حقيقة الإدراك ومراتبه في التجريد

اعلم أن الإدراك أخذ صورة المدرك، وبعبارة أخرى الإدراك أخذ مثال حقيقة الشيء لا الحقيقة الخارجية، فإن الصورة الخارجية لا تحل المدرك بل مثال منها، فإن المحسوس بالحقيقة ليس هو الخارج، بل ما تمثل في الحاس، فالخارج هو الذي المحسوس انتُزع منه، والمحسوس هو الذي وقع في الحال فشعر به، ولا معنى لشعوره إلَّا وقوعه فيه وانطباعه به. وكذلك المعقول هو مثال الحقيقة المرتسم في النفس؛ لأن العقل يجرده عن جميع العوارض واللواحق الغريبة، إن كان يحتاج إلى التجريد.

وأما مراتب الإدراكات في التجريد، فاعلم أولًا أن المدرك الذي يفتقر إلى تجريد، لا يخلو في الوجود الخارجي عن لواحق غريبة وأعراض غاشية؛ من قدر وكيف وأين ووضع، فإن الإنسان مثلًا له حقيقة وهو الحي الناطق، وتلك الحقيقة عامة لأشخاص النوع، ولا تكون في الوجود تلك الحقيقة لا خاصة ولا عامة إلَّا مع لواحق غريبة، فإن الإنسان لو كان عامًّا لما كان زيد الخاص إنسانًا، ولو كان خاصًّا بأن يكون زيد هو الإنسان لكونه زيدًا لما كان عمرو إنسانًا؛ لأن الشيء إذا كان لذاته ما وجد لغيره.

فإذا فهمت هذا فاعلم أن مراتب المدركات مختلفة في التجريد عن هذه الغواشي واللواحق، وهو على أربع مراتب:
  • الأولى: إنما هي الحس، فإنه يجرد نوعًا من التجريد؛ إذ لا تحل في الحاس تلك الصورة بل مثال منها، إلَّا أن ذلك المثال إنما يكون إذا كان الخارج على قدر مخصوص وبُعد مخصوص، ويناله مع تلك الهيئة والوضع، فلو غاب عنه أو وقع له حجاب لا يدركه.
  • المرتبة الثانية: إدراك الخيال، وتجريده أتمَّ قليلًا وأبلغ تحصيلًا، فإنه لا يحتاج إلى المشاهدة بل يدرك مع الغيبوبة، إلَّا أنه يدرك مع تلك اللواحق والغواشي من الكم والكيف وغير ذلك.
  • المرتبة الثالثة: إدراك الوهم، وتجريده أتم وأكمل مما سبق، فإنه يدرك المعنى المجرد عن اللواحق وغواشي الأجسام، كالعداوة والمحبة والمخالفة والموافقة، إلَّا أنه لا يدرك عداوة كلية ومحبة كلية، بل يدرك عداوة جزئية بأن يعلم أن هذا الذئب عدوٌّ مهروب عنه، وأن هذا الولد صديق معطوف عليه.
  • المرتبة الرابعة: إدراك العقل، وذلك هو التجريد الكامل عن كل غاشية وجميع لواحق الأجسام، بل جناب إدراكه منزَّه عن أن يحوم به لواحق الأجسام من القدر والكيف وجميع الأعراض الجسمية، ويدرك معنًى كليًّا لا يختلف بالأشخاص، فسواءٌ عنده وجود الأشخاص وعدمها، وسواسية لديه القرب والبعد، بل ينفذ في أجزاء الملك والملكوت، وينزع الحقائق منها ويجردها عمَّا ليس منها، هذا إن كان يحتاج المدرك إلى التجريد، فإن كان منزَّهًا عن لواحق الأجسام مبرَّأ عن صفاتها فقد كفي المئونة، فلا يحتاج إلى أن يفعل به فعلًا، بل يدركه كما هو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤