أمهات الفضائل

الفضائل — وإن كانت كثيرة — فيجمعها أربع تشمل شعبها وأنواعها، وهي: الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة.

فالحكمة فضيلة القوة العقلية، والشجاعة فضيلة القوة الغضبية، والعفة فضيلة القوة الشهوية، والعدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب فيها، فبها تتم جميع الأمور؛ ولذلك قيل: بالعدل قامت السموات والأرض. فلنشرح هذه الأمهات وما يتولد منها، وينطوي من الأنواع تحتها.

أما الحكمة، فنعني بها ما عظمها الله تعالى في قوله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا،١ وما أراده رسول الله حيث قال: «الحكمة ضالة المؤمن.» وهي منسوبة إلى القوة العقلية. وقد عرفت فيما سبق أن للنفس قوتين: إحداهما تلي جهة فوق، وهي التي بها تتلقى حقائق العلوم الكلية الضرورية والنظرية من الملأ الأعلى، وهي العلوم اليقينية الصادقة أزلًا وأبدًا، لا تختلف باختلاف الأعصار والأمم، كالعلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، وأصناف خلقه وتدبيره لملكه وملكوته، وأحوال الإبداء والإعادة خلقًا وأمرًا، وأحوال المعاد من السعادة والشقاوة … وعلى الجملة، جميع حقائق العلوم.

والقوة الثانية هي التي تلي جهة تحت؛ أعني جهة البدن وتدبيره وسياسته، وبها تدرك النفس الخيرات في الأعمال، وتسمى العقل العملي، وبها يسوس قوى نفسه ويسوس أهل منزله وأهل بلده.

واسم الحكمة لها من وجه كالمجاز؛ لأن معلوماتها كالزيبق تنقلب ولا تثبت وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ومن معلوماتها أن بذل المال فضيلة، وقد يصير رذيلة في بعض الأوقات وفي حق بعض الأشخاص؛ فلذلك كان اسم الحكمة بالأول أحق، وإن كان بالثاني أشهر، وهذا الثاني كالكمال والتتمة للأول، وهذه هي الحكمة الخلقية، والأولى هي الحكمة العلمية النظرية، ونعني بالحكمة الخلقية حالة وفضيلة للنفس العاقلة بها تسوس القوة الغضبية والشهوية، وتقدر حركاتهما على الحد الواجب في الانقباض والانبساط، وهي العلم بصواب الأفعال وتدبير أحوال هذا العالم مستمد من العقل النظري، فالعقل النظري يستمد من الملائكة الكليات، والعقل العملي يستمد من العقل النظري الجزئيات، ويسوس البدن بواجب الشرع. وهذا على مثال العقل والنفس وأجرام السماء، فإن العقل يدرك الكليات وليس فيه ما في القوة، وتدرك النفس منها الكليات، وبواسطة الكليات تدرك الجزئيات، فيحرك السموات فيتحرك من تحريكها العناصر، فيتولد منها المركبات، وكذلك عقلنا يستمد من الملائكة الكليات ويفيض الكليات على العقل العملي، والعقل العملي — بواسطة البدن وقوة التخيل — يدرك جزئيات عالم البدن فيحركها بواجب الشرع، فيتولد منها الأخلاق الجميلة.

وهذه الفضيلة الخلقية يكتنفها رذيلتان: الخب والبله.

أما الخب، فهو طرف إفراطها وزيادتها، وهو حالة يكون الإنسان بها ذا مكر وحيلة بإطلاق الغضبية والشهوية، لتتحركا إلى المطلوب حركة زائدة على قدر الواجب.

وأما البله، فهو طرف تفريطها ونقصانها عن الاعتدال، وهو حالة للنفس تقصر بالغضبية والشهوية عن القدر الواجب، ومنشؤه بطء الفهم وقلة الإحاطة بصواب الأفعال، ويندرج تحت فضيلة الحكمة حسن التدبير، وجودة الذهن وثقابة الرأي وصواب الظن.

أما رذيلة الخب، فيندرج تحتها الدهاء والجربزة، وأما رذيلة البله، فيندرج تحتها الغمارة والحمق والجنون.

أما الشجاعة فهي فضيلة القوة الغضبية بكونها قوية الحمية، ومع قوة الحمية منقادة للعقل المتأدب بالشرع في إقدامها وإحجامها، وهي وسط بين رذيلتين مطيفتين بها وهما: التهور والجبن.

فالتهور لطرف الزيادة على الاعتدال، وهي الحالة التي بها يقدم الإنسان على الأمور المخطرة، التي يجب في العقل الإحجام عنها.

وأما الجبن فطرف النقصان، وهي الحالة التي بها تنقبض حركة القوة الغضبية عن القدر الواجب، فتصرف عن الإقدام حيث يجب الإقدام، ومهما حصلت هذه الأخلاق صدرت منها هذه الأفعال؛ أي يصدر من خلق الجبن الإحجام لا في محله، ومن التهور الإقدام لا في محله، وهما خلقان مذمومان.

ومن الشجاعة يصدر الإقدام والإحجام حيث يجب وكما يجب، وهو الخلق الحسن المحمود، وإياه أراد بقوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ،٢ فلا الشدة في كل مقام محمودة ولا الرحمة، بل المحمود ما يوافق معيار العقل والشرع، فمتى حصل له ذلك فلينتظر، فإن كان طبعه مائلًا إلى النقصان الذي هو الجبن، فليتعاطى أفعال الشجعان تكلفًا ومواظبة عليها حتى يصير له بالاعتياد طبعًا وخلقًا، فيفيض منه أفعال الشجعان بعد ذلك طبعًا. وإن كان مائلًا إلى طرف الزيادة وهو التهور، فليشعر نفسه بعواقب الأمور وبعظم أخطارها، وليتكلف الإحجام إلى أن يعود إلى الاعتدال أو ما يقرب منه، فإن الوقوف على حقيقة حد الاعتدال شديد، ولو تصور ذلك لارتحلت النفس عن البدن وليس معها علاقة منها، فكانت لا تتعذب أصلًا بالتأسف على ما يفوته منها، وكان لا يتكدر عليه ابتهاجه بما يتجلى له من جمال الحق وجلاله، ولكن لما عسر ذلك جاء في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا.٣

وقال عليه السلام: «شيبتني سورة هود وأخواتها.» وأراد به قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، فإن الامتداد على الصراط المستقيم في طلب الوسط بين هذه الأطراف شديد، وهو أدق من الشعر وأحد من السيف، كما وصف من حال الصراط في الدار الآخرة. ومن استقام على الصراط في الدنيا استقام عليه في الآخرة، بل يكون في الآخرة مستقيمًا؛ إذ يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه؛ ولذلك يجب في كل ركعة من الصلاة سورة الفاتحة المشتملة على قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فإنه أعز الأمور وأعصاها على الطالب، ولو كلف ذلك في خلق واحد لطال العناء فيه، فكيف وقد كلفنا ذلك في جميع الأخلاق مع خروجها عن الحصر كما سيأتي. ولا مخلص عن هذه المخاطرات إلا بتوفيق الله ورحمته؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «الناس كلهم هلكى إلَّا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلَّا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلَّا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.»

فنسأل الله العظيم أن يمدنا بتوفيقه لنتجاوز الأخطار في هذه الدار، ولا نخدع بدواعي الاغترار فهذا هذا. ثم ما يندرج تحت فضيلة الشجاعة؛ فهو الكرم والنجدة وكبر النفس والاحتمال، والحلم والثبات والنبل والشهامة والوقار.

أما رذيلة التهور، فيندرج تحتها؛ البذخ والجسارة والتقبح والاستشاطة والتكبر والعجب.

وأما رذيلة الجبن، فيندرج تحتها؛ النذالة والنكول وصغر النفس، والهلع والانفراط والتخاسس والمهانة.

أما العفة فهي فضيلة القوة الشهوية، وهي انقيادها على يسر وسهولة للقوة العقلية، حتى يكون انقباضها وانبساطها بحسب إشارتها، ويكتنفها رذيلتان: الشره وخمود الشهوة. والشره هو إفراط الشهوة إلى المبالغة في اللذات التي تستقبحها القوة العقلية وتنهى عنها، والخمود هو قصور الشهوة عن الانبعاث إلى ما يقتضي العقل تحصيله، وهما مذمومان. كما أن العفة التي هي الوسط محمودة، وعلى الإنسان أن يراقب شهوته، فالغالب عليها الإفراط لا سيما إلى الفرج والبطن وإلى المال والرياسة وحب الثناء، والإفراط في ذلك نقصان. وإنما الكمال في الاعتدال، ومعيار الاعتدال العقل والشرع، وذلك بأن يعلم الغاية المطلوبة من خلق الشهوة والغضب، مثلًا بأن يعلم أن شهوة الطعام إنما خلقت لتبعث على تناول الغذاء، الذي يسد بدل ما يتحلل من أجزاء بدنه بالحرارة الغريزية، حتى يبقى البدن حيًّا والحواس سليمة، فيتوصل بالبدن إلى نيل العلوم ودرك حقائق الأمور، ويتشبه بالطبقة العالية بالإضافة إليه وهي الملائكة، وبها كمالها وسعادتها، ومن عرف هذا كان قصده من الطعام التقوى على العبادة دون التلذُّذ به، فيقتصر ويقتصد به لا محالة ولا يشتد إليه شرهه.

ويعلم أن شهوة الجماع خلقت فيه؛ لتكون باعثة له على الجماع الذي هو سبب بقاء النوع الإنساني، فيطلب النكاح للولد والتحصن، لا للعب والتمتع، وإن تمتع ولعب كان باعثًا عليه التآلف والاستمالة الباعثة على حسن الصحبة وإدامة النكاح، ويقتصر من الأنكحة على القدر الذي لا يعجز عن القيام بحقوقه، ومن عرف ذلك سهل عليه الاقتصار، وعند ذلك لا يقيس نفسه بصاحب الشرع ؛ إذ كان لا يشغله كثرة الأنكحة عن ذكر الله تعالى، وكان لا يلزمه طلب الدنيا لأجل الزواج، ومن ظن أن ما لا يضر صاحب الشرع لا يضره، كان كمن يظن أن ما لا يغير البحر الخضم من النجاسات لا يغير كوزًا مغترفًا من البحر، وكم أحمق يتكايس فيقايس نفسه به مقايسة الملائكة بالحدادين، فيهلك من حيث لا يدري، نعوذ بالله من عمى البصيرة، هذا كله حكم العفة.

وأما ما يندرج تحت فضيلة العفة ورذيلتها، ففضائل العفة؛ الحياء، والمسامحة والتصبر، والسخاء وحسن التقدير، والانبساط والدماثة والانتظام، والقناعة والهدوء والورع والطلاقة والمساعدة، وحسن الهيئة؛ أعني الزينة الواجبة التي لا رعونة فيها.

وأما الرذائل المندرجة تحت رذيلتي العفة، وهما الشره وكلال الشهوة، فهي: الوقاحة والخبث، والتبذير والتقتير والرياء، والهتيكة والكزارة، والمجانة والعبث، والتحاشي والشكاسة والملق والحسد والشماتة.

وأما العدالة، فهي حالة للقوى الثلاثة في انتظامها على التناسب تحت الترتيب الواجب في الاستعلاء مع الانقياد، فليس هو جزءًا من الفضائل، بل هو عبارة عن جملة الفضائل، فإنه مهما كان بين الملك وجنوده ورعيته ترتيب محمود بكون الملك بصيرًا قاهرًا، وكون الجنود ذوي قوة وطاعة، وكون الرعية ضعفاء سلسي القياد، قيل إن العدل قائم في البلد، ولن ينتظم العدل بأن يكون بعضهم بهذه الصفات دون كلهم، كذلك العدل في مملكة البدن بين هذه الصفات، والعدل في أخلاق النفس يتبعه لا محالة العدل في المعاملة والسياسة، ويكون كالمتفرع منه. ومعنى العدل الترتيب المستحسن: إما في الأخلاق، وإما في حقوق المعاملات، وإما في أجزاء ما به قوام البلد، والعدل في المعاملة وسط بين رذيلتي الغبن والتغابن، وهو أن يأخذ ماله أخذه ويعطي ماله إعطاؤه، والغبن أن يأخذ ما ليس له والتغابن أن يعطي في المعاملة ما ليس عليه حمد ولا أجر، والعدل في السياسة أن يرتب أجزاء المدينة الترتيب المشاكل لترتيب أجزاء النفس، حتى تكون المدينة في ائتلافها وتناسب أجزائها، وتعاون أركانها على الغرض المطلوب من الاجتماع كالشخص الواحد، فيوضع كل شيء موضعه وينقسم سكانه إلى مخدوم لا يخدم وإلى خادم ليس بمخدوم، وإلى طبقة يخدمون من وجهٍ ويخدمون من وجهٍ، كما يكون في قوى النفس فإن بعضها مخدوم لا يخدم كالعقل المستفاد، وبعضها خادم لا يخدم كالقوة الدافعة للفضلات، وبعضها خادم من وجه ومخدوم من وجه كالمشاعر الباطنة، ولا يكتنف العدل رذيلتان بل رذيلة الجور المقابل له؛ إذ ليس بين الترتيب وعدم الترتيب وسط، وبمثل هذا الترتيب والعدل قامت السموات والأرض، حتى صار العالم كله كالشخص الواحد متعاون القوى والأجزاء، مترتب التقدم والتأخر بتقديم المقدم الحق وتأخير المؤخر الحق، جلت عظمته وعظمت قدرته.

وشرح ذلك الترتيب من الروحاني المطلق والجسماني المطلق، وما بين الروحاني والجسماني، وتقسيم العالم إلى مؤثر لا يتأثر كالعقول، وإلى متأثر لا يؤثر كالأجسام، وإلى متأثر مؤثر كالنفوس فإنها تقبل من العقول وتوصل إلى السموات، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم جل جلاله وعظم برهانه، وتم سلطانه، فالعدالة جامعة لجميع الفضائل، والجور المقابل لها جامع لجميع الرذائل. والله ولي التوفيق إلى الصراط المستقيم، الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، حتى إذا حصل ذلك كله كمل كمالًا يقربه إلى الله تعالى تقريبًا بالرتبة، بحسب قرب الملائكة المقربين من الله، فللـه البهاء الأعظم والكمال الأتم، وكل موجود فمشتاق إلى الكمال الممكن له، وهو غايته المطلوبة، فإن ناله التحق بأفق العالم الذي هو فوقه، وإن حرم عنه أطرح إلى الحضيض الذي تحته، فالإنسان بين أن ينال الكمال فيلتحق في القرب من الله بأفق الملائكة وذلك سعادته، أو يقبل على ما هو مشترك بينه وبين البهائم من رذائل الشهوة والغضب، فينحط إلى درجة البهائم ويهلك هلاكًا مؤبدًا وهو شقاوته، أعاذنا الله منها بفضله.

١  سورة البقرة ٢: ٢٦٩.
٢  سورة الفتح ٤٨: ٢٩.
٣  سورة مريم ١٩: ٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤