منشأ الفضائل والرذائل

اعلم أن أكثر الفضائل والرذائل إنما تنشأ من ثلاث قوًى في الإنسان: قوة التخيل وقوة الشهوة وقوة الغضب، فهذه الثلاثة معينات للنفس ومثبطات.

زيادة تبصرة

أما القوة المتخيلة فهي ذات وجهين؛ أحدهما يلي جانب الحس ويقبل منه الصور المحسوسة، كما يؤدي إليها الحس حقيقة أو مجازًا.

أما الحقيقة فالصورة التي هي في نفسها كذلك، وأما المجاز فكالصورة التي ليست في نفسها كذلك لكنها ترى كذلك، مثل السراب والصدى، والمتحرك الذي هو ساكن، وكالساكن الذي هو متحرك، والخيال يتخيلها كذلك.

والوجه الثاني يلي جانب العقل، ويقبل به الصورة المعقولة كما يؤدي إليه الفكر العقلي حقا وباطلًا.

أما الحق فكالصورة التي هي في نفسها كذلك، وأما الباطل فكالصورة التي ليست في نفسها كذلك لكنها ترى كذلك، كالشبهات والضلالات والسحر والكهانة، فإن الأذهان كثيرًا ما تزيغ عن الجادة، فترى الخطأ صوابًا والصواب خطأً؛ ولهذا قيل: «أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه.» والتدبير أن لا يعتمد عليها ما لم يزنها بالقوانين المنطقية والبراهين اللائحة، ثم قد تقع الصور في التخيل دفعة واحدة كالمرآة المقابلة للمرآة، تقع الصورة في أحديهما كما تقع في الثانية دفعة واحدة، وذلك إذا كانت الصورة وقعت في البصر الحاس أولًا.

أما المسموعات بالسمع فتقع فيه على ترتيب وتدريج على حسب تعاقب الحروف والكلمات، وأما من جانب العقل فالمعقولات قد تقع فيه دفعة واحدة كالمرايا المتقابلة؛ وذلك لأن العلوم منتقشة في ذوات النفوس السماوية، فإذا اتصلت به النفس الإنسانية تقع منها فيها الصور بقدر جلائها واستعدادها — وسيأتي شرح هذا بعد ذلك في النبوة والرسالة — ثم إن كان ذلك حقا فهو وحي وإلهام وحدس، والوحي هو أن يرى صورة الملك، وفي الإلهام والحدس لا يرى، وإن كان باطلًا فهو سحر وكهانة وعرافة، وقد يقع فيه — أي في النفس — على ترتيب وتدريج بحسب المقدمات القياسية. وذلك إن كانت يقينية فهو برهان وحجة، وإن كانت مشهورة محمودة عند قوم فهو خطابي، وإن كانت إلزامات على خصم فهو جدلي، وإن كانت كاذبة ظاهرة الكذب فهو سوفسطائي، وإن كانت مخيلة فهو شعري.

ثم إن غلب على الخيال جانب الحس شبه كل معقول بمحسوس، وإن غلب عليه العقل شبه كل محسوس بمعقول، فخيال الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — يرى من المحسوس المعنى المعقول، وهو ما كان صدوره منه أو وروده عليه ومرجعه إليه، فيرى شخصًا في هذا العالم ويحكم عليه أنه تفاحة من الجنة، وشخصًا قطعت يده في سبيل الله نبت له جناحان يطير بهما في الجنة، وشخصًا قتل في سبيل الله حيًّا قائمًا يرزق، فرحًا مستبشرًا بما آتاه الله من فضائله. وعلى العكس من ذلك يرى من المعقول محسوسًا ومن الروحاني جسمانيًّا، هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم فتمثل لها بشرًا سويًّا، ثم من قوة إشراق نور خياله ونور روحه، يشرق أيضًا على من يناسبه في تلك القوة والاستعداد، فيراه كما رأى النبي . فالتخيل إذًا فيصل بين العالمين، وحاجز بين البحرين، ومفصل بين الحكمين، ولولاه لما بقي محسوس ومعقول للإنسان، ولا كانت الصورة والمعنى مدركين بمدرك الحس والبرهان.

وقوة التخيل ليست متشابهة في أصناف الناس، بل هي مترتبة متفاضلة، وربما تكون متضادة؛ فمن ذلك ما يناسب الروحانيين من الملائكة ويكون مهبطهم إليه ونزولهم عليه، وظهورهم له وتأثيرهم فيه وتمثلهم به، حتى تكلم الشخص بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى الشخص بأبصارهم وأبصروا بعينيه، وسمع بأسماعهم وسمعوا بآذانه، وهم ملائكة يمشون في الأرض مطمئنين: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ.١
ومن ذلك ما يُناسب الشياطين من الأبالسة، ويكون مهبطهم إليه وظهورهم له وتأثيرهم فيه وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم الشخص بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى الشخص بأبصارهم وأبصروا بعينيه، وسمع بآذانهم وسمعوا بأذنيه، وهم شياطين الإنس يمشون في الأرض متوهجين: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ،٢ وحيثما كانت استقامة في حال الخيال كان منزل الملائكة، وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين.

أما القوة الشهوية ففيها أيضًا مضرة ومنفعة، وهي أصعب إصلاحًا من سائر القوى؛ لأنها أقدم القوى وجودًا في الإنسان، وأشدها به تشبثًا، وأكثرها منه تمكنًا، فإنها تولد معه وتوجد فيه وفي الحيوان الذي هو جنسه، بل فى النبات الذي هو كجنس جنسه، ثم توجد فيه قوة الحمية، ثم آخر توجد فيه قوة الفكر والنطق والتمييز. ولا يصير الإنسان خارجًا من جملة البهائم وأسر الهوى إلا بإماتة الشهوات أو بقهرها وقمعها، إن لم يمكنه إماتته إياها فهي التي تضره وتعزه وتعوقه وتصرفه عن طريق الآخرة وتثبطه، ومتى قمعها أو أماتها صار الإنسان حرًّا نقيًّا، بل إلهيًّا ربانيًّا، فتقل حاجاته ويصير غنيًّا عما في يدي غيره، وسخيًّا بما في يده ومحسنًا في معاملاته.

وأما منفعتها فهي أن هذه الشهوة مهما أدبت، فهي المبلغة للسعادة وجوار رب العزة، حتى لو تصورت مرتفعة لما أمكن الوصول إلى الآخرة، وذلك أن الوصول إلى الآخرة بالعبادة، ولا سبيل إلى العبادة إلا بالحياة الدنيوية، ولا سبيل إلى الحياة الدنيوية إلا بحفظ البدن، ولا سبيل لحفظه إلا بإعادة ما يتحلل منه، ولا سبيل إلى إعادة ما يتحلل منه إلَّا بتناول الأغذية، ولا يمكن تناول الأغذية إلا بالشهوة.

وأيضًا فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وقوام عمارة الأرض وتزجية المعاش بهذه الشهوة، فلو تصورت مرتفعة لاختل نظام الدين والدنيا، وارتفعت المعاملات من بين الناس، وارتفعت الشريعة والسياسة، فإذًا هذه القوة الشهوية مثل عدو يخشى مضرته من وجه ويرجى منفعته من وجه، ومع عداوته لا يستغنى عن الاستعانة به، فحق العاقل أن يأخذ نفعه ولا يركن إليه ولا يعتمد عليه، إلَّا بقدر ما ينتفع به، وما أصدق في ذلك قول المتنبي:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًا له ما من صداقته بد

ومن نوافذ الحيل في قمع هذه الشهوة؛ أن يتسلط بقوة الحمية على قوة الشهوة، حتى تنقمع ولا تميل إلى مذام الأخلاق وسفسافها، كما أن الطريق في قمع الغضب وسورته أن يتسلط بخلابة الشهوة على القوة الغضبية، حتى تكسر استشاطتها أو غلواؤها، فإنها تنقاد للمطامع وعوارض الحاجات، ومن الطريق في معالجة إفراط الشهوة حتى يكسرها كسرًا ويزبرها زبرًا، مطالعة فضائل قلة الأكل من الأخبار والآثار، والوقوف على فوائد قلة الأكل من صفاء القلب واتقاد القريحة، ونفاذ البصيرة ومواتاة الفكر الموصل إلى المعرفة، والاستبصار بحقائق الحق ورقة القلب وصفائه، الذي به يتهيأ لإدراك لذة المناجاة والتأثر بالذكر، ومن الانكسار والذل وزوال البطر، والمرح والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان، والغفلة عن الله تعالى، وأن لا ينسى بلاء الله وعذابه ولا ينسى أهل البلاد.

ومن فوائد قلة الأكل كسر الشهوة الداعية إلى المعاصي، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، ومن فوائد قلة الأكل دفع النوم ودوام السهر، وتيسر المواظبة على العبادة، ومن فوائدها صحة البدن ودفع الأمراض المنغصة للعيش المانعة من العبادات المشوشة لقوة الفكر، ومن فوائدها خفة المؤنة والتحلي بعز القناعة والاستغناء عن الناس، الذي هو مظنة الإخلاص والعز، ومن فوائدها أن يتمكن من الإيثار والبذل والسماحة والتصدق على اليتامى والمساكين.

وعلى الجملة مفتاح الزهد والعفة والورع قلة الأكل وقمع الشهوة، ومفتاح الدنيا وباب الرغبة فيها استرسال الشهوة بموجب الطبع، وهذه القوة الشهوية لها شعبتان؛ إحداهما شهوة البطن، والثانية شهوة الفرج؛ فشهوة البطن ليبقى الشخص بعينه، وشهوة الفرج ليبقى بنسله وأعقابه ونوعه، ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط٣ ولم تقهر، ولم تزم بزمام التقوى، ولم ترد إلى حد الاعتدال، ولو لم تكن هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال، ولما كانت النساء حبائل الشيطان، وجميع الفواحش من هذه الشهوة إذا كانت مفرطة، وجميع الفضائح منها إذا كانت خامدة مفرطةً كالعنة والخنوثة.

والمحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انبساطها وانقباضها، ومهما أفرطت فكسرها بالجوع وبالنكاح وغض البصر وقلة الاهتمام بها، وشغل النفس بالعلوم واكتساب الفضائل، فبهذا تندفع.

أما القوة الغضبية؛ فإنها شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع، إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة، وأنها المستكنة في ضمن الفؤاد استكنان النار تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين من قلب كل جبار عنيد، كما يستخرج النار من الحديد. وقد انكشف لأولي الأبصار بنور اليقين أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان الرجيم اللعين، فمن استفزته نار الغضب، فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فإن شأن الطين السكون والرقاد وقبول الآثار، وشأن النار التلظي والاشتعال والحركة والاضطراب والصعود وعدم قبول الآثار، ومن نتائج الغضب الحقد والحسد وكثير من أخلاق السوء ومقيضها ومنشؤها مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد.

وفي هذه القوة إفراط واستيلاء يجذب إلى المهالك والمعاطب، وفيها تفريط وخمود يقصر عن المحامد من الصبر والحلم والحمية والشجاعة، ومن الاعتدال يحصل أكثر محامد الأخلاق من الكرم والنجدة وكبر النفس والاحتمال والحلم، والثبات والشهامة والوقار، والأسباب المهيجة للغضب هي الزهو والعجب والمرح والهزل والتعيير والمماراة، والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق ردية مذمومة شرعًا وعقلًا، ولا خلاص عن الغضب مع بقاء هذه الأسباب، فلا بد من إزالة أسبابها بأضدادها حتى يقهر الغضب، ويرد إلى حال الاعتدال، وهذا شأن المداواة حسا وعقلًا.

١  سورة فصلت ٤١: ٣٠.
٢  سورة الشعراء ٣٦: ٢٢١–٢٢٣.
٣ 
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد فإلى قليل تقنع

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤