المقدمة

قرأت أنَّ كتابًا بغير مقدمة كرسالة بغير عنوان، ولا تزال هذه العبارة عالقة بذهني، وقد دارت الأرض من حول الشمس منذ قرأتها عشرين دورة على الأقل.

أمِنْ سرٍّ في هذه العبارة، جعلها تعلق بذهني ويثبت أثرها فيه؟

أذكر أنَّ الكِتاب الذي قرأتُ فيه هذه الجملة كان في التاريخ، ويُخيل إليَّ أنَّه كان في تاريخ نابليون في منفاه، ولقد استيقظتْ في ذهني هذه الذكريات، لمَّا أن تناولتُ القلم لأكتب بضعة أسطر تصديرًا لهذا الكتاب، بعد أن شُغِلْت بتأليفه أربع سنوات كاملة، ونبذته ناحية من حجرة درسي ثلاثًا أخر، فلمَّا أن مَدت ظروف الدُّنيا يدها إليه؛ لتَحْبُوَه الحياة بعد طول النبذ، وتناولت القلم لأخطَّ بضعة أسطر تعريفًا به؛ غمرتني فكرة في خلود الإنسان، وخلود آثاره، هي في الواقع فكرة اشتركت في وعيي بنابليون، وما يضفي عليه بعض المؤرخين من صفات الخلود.

يقولون: إنَّ نَابليون رجل خالد! ولكن بالقياس على أناس غير خالدين، ممن تعد من خلائق الله. ويقولون: إن مصر خالدة! ولكن بالقياس على أمم أصبحت أحاديث وأخبارًا في بطون الكتب، أو أساطير تُروى عن القرون الأولى. ويقولون: إنَّ مذهب سقراط الفلسفي مذهب خالد! ولكن بالقياس على مذاهب بادت من عالم الفكر، غير مخلِّفةٍ أثرًا؛ فظهرت واختفت كأنها نبت الصحراء يخرجه الغيث ويطويه الجفاف.

هذه تأملات خرجتُ منها بنتائج لا أشك في صحتها، فإنَّ في التاريخ البشريِّ ما يدل على أن شعوبًا كالفراعنة وأهل الصين والهند صمدت لأعاصير الزمن بما فيها من الصفات الرسيسة، واحتفظت بكيانها على الدهور فلم تَبِد ولم تنقرض، ولكنها صالت واستكانت، وتناوبت عليها دورات من الصولة والاستكانة، احتفظت خلالها جميعًا بطابع من القوَّة، ووُسمت بسِمة من الجلَد على مدافعة النوائب، صامدة للشدائد، بعيدة عن أن تذعن لهزيمة، تسلم بها إلى الفناء. فهذه شعوب خالدة تشبه الخالدين من الذوات.

تجد في عالم الفكر نظير هذه الأمم، مذاهب فلسفية تنقَّلت على مدى الزمان، وظلت منذ وُلدت إلى الآن حيَّة فتية، فهذه مذاهب خالدة تشبه في عالم الفكر؛ تلك الأممَ في عالم الإنسانية.

هذه الفكرة الأولية تزودنا بقاعدة ننتحيها في كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة جديدة، نتَّخِذ فيها هذه المذاهب على أنها أصول الفلسفة وأركان الفكر، وغيرها من المذاهب تفاريع عليها وملحقات بها.

أما مذهب اللَّذة والألم في فلسفة الأخلاق، فثابت، درج مع القرون، خرج بداءة من قُورينة الأفريقية، قائمًا على فكرات أساسية في مذهب سُقراط وبرُوطاغُوراس ولُوسِيفُوس ودِيمقْربطِس، ثم عاد إلى اليونان فتشكل في ذهن أبيقُور بصورة، ثم في مدرسة الإسكندرية بأخرى، وعند الرُّوافيين بثالثة، وأخذ يتنقل خلال العصور، إلى أن برز في صورة كونها بِنتَام ومِل وَأترَابُهما، فلابسته المنفعة بدل اللذة.

وهذا الكتاب تنفيذ جزئي لهذه الفكرة العملية.

إسماعيل مظهر
أبريل ١٩٣٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤