي إنما تتصل به بواسطة مطالعة الصور في الخيال؛ أعني الفكر والنظر وترتيب المقدمات بعضها على بعض، وهذا إنما يكون إذا كان الجسم والخيال باقيًا، فإذا تعطل الخيال بالموت، فكيف تتصل به حتى يفيضَ عليه حقائق المعقولات، وقد قلتم إن البدن عائق، فإذا فارق البدن يطلع على المعقولات ويتَّصل به دوام الفيض، فكيف يكون هذا؟

قلنا: اعلم أن النفوس مختلفة، فنفس مشرق صافٍ عن الكدورات، يتلألأ فيه أنوار العلوم، مؤيد من عند الله، ثاقب الحدس، ذكيُّ الذهن، لا يحتاج إلى الفكر والنظر، بل يفيض عليه من أنوار العلوم بواسطة الملأ الأعلى ما يشاء من المعقولات على براهينها، بل ولو لم يشأ حتى كأنه من كثرة ما يستولي عليه من المعقولات يشرق على خياله وحسه، فهذا النقش من المعقول يأتي المحسوس والمخيل، فيحاكيه بما يناسبه من الأمثلة فيخبر عنه، فهذا في جلابيب البدن كأنه قد نضاها واتصل بعالم القدس، فسواء عنده مفارقة البدن وملابسته، فإنه يستعمل البدن لا البدن يستعمله، وينتفع به البدن لا هو ينتفع بالبدن، ويخرج العقول إلى الفعل لا أنه يخرج إلى الفعل، فهذا هو العقل القدسي النبوي. ونفسٌ أخرى إنما تصل إلى العلوم وحقائق المعقولات بواسطة البدن وقواه، واكتسابه العلوم بواسطة المقدمات الخيالية، ولكن هذا إنما يكون ما دام ملابسًا للبدن، فإذا فارق البدن وكان مستقلًّا مستوسقًا، وكان قد حصل له استعداد بالغ، وزيتهُ قد صُفِّيَ، ونفسه قد هُذِّبَ، فإذا فارق اتصل ولا يحتاج إلى الخيال والفكر، بل يكون عائقًا، وكثيرًا ما يصير المعين عائقًا إذا استغنى عنه، وتفاوت هذا الصنف الوسط من النفوس كثير، وفيه تتفاوت السعادة والرفعة والقربة من الله تعالى ونفس تكون متشبثة بالإقناعات الواهية والخيالات المتداعية، فإذا فارقت البدن تكون الخيالات متشبثة بها، فإما أن يبقى فيها أو يتخلص بعد حين.

السؤال الرابع

فإن قيل: قد قيل إن النفس قد تطالع الصور الخيالية وهي في أجسام، والنفس مفارقة لا تحاذي الأجسام ولا توازيها، فكيف يكون هذا؟

قلنا: هذا إنما يشكل أن لو كان يأخذها خيالية جسمانية، أما إذا كان يأخذها مجردة فليس فيه إشكال. وقولك بأنها مفارقة والصور جسمانية هذا صحيح، ولكن معلوم أن بين النفس والبدن علاقة معقولة، يتأثر أحدهما عن الآخر؛ ولهذا إذا تذكر النفس جانب القدس اقشعرَّ البدن ويقف شعره، وكذلك النفس تتأثر عن مقتضيات البدن من الغضب والشهوة والحس وغير ذلك، فالنفس مهما طالعت الصور الخيالية على الوجه الذي يليق بها فإنه يتأثر عنها، وإذا تأثر عنها استعدَّ لأن يفيض عليه المطلوب رحمة من الله ولطفًا به؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات، أَلَا فتعرَّضوا لها.» فينبغي أن تكون النفس متعرضة لنفحات فضل الله حتى يفيض عليها؛ إذ ليس في جود الجوَّاد الحق بخل، وليس بيدنا تحصيل المعقولات بل التعرض لتلك النفحات، ثم استعداد التعرض أيضًا موهبة إلهية لا تنال بيد الاكتساب.

السؤال الخامس

فإن قيل: معلوم أن النفس تعقل المعقولات مترتبة مفصَّلة، وقد قيل إن ما يعقل المعقولات المترتبة المفصلة فليس ببسيط واحد من كل وجه، وقد ثبت أن ما يدرك المعقولات كيفما كان يكون مجرَّدًا لا تقدير للانقسام فيه، فالنفس إما أن تكون صورة مادية فتكون جسمانية، فينبغي أن لا تدرك المعقولات، أو تكون مجردًا مفارقًا فيكون إدراكها لا على الترتيب والتفصيل، وليس بين الحالتين مرتبة أخرى.

قلنا: صَدَقتَ فيما قلت؛ النفس تدرك المعقولات مفصلة ومرتبة، وما يدرك المعقولات مفصلة مرتبة فليس له وحدة صرفة وتجريد محض؛ إذ هو بالنسبة إلى بعض المعقولات بالقوة، ففيه ما بالقوة وفيه ما بالفعل، فالواحد الحق هو الله سبحانه فلا جرم، ليس له شيء منتظر لا ذاته ولا صفاته، ويكن التركيب منفيًّا عنه من كل وجه قولًا وعقلًا وقدرًا، ما سواه فلا يخلو عن تركيبٍ ما، وإن كان من حيث العقل لا تركيبًا جسمانيًّا أو متوهمًا، حتى أن العقل الذي هو المبدع الأول لا يكون واحدًا صرفًا بل فيه اعتباران؛ ولهذا صدر منه أكثر من الواحد.

السؤال السادس

فإن قيل: إذا حصلت الصورة المعقولة للنفس استحضرت النفس تلك الصورة، فهل تحتاج إلى إدراك آخر … إنها أدركت أو حصلت لها الصورة المعقولة المجردة.

قلنا: لا، بل نفس الإدراك، وإنما هو حصول الصورة مجردة للنفس، فإن حصلت فقد أدركتها، وإلَّا فيُعدُّ غير مدرك ولا واسطة بينهما، ولا يحتاج إلى إدراك آخر، فإنه يتسلسل.

السؤال السابع

فإن قيل: النفس في تحصيل المعقولات تفزع إلى القوة المفكرة، فتستعملها في ترتيب المقدمات واستنتاج المطالب، وهذا إنما يكون في اليقظة إذا أقبلت عليها، وفي النوم تتعطل المخيلة وكذا بعد الموت، فكيف يحصل بعد ذلك المعقول؟

قلنا: أولًا، غير مسلَّم أن القوة المفكرة تبطل في النوم وأن النفس تتعطل عن ذلك، بل كثيرًا ما تستولي النفس على المتخيلة، إذا كانت خالية عن شواغل الحواس، فتغصبها وتستعملها في مطالبها؛ ولهذا ينكشف كثير من المعقولات في النوم.

نعم، الغالب أن المتخيلة تستولي في النوم ولا تطيع النفس، وتجد الحس المشترك خاليًا فتنقش فيه الصورة؛ ولهذا يحتاج أكثر الرؤيا إلى التعبير، ثم النفس قد تحتاج في المعقول إلى المفكرة، بل يكون قوي الحدس زاكي النفس، فيحصل له المعقولات ابتداءً، فإن لم تحصل ابتداءً فعقب شوق إلى تحصيل معقول، فيفيض عليه المعقولات، فإن عجز عن ذلك ولا يكون له القوة الحدسية القدسية، فحينئذٍ تفزع إلى الفكر واستعمال التخيل في استنباط المعقول.

السؤال الثامن

فإن قيل: قد سلف أن النفس تدرك المعاني الكلية المجردة، وتدرك نفسها وهي جزئية، فكيف يكون هذا؟

قلنا: تدرك المجردات عن لواحق الأجسام وعوارض المواد، سواء كان كليًّا أو جزئيًّا، ونفسك وإن كان جزئيًّا، ولكن هو مجرد عن صفات الأجسام، فتشعر بنفسك، إنما لا تدرك نفسك الأجسام إلَّا بآلة جسمانية، أما نفسك فليست بجسمانية، وإدراك نفسك لنفسك ليس إلَّا حصول حقيقتها لها، فإن حقيقتها المجردة حاصلة لها وليس ذلك مرتين، فإن حقيقتها واحدة ليست مرتين، وقد بيَّنا أنه لا معنى للمعقول إلَّا حصول مجرد للعاقل، وليس كل معقول يحصل لشيء كيف كان يكون معقولًا، بل مع شرط زائد وهو أن يكون مجردًا، ولا نعني بقولنا حقيقتنا حاصلة لنا بالوجود، فإن الوجود يكون لكل شيء.

ومن هذا تتنبه لسرٍّ عظيم، وهو أن الحقيقة التي لنا لا يشاركنا فيها غيرنا من الحيوانات، فإن حقيقتنا المجردة غير حاصلة لها، ولا نعني أيضًا أن أصل حقيقتنا بالقياس إلى نفسه أنه موجود الوجود الذي له، ثم بالقياس إلى نفسه أنه معقول بزيادة أمر، فإن حقيقة النفس لا يعرض لها، مرة شيء ومرة ليس ذلك الشيء، وهي واحدة في وقت واحد، فليس لكونها معقولة زيادة شرط على كونها موجودة، الوجود الذي لها، بل زيادة شرط على الوجود مطلقًا، وهو أن وجودها وماهيتها أنها معقولة حاصلة لها في نفسها ليس لغيرها.

وهذا أجل ما أعرفه في هذه الفصول والبيانات، ويحتاج إلى تصور ورسوخ في النفس، فإن الأمور التصديقية لا يمكن أن يخبر عنها ما لم تصور في النفس ولم تترسخ، فإذا تمكنت النفس من التصور سارعت إلى التصديق.

وينبغي على هذا الفصل معرفة جميع الصفات الإلهية؛ لأن صفاته كلها اعتبارات وإضافات وسلوب، وليست زائدة على الذات ولا توجب كثرة في الذات.

السؤال التاسع

فإن قيل: إن كان التعقل هو أن يحصل للعاقل حقيقة المعقول، فإذًا يحصل لنا إذًا عقلنا الإله، والعقول بصور حقائقها، فلكلٍّ إذًا منها حقيقتان، فلِمَ لا يجوز أن يحصل لذواتنا أيضًا حقيقتان، وهناك يجوز؟

قلنا: إذا أمكننا أن نعقل المفارقات بصور حقائقها في نفوسنا فيكون لها حقيقتان؛ حقائق في أنفسها لأنفسها وهي بها مفارقة، وحقائق متصوَّرة فينا فهي لنا، وهي أعراض وأمثلة لتلك الحقائق. فإن العلوم بالجواهر لا يكون جواهر بل تكون في الأذهان عوارض وفي أنفسها جواهر، ثم إنا نشعر بذواتنا وليس شعورنا بها إلَّا حصول حقيقتنا لنا من غير واسطة، وإلا فيحصل دور، وذلك أنا إذا قلنا تعقَّلنا ذاتنا وأردنا بها إدراكًا ومثالًا غير حصول الحقيقة، فإنما يكون تعقُّلًا أن لو حصل حقيقته لنا، وإنما تحصل الحقيقة أن لو تعقلنا، وليس يتعلق الكلام بالتعقل أو الشعور، بل بكل إدراك كان، فإنه ملاحظة لحقيقة الشيء لا من حيث هي خارجة، ولو كانت المدركات هي الخارجة لم تكن الأمور المعدومة معقولة بل هي فينا، وليست الملاحظة وجودًا لها ثانيًا، بل نفس انتقاشها فينا، وإلا لتسلسل إلى غير النهاية، إلَّا أنا على سبيل التوسع، نقول: نلاحظ حقائقها تشبهًا بالمحسوسات على مجرى العادة، وعند التحقيق المحسوسات أيضًا ملاحظتها حصول حقائقها التي هي بها محسوسة لنا، حتى تصير الخارجة بها ملاحظة.

السؤال العاشر

فإن قال قائل: احسب أنَّا نعقل ذواتنا ولكن لم يتبين بعد أنه هل يجوز أن نعقل بآلة جسمانية أم لا؟ وهل القوة العقلية في جسم أم لا؟ فلمَ لا يجوز أن نحصل القوَّة العقلية في الجسم، فتشعر بها القوة الوهمية؟ كما أن القوة العاقلة تشعر بالقوة الوهمية، فلا تكون ذات القوة العقلية حاصلة لذاتها بل لغيرها، كما أن القوة الوهمية ليست حاصلة لذاتها بل مُثلًا للقوة العقلية.

قلنا: فينا أولًا قوة نُدرك بها المعاني الكلية، وأخرى بها ندرك الجزئيات، والقوة التي ندرك بها الكلي تدرك بما يدرك بها الكلي. وذلك سمِّه ما شئت ولكنا نسميه القوة العقلية، ولا يخلو إما أن يعتبر الشعور أو الإدراك العقلي. أما الإدراك العقلي فقد عرف ما يوجبه، وأما الشعور فأنت إنما تشعر بهويتك بذاتك لا ببعض قواك؛ إذ لو شعرتْ ذاتك ببعض قواك كحس أو تخيل أو توهم، لم يكن المشعور هو الشاعر، وأنت مع شعورك بذاتك تشعر أنك إنما تشعر بنفسك، فأنت الشاعر وأنت المشعور.

ثم إن كان الشاعر بنفسك قوة غير ذاتك، فلا يخلو إما أن تكون قائمة في نفسك أو في جسم، فإن كانت قائمة في نفسك فيكون وجود نفسك لقوة نفسك، فيرجع على نفسها مع القوة ولا يكون لغيرها. وإن كانت تلك القوة قائمة في جسم ونفسك غير قائمة في ذلك الجسم، فيكون الشاعر ذلك الجسم بتلك القوة لشيء مفارق، ولا يكون هناك شعور بذاتك بوجه، ولا إدراك لذاتك بخصوصيتها، بل يكون جسم ما يحس بشيء غيره كما تحس ببدنك، على أن إدراك القوة الجسمانية الجوهر المفارق محال، وإن كانت نفسك بتلك القوة قائمة في ذلك الجسم، فقد بيَّنا استحالة ذلك، فإنه يلزم أن تكون النفس وقوتها وجودهما لغيرهما، فلا تكون النفس بتلك القوة تدرك ذاتها ولا ذلك الجسم؛ لأن ماهية القوة والنفس معًا لغيرهما وهو ذلك الجسم، وإن كان جوهر النفس هو القوة التي بها يدرك فليسا يفترقان.

السؤال الحادي عشر

فإن قيل: وما يدرينا أن شعورنا بذاتنا هو تعقلنا له، فعسى هو إدراك آخر لا يقتضي ذلك الإدراك أن تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا، بل هو أثر على وجه ما حصل لنا من ذاتنا، فلا يكون ذلك الأثر هو بعينه حقيقة الذات، فلا يمتنع أن يكون لنا حقيقة وجود يحصل منها لنا أثر، فنشعر بذلك فلا يكون الأثر هو الحقيقة، فلا يكون قد حصل لنا ذاتنا لذاتنا.

قلنا: من لا يتصور حقيقة ماهيته فليس يعقل ماهيته، وليس الإدراك إلا تحقق حقيقة الشيء من حيث يدرك، وهو معنى الشيء بالقياس إلى لفظه.

وقوله: يحصل لنا أثر فنشعر بذلك الأثر، فلا يخلو إما أن يجعل الشعور نفس حصول الأثر أو شيئا يتبع حصول الأثر، فإن كان نفس حصول الأثر، فقوله: فنشعر بذلك الأثر لا معنى له، بل هو اسم آخر وقول آخر مرادف له، فإن كان الشعور شيئًا يتبعه، فإما أن يكون حصول معنى ماهية الشيء أو غيره، فإن كان غيره فيكون الشعور هو تحصيل ما ليس ماهية الشيء ومعناه، وإن كان هو هو فتكون ماهية الذات تحتاج في أن يحصل لها ماهية الذات إلى أثر آخر به تحصل ماهية الذات يحصلها أثر، فليست متأثرة بل متكونة، وإن كانت ماهية الذات تحصل ثانيًا بحال آخر من التجريد أو نزع بعض ما يقارنها من العوارض أو زيادة تضاف إليها، فيكون المعقول هو الذي بحال أخرى، وكلامنا في نفس الماهية وجوهرها الثابت في الحالين.

السؤال الثاني عشر

فإن قال قائل: قد ذكرتم إن المانع عن التعقل هو المادة والاشتغال بالبدن، فما الدليل على أن المانع هو المادة وأنه محصور فيها؟

قلنا: من علم الذات العاقلة حقيقة علم أن المانع هو المادة؛ وذلك لأن الذات التي تتجلى فيها حقائق الأشياء هي الجوهر المجرد عن غواشي الأجسام، وليس فيه ما يكون بالقوة. وكل جوهر هذا حقيقته، فإنه يتأثر ولا ينفعل عن الغواشي الغريبة، فإن تأثر عن غاش غريب فيكون بسبب المادة؛ لأن المادة هي التي تغشى لها غرائب وعوارض. فإذًا كل ما يكون عقلًا فإنه متحقق الذات مجرد عن المواد، ولا ينفعل ولا يتأثر ولا يكون ما فيه بالقوة، وكل ما يكون له يكون دفعة واحدة.

السؤال الثالث عشر

فإن قيل: ما ذكرتموه هدم لقاعدة عظيمة، فإن مساق هذا الكلام يقتضي أن يكون نفسنا جوهرًا ماديًّا، فإنه معلوم أنه يقبل المعقولات شيئا فشيئًا، ويتأثر وينفعل عن الغواشي الغريبة، فلو لم يكن جوهرًا ماديًّا فينبغي أن لا يتأثر ويحصل له المعقولات دفعةً، ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك.

قلنا: غفلت عن دقيقة، فإنا قلنا كل ما يكون عقلًا يكون متحقق الذات ولا ينفعل، وهذا موجبة كلية فعكسها يكون موجبة جزئية، وهو أن بعض ما يكون متحقق الذات ولا ينفعل يكون عقلًا، ولا يلزم أن نفسنا تكون جوهرًا متحقق الذات بريا عن لواحق المادة وعن صفات الأجسام.

نعم، إنما يقبل المعقولات شيئا فشيئًا بسبب أنه يحتاج في كثير من المعقولات في أكثر النفوس إلى الاستعانة بالبدن، ولا يطاوعه البدن ولا يشايعه في مقصوده، فتنبتر عليه مقاصده ومطالبه، وإن طاوعه في لمحة فيكون كبرق خاطف، فيعقبه ما يشوش عليه فكره وينغص وقته، فنسأل الله التأييد والتسديد والرشاد إلى سواء السبيل.

السؤال الرابع عشر

فإن قيل: قد قلتم إن ذاتك إذا كانت حاصلة لك فهي معقولة لك، ودليله أن الذات إما أن تكون حاصلة لغيرك أو ليس لغيرك، فإن لم تكن حاصلة لغيرك فتكون حاصلة لك، وما يدرينا فلعلها حاصلة لا لغيره ولا لذاته.

قلنا: هذا روم درجة بين النفي والاثبات ولا واسطة، ثم لو لم تكن ذاتك لك لما قلت ذاتي ونفسي؛ لأنه لو كان لغيرك لما قبل هذه الإضافة، ثم التحقيق فيه وهو سر عظيم، وفتح باب من خزائن العلوم، هو أن كل شيء حقيقته الصرفة لا توجد متعينة بلا لوازم تتعين بها، فهو من حيث حقيقته شيء ومن حيث أنه ملزوم لوازم شيء، وبالجملة إذا أخذت الحقيقة مع اللوازم شيء، وهو إنما يتعين لا بأنه حقيقة بل من حيث أنه ملزوم لوازم، فبتلك اللوازم يتعين، فإذًا تكون حقيقة الذات في نفسها لا بشرط آخر شيء، ومن حيث هو متعين شيء، فتكون هناك غيرية تقبل الإضافة والنسبة، والله المرشد.

السؤال الخامس عشر

فإن قيل: قد ذكرتم إن للنفس ملكة بها تتمكن من تحصيل المعقولات، فهذه الملكة التي بها تستحصل الصور المعقولة، إن كانت قوة طارئة على النفس فالنفس مركبة، وقد أقمتم البرهان على أنه واحد ليس بمركب، ثم لا يصح البرهان بعد ذلك على أنها لا تفسد بالموت، وإن لم تكن قوة طارئة عليها بل استكمالًا، فتكون من حيث تؤثر تتأثر ومن حيث تفعل تنفعل، ثم ما البرهان على أنها ليست قوة طارئة وأنها استكمال؟ وكيف حل هذا السؤال إن كان استكمالًا؟

قلنا: اعلم أن النفس في ذاتها جوهر ليس بمركب الذات، إذا أخذ مع تلك الملكة الحاصلة، والاستكمال إنما يكون من خارج فليس هو من حيث يؤثر يتأثر، ولا من حيث يفعل ينفعل، وكأن هذا الاستكمال يفعل في جوهر النفس صورًا؛ فهو من حيث إنه يتصور بها النفس استكمال، ومن حيث إنه يتمكن بها من الاطلاع على صور أخرى معقولة قوة، ومن حيث هي لازمة لا مقومة ولا طارئة.

السؤال السادس عشر

فإن قيل: قد أثبتم بالبرهان أن النفس من المفارقات، فكيف تنتفع بالبدن وما فيه من الحس والخيال؟ وكيف تكتسب العلوم بواسطة قوة التخيل، وتحصل الفضائل وتكتسب الرذائل بواسطة القوى البدنية؟ وكيف تؤثر الطاعات والمواظبة على العبادة في التنوير والتصفية؟ وكيف تؤثر المعاصي والانهماك في الشهوات حتى يرتقي منها ظلمات إلى النفس، فيبطل بها الاستعداد الفطري.

قلنا: هذا سؤال شريف والانفصال عنه أشرف منه، وإعطاء البرهان في ذلك مشكل، وإنما الطريق فيه الوجدان والعرفان يقينًا، والنفس خلقت بالفطرة مستعدة للعلوم، والعلوم تحصل فيها بالتدريج، فلا بد من استعمال الفكر والخيال كما قدمنا، وكما نذكر بعد ذلك من انتفاع النفس بالقوى.

أما تأثير الطاعات والمعاصي في التنوير والإظلام؛ فذلك لأن سعادة النفس وكمال جوهرها أن تكون مولية وجهها شطر الحق، معرضة عن الحواس، منخرطة في سلك القدس، مستديمة لشروق نور الحق في سرها، فكل ما يكون مانعًا من ذلك يكون حاطًا لها عن درجتها، وتقدر بقدر ما تعرض عن حضرة الجلال والالتفات إلى جانب القدس باتباع الشهوات، تعرض عنها الأنوار الإلهية، وكلما كانت أدرب١ بالمعقولات كانت إلى السعادة أقرب، فالنفس لها قرب وبعد؛ فقربها بقدر العلوم وتحصيل الفضائل، وبعدها بالجهل وتحصيل الرذائل.

وبهذا يتبين سر أنوار إتباع رسول الله في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، فإن له خاصية عظيمة في تنوير القلب، فإن القلب إنما يتجلى فيه جلايا الحقائق بأن يكون معدلًا مصقلًا منورًا، وتصقيله بالتوجه إلى جناب القدس وبالأعراض عن مقتضى الشهوات، وتعديله بالأخلاق الحسنة الموافقة للسنة، وتنويره بالذكر ووظائف العبادات، ولا دليل أقوى في هذا من التجربة والوجدان، فكل من ليس له سبيل إليه بالعرفان ولا بالوجدان، فينبغي أن يصدق به فإنه درجة الإيمان، والله الموفق.

١  من التدريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤