القول في معرفة ترتيب أفعال الله وتوجيه الأسباب إلى المسببات

وهذا أيضًا إنما يعلم من ترتيب معرفة تأثير النفس في قواها وبدنها.

اعلم أن مبدأ فعل الآدمي إرادة يظهر أثرها أولًا في القلب، فيسري منه أثر بواسطة الروح الحيواني، الذي هو بخار لطيف في تجويف القلب إلى الدماغ، ثم يسري منه أثر إلى الأعصاب الخارجة من الدماغ، ومن الأعصاب إلى الأوتار والرباطات المتعلقة بالعضل، فينجذب به الأوتار فيتحرك به الأصبع، فيتحرك بالأصابع القلم وبالقلم المداد مثلًا، ويحدث منه صورة ما يريد كتابته على وجه القرطاس على الوجه المتصور في خزانة التخيل، فإنه ما لم يتصور في خياله صورة المكتوب أولًا لا يمكن إحداثه على البياض ثانيًا.

ومن استقرأ أفعال الله تعالى وكيفية إحداثه النبات والحيوان على الأرض بواسطة تحريك السموات والكواكب، وذلك بطاعة الملائكة له بتحريك السموات، علم أن تصرف الآدمي في عالمه — أعني بدنه — يشبه تصرف الخالق في العالم الأكبر وهو مثله، وانكشف له أن نسبة شكل القلب إلى تصرفه نسبة العرش، ونسبة القلب إلى الدماغ نسبة العرش إلى الكرسي، وأن الحواس له كالملائكة الذين يطيعون طبعًا ولا يستطيعون لأمره خلافًا، والأعصاب كالسموات، والقدرة في الإصبع كالطبيعة المسخرة المركوزة في الأجسام، والمواد كالعناصر التي هي أمهات المركبات في قبول الجمع والتفريق والتركيب والتمزيج، وخزانة التخيل كاللوح المحفوظ. فمهما اطلع بالحقيقة على هذه الموازنة عرف كيفية ترتيب أفعال الله تعالى في الملك والملكوت، وذلك يحتاج إلى تطويل وهذه إشارة إلى جملتها.

أقسام أفعال الله سبحانه وتعالى

قد ذكرنا أن القوى تنقسم إلى محركة ومدركة، والمدركة تنقسم إلى ظاهرة كالحواس الخمس، وباطنة كالمشاعر الباطنة؛ كالتخيل والوهم وغير ذلك، ثم ما يختص بالإنسان العقل وهو ينقسم إلى العقل النظري والعملي، فكذلك فافهم أن جميع أفعال الله تعالى تنقسم إلى عقول مجردة عن المواد مشاهدة لجلال الله تعالى، ولهم رموق الجلال الأعلى ولهم الوصول بلا انفصال، وإلى نفوس محركة للسماوات وإلى أجسام، وكما أن الجسم الذي هو البدن يتأثر من القوى المركبة فيه ولا يؤثر، والعقل العملي يؤثر في القوى الحيوانية ويتأثر من العقل النظري، والقوى الحيوانية تتأثر من العقل العملي وتؤثر في الجسم وأعضاء البدن فكذلك، فافهم أن جميع أفعال الله تعالى تنقسم إلى هذه الأقسام؛ متأثر لا يؤثر، ومؤثر لا يتأثر، فالمتأثر الذي لا يؤثر هو أجسام العالم، والمتأثر الذي يؤثر هي النفوس، فتتأثر من العقول وتؤثر في أجسام السموات بالتحريك، وبواسطة تحريك السموات في عالم العناصر، والعقول تؤثر ولا تتأثر، بل كمالاتها حاضرة معها ليس لها استكمال، وإن كانت تلك الكمالات من ربها وخالقها ومبدعها تعالى وتقدس، فالطبيعة في عالم الأجسام مسخرة للنفس تفعل فعلًا سواء علمت ما تفعل أو لم تعلم، كما أن النفس مدبرة للعقل تعلمًا سواء طلبت العلوم أو لم تطلب، فانتهجت الطبيعة بالتسخير منهاج ما فوقها بالتدبير، وعبر التنزيل عن ذلك بقوله: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ،١ فالمخلوقات كلها مفطورة على الازدواج لطيفها وكثيفها، معقولها ومحسوسها، ففي المركبات ازدواج وفي البسائط ازدواج، وبين البسائط والمركبات ازدواج، والنفوس بواسطة الأفلاك معطية والعناصر قابلة، وبين المعطي والقابل نتائج ومواليد من المعادن والنبات والحيوان والإنسان، وبين العقل والنفس ازدواج، كما بين القلم واللوح ازدواج ومواليدهما للروحانيات من العقول والنفوس، ومن له الخلق والأمر متعال على الازدواج أداءً وقبولًا، سبحانه أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا.

تقسيم آخر

وهو أن القوى الحيوانية والإنسانية مع جسم البدن متفاوتة في الفضل والكمال، مترتبة في الشرف والتمام.

فكذلك فاعلم أن الموجودات باعتبار الكمال والنقصان تنقسم إلى ما هو بحيث لا يحتاج إلى أن يمده غيره ليكتسب منه وصفًا، بل كل ممكن فهو موجود له حاضر معه ويسمى تاما، وإلى ما لا يحضر معه كل ممكن له، بل لا بد من أن يحصل له ما ليس حاصلًا له، وهذا يسمى ناقصًا قبل حصول التمام له، ثم الناقص ينقسم إلى ما لا يحتاج إلى أمر خارج عن ذاته حتى يحصل له ما ينبغي أن يحصل، فهذا يسمى مكتفيًا، وإلى ما يحتاج ويسمى ناقصًا مطلقًا، فالتام هو العقل، والناقص هو الأجسام، والناقص من وجه كامل من وجه هو النفس، كما أن البدن وكل ما تركب من العناصر ناقص، والكامل هو العقل، والناقص الكامل هو القوى الروحانية من التخيل والوهم وغير ذلك.

١  الذاريات ٥١: ٤٧–٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤