الفصل الرابع

نقود ومقارنات

«أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع — على الأرجح — إلى أن ابن قورينة بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائمًا وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، وهذه الصورة البسيطة غير المهذبة من المذهب الهيدوني؛ هي التي قاومها سقراط، ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه فليبوس.»

أرسطبس وسقراط

إذا كان أرسطوطاليس قد أهمل ذكر أرسطبس تعيينًا، واقتصر على أن يذكر من القورينيين أودُكْسَس وحده، فإنَّ الحكيم الأعظم سقراط قد عني به، وهذا يدل على أن أرسطبس كان قد تكون واكتمل أو كاد يكتمل قبل أن يموت سقراط، غير أن الواقع أن أرسطوطاليس إن أهمل ذكر أرسطبس فإنه لم يهمل مذهبه كما سنرى بعد.

أفرد «زينوفون Xenophon» بابًا كاملًا في كتابه الذكريات Memorabilia خصه بمناقشة مذهب أرسطبس، كما فهمه سقراط ونقده، ذلك هو الفصل الأول من الكتاب الثاني من «الذكريات» وقد لخص حوارًا وقع بين سقراط وتلميذه أرسطبس.
وملخص هذه المحاورة التي وُضعت بعنوان «أرسطبس» أن سقراط قد توقع أنَّ أرسطبس يحاول الحصول على وظيفة في الحكومة، فأراد أن يظهر له رأيه في أن الاعتدال وضبط النفس صفتان ضروريتان في الرجل السياسي، فلما أظهر أرسطبس أنَّه إنما يصدف عن هذا، ولا يرغب إلا في أن يعيش عيشة هادئة لذيذة، سأله سقراط: أيهما أسعد حالًا، الحاكم أم المحكوم؟ فيجيب أرسطبس بأنه لا يريد أن يكون حاكمًا ولا محكومًا، وإنما يريد أن يمتع بالحريَّة، فيبادره سقراط بأنَّ مثل الحريَّة التي يطلبها لا تتفق ونظام الجمعيات الإنسانيَّة، غير أنَّ أرسطبس يبقى مستمسكًا برأيه، ويقول بأنه سوف لا يظل في مملكة واحدة، بل سيعيش متنقلًا من مكان إلى مكان، فيظهر له سقراط ما في هذه المعيشة من مخاطر، وما يحفُّ بها من معاطب. ولكن أرسطبس يرمي بالحمق أولئك الذين يختارون حياة الكد والعمل في مناصب الحكومة، ويفضِّل عليهم أولئك الذين يختارون الحياة الهادئة البعيدة عن النَّصب، فيكون من أمر سقراط أن يظهر له الفرق بين الذين يكدُّون مختارين، وبين الذين يكدُّون مجبرين، وأنه ما من خير أخلاقي إلَّا وله مقدِّمات من النَّصَب والكدِّ الطويل. ومن أجل أن يمثِّل لفكرته روى أسطورة «فُرُوذِقُوس Prodicus» السفسطائي التي سماها «حيرة هِيرَقْل».

أما الأسطورة التي وضعها «فروذِقُوس» فمحصلها أن هيرقل لما كان شابًّا في أوَّل أطوار الفتوة وعلى باب الرجولة؛ أي في ذلك الطور الذي يشعر فيه المرء بأنه عما قريب سيصبح سيدًا حرًّا، أخذه ما يأخذ الشباب من تفكير في أمر الحياة، وفي أي من طريقيها يسير: أطريق الفضيلة، أم طريق الرذيلة، فانتبذ بنفسه مكانًا موحشًا بعيدًا عن جلبة الناس، وقد أخذه هَمُّ التفكير في اختيار أيٍّ من طريقي الحياة، وفيما هو جالس تراءى له شبحا امرأتين ممشوقتي القامة مضتا تتقدمان نحوه، وكانت إحداهما جذابة الملامح، مملوءة وقارًا وجمالًا، وقد حبَتْها الطبيعة بحسن الصورة وبهاء الطلعة المقرونة برصانة الحكمة، وكانت تتشح ثوبًا أبيض فضفاضًا، أما الأخرى فكانت ربلة ناعمة، ولكنَّها زوَّرت ملامحها بالتبرج، لتظهر أكثر جمالًا وبهاء، مما هي في الحقيقة، وأخذت تتصنع من الإشارات والحركات ما يزيد قامتها اعتدالًا، وكانت تنظر بعينين مفتوحتين، لا خفر فيهما ولا استحياء، وقد اتَّشحت ثوبًا تظهر منه تقاطيع جسمها الجميل، وقد أخذت تنظر من وقت إلى آخر في صورتها، ثم تتطلع لترى هل يراها من الناس أحد، وهل يعجب بجمالها مُعْجَبٌ بها بل كانت كثيرًا ما تتلفت وراءها، لترى هل يرتسم في ظلها شيء من محاسنها، وفيما هما تتقدمان نحو هيرقل وهو في حيرة، تستبق الثانية الأولى إليه، وتأخذ في الحديث لتغريه على أن يتبعها دون الأخرى، وبعد أن تشرح له ما سوف يَلقى فيها من لذة واستمتاع، يسألها هيرقل عمن تكون، فتجيبه: «إن الذين يصحبونني يسمونني السعادة، ولكن الذين يمقتونني يدعونني الرذيلة.» وهنا تتقدم إليه الأخرى (الفضيلة) وتقول له: «إنني أريد أيضًا أن أحدثك بحديثي.» وتشرح له من واجبات الحياة الفضلى، وما في الفضيلة من مشاقَّ، بَيْدَ أنها تُظهر له أيضًا ما فيها من جمال.

وفي هذه المحاورة التي يشرح فيها فروُذِقُوس آراءه في الفضيلة والرذيلة، تنتصر الفضيلة — بالرغم من خشونتها — على الرذيلة — بالرغم من نعومتها — غير أن هيرقل يظل في تأمله، ولكن بعد أن تفتح له الأسطورة سبيلي الدنيا، وكذلك يترك سقراط أرسطبس حرًّا في أن يختار أيهما يفضل في الحياة.

أرسطبس وأفلاطون

عرفنا من قبل أنَّه لم يكن لدى القورينيين من حاجة لأن يثبتوا فوارق أساسية من حيث القيمة بين اللذائد، ولا شك في أن كلَّ ما وصل إلينا عنهم إنما يدل على أنهم كانوا على يقين من هذا الأمر، فقد نقل عنهم ديوجينيس لايرتيوس (ج٢، ص٨٧) قولهم بأن لذة ما لا ترجح لذة أخرى، وكذلك المنابع التي تزودنا باللذة، فإن أحدها — مهما كان فيه من التبذل والإسفاف — لا يفضل غيره أو يفترق عنه من حيث القيمة.

نذكر هذا لنثبت أن الفرق بين القورينيين وبين أفلاطون من ناحية، وبين أرسطوطاليس من ناحية أخرى، ينحصر في أن الأخيرين قد دافعا عن فكرة الأمثال المجردة للقيم وللحقيقة، وهي أمثال تسمو فوق الفكرة التي تجول في رءوس العامة من الناس.١
فإنَّ الحوار المشهور في كتاب «فليبوس» تأليف أفلاطون، والذي قصد به إمكان وضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، والموازنة بين هذه وبين مبدأ الفكرات الحقيقية، والفكرات الخيالية، إنما قصد به على الأرجح الإشارة إلى موقف القورينيين الفلسفي.٢
ومن المفيد أن نلاحظ هنا أنَّ ذلك الشك المرتجل الذي ظهر فيما كتب أرسطوطاليس وأفلاطون، هو الذي حمل القورينيين على أن ينفروا من البحث العلمي في الطبيعة، ومن مجرد التأمل الذي لا فائدة منه.٣

أمَّا السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع — على الأرجح — إلى أن ابن قورينة بدأ يعلِّم الهيدونية في أبسط صورها، فقال: إن اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائمًا وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته. وهذه الصورة البسيطة غير المهذبة من المذهب الهيدوني هي التي قاومها سقراط ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه «فليبوس».

غير أننا نمضي في شرح آراء أفلاطون والتعليق عليها من حيث علاقتها بمبادئ القورينيين، بحسب الترتيب الذي سقنا فيه هذا البحث فنبدأ بكتاب «ثياطيطُوس» ونعقب عليه بكتاب «بروطاغوراس» ثم بكتاب «فليبوس»، ونختم بكتاب «غورغياس» ثم بالتعقيبات الضرورية على كل ما يعنُّ لنا التعقيب عليه.

•••

كان للمذهب القوريني الأثرُ البالغُ في كل المذاهب التي ذاعت في بلاد اليونان القديمة منذ عهد سقراط.

ونحن إذا اضطررنا إلى الكلام في علاقة هذا المذهب بنواحي الفلسفة الأخلاقية عند اليونان، فإنما نقصد إلى البيان عن تلاقح المذاهب من ناحية، وإلى شرح الملابسات التي تصحب ذيوع المذاهب من نقد وتقرير من ناحية أخرى.

ففي كتاب «فليبوس» حاول أفلاطون — ولا يغيب عنَّا أنه أحد أخدان أرسطبس في التلمذة على سقراط — أن يضع فواصل بين اللذائذ الحقيقيَّة واللذائذ الخيالية، فكأنه حاول بذلك أن يضع قاعدة جديدة لمذهب اللذة من ناحية، وأن يضع تقسيمًا للَّذائذ من ناحية أخرى، على الضد مما ذهب إليه القورينيون، بل حاول أن يجعل تقسيمه للذائذ لا يتناول الكم والكيف وحدهما، بل يتناول تصور اللذائذ وحقائقها، ثم إنك تجده يحاول بعد ذلك أن يضع مذهبًا جديدًا في الفكرات فيقسمها على غرار التقسيم الذي وضعه للذائذ، ويقضي بأنَّ هنالك فكرات حقيقية وفكرات خيالية.

فكان من ذلك شعبة جديدة من شُعب المذهب الأفلاطوني العظيم، وفي كتابه «بُرُوطاغوراس» تأثر كل التأثر بالمذهب القوريني القائل بأن الحياة فن، وأن فن الحياة عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة.

وفي كتابه «ثِيَاطِيطوس» تناول مناقشة النظرية القورينية في المعرفة، وحاول نقضها، أما في كتابه «غُوْرِغياس» فقد هاجم النظرية الهيدونية كما وَضَعها أرسطبس، فكان ضعيفًا مضطربًا بَعُدَ عن موازناته الهادئة، وتقديراته الرياضية. وسننظر في هذا كله عند موضعه من البحث.

ولقد يحسن بنا أن نُشير هنا إلى أن الكلام في مناقشة أفلاطون لنظرية المعرفة عند القورينيين في هذا الموطن من البحث؛ سابق لأوانه، وكان الواجب أن نبقى على هذا حتى نتناول نظرية القورينيين في «المعرفة» أولًا، ولكن الحاجة تلجئنا إلى الكلام في هذا المبحث لسببين: الأول: أننا نتكلم عن أفلاطون والمذهب القوريني، فالواجب أن نجمل القول في ذلك. والثاني: أننا سوف نمضي في مقارنات نتناول فيها نظرية المعرفة عند القورينيين وعند أفلاطون. وهذا سنبقي عليه حتى نصل إلى موطنه من البحث.

أرسطبس وأفلاطون في كتابه «ثياطيطوس»

أشرنا عند الكلام في «أريطي وأرسطبس الصغير وغيرهما» (في الفصل الثالث) إلى أن النظرية القورينية في «المعرفة» قد ثبتت في عقل أفلاطون، وحاول نقضها في كتابه «ثياطيطوس Theatetus»، وعلى الرغم من أننا نكاد نؤمن بأنَّ أفلاطون لم يتطلع في كتابه هذا إلى رفض نظرية ما في المعرفة، إلا النظرية القورينية، فإنَّ أفلاطون لم يذكر اسم أرسطبس، ولا أشار إلى النظرية القورينية في «المعرفة»، كما فعل تلميذه أرسطوطاليس من بعده لدى نقده نظرية الأخلاق القورينية في كتابه «الأخلاق». ولعل إهمال هذين العَلَمين ذِكْر أرسطبس فيما كتبا وفيما تناولا من أوجه المذهب القوريني نقدًا وإثباتًا؛ كان السبب الأول في أن العرب لم يعرفوا من أمر أرسطبس شيئًا يعتد به، حتى إن ابن القفطي في كتابه الصغير «تاريخ الحكماء» لم يترجم عن حياته إلا ترجمة قصيرة، لا تدل على أثر من المعرفة بحقيقة مذهبه، مع أنه ترجم لرجال من اليونان كان يفخر كثير منهم أن يكونوا من تلاميذ أرسطبس، باستفاضة وبيان.٤

ولا شكَّ عندي في أن معرفة العرب باليونان كانت في أكثر الأمر عن طريق أرسطوطاليس وأفلاطون؛ لأنَّ أفلاطون «الإلهي» — كما كانوا ينعتونه — محبب إلى نزعاتهم، ولأن أرسطوطاليس «المعلم الأول» — كما عرفوه — كان بمنطقه الاستنتاجي أكبر معوان على تقرير مسائل الجدل والكلام، والراجح أنَّ العرب ورثوا هذه النزعة عن السريان الذين نقل عنهم العرب في أكثر الأمر أعمال اليونان.

وما كان لنا أن نمضي في هذا البحث من غير أن نمهِّد له بتعريف أوَّلي يتناول نظرية المعرفة عند القورينيين، على الرغم من أننا سوف لا نتناول نظريتهم بالشرح إلا بعد أن نفرغ من الكلام في أرسطبس وأفلاطون، ثم من الكلام في أرسطبس وأرسطوطاليس، غير أن ضرورة التعريف بهذه النظرية في هذا الموطن يُلجئنا إلى الإيجاز في شرحها، لنُبْقي على البيان والإفاضة إلى محلهما من البحث.

ويكفي هنا أن نعرف أنَّ مذهب أرسطبس لم يزود الفكر الإنساني بنظرية فذة في الأخلاق لا غير، بل وضع نظرية في المعرفة Theory of Knowledge دَعَمها أرسطبس، وتوسع فيها خلفاؤه، فكان لها أكبر الأثر في كلِّ ما ظهر من صور الفكر الفلسفي على مدار العصور.

أمَّا المحصل من هذه النظرية فيكفي أن نعرف منه أن القورينيين كانوا يقيمون نظريتهم في المعرفة على قاعدة بسيطة تنحصر في قولهم: «إن الأساليب أو الكيفيات التي نتأثر بها هي وحدها التي يمكن معرفتها.» ولما كانت هذه القاعدة هي لب النظرية، كفى أن نقول فيها إنَّ القورينيين مضوا في شرحها مستعينين بكل ما يخطر ببالك من المثل التي تستمد من إدراك الحس، فهم يقولون بأننا لا نعرف أن «العسل» حلو، وأن «الطباشير» أبيض، وأن «النار» تحرق، وأن «السكين» تقطع، وإنما نعرف من هذه الأشياء وأمثالها حالات الشعور التي نشعر بها؛ أي إن لنا إحساسًا بالحلاوة، وآخر بالبياض، وثالثًا بالحرق، ورابعًا بالقطع وهكذا، وإن هذه الحواس هي طريقنا إلى المعرفة؛ أي إننا إنما نعرف الآثار التي تتركها فينا الأشياء من طريق الحواس، لا ما هي حقيقة الأشياء في ذاتها.

وهنا يجدر بنا أن نعرف أصل حوار ثياطيطوس، وإنما نستطرد في هذا خاصة؛ لأننا سنحتاج إلى معرفته في شرح نظرية المعرفة عند القورينيين فيما بعد.

ثياطيطوس شابٌّ من نُبَغاء اليونان برز في الرياضيات والعلوم، جرح في إحدى المواقع الحربية في حصار من حول مدينة قورنثية ومرض في المعسكر مرضًا مميتًا، فأبدى رغبته في أن يَحدث به حدَث الموت في وطنه؛ ولهذا نقل إلى ثغر ميغارة حيث قابله إقليدس الميغاري، فتحدث إقليدس في شأنه مع صديقه «طرفزيون Terpsion» — وهو أيضًا من تلاميذ سقراط — مبديًا أسفه على أنْ تفقِد بلاد اليونان نابغة مثل ثياطيطوس، وجرَّهم الكلام إلى ذكر حديث اشترك فيه سقراط والرياضي ثيوذورس القوريني وتلميذه ثياطيطوس، أشاد فيه سقراط بالمواهب السامية التي أبداها التلميذ الشاب وعلائم النجابة والنبوغ التي آنسها فيه، وأراد إقليدس أن يرافق الجريح حتى إذا قطع جزءًا من الطريق ناله النَّصَب من عناء السفر، فاستقر رأيه على أن يستريح بعد طول الشقة التي قطعها ماشيًا، وهنالك وافاه طرفزيون، وكان قد عاد من الريف، فانتهز طرفزيون هذه الفرصة ورغب في أن يسمع تفاصيل ذلك الحديث الذي ألمعنا إليه، فأجابه إقليدس إلى طلبه، وأمر عبدًا كان يرافقه أن يقرأ عليهم نص الحوار.

والذي يعنينا من أمر هذا الحديث ما يتعلق منه بمناقشة نظرية المعرفة التي قال بها القورينيُّون. لهذا نترك كل التفاصيل الأخرى بعد أن مهدنا بالتعريف عن أصل الحوار، لنستخلص من هذا الكتاب مجمل النقود التي وجهها أفلاطون إلى النظرية القورينية في المعرفة على أن نذكر دائمًا أن هذا الكتاب يعد في مقدمة كتب أفلاطون قوةَ تفكيرٍ ومتانةَ أسلوبٍ، إذ جمع فيه بين خيال الشاعر ودقَّة المِنْطِيق، وحيطة الفيلسوف، وفن المنشئ.

يبدأ الحوار بسؤال يوجه إلى ثياطيطوس وجواب يرد به ثياطيطوس على السؤال، وعلى السؤال والجواب يُبنى الحوار وتقوم المناقشة، أما السؤال «فما هي المعرفة؟» وأما جواب ثياطيطوس فهو أن «المعرفة هي الإدراك».

ولا شك في أنَّ سقراط قد استخلص من جواب الشاب النابغة أنَّ تعريفه الأوَّلي للمعرفة مزيج من مذهب بروطاغوراس ومذهب أرسطبس فحاول ببداهته أن يُخَرِّج من الجواب اتجاهًا يدور من حوله الحوار، ويسد به على مُحاوره طريق الخلوص إلى ما يريد من تقرير نظرية القورينيين، فيتجه فكره توًّا إلى أن في الجواب شطرًا يمكن التسليم به، وشطرًا آخر فيه تناقض عقلي، وأنَّ الشطر الثاني إذا أعير ما هو جدير به من الاعتبار ذهب بكل أساليب المعرفة وبددها، ولا شك في أن هذا التناقض العقلي يذهب فيما يذهب به، بالشطر الذي يمكن التسليم به من تعريف ثياطيطوس.

أما التناقض العقلي الذي استخلصه سقراط من هذا التعريف المجمل للمعرفة؛ فيرجع إلى أنَّ القول بأنَّ الإدراك هو المعرفة أو أن المعرفة هي الإدراك يَجُرُّ العقل حتمًا إلى التسليم بأنَّ شخصًا ما؛ يمكن أن يعرف ولا يعرف في آن واحد.

والمثل على هذا أن شخصًا ما «إذا سمع» ألفاظًا من لغة غريبة عنه، فإنه «يدرك» الألفاظ، ولكنه لا «يعرف» ما تحمل من المعاني، فإدراكه الجَرْسَ اللفظي يمكن أن يُعتبر «معرفة»، وجهله المعاني يمكن أن يعتبر «لا معرفة»؛ فهو «يعرف» و«لا يعرف» في الوقت نفسه. وكذلك إذا «دعا» الإنسان لفكره مُدْرَكًا من المدركات التي لم يكن يعرفها، فقد يمكن أن يقال إنه «يعرف»، وبمعنى آخر إنه «لا يعرف».

أما المعنى المجمل في التعريف فيتضمَّن احتمالين:
  • الأوَّل: القول بأن «مَلَكَة الإدراك» هي الملكة الوحيدة التي تستخدم لاستيعاب المعرفة، وفي هذا إنكار لملكة أخرى، أظهر في صفاتنا العقلية من الإدراك، هي ملكة «التذكر» أو بالأحرى «الذاكرة».
  • والثاني: أن مادة الإدراك هي المادة الوحيدة التي تتكون منها المعرفة.
ولا شك في أنَّه ليس من شأننا هنا أن ندرج إلى التفاصيل ومناقشة الآراء، ويكفي أن نشير إلى حقائق لا يجب أن تغيب عن ذهن الباحث:
  • الأولى: أنَّ أفلاطون بعد أن يخلص من مناقشة التعريف الأول، يلجأ إلى تعريف ثانٍ، محصله أن «التصور الصحيح (كالآراء والعقائد) هو المعرفة»، وبعد أن يمضي في مناقشة هذا التعريف، ويدلف إلى القول بأنَّ الآراء الصحيحة تناقضها الآراء الفاسدة، وأن العقائد الصحيحة تناقضها العقائد الفاسدة، يخلص من هذا التعريف إلى تعريف ثالث — بعد أن يمهد له بمناقشات طويلة — مجمله أن «المعرفة عبارة عن آراء صحيحة يؤيدها الإيضاح».
  • الثانية: أنَّ كثيرًا من المؤلفين يعتقدون أنَّ هذا الحوار برمته لا أصل لوقائعه، وإنما هو من وضع أفلاطون؛ إذ حاول أن يناقش فيه كل الاحتمالات والنواحي التي تؤدي إليها نظرية المعرفة عند القورينيين.
  • الثالثة: أن تأثير المذهب القوريني في نواحي الفكر قديمًا وحديثًا كان شاملًا، وأن إهمال ذكر مؤسسه ورجاله كان مقصودًا؛ لأسباب سوف ندلي بها في موضع آخر.
  • الرابعة: أننا لا نثبت هنا شيئًا ضد رأي القورينيين، ولا ننفي شيئًا من نقد أفلاطون، وإنما نبقي على هذا إلى ما سوف نكتب في شرح نظرية المعرفة القورينية.

أرسطبس وأفلاطون في كتابه «بروطاغوراس»

في كتاب أفلاطون الذي سماه «بُروطاغورَاس» موضعان يصح أن نرجع إليهما في هذا البحث: الموضع الأول: وزن اللذة والألم، والموضع الثاني: هيدونية أفلاطون.

أما الموضع الأول فقد ألمعنا إليه عند الكلام في أرسطبس وجرمي بنتام (في الفصل الثالث) إذ أثبتنا ما يلي:

وعلى هذا يصبح «فن الحياة» عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة على الصورة التي استنتجها أفلاطون في آخر كتابه بروطاغوراس، وهي صورة حقَّة تقوم على فلسفة سقراط، ولكن أفلاطون لم يؤمن بما استنتج من فلسفة أستاذه، إيمانًا صريحًا كاملًا.

ولأفلاطون في كتابه «بُروطاغوراس» اتِّجاهان، ففي أولهما يتجه إلى الكلام في الفضيلة، أمَّا في الثاني فينصرف إلى وزن اللذة والألم، ولعله في هذا الموطن قد استنتج من فلسفة أستاذه سقراط كل ما استنتج خدنه وقرينه أرسطبس، على أنه لا يبعد أن يكون أفلاطون قد تأثر باستنتاج أرسطبس المباشر في فلسفة اللذة، فوعى بعض ما يترتب عليها من النتائج، فلمَّا وصلت المناقشة في كتاب «بروطاغوراس» إلى موقف يؤدي مَنطقًا إلى فكرة أرسطبس، لم يكن من مندوحة أن يبرز الوعي الذي وعاه أفلاطون من فلسفة خدنه، ويظهر في ميدان الصراع الفكري فتصبح الحياة عند أفلاطون «فنًّا» ويكون هذا الفن ضربًا من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة.

ولكن كيف تدرج البحث ليصل إلى هذه النتيجة؟ كان أول التدرج في البحث، أن سقراط حاول أن ينقض قولًا «سوقيًّا» يتلخص في أن الإنسان يخطئ مختارًا، وأنَّه يعرف «الخير»، ولكنه يتنكب الخير باختياره إذا استقوت عليه «اللذة» أو بعض الشهوات الأخرى كالغضب أو الخوف أو الحب أو الحزن، ويأخذ بعد ذلك سقراط في محاولة أخرى يريد أن يخلص من طريقها إلى البرهنة على أن «للعقل» السلطة العليا، والمنزلة الأولى في توجيه سلوك الإنسان، وعلى هذا يوافق بروطاغوراس.

غير أن موافقة بروطاغوراس على قول سقراط هذا، تسُوق المناقشة إلى أفق آخر، يدلف فيه سقراط إلى بحث فكرة شَائِعة مجملها أنَّ الإنسان غالبًا ما يعرف «الشر» أنَّه «شر»، ولكنَّه يفعله، ويصف هذه الفكرة بأنها أضحوكة مزرية، ثم يحاول أن يبرهن على هذا، فيقول بأن كل إنسان إنما يعمل في سبيل الحصول على «أَخْيَر»٥ ما يتمنَّى لنفسه، وأنَّ هذا يحمل الإنسان على أن يجعل اللذَّة موازنة للخير، والألم موازنًا للشر، ومن هنا ينحصر عمله في الحصول على أكبر قسط من اللذة، وأقل قسط من الألم، ولذلك تراه يتفادى اللذائذ أحيانًا، ما دامت تؤدي إلى آلام ترجحها، أمَّا المعنى الذي نستنتجه من قول البعض بأن الإنسان إنما تستقوي على مشاعره اللذائذ، فإنه لا يدل في الحقيقة إلا على أن اللذائذ النزيرة ما دامت قريبة، وفي متناول اليد، تُفَضَّلُ دائمًا على اللذائذ العظيمة، ما دامت بعيدة التناول، والسبب في هذا أن قُرب اللذائذ يضخمها، كما يضخم القرب الأحجام، وفي مثل هذه الحالات قد يخدع العقل وتفسد أحكامه، على أنَّ الأخطاء التي قد تنتج عن خداع العقل، يُمكن أن يتلافاها كل مَن في مستطاعه أن يزن، وأن يقيس وأن يقدر تقديرًا صحيحًا؛ حالات اللذَّة والألم، وعلى هذا يصبح السلوك الواجب اتباعه في الحياة، نوعًا من الموازنات أو الأقيسة، وبالأحرى ضربًا من الحكمة أو المعرفة. أما الحالة المضادة لهذه؛ وهي الحالة التي تستقوي فيها اللذة أو المشاعر على الإنسان وتستعبده، فما هي إلا الحمق والجهالة، ولا شك في أنها أدنى الجهالات جميعًا.

ننتقل من ثَمَّ إلى الموضع الثاني لنتكلم في هيدونيَّة أفلاطون، ولنبيِّن عن اتجاهه التفكيري، ولنُظْهِر الفارق بينه وبين أرسطبس من حيث النزعة والاتجاه.

يُظهر أفلاطون في آخر كتابه «بروطاغوراس» شكَّه في أنَّ اللذة والألم يشملان كل ما نعني «بالخير والشر» ويعقِّب على هذا بقوله: «إننا لا نقصد بالأغراض عادة إلا اللذائذ والآلام، وما يتعلق بهما من الميول والرغبات، وإن كل المخلوقات الحية إنَّما تعمل جاهدة في سبيل هذه الأغراض مدفوعة إليها بانفعالاتها.» ولهذا يمضي أفلاطون في تعداد اللذائذ والآلام، ويقارنها بعضها ببعض، من حيث عددها وامتدادها وقوتها، ثم يقول بأننا نختار الآلام الضئيلة، إذا ترتَّبت عليها لذائذ عظيمة، ولكنا لا نختار اللذائذ الضئيلة، إذا ترتبت عليها آلام عظيمة، وهنا يُشير إلى الحالة السلبية في السلوك، وهي الحالة التي نختارها لتحُلَّ محل الألم، ولكنا نرفضها، إذا حاولت أن تحل محلَّ اللذة.

ولقد حاول أفلاطون، بعد هذا، أن يثبت أن أمْتع حالات الحياة حالة تنيلنا ذلك الثواب الذي نتَطَلَّع إليه جميعًا، والذي ينحصر في أن ترجح مسرَّاتُنَا أحزانَنا، ولا شك مطلقًا، في أنَّ بين هيدونية أفلاطون وهيدونية أرسطبس، آصرة ونسبًا قويًّا، ولكن الفارق ليس في العنصر الذي تقوم عليه هيدونية كل من هذين العَلَمَين، بل في النزعة العقلية التي تُدخل أفلاطون في حيز الآلهيين وأرسطبس في حيز الإنسانيين؛ فتجعل الأول ينظر في المثاليات، والثاني ينظر في الحقائق الوَاقِعَة.

أرسطبس وأفلاطون في كتابه «فليبوس»

أوردنا عند الكلام في «أرسطبس والكلبيين» (في الفصل الثالث) ما يلي: قصد «أفلاطون في كتابه «فلِيبُوس Philebus» أن يحاول وضع فواصل بين اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخيالية، والموازنة بين الفكرات الحقيقية، والفكرات الخيالية، ويرجح أن أفلاطون لم يقصد بهذا البحث إلا الإشارة إلى موقف القورينيين الفلسفي.»

ثم أثبتا ما يأتي: «أما السبب الذي حمل أفلاطون وأرسطوطاليس على أن يقاوما مذهب أرسطبس، فيرجع إلى أن ابن قورينة كان قد بدأ يعلم الهيدونية في أبسط صورها، فقال إنَّ اللذة هي الخير الأسمى، وإن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائمًا وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، وهذه الصورة البدائية غير المهذبة في المذهب الهيدوني؛ هي التي قاومها سقراط ونقلها عنه أفلاطون، وأثبتها في كتابه «فليبوس».»

هذه هي الفقرات القليلة التي أشرنا بها إلى كتاب فليبوس في البحوث السابقة، ولا شك في أن متابعة البحث في كتاب «فليبوس» واستخلاص المواضع التي يمكن أن يكون أفلاطون قد أشار فيها تلميحًا أو توضحيًا إلى موقف القورينيين الفلسفي، يدعونا إلى النظر في الكتاب بحيث نتدرج عند النظر فيه، من موقف إلى موقف، ما دام ذلك يسلم بنا إلى الكلام في ما نقصد إليه من هذا البحث.

ولهذا لا نجد مندوحة عن أن نمضي في البحث على طريقة ألِفناها من قبل، وجرينا عليها في الكلام على كتاب «بروطاغوراس» وكتاب «ثياطيطوس».

إنَّ العنصر الحقيقي الذي يؤلِّف صلب الحوار ينحصر في «الخير» أو كما سُمي «الخير الأسمى»، ويقوم الحوار بين طرفين: أحدهما يؤيد أن الخير في «اللذة»، والآخر يؤيد أن الخير في «المعرفة».

ولا شك في أنَّ أفلاطون في مثل هذا الموقف يجنح دائمًا إلى القول بأن المعرفة وحدها يمكن أن تكون مصدرًا للسعادة، حتى إذا أغضينا عن كل ما يحتمل أن تنتجه من ممكنات اللذة، وعلى هذا لا تكون «المعرفة» منافية للذة على وجه عام.

غير أنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن القول بأن قياس المعرفة بالخير، وجعلهما متساويين من هذه الناحية، قول قد سُبِقَ به أفلاطون؛ لأنَّه يرجع في الواقع إلى مقرَّرات «إقليدس الميغاري» الفلسفية، ثم نقله عنه الكلبيون، ولكن أفلاطون يحاول أن ينزل من قيمة هذه «الموازنة الفلسفية» فيقول بأن لا «اللذة» وحدها، ولا «المعرفة» وحدها، يمكنهما منفصلتين أن تنتجا السعادة، ذلك بأنَّ السعادة دائمًا وحيثما وجدت، لن تكون إلا مزيجًا منها.

وفي هذا الموقف يرجع أفلاطون إلى أسلوب كثر ما عمد إليه في كتابه «الجمهورية»، وهو أسلوب أقرب ما يكون إلى الأسلوب العلمي التحليلي، وبالأحرى أسلوب التفريق بين المعقولات ثم وزنها ومناقشتها، فهو يجرد حياة اللذة من كل ما يحتمل أن يمازجها من «الذكاء»، ويجرد الذكاء من كل ما يحتمل أن يمازجه من اللذة، ثم يقارن بعد ذلك كلًّا من الحياتين، إذا اتفق أن شخصًا حاول أن يحيا إحداهما، فيبرهن على أن حياة اللذة لا تكفي المرء، بقوله إنَّ الذاكرة وحياة الترقب (الأمل والرجاء وما إليهما) يُنْضِبَان أكبر نبع يمكن أن يفيض علينا باللذائذ، وإن شخصًا — إذا اتفق وكان على ما وصف أفلاطون أو بالأحرى على ما تخيل — يصبح لمجرد إسفافه الشعوري؛ لا يفترق عن الحيوانات الدنيا، كالأصداف والحيوانيات البحرية.

وأما الناحية الأخرى — ويعني بها الحياة العقلية الصرفة (الذكاء) — فإذا لم يمسها ريح من اللذة والألم، فإنها لا تكون أكثر من جمود، يُفْقَدُ معه الإحساس والشعور، ولا يحاول أفلاطون في هذا الموطن أن يحلل هذه الحالة التي تخيلها، وإنما يرفضها على أنها غير خليقة بالإنسان.

وبعد أن يفرغ أفلاطون من التدليل على ضرورة هذا التمازج يعمد إلى الكلام في القيمة النسبية التي تكون لكل من العنصرين، وهنا يضطرُّ إلى أن يغوص بك إلى الأعماق القصيَّة من «طبيعة الأشياء»، ولأول وهلة يسقط بك على أمرين معينين: اللامتناهي والمتناهي.

ولا شكَّ في أنَّ أفلاطون إنما يتأثر في موقفه هذا بالفيثاغوريين وبالفيلسوف «فِيلولاوُس Philolaus» وكان فِيلولاوس هذا من معاصري سقراط، فيقرر أفلاطون أن كل شيء فيه كثافة يعتبر في حيز «اللامتناهي»؛ لأنَّ درجات الكثافة تتضمَّن حقيقة الاستمرار في التجزئة إلى غير حد، أما كل الأقيسة والأعداد وكذلك الفكرات التي تتضمن بالضرورة أقيسة وأعدادًا، فتدخل في حيز المتناهي، ومن تمازج الأصلَين أو المؤثرَين، أو بالأحرى الكائنين، اللامتَنَاهي والمُتناهي، ينتج كلُّ ما ترى في الطبيعة من جمال وقوة وكل ما تلمح من نظام واطراد إلى غير ذلك مما يمكن أن تستبينه في الأشياء.

هنا ينتقل أفلاطون إلى أوج آخر يقرِّر فيه أنَّ مزج المؤثرين اللذين ذكرناهما «اللامتناهي والمتناهي» ينتج مؤثرًا ثالثًا، ثم يضيف إلى هذه المؤثرات الثلاثة مؤثرًا رابعًا هو «العامل» الذي ينتج من امتزاج المؤثرين الأوَّلين: «اللذة والمعرفة».

وبهذا يكمِل أفلاطون مذهبه في المؤثرات أو «العوامل الأربعة» التي تتسلط على الكون كله، ومن ثَمَّ يضع قاعدة للمقابلة بين القيم Values، وعلى هذا يقضى بأنَّ اللذَّة والألم ضربان من ضروب الأشياء «اللامتناهية» ولذا يضعهما في مرتبة أقل من مرتبة «المعرفة» التي هي عنده في المرتبة الأولى من الشأن؛ لأنها تدخل في حيِّز المتناهي.

ولا شبهة في أنَّ تدرُّج هذا البحث كان لا بد من أن يَجر أفلاطون إلى البحث في طبيعة اللذَّة والألم، فما هي اللذة؟ وما هو الألم؟ سؤالان لم نعثر فيما خلف أرسطبس على جواب لهما.

فإذا كانت اللذة عند أرسطبس حركة لطيفة، والألم حركة عنيفة، فما هي إذن طبيعة هذه الحركة، وكيف تحدث؟ ما هي أسبابها، وما هي نتائجها؟ أما أفلاطون فيجيب على هذين السؤالين؛ فيقول: إن الألم ظاهرة تصاحب انحلال الوحدة التي يُحدثها تمازج المؤثرين الرئيسيين: «اللامتناهي والمتناهي» وإن اللذَّة ظاهرة تصاحب رجوع المؤثرين إلى وحدتهما.

ومن ثم يمايل بين اللذَّة والألم القائمين على الحالات الطبيعية، باللذة والألم الناتجين عن الترقب؛ أي القائمين على الحالات النفسية، ويدخل مع هذين حالة ثالثة؛ هي حالة الحياد الانفعالي، ويجعلها خاصة بالحياة العقلية، ولتساميها عن القدرة البشريَّة خُصَّ بها الآلهة، فإذا كانت في الإنسان، فلا أقلَّ من أن تكون لها المرتبة الثانية من المراتب التي قسَّم بها أفلاطون مؤثراته هذه.

أمَّا ما يستنتج أفلاطون من هذا البحث التركيبي الرائع فجملة نتائج نفسية لها روعتها، ولها فخامتها الجديرة بعقل الفيلسوف الآلهي.

يقول بأنَّ «اللذة» الروحيَّة — أي التي لا تختصُّ إلا بالروح — تكيِّفها الذاكرة، غير أنَّ مرمى «الذاكرة» لا يقتصر على تلك الآثار التي تؤثر في الأجسام وحدها، والتي تنمحي قبل أن تتصل بالروح، وإذن فلا بد من أن يتزود المرمى أو الهدف أو الغرض الذي تتحوَّل نحوه الذاكرة بتلك «الخَلَجَات» التي تتمشى خلال البدن والروح معًا، والتي نسميها الأحاسيس، فإن هذه الأحاسيس تخزنها الذاكرة، وهذه الذكريات Recollections هي النبع الحقيقي الذي يفيض علينا باللذائذ الروحية؛ أي النفسية، التي يميزها أفلاطون من اللذائذ التي تقوم على الرَّغَبات، ولا ينكر أفلاطون مع هذا أن عنصرًا نفسيًّا؛ أي روحيًّا، إنما يتغلغل في صميم الرغبات والميول الإنسانية، هو عنصر الترقب (الأمل والرجاء وما إليهما) ويقوم أصلًا على الذاكرة من طريق علاقته بالشيء المرتقب، أو «المرغوب فيه»، ومن هنا تنتج اللذة، أو يحدث الألم بنسبة الأمل أو اليأس من الحصول على الرغبات أو الشك في الحصول عليها، ومع هذا فإن في الرغبات عنصرًا أصيلًا من عناصر الألم، لا فرار منه بحال من الأحوال.

ومن هنا يصل أفلاطون إلى الكلام في اللذائذ الحقيقية واللذائذ الخياليَّة، فتستقوى فيه روح الأديب الشاعر على روح العالِم المتزن الذي عهدته في المقرَّرات السابقة، فيقول بأن اللذائذ والآلام الخيالية إنما تأنسها في الأحلام، وهذه المفارقة لا يجب أن تنتزع منها روح التقدير السامي لتحليل أفلاطون الرائع حقيقة اللذة والألم.

والمحصل أننا لم نستطرد في هذا إلا لنظهر إلى أي حد بلغ تأثير المذهب القوريني في عصر أفلاطون وأرسطوطاليس، وإلى أي مدى تغلغل في أفكار العظماء.

أرسطبس وأفلاطون في كتابه «غورغياس»

لم تكثر الأوهام في كتاب من كتب أفلاطون، كما كثرت في كتاب «غورغياس»، وهذا على قدر ما أستطيع أن أحكم من دراسة أوَّلية لهذا الكتاب، غير أنَّ الذي يهمُّني الرجوع إليه في هذا الموطن وَهْمَانِ، حاول أفلاطون أن ينقُضَ بهما النظرية الهيدونية.

أمَّا الوهم الأول فقول أفلاطون: إنَّ اللذَّة ينبغي أن لا تُعد من الخيرات أو من الأشياء الطيبة؛ لأنها إذا عدت من الخيرات أو من الطيبات إذن لوَجَبَ أن يكون للأخيار منها أكبر نصيب؛ لأنَّ وسمَهُم بالخير، إنما يكون لأنهم يساهمون في الخيرات.

وأما الوهم الثاني: فيرجع إلى الطريقة التي حاول أن يدلل بها على الوهم الأول، فقد ذهب في هذا التدليل مذهب أن نصيب الرجل الطيب من اللذة أقل من نصيب الشرير، ونصيب الرجل الشجاع منها أقل من نصيب الجبان، وأن الطيبين والشجعان ينالهم من الألم أكثر مما يصيب الآخرين منه، وعلى هذا النهج يمضي أفلاطون في هذا الموضع من الحوار فيجري في الأكثر على طريقة خطابية تؤدي إلى ضعف بيِّن في أسلوب البرهنة الذي اتبعه لينقض الهيدونية.

أما ما يستلفت نظر الباحث في كل هذا؛ فحقيقة أنَّ عقول الفلاسفة كانت قد اتجهت في ذلك العصر إلى وزن الهيدونية وتقويمها من كل نواحيها، وفي هذا دليل أوفى على ما كان لها من أثر وشأن في مذاهب الفلسفة القديمة.

أرسطبس وأرسطوطاليس

جاء فيما كتبنا في «الرسول الجديد» (الفصل الثالث) ما يلي:

غير أننا إذ نرى أنَّ شابًّا من أفذاذ العالم الإنساني — لا من أفذاذ اليونان وحدهم، ومن معاصري أرسطبس — درس نظرياته ومبادئه لا على وجه التعميم، بل على وجه الاختصاص، وأنه ناقش فيها، ونقد بعض الأسس التي تقوم عليها؛ يذهب من روعنا كل شك في أن مذهب أرسطبس ونظرياته قد كُتبت وجُمعت بين دفتي كتاب أو ضمنت صفحات كتب عديدة، وإن ثقتنا بهذا القول تصبح في موطن اليقين، إذا عرفنا أن ذلك الشاب الذي عاصر فيلسوفنا في أخريات أيامه، هو المعلم الأول أرسطوطاليس لا أحد غيره.

ولقد يجمل بنا أن نذكر أنَّ أرسطبس كان يعلِّم تلقاء أجر، وأن هذا كان سببًا في أن يلحقه أرسطوطاليس بالسفساطئيين، فلما أهمل أرسطوطاليس ذكر أرسطبس في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس» ولم يذكر من أتباعه إلَّا أودُكْسس الهيدوني المتقشف، وذلك عندما شرع ينقد مذهب القورينيين الأخلاقي، ويناقش في مبادئ المذهب تفصيلًا وجملة، من غير أن يُعير الأشخاص أيَّ التفات، ذهب بعض النقاد ممن ينظرون في تاريخ المذاهب الفلسفية إلى القول بأن أرسطوطاليس لم يذكر أرسطبس بالاسم إلا احتقارًا لشأن السفسطائيين، الذين كان يعتقد أن أرسطبس واحد منهم، غير أن عندي بعض تقديرات أخرى يمكن أن يُعزى إليها تَعمُّد أرسطوطاليس إهمال ذكر الفيلسوف القوريني العظيم أعدِّدها هنا إتمامًا لفائدة البحث.
  • أولًا: أنَّ أرسطوطاليس ناقش في أكثر من مذهب في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس» فكان أقلَّ المؤلِّفين ذكرًا لأسماء الفلاسفة وأصحاب المذاهب التي ناقش فيها.
  • ثانيًا: أنَّه كان يُعنى بالفكرات والنظريات دون أصحابها، فإنه على كثرة ما ناقش في مبادئ المذهب القوريني لم يذكر اسم أودكسس إلَّا عَرَضًا.
  • ثالثًا: أرجح أنَّ أرسطوطاليس لم يذكر أودكسس في كتابه إلا لأن هذا الفيلسوف كان من القورينيين نسيجًا وحده، فإنه كان هيدونيًّا من أصحاب اللذة، وفي الوقت ذاته متقشِّف يدعو إلى المثل العليا على نفس القاعدة التى دعا بها أرسطوطاليس.
  • رابعًا: أنَّ علاقات أرسطبس الشخصيَّة بأهل زمانه، مما لا يجعل للصداقة بينه وبين أرسطوطاليس من محلّ، فإنه كان محررًا من كثير من قيود العرف التي يقدسها أرسطوطاليس، وكان إباحيًّا بعض الشيء كما يستدل على هذا من علاقته ﺑ«لايس» القورنثية، إحدى خليعات أثينا بل ومن خليعات التاريخ اللاتي يذكرهن أصحاب التراجم والموسوعات الكبرى؛ لبُعد صيتها في الخلاعة، حتى لقد ضرب المثل بها في التبذُّل، فقد ثبت أن أرسطبس كان من عشاقها ومخالطيها المعروفين.

فإذا أضفنا إلى هذه التقديرات أن أرسطبس كان يعلِّم بأجر، فعدَّه أرسطوطاليس من السُّفُسْطائيين؛ عرفنا على الإجمال السر في أن يُعْنَى أرسطوطاليس في كتابه بالمذهب دون صاحبه.

وهذا يدل أوضح دلالة على أنَّ أرسطو كان يقدِّر أرسطبس كفيلسوف، فناقش في مذهبه وترك اسمه، وأظن أن مجمل هذه التقديرات يكفي لتعليل السبب في أن يهمل المعلِّم الأول ذكر القوريني العظيم.

أما الوجوه التي ناقش فيها أرسطوطاليس مذهب أرسطبس، فنمضي في ذكرها متخذين من المصادر التي بين يدينا — على قلتها — عمدة في البحث.

وقبل أن نمضي في هذا أرى أن أنبه إلى حقيقة تؤيدها كثير من المرجحات ولا يجب أن تغيب عن ذهن الباحث، وهذه الحقيقة هي أن أرسطوطاليس ناقش في أبسط صورة لابست مذهب أرسطبس، والواقع أنه نقد الناحية التي قال فيها أرسطبس بأنَّ اللذة هي الخير الأسمى، وأن غاية الإنسان يجب أن تتجه دائمًا وفي كل آن إلى الحصول على أكبر قسط منها، وجهد ما تصل استطاعته، ولا ريبة في أنَّ هذه الناحية هي التي نقدها من قبلُ سقراطُ، وهي بعينها الناحية التي نقدها من بعدُ أفلاطونُ، وهي بعد هذا كله صورة المذهب البدائية.

على أنَّ هنالك ظاهرة أخرى يجب أن نعيَها، فإنَّ نقد سقراط كان عامًّا مجملًا، ونقد أفلاطون كان نتفًا، فظهر مفرقًا بين كتب عديدة، كما تناول نواحيَ مختلفة من مذهب أرسطبس، ولذا تناوبت عليه حالات من القوة والضعف، والبيان والغموض، ونهوض الحجة مرة وسقوطها أخرى، أما نقد أرسطوطاليس فكان أقرب ما يكون إلى النقود التي استولت عليها الروح الأكاديمية العميقة، على الرغم من أنَّه تناول النواحي الأولية البدائية من المذهب، ولا شك مطلقًا في أنَّ هذا التدرج كان يتبع تدرج المذهب نحو النضوج، كما أنِّي لا أشتبه مطلقًا في أن المذهب إنما نضج بعد عصر أرسطوطاليس، وبعد موت أرسطبس.

لهذا أعتقد أنَّ نقد المذاهب الفلسفية والعلمية إنما يكون أقرب إلى الكمال إذا وُجِّه إليهما بعد أن تلابسها أنضج الصور، وأن المذاهب — فلسفيَّةً كانت أم علمية أم أدبيَّة — يجب أن يعاد النظر فيها بين حين وحين، شأنها في ذلك شأن التاريخ.

ذلك بأنَّ تطوُّر الاتِّجاهات العقليَّة، ونشوء المبتكرات واتساع أفق المعرفة، كل هذه وسائل تجعلنا أقدر على فهم النواحي الغامضة من المذاهب القديمة، زد إلى هذا أنَّ رواد الفكر يُحْصَرُون عن تبيُّن الحقائق تمامًا، وهم لا يرون منها إلا ما يرى الخائف الوجل في مفازة موحشة، فقد تتراءى له خيالات وأشباح تتصارع في نهاية الأفق، ولك أن تصوِّر لنفسك بعد هذا إلى أي حد يصل جهد الرائد ليستخلص الحقائق من الخيالات، ويتبيَّن الأجسام المادية من الأشباح، والنقد الذي يوجَّه إلى المذاهب التي يضعها الرواد، لا يخلص من الشوائب التي لن تسلم منها المذاهب المنقودة ذاتها عند أول وضعها، وإذن يكون ما في نقد المذاهب الناشئة من ضعف واضطراب؛ راجعًا — في أكثر الأمر — إلى ضعف عناصر المذاهب المنقودة ذاتها.

أمَّا إذا أردنا أن نستخلص حقيقة العلاقة بين مذهب أرسطوطاليس الأخلاقي، وبين فلسفة أرسطبس فواجب علينا أن نمضي في ذكر الوجوه التي تثبت العلاقة والآصرة بينهما في أخلاقيات أرسطوطاليس، وأن ننقل عن المعلم الأول أخص ما يتصل من فلسفته الأخلاقية بمذهب الفيلسوف القوريني، ونستطرد في الموازنة بينهما كلَّما دعت الضرورة إلى ذلك، ولنبدأ بمعقول السعادة عند أرسطوطاليس، نقلًا عن كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس»، ترجمة أستاذنا الكبير أحمد لطفي السيد باشا، عن الباب الرابع جزء أول، ص١٨٩–١٩٥.

بدأ أرسطوطاليس ببيان ما هو الخير، فقال بأنَّ الخير يختلف باختلاف العمل، وتبعًا لاختلاف الفنون، فهو في الطب غيره في الفنون العسكرية، فإن كان الخير في الطب هو الصحة، وفي الحركات العسكرية هو الظفر، فهو في البيت فن العمارة، وهو غرض آخر في فن آخر؛ إذن فالخير هو عبارة عن الغاية التي تبتغى، ومن أجل هذه الغاية يعمل الإنسان باستمرار كُلَّ الأشياء التي تؤدي إليها. ولكل إنسان غاية تتجه إليها أعماله، وهذه الغاية هي الخير الذي يستطيع الإنسان أن يتعاطاه، فإذا وجدت عدة غايات فمجموعها هو الخير، ثم يقول: «إنَّ للإنسان غايات عديدة في الحياة، على أنَّ أكثر هذه الغايات ليست كاملة ولا نهائية بأعيانها، على حين أن الخير الأعلى كامل ونهائي، والخير الكامل النهائي هو الخير الذي نبحث عنه، وإذا وُجدت عدَّة غايات تتقارب من حيث كمالها ونهائيتها، فإنَّ الأشد نهائية من بينها هو الخير الأسمى.»

«الخير النهائي هو الذي يُطلب لذاته وحده، أمَّا الخير الذي يُطلب من أجل غيره، فليس كذلك، وبهذا يكون الخير الذي يبحث عنه لأجل ذاته، هو الخير الكامل، الخير النهائي، الخير التام، وهو لذلك يكون مطلوبًا لذاته وليس من أجل شيء سواه.»

«إنَّ خاصِّية الخير الأسمى على ما شرحناه، هو خاصيَّة السعادة عند أرسطوطاليس؛ فمن أجلها ولأجلها دائمًا، يعمل الإنسان ويبحث، فإذا طلب الإنسان التشاريف واللذَّة، والعلم والفضيلة، على أي شكل كان، فإنه إنما يبغى هذه المزايا بصرف النظر عن كل نتيجة أخرى، ولكنَّه مع ذلك يرغب فيها أيضًا من أجل السعادة باعتبار أن هذه وسائل تحقق السعادة التي هي كاملة ونهائية، ذلك في حين أنه قد يتصوَّر إنسان أنَّه يبغي السعادة باعتبارها الموصلة إلى هذه المزايا، فهذه المزايا إذن وسائل يرغب فيها لذاتها، لتكون طريقًا إلى غرض أسمى هو السعادة.»

«هذه النتيجة تتضمَّن معنى الاستقلال الذي نسنده إلى الخير الكامل؛ أي الخير الأعلى، ومن الواضح أنَّ أرسطوطاليس يعتقد أنَّ هذا الخير الأعلى سيستقل عن كل شيء، ولكنَّه لا يعني بالاستقلال استقلال الإنسان الذي يحيا حياة العزلة وحده، بل يعني أيضًا الإنسان الذي يحبها لأهله وأولاده وزوجه، وعلى العموم، لأصدقائه ومواطنيه، ما دام الإنسان بطبعه كائنًا اجتماعيًّا سياسيًّا، وهذا المقياس يلزم معرفة التزامه عند أرسطوطاليس.»

«لما كانت السعادة أكبر الخيرات؛ أي الخير الأعلى كان من الطبيعي أن يرغب الإنسان في معرفة طبعها بما هو أكثر جلاء.»

«إنَّ الوسيلة الأكيدة للحصول على السعادة، إنَّما هي العلم بما هو العمل الخاص بالإنسان، والإنسان إنما يجد الخير في عمله الخاصّ إذا كان ثمة عمل خاص، يجب على الإنسان أن يتمه، وكما أن العين واليد والرجل، وعلى العموم كل جزء من أجزاء البدن؛ يؤدي وظيفة خاصة، ولكن ما عسى أن تكون الوظيفة المشخصة للإنسان؟»

«أن يعيش الإنسان، تلك وظيفة عامَّة، يشترك فيها الإنسان حتى مع النباتات، ولكن البحث هنا يتعلَّق بحياة الإنسان التي لا يشترك فيها مع شيء من الموجودات الحية؛ إذن يجب أن يخرج من حد البحث في التغذية والنمو، وعلى أثر هذا تأتي حياة الحساسية، ولكن هذه الحياة تشترك فيها أحياء أخر.»

«يبقى إذن حياة العمل للكائن الموصوف بالعقل، ولكنْ في الكائن العاقل جزءان يجب التمييز بينهما، الجزء الذي لا يزيد عن أن يطيع العقل، والجزء الذي هو حائز للعقل وينتفع به في الفكر، وإذن تكون الوظيفة الخاصة بالإنسان هي فعل النفس مطابقًا للعقل، أو على الأقل فعل النفس الذي لا يمكن أن يتمَّ بدون العقل، وإذا كان هذا حقًّا؛ أمكننا أن نسلم بأنَّ العمل الخاصَّ للإنسان — على وجه العموم — هو الحياة من نوع ما، وأن هذه الحياة الخاصة هي فاعلية النفس واستمرار أفعال يصاحبها العقل.»

«يمكننا أن نسلم بأنَّ هذه الوظائف في الإنسان الراقي تتم حسنًا وبانتظام، لكن الخير والكمال في كل شيء يختلف تبعًا للفضيلة الخاصة بهذا الشيء، والنتيجة أنَّ الخير الخاصّ بالإنسان هو فاعليَّة النفس التي تسيِّرها الفضيلة فإذا كان يوجد عدة فضائل فالفاعلية المسيرة بأرفعهن وأكملهن.»

«وإذن يكون الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة، فإذا تعدَّدت الفضائل وجب أن تتبع الفاعلية أرفع هذه الفضائل، ومن هذا يتكون معنى السعادة عند أرسطوطاليس.»

وهنا يرد أرسطوطاليس من طرف خفيٍّ على أرسطبس فيقول:

زد على هذا أيضًا أن هذه الشروط يجب أن تحقق طوال حياة تامة بأسرها؛ لأنَّ خطافة واحدة لا تدل على الربيع، لا هي ولا يوم صحو واحد، فلا يمكن أن يقال: «إن يوم سعادة واحد، بل ولا بعض زمن من السعادة؛ يكفي لجعل الإنسان سعيدًا محظوظًا.»

ويظهر أوَّل شيء أنَّ أرسطوطاليس إنما يقرِّر بما قال مذهبه في السعادة ومعقولها المجمل عنده، ولكن الباحث الذي يريد أن يستطرد في الموازنة بين المذاهب، ويستقرئ من بين السطور حقيقة ما ترمي إليه أجزاؤها من الأغراض النهائية، لا يشكُّ لحظة واحدة في أنَّ أرسطوطاليس إنَّما يوجه مجموع جهده العلمي والنظري إلى نقض القاعدة الطبيعية التي يقوم عليها مذهب القورينيين الأخلاقي، والواقع — كما قلنا من قبل — أن أرسطوطاليس ينشد المُثل العليا والنهايات والغايات، فمذهبه وصفي أكثر منه علمي.

وكيف لا يكون كما وصفنا، وهو يشترط للسعادة شروطًا مثالية، ثم يقضي بأن هذه الشروط يجب أن تتحقق طوال حياة تامة بأسرها، فلو استطاع إنسان أن يحيا حياة سعيدة — كما يبغيها أرسطوطاليس — وتعذر عليه برهة واحدة أن يراعي شرطًا من شرائطها، خرج عنده من حظيرة السعداء.

أضف إلى هذا أنه يمثل للسعادة بالربيع، ويقول: إنَّ خطافة واحدة لا تدل عليه، وما «الخطافة» عند أرسطوطاليس إلا لذَّة الساعة عند أرسطبس، فأرسطوطاليس يقول بأن الحياة السعيدة عنده يجب أن تكون ربيعًا صحوًا، تسبح في جَوِّه خطاطيفه، وتسطع شمسه على الدوام، أما عند أرسطبس فالأمر على خلاف ذلك، فإن خطافة واحدة عنده تدل على جزء من الربيع، فينبغي للرجل الحكيم ألا يترك خطافة الربيع تفلت من يده، بل ينبغي له أن يعمل طوال حياته على أن يقتنص أكبر عدد ممكن من خطاطيف الرَّبيع، حتى إذا زاد عدد الأيام التي يسعد فيها بالاقتناص على عدد الأيام التي لا يسعد فيها بخطافة؛ استطاع بعد ذلك أن يقول: «إني حييت حياة رجَحت لذاتها على آلامها.» وهذا هو معقول السعادة عند أرسطبس، ولا شك أنَّ في هذا المذهب من الإمكان بقدر ما في مذهب أرسطوطاليس من الاستحالة.

زد إلى هذا أنَّ أرسطوطاليس يعلق السعادة بل ويعلق كل مفهوم الأخلاق؛ على مجهولات، فما هي الفضيلة؟ وما هو الخير؟ وما هي فاعلية النفس التي تسيِّرها الفضيلة؟ كل هذه عند أرسطبس إنما تعود إلى شيئين ثابتين في النفس الإنسانية، هما: «الحس» في نظرية الأخلاق، و«إدراك الحس» في نظرية المعرفة.

يتكلم أرسطوطاليس بعد الذي ذكرناه في السعادة والفضيلة ليفصِّل حالاتهما، ويصنف مراتبهما، ويصف ضروب النزعات العقلية فيهما، ثم يعمد في خلال ذلك إلى الكلام في ثلاثة أشياء عيَّنها، هي: «الخيرات» و«عناصر النفس» و«الاستعداد الأخلاقي»، فلنمْضِ في نقل نتف من مذهبه تؤدي إلى ما نقصد إليه من البحث.

في الباب السادس من كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» ج١، ص١٩٨-١٩٩، يقسم أرسطوطاليس الخيرات ثلاثة أنواع: خيرات خارجية، وخيرات النفس، وخيرات البدن، غير أنه يقول: «إنَّ خيرات النفس هي التي نسميها على الأخص وعلى الأفضل خيرات.» ثم يقول:

إن الإنسان السعيد يلتبس عادة بالإنسان الذي يسير سيرة حسنة ويفلح، وما يسمَّى إذًا بالسعادة هو ضرب من الفلاح والصلاح.

حينئذ جميع الأركان المطلوبة عادة لتكوين السعادة يظهر أنها مجتمعة في الحد الذي وفَّيناه لها؛ لأن عند هؤلاء السعادة هي من الفضيلة، وعند أولئك هي من التبصُّر، وعند البعض هي الحكمة، وعند آخرين هي كل ذلك مجتمعًا، أو شيء من ذلك يضم إليه اللذة، أو على الأقل ليس مجردًا من اللذة، ومنهم آخرون يريدون أن يدخلوا في هذه الدائرة — التي قد تبلغ من السعة هذا المبلغ — وفرة الخيرات الخارجية.

وجاء في كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» ص١٧٨-١٧٩ جزء أول الباب الثاني ما يلي:

ليس — على رأينا — خطأً تامًّا أن يتخذ الإنسان له معنى من الخير ومن السعادة، بما يلقى من العيشة التي يعيشها هو نفسه، فالطبائع العامية الغليظة ترى أنَّ السعادة في اللذَّة، ومن أجل هذا هي لا تحب إلا العيشة في ضروب الاستمتاع المادي، ذلك في الحقيقة أنه لا يوجد إلا ثلاثة صنوف من المعيشة يمكن على الخصوص تمييزها، أوَّلها هذه العيشة التي تكلمنا عليها آنفًا، ثم العيشة السياسية أو العمومية، وأخيرًا العيشة التأملية أو العقلية.

وإنَّ أكثر الناس — على ما يظهر — هم على الحقيقة عبيد يختارون بمحض ذوقهم عيشة البهائم، وأن ما يعطيهم في ذلك بعض الحق، ويبرِّر لهم فعلهم فيما يظهر؛ هو أنَّ العدد الأكبر من أولئك الذين لهم السلطان لا ينتفعون به إلا في أن يسلِّموا أنفسهم إلى الإفراطات.

على الضد من ذلك، العقولُ الممتازة النشيطة حقًّا تضع السعادة في المجد؛ لأن هذا في الغالب هو الغرض العادي للحياة السياسية غير أنَّ السعادة مفهومة على هذا النحو، هي أكثر سطحية وأقل متانة من تلك التي يزمع البحث عنها هنا.

فإنَّ المجد والتشاريف يظهر أنها ملك أولئك الذين يوزعونها، أكثر من أن تكون للذي يتقبَّلها، في حين أن الخير كما نعلنه هو شيء شخصي محض، ولا يمكن إلا بغاية الصعوبة نَزْعُهُ عن الرجل الذي هو حاصل عليه، وأزيد على هذا أنَّ الإنسان في الغالب لا يظهر عليه أنه لا يطلب المجد إلا ليتثبت هو نفسه من «المعنى» الذي يتخذه من فضيلته الخاصة. ا.ﻫ.

وما حملَنا على أن نذكر هذه العبارة هنا إلا ذلك التقسيم الذي يقسمه أرسطوطاليس لضروب العيشة؛ لأنَّ قوله بأنه لا يوجد إلا ثلاثة صنوف من العيشة: أولها: عيشة الاستمتاع بضروب الملذات المادية، وثانيهما: العيشة السياسية أو العمومية، وثالثها: العيشة التأملية أو العقلية، لها علاقة وآصرة بتقسيم أرسطبس الذي وضعه لضروب اللذة.

على أننا سنعود بعد ذلك إلى المقابلة بين تقاسيم قال بها أرسطوطاليس في الخيرات وعناصر النفس والاستعداد الخلقي، وبين تقسيم أرسطبس للذة، ولم نشأْ أن نُدخل فيها تقسيم أرسطوطاليس لضروب المعيشة؛ اكتفاء بالإشارة هنا إلى ذلك.

•••

كل ما ورد عن أودكسس في كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخس» وقع تحت عنوان «نظرية أودكسس البديعة على اللذة»، ويسبق هذا كلام في أن السعادة أولى بالاحترام لا بالمدح، وأنَّ طبيعة الأشياء التي يمكن مدحها هو دائمًا إضافي وتبعي، وإليك ما جاء في كتاب أرسطوطاليس ص٢١٧-٢١٨، ج١ من الباب العاشر:

إذا كانت هذه هي الأشياء التي ينطبق عليها المدح فمن الجلي أنه لا ينطبق البتة على الأشياء الأكمل، ففي حقِّ هذه، ينبغي شيء أكبر وأحسن من المدح، ودليل ذلك هو أننا نعجب بسعادة الآلهة وبركتهم، كما أننا نعجب بسعادة أولئك الناس الذين هم بين أظهرنا أقرب إلى الآلهة، وكذلك نصنع بالنسبة للخيرات، ولا أحد يفكِّر في أن يثني على السعادة كما يثني على العدل، بل يعجب بها كما يعجب بالشيء الأقدس والأحسن.

وهذا ما أجاد أودكسس إيضاحه ليبرر إيثاره اللذة، وبملاحظة أنه لا يثني على اللذة، ولو أنَّ اللذة خير، كان يظن أودكسس أنه يستطيع أن يستنتج من ذلك أنَّ اللذة هي فوق هذه الأشياء التي يمكن الثناء عليها، كما هو الشأن في حق الله والكمال، اللذين هما الغايتان العلييان اللتان يرجع إليهما كل ما عداهما.

•••

كذلك نجد أنَّ أرسطبس أقرب إلى مناهج العلم الحديث من أرسطوطاليس، فإنَّك إذا رجعت إلى (الفصل الخامس) من هذا المؤلف واستوعبت ما كتبنا في «تأصل مشاعر الغيرية ومذهب پافلوف» تجد أن مذهب أرسطبس، وبالأحرى مذهب بعض رجال المذهب القوريني، قد قارب الأوضاع العلمية الحديثة في تحوُّل الغرائز. لذلك ننقل عبارة عن «أخلاق» أرسطوطاليس نتخذها أساسًا للموازنة، قال في ص٢٢٥-٢٢٦، ج١، الباب الأول من الكتاب الثاني:

لما أنَّ الفضيلة على نوعين: أحدهما عقلي والآخر أخلاقي، فالفضيلة العقلية تكاد تنتج دائمًا من تعليم إليه يُسند أصلها ونموُّها. ومن هنا يجيء أن بها حاجة إلى التجربة والزمان، وأمَّا الفضيلة الأخلاقية فإنها تتولد على الأخص من العادة والشيم، ومن كلمة الشيم عينها بتغيير خفيف، اتخذ الأدب اسمه المسمى به.

والمتبادر من عبارات أرسطوطاليس أن الفضيلة العقلية والفضيلة الأخلاقية كلتاهما تحتاجان إلى عنصرين خارجين عن طبيعة الإنسان إلا قليلًا، وهما: التجربة والزمان للأولى، والعادة والشيم للثانية. ولولا أنه ذكر «الشيم» لجاز لنا أن لا نحتاط وأن لا نقول إلا قليلًا.

أما إذا رجعنا إلى ما كتبناه عن الفيلسوف أنِّقْريز (الفصل الخامس) فإننا نجد أنَّ هذا الفيلسوف قد وصل إلى حقيقة نفسية (سيكولوجية) صحيحة، مجملها أن مشاعر الغيرية مهما كانت مصادرها وأصولها تحرز — تدرجًا — قوة مستقلة خاصة بها، وأن هذه المشاعر تحتفظ بتلك القوة حتى ولو لم تتزن مع اللذة، وقد ذكرت أن كلام أنِّقْريز يتضمن تفسيرًا رائعًا لحقيقة الأفعال العكسية المتحولة، وهو المذهب النفسي الذي أدخله پافلوف الروسي، في حيز العلم ببحوثه وتجاريبه.

ولا شكَّ في أنَّ أرسطوطاليس إذا كانت قد عنَّت له فكرة في «الفضيلة» تشابه فكرة أنِّقْريز في «مشاعر الغيرية» لثبَت رأيه في الفضيلة ثبوتًا قاطعًا، ولكنه يعتقد أن «أشياء الطبع» — ويقصد بها «أشياء الغرائز» — ضرورة لا يمكن بفعل العادة أن تصير أغيار ما هي كائنة، فقال تعقيبًا على العبارات التي نقلناها عنه ما يلي:

لا يلزم أزيد من هذا، ليبيِّن بوضوح أنه لا توجد واحدة من الفضائل الأخلاقية حاصلة فينا بالطبع، إنَّ أشياء الطبع لا يمكن بفعل العادة، أن تصير أغيار ما هي كائنة، مثال ذلك الحجر الذي يهوي إلى أسفل لا يمكن أن يأخذ عادة الصعود، ولو حاول المرء تصعيده مليون مرَّة، لما طبع على هذه العادة، والنار لا يمكن كذلك أن تتجه إلى أسفل، ولا يوجد جسم واحد يمكن أن يفقد خاصيته التي تلقاها من الطبيعة ليتخذ عادة مخالفة.

حينئذ فالفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، وليست فينا كذلك ضد إرادة الطبع، ولكن الطبع قد جعلنا قابلين لها، وإن العادة تنميها فينا. ا.ﻫ.

وإذا تأمَّلنا في هذه العبارة وجدنا أن فيها مآخذ:
  • الأول: أنَّ أرسطوطاليس قاسَ طبيعة الجوامد على صفات الأحياء ومنها الإنسان، فقال: إنَّ الحجر الذي يهوي إلى أسفل، لا يمكن أن يأخذ عادة الصعود، في حين أن الأحياء فيها أشياء زائدة على ماهية الجوامد جعلها حية وجعل لها خصائص وكيوفًا غير تلك.
  • الثاني: أنه يقول: إن الفضائل ليست فينا بفعل الطبع وحده، وإنها كذلك ليست فينا ضد إرادة الطبع، على أن قوله هذا يستتبع القول بأن الرذائل لا تخرج عن حكم ذلك، فكأنه أراد بهذا أن يقول إن الطبع في أصله صفحة نقية بيضاء، تقبل الفضائل والرذائل، وأن هذه تنمو فينا بحكم العادة وحدها، وهذا المذهب لا يقرُّه عليه عالم واحد من علماء النفس؛ لأنَّ الطبع يُولد وفيه آثار ثابتة من الوراثة أو على الأقل من الميل إلى اللذة والفرار من الألم، وأنَّ الطبيعة نفسها تستخدم هذا الطبع الأصيل في الأحياء العليا ليكون أداتها في تسيير المخلوقات، والاحتكام فيها بما يكفل لها الوصول إلى النتائج التي ترمي إليها النواميس الجبرية.
  • الثالث: أنَّ القول بأنَّ العادة وحدها هي التي تنمي الفضائل وتتمها قول واسع غير محدود، لا من ناحية الاصطلاح اللفظي، ولا من ناحية المعنى المدرك منه، ولو كان للعادة من الأثر بقدر ما يقول أرسطوطاليس، لكفت المُثل والمَثلات أن تكون أبلغ الأشياء أثرًا في غرس الفضائل في النفوس، ولكنا نرى أن الأكثرين لا ينتفعون بأرقى المثل ولا يكادون يزدجرون بأقسى المثلات كما يقول أرسطوطاليس نفسه.
تكلم أرسطوطاليس في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخس» (ج١ الباب الثالث من الكتاب الثاني ص٢٣٣–٢٣٦) في إحدى عشرة مسألة تتعلق برأيه في «اللذة والألم» ولا بد لنا من أن نذكر هذه المسائل ونستطرد في نقدها، وبيان مراميها، لنصل إلى غرضنا من البحث قال:
  • (١)

    علاقة ظاهرة للملَكات التي نحصِّلها، هي «اللذة والألم»، أحدهما يقترن بأفعالنا ويعقُبها، إن الإنسان الذي يمتنع عن لذات الجسم، ويرتاح لهذا الامتناع نفسه، هو معتدل (عفيف)، وذلك الذي لا يحتمله إلا بأسف، عنده شيء من عدم الاعتدال، والإنسان الذي يقتحم الأخطار ويرتاح لذلك، أو على الأقل لا يضطرب فيها؛ هو إنسان شجاع، والذي يضطرب فيها هو جبان، ذلك في الواقع بأنَّ الفضيلة الأخلاقية، تتعلق بالآلام واللذات، ما دام أن طلب اللذة هو الذي يدفعنا إلى الشر، وخوف الألم هو الذي يمنعنا من فعل الخير. ا.ﻫ.

    ويتبين من هذا بديًّا أنَّ أرسطوطاليس يعتقد أنَّ «اللذة والألم» ظاهرتان تتعلَّقان بناحية من التطبع، بدليل قوله إنهما من الملكات التي نحصِّلها؛ أي من الملكات التي قد تُحدث فينا أثرًا حينًا، وتتعطل عن إحداث هذا الأثر حينًا آخر، وهذه القضية تناقض المبدأ الأساسي الذي يقيم عليه أرسطبس مذهبه، فاللذة والألم عند أرسطبس ليسا من الملكات التي تحصل فينا بالإضافة إلى الطبع، بل هي من جوهر الطبع نفسه، فهي تدمغ الأخلاق بطابعها وتوجه السلوك بمقتضياتها.

    فهي عند أرسطبس ليست من الأشياء التي تحصل بالإضافة إلى الطبع كالشجاعة والجبن، كما يقول أرسطوطاليس، بل هي من جوهر الطبع نفسه؛ فالشجاعة والجبن قد يتعطل أحدهما، فيكون المرء شجاعًا فحسب أو جبانًا فحسب، فتُمحى إحدى الظاهرتين، ولا يكون لها أثر في توجيه السلوك، أما اللذة والألم فمن جوهر الطبع نفسه تتناوبان التأثير في النفس، ولا تمحى إحداهما، فاللذة جزء من الطبع لا يمكن أن يزول أثره، وكذلك الألم على الضد؛ من الظاهرات التي تتولد فينا بالإضافة إلى الطبع، وتكون المرانة أو البيئة سببًا فيها، كالشجاعة والجبن والكرم والبخل، وما إلى ذلك.

    لهذا يقول أرسطوطاليس: «إنَّ الفضيلة الأخلاقية تتعلق بالآلام واللذات.» ومعنى هذا عنده، أنَّ طلب اللذة يدفعنا إلى الشر، وخوف الألم هو الذي يمنعنا من فعل الخير، وعجيب أن تصدر هذه القولة عن أرسطوطاليس، فإذا كانت اللذة هي التي تدفعنا إلى الشر، وخوف الألم هو الذي يمنعنا من فعل الخير، فكأنه لم يبقَ من مجال للذة والألم، ليؤثرا فينا أثرًا حسنًا، على إطلاق القول. وبذلك ينفي أرسطوطاليس عن اللذة والألم كل ما يحتمل أن يصدر عنهما من الآثار الرفيعة، تلك الآثار التي نجدها بيِّنة جلية في سلوك أرسطبس وشخصيته وفي استعلائه واحتقاره الشديد للدنيويات، وفي مثاليات أبيقور التي تضع اللذة العقلية فوق كل اللذائذ الأخرى.

    ولا يقف بك العجب عند هذا، بل إنك ليزداد عجبك أن يقول أرسطوطاليس:

  • (٢)

    «ينبغي منذ الطفولة الأولى — كما يقول بحق أفلاطون — أن نوجه بحيث نضع مسراتنا وآلامنا في الأشياء التي ينبغي أن نضعها فيها، وفي هذا تنحصر التربية الطيبة.»

    وفي هذه القولة شواهد أخرى تؤيد ما ذهبت إليه، فإن توجيه «المسرات والآلام إلى الأشياء التي ينبغي أن نضعها فيها» يُشعر بأن أرسطوطاليس يريد أن يقول بأن «اللذة والألم» يتقبلان أثر المرانة والبيئة، والشيء الذي «يقبل» الآثار هو من الجواهر لا من الأعراض، وإذن لا تكون «اللذَّة والألم» من الملكات التي نحصلها كما يقول في الفقرة الأولى بل تكون على ما يؤخذ من هذا القول من جوهر الطبع، فكأنَّ أرسطوطاليس ينزع عن غير قصد نزعتين، تَضْطَرُّه الأولى إلى القول بأن اللذة والألم من ظواهر الطبع، وتضطره الثانية إلى الإشارة تضمينًا بأنهما من جوهر الطبع نفسه، ولهذا كان من الصعب أن تدرك على الوجه الأكمل حقيقة الفكرة الهيدونية التي يقول بها أرسطوطاليس، كما يتعذر أن تعرف ماذا يرفض وماذا يقبل من مذهب أرسطبس، اللَّهم إلا عندما يتكلم في الأشياء البينة التي لا تحتمل التباسًا، كالموازنة بين اللذات الغليظة واللذات الرفيعة؛ أي لذات البدن ولذات العقل.

    ويؤيد هذا الرأي الذي نراه أنَّ أرسطوطاليس يكاد يصرِّح بأن «اللذة والألم» من جوهر الطبع، لا من الملكات، وذلك في عبارته الآتية إذ يقول:

  • (٣)

    «وفوق ذلك، فإن الفضائل لا تظهر البتة إلا بالأفعال والميول، فلا عمل ولا ميل إلا نتيجة إما اللذة وإما الألم، وهذا هو دليل جديد على أن الفضيلة تتعلق فقط بآلامنا ولذاتنا … إلخ.»

    ذلك بأنَّ الأفعال والميول ظواهر تتعلَّق بجوهر، فإذا تعلَّقت هذه الظواهر «باللَّذة والألم» لم يسعنا إلا أن نقول إنَّهما — أي اللذة والألم — من جوهر الطبع لا من الملكات، ولن نكون أكثر اقتناعًا بهذا منَّا إذا قال أرسطوطاليس — كما يقول هنا: «إنَّ الفضيلة تتعلق فقط بآلامنا ولذائذنا.» فكأنه بذلك يريد أن يقول صراحة لا تلميحًا ولا تضمينًا، إنَّ الفضيلة عرض يتعلَّق بجوهر هو اللذة والألم، وهو هنا أقرب إلى أرسطبس من سقراط ومن أفلاطون، وربما كان في قوله هذا أقرب إلى أرسطبس من أودكسس الهيدوني المتقشف نفسه.

    ويقول أرسطوطاليس بعد ذلك:

  • (٤)

    «وهذا أيضًا هو ما تشهد به العقوبات التي تتبع أفعالنا أحيانًا، هذه العقوبات هي بوجه ما علاجات، والعلاجات لا تفعل عادة وفي مجرى الأمور الطبيعي؛ إلا بالأضداد.»

    ولقد نذكر أن أرسطبس يقول إنَّ العقوبات التي تُفرض على التلاميذ في المدارس أمر موجِب للنظر، ولقد نذكر أيضًا أنَّه قال بما يقرب ممَّا قاله به أرسطوطاليس، من أنَّ العقوبات هي بوجه ما علاجات، ولقد نذكر مرة ثالثة أن أرسطبس يعتقد أن العلاجات لا تفعل — أي تؤثر — إلا بالأضداد، فاللذائذ قد يترتب عليها أفعال تكسبنا الرضا، وراحة البال حينًا، وقد يترتب عليها أفعال تكسبنا القلق وحساب الضمير حينًا آخر، وكذلك الآلام، قد يترتب عليها نتائج موجبة لمنتهى الرضا حينًا، وبالغة منتهى الشدة والعنف حينًا آخر، وهذا نستخلصه من مُجْمل المذهب القوريني ومن تفاصيله، ذلك بأن هذه النتائج المتضادة ما هي إلا علاجات نفسية لا بد من أن تترك أثرها الباقي في الأخلاق والسلوك.

    وهنا نجد أنَّ أرسطوطاليس قد اقترب في مذهبه الأخلاقي مرة أخرى من القورينيين، فكان أدنى إليهم مما كان سقراط ومما كان أفلاطون، بل إنه سلَّم بهذا المبدأ تسليمًا بغير احتياط، فكان أقرب إليهم من أنِّقْريز نفسه، وهو من أقطاب المذهب القوريني، ثم يقول:

  • (٥)

    «يمكننا أن نكرر — زيادة على ذلك — ما قلناه آنفًا، وهو أن كل ملكة للنفس هي بطبعها الحقيقي ذات علاقة بالأشياء، ولا تتعلق إلا بالأشياء التي تصيرها بالطبع أحسن أو أقبح، وأن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة أو الألم متى طلب الإنسان أحدهما أو فرَّ من الآخر، في حين أنَّه لا ينبغي له — ومن غير تقدير للظرف الذي فيه يحصِّلهما ولا للطريقة التي بها ينبغي تحصيلها — ارتكاب كثير من الخطيئات الأخرى المجانسة التي يسهل على العقل تصورها، ولهذا استطاعوا أن يحددوا الفضائل بأنها حالات النفس التي هي خالية من التأثر وفي راحة تامَّة، ولكن هذا التعريف ليس حقًّا؛ لأنه وارد على وجه مطلق أكثر مما ينبغي، ولم يُعن بإضافة بعض شروط إليه فيقال «بأنه ينبغي» أو «لا ينبغي» أو «متى ينبغي» وتعديلات أخرى يمكن إدراكها بسهولة.» ا.ﻫ.

    ولا شك عندي أن في قول أرسطوطاليس هذا مواضع كثيرة للنظر والبحث، فهو ما دام يسلم بأن «كل ملكة للنفس هي بطبعها الحقيقي ذات علاقة بالأشياء، وأنها لا تتعلق إلا بالأشياء التي تصيرها بالطبع أحسن أو أقبح»؛ وجب أن يسلم استتباعًا أنَّ أثر هذه الأشياء في الملكات، سواء أكان من أثرها أن تحول الملكات إلى ما هو أحسن أم أن تحولها إلى ما هو أقبح؛ لا بد من أن يتكيف بمقتضى الظرف الحاصل فيكون باعثًا على اللذة أو باعثًا على الألم.

    وإذا لم أكن مخطئًا في تصور هذه النتيجة التي تترتب على المقدِّمة التي وضعها أرسطوطاليس — ولا أخالني إلا محقًّا في استنتاجها — جاز لي أن أقرِّر أن قول أرسطوطاليس «بأن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة أو الألم متى طلب الإنسان أحدهما أو فَرَّ من الآخر»؛ ليس له من مبرر، اللهمَّ إلا مبرر الفرار من النتيجة المحتومة التي تترتب عليه، وهي القول بأن علاقة ملكات النفس بالأشياء، لا بد من أن تتكيف دائمًا بإحدى صورتين، فتكون في إحداهما لذة، وتكون في الأخرى ألمًا.

    ولكن هل صحيح أن ملكات النفس لا تفسد إلا باللذة والألم وحدهما، إن كان هناك مجال لإفسادها؟ وهل هذا الحكم الذي يطلقه أرسطوطاليس إطلاقًا، يُفيد أنَّ اللذة والألم لا يترتب عليهما في توجيه ملكات النفس إلا الفساد؟ إن في هذا القول إنكار كلي لحقيقة المذهب القوريني وحقائقه القائمة على الحس الإنساني، وعلى حقائق الطبع البشري، وما ينتجان من آثار ثابتة في الأخلاق والسلوك.

    وهنا نقول بأن النتائج المستبطنة التي تترتب على مقررات أرسطوطاليس، تختلف تمامًا عن ظاهر مذهبه، وهي في جوهرها عريقة في الهيدونية، مفضية بطبعها إلى التسليم بأنَّ «اللذة والألم» مبدأ تصدر عنه أفعال النفس المختلفة، وأنَّ هذه الأفعال في مجموعها ما نسمِّيه بالأخلاق، وفي تفصيلها ما نسميه السلوك.

    ولقد غلب على أرسطوطاليس حب الترفع عن ذكر أسماء الفلاسفة الذين تلقح مذهبه بمذهبهم فقال: «ولهذا استطاعوا أن يحددوا الفضائل بأنها حالات النفس التي هي فيها خالية من التأثر وفي راحة تامة.»

    ولعلك تسأل: من هم أولئك الذين استطاعوا؟ إن القورينيين لم يقولوا بهذا، ولكن قاله الأبيقوريون، أنسباؤهم في المذهب، ونظراؤهم في الهيدونية.

    والذي يخيل إليَّ أن أرسطوطاليس قد توسع في التعبير لأكثر مما يحتمل المذهبان اللذان يضعهما نصب عينيه في كلامه هذا، فإن كلًّا من أرسطبس وأبيقور لم يتكلم في الفضيلة إلا على أنها «الخير» الذي ينشده الإنسان في الحياة، فقال أرسطبس: إن اللذة خير مهما كانت، وعرَّف «أخْيَر» صورها بأنها «حركة لطيفة»، لا إلى الإفراط ولا إلى التفريط، أما الإفراط عنده فلذة جامحة يعقبها من الألم ما يرجح اللذة، وأما التفريط فحالة سلبية، وهذه الحالة السلبية هي التي يفضلها أبيقور، فقال: إنها لا تطلب اللذة الجامحة، ولا تطلب الحركة اللطيفة، وإنما تطلب التحرر من الألم.

    فهل لنا بعد ذلك أن نقول: إن أرسطوطاليس قد خلط بين مذهب أرسطبس ومذهب أبيقور؟ هل لنا أن نقول: إنه لم يميز بينهما تمييزًا صحيحًا؟ الأرجح عندي أن أرسطوطاليس كان يقذف بكل هؤلاء في أتون واحد، ويحمي عليهم من وقود فكره، ولكن ناره كانت تضعف بعض الأحيان، فيبرز من خلال اللهب وجه أرسطبس مرة، ووجه أبيقور أخرى فيقرآه السلام.

فصلنا حتى الآن خمس مسائل، من إحدى عشرة مسألة، شرح بها أرسطوطاليس رأيه في اللذة والألم على أن الشروح التي مضينا فيها حتى الآن كافية لأن تجعل فهم المسائل الست الباقية ونقدها سهلًا على من يفهم ما تكلمنا فيه فهمًا صحيحًا، ولهذا أكتفي بأن أنْقُل المسائل الست الباقية لتكون مرجعًا للباحث، إذا ما أراد أن يطبق شيئًا من نقدنا السابق عليها، قال أرسطوطاليس في الباب الذي ذكرناه قبلًا:
  • (٦)

    «يجب حينئذ أن يقرِّر مبدئيًّا أنَّ الفضيلة هي ما يصرِّف أمرنا تلقاء الآلام واللذات، بحيث يكون سلوكنا أحسن ما يكون، والرذيلة هي على التحقيق ضد ذلك.»

  • (٧)
    هاك ملاحظة تُفهمنا بأجلى من ذلك أيضًا، جميع البحوث المتقدمة، توجد ثلاثة أشياء تُطلب وتوجد ثلاثة تُجتنب، فالمطلوبات هي: الخير والنافع والملائم، والمجتنبات أضدادها الثلاثة: الشر والضار وغير الملائم، وتلقاء جميع هذه الأشياء يعرف الرَّجل الفاضل أنْ يَسْلُك سلوكًا حسنًا، ويتبع الطريق المستقيم، والشرير لا يرتكب فيها إلا خطايا، ويرتكب منها على الخصوص ما يتعلق باللَّذة؛ لأنَّ هي بديًّا إحساس عام لجميع الكائنات الحية، وفوق ذلك فإنها توجد على أثر جميع الأفعال المتروكة لإيثارنا واختيارنا الحر، ما دام أن الخير نفسه والمنفعة، يمكن أن يكونا كاسيين ظاهرًا من اللذة.٦
  • (٨)

    نضيف إلى هذا أنه منذ طفوليتنا الأولى، منذ تلك السن التي فيها لا نكاد نرتُّ، قد غذِّيت اللذة بوجه ما وشبَّت معنا، قد يكون حينئذ صعبًا جدًّا أن نتخلص من وجدان تأصل في حياتنا وتلون بجميع ألوانها، وفي حين أن اللذة والألم في اعتبار الأشخاص هما قاعدة تنظم سلوكهم تمامًا، كثيرًا أو قليلًا.»

  • (٩)
    «هذا هو ما يجعل ضروريًّا جدًّا أن هذه الدراسة التي تلي، يجب أن تحمل على هذين الإحساسين، فليس شيئًا صغيرًا فيما يتعلق بأفعالنا أن يعلم المرء كيف يحسن أو يسيء التلذذ أو التألم».٧
  • (١٠)

    «تنبيه آخر، إن قهر اللَّذة هو أيضًا أصعب من قهر الغضب، كما يقول هيرقليطس؛ إذن الغنَى والفضيلة يؤثر تطبيقها دائمًا على ما هو الأصعب، ما دام أنَّه في الأمور التي هي أصعب، يكون جزاء الخير جزاء أوفى، وهذا نفسه سبب آخر في أن الفضيلة والسياسة يجب أن تعنى كلتاهما بدرس اللذات والآلام؛ لأنَّ هذا الذي يُحسن استعمال هذين الإحساسين يكون خَيِّرًا، والشرير هو الذي يسيء استعمالهما.»

  • (١١)

    «على هذا إذن قد أثبتنا أن الفضيلة لا تشتغل في الحقيقة إلا باللذات والآلام، وأنها تنمو بالأسباب التي تولدها، وأنها تفسد بتلك الأسباب عينها متى تغير اتجاهها، وأنها تفعل وتتمرن على هذه الإحساسات التي منها تولدت، تلك هي المبادئ التي وصفناها آنفًا.»

والتعمق في البحث يدلنا على أن أرسطوطاليس أخذ كثيرًا من أصول مذهب أرسطبس، وأدمجها في مذهبه الأخلاقي، وأنه طبق النظرية القورينية في درجات اللذة، على ثلاثة أشياء من مقومات مذهبه.

فإنَّ أرسطوطاليس عندما يتكلم في «الخيرات» وفي «عناصر النفس» وفي «الاستعداد الأخلاقي» يقسم كلًّا من هذه الأشياء ثلاثة أقسام، كل قسم منها يقابل درجة من درجات اللذة عند أرسطبس، وسنشرح ذلك بعد أن نبين عن الأقسام التي وضعها أرسطوطاليس لهذه الأشياء.

فالخيرات عند أرسطوطاليس على ثلاثة أنواع:
  • (أ)

    خيرات خارجية.

  • (ب)

    خيرات النفس.

  • (جـ)

    خيرات البدن.

وعناصر النفس عنده ثلاثة:
  • (أ)

    الشهوات.

  • (ب)

    الخواص.

  • (جـ)

    العادات.

والاستعداد الأخلاقي عنده على ثلاث درجات:
  • (أ)

    إفراط.

  • (ب)

    فضيلة.

  • (جـ)

    تفريط.

فإذا رجعنا إلى كلامنا من قبل في الفصل الثالث (أبيقور وشروح في فلسفة أرسطبس، رأينا أنَّ اصطلاح اللذة لم يؤدِّ عند أرسطبس أدنى ما تصل إليه الانفعالات عند أبيقور، كما ذهب البعض، بل عبر عن حد ليس بالأدنى ولا بالأعلى في قياس الانفعالات من طريق إيجابي صرف، ثم وضحنا هذه النظرية بنظرية نفسية تُعرف عند علماء النفس بنظرية الوعي، ومثلنا لنظرية أرسطبس بالبيان الآتي مع تحوير قليل في التفاصيل:

وهنا نرجع إلى شرح أقسام أرسطوطاليس، ونقارنها بدرجات اللذة عند أرسطبس، وسوف نجد أنَّ كل قسم من أقسام أرسطوطاليس يقابله درجة من درجات اللذة عند أرسطبس، ولا شك عندي في أن بين أقسام أرسطوطاليس وبين درجات اللذة عند أرسطبس أكبر الآصرة.

وسنمضي في المقارنة بين تقسيم الفيلسوفين على الطريقة التي يتبعها الإحصائيون في بيان نسبة الإحصائيات بالرسوم، ليكون ذلك أبْيَن وأجلى، على أن نعرف أن الخيرات عند أرسطوطاليس هي «السعادة» وعناصر النفس هي «الطبع» والاستعداد الأخلاقي هي «الملكات».
figure

وليس لنا أن نمضي في المناقشة في هذه الأقسام بعد هذا البيان، بل نكتفي بأن نورد أقوال أرسطوطاليس فيها، ولا شكَّ عندي في أن كل من درس مبادئ القورينيين التي شرحناها من قبل يستطيع أن يدرك منها الحقيقة التي نريد إثباتها.

قال أرسطوطاليس في ص٣٤٠ جزء أول الباب الخامس من الكتاب الثاني في الأخلاق ما يلي:

ليس في النفس إلا ثلاثة عناصر؛ الشهوات أو الانفعالات، والخواص، والملكات المكتسبة أو العادات، فيلزم أن تكون الفضيلة واحدة من هذه الأخلاق.

وجاء في ص٢٥٨ وما بعدها ج١ الباب الثامن من الكتاب الثاني ما يلي:

الاستعدادات الأخلاقيَّة الثلاثة التي منها رذيلتان: إحداهما بالإفراط، والأخرى بالتفريط، ومنها فضيلة واحدة تكون في الوسط بين الطرفين؛ هي كلها بوجه ما متضادة بعضها لبعض، فبديًّا الطرفان للوسط، ومتضادان بينهما أيضًا، ثمَّ إن الوسط هو مضاد للطرفين، كما أنَّ المساوي — مقارنًا بالحد الأصغر — هو أكبر من هذا الحد وأصغر من الحد الأكبر في نسبته له، كذلك الكيوف والاستعدادات المتوسطة في تناسبها مع الاستعدادات بالتفريط تظهر إفراطات، وبالضدِّ في نسبتها إلى الاستعدادات بالإفراط تصير هي نفسها بوجه ما، تفريطات في الانفعالات وفي الأفعال على السواء.

وجاء في ص٢٦١ جزء أوَّل الباب التاسع من الكتاب الثاني ما يلي:

قد بان حينئذ أنَّ الفضيلة الأخلاقية هي وسط، وقد علم كيف هي، أعني أنها وسط بين رذيلتين: إحداهما بالإفراط، والأخرى بالتفريط، وقد بان أيضًا أنَّ مميز الفضيلة هذا، يأتي من أنها تطلب دائمًا هذا الوسط القيم في كل ما يتعلق بانفعالات الإنسان وأفعاله، تلك نقط يظهر أنها وضحت تمامًا، يجب علينا أن نفهم أيضًا من ذلك؛ لماذا يجد الإنسان مشقة في أن يكون فاضلًا، فإنَّ إدراك الوسط في كل شيء أمر صعب جدًّا، كما أن استكشاف مركز دائرة لا يتيسر لجميع الناس، وأنه يلزم لإيجاده بالضبط أن يعرف المرء حل هذه النظرية.

إن أوَّل ما يُعنى به من يريد أن يصيب ذلك الوسط القيم هو أن يبتعد عن الرذيلة التي هي أشد ما يكون تضادًا وإياه.

لأنَّ هذين الطرفين أحدهما هو دائمًا أكبر إثمًا والآخر أقل، ولما أنه من الصعب جدًّا إيجاد هذا الوسط المرغوب فيه، لزم إذن أن يقال بتغيير الطرائق والأخذ بأقل الشرَّين.

على هذا يجب علينا أن نعلم حقَّ العلم، الميول التي هي فينا أدخَلُ في الطبع؛ لأن الطبع يعطينا ميولًا مختلفة جدًّا، وإن ما يجعلنا نعرف ذلك بسهولة، هي انفعالات اللذة أو الألم التي نشعر بها.

يلزم أن نجعل أنفسنا نميل نحو الجهة المضادة؛ لأنَّنا بابتعادنا بكل قوانا عن الخطيئة التي نخشاها، نقف في الوسط كما يُفْعل تقريبًا حينما يطلب تقويم قطعة خشب معوجة.

إنَّ الخطر الذي يلزم دائمًا اتقاؤه بغاية الانتباه، هو ذلك الذي يرضينا، هو اللَّذة؛ لأننا لا نكون البتة في هذه الحالة قضاة لا يرتشون.

ثم جاء بعد ذلك:

لأجل تلخيص فكرتنا في بعض كلمات، نقول إننا بهذا السلوك على الأخص ننجح في إيجاد الوسط والخير، وفي الحقيقة إنها نقطة صعبة، وإنها لكذلك على الخصوص في مجرى الحياة اليومية، مثال ذلك أنه ليس من السهل أن نعين بالضبط سلفًا، كيف، وضِد مَنْ، ولأي سبب، ولأي مدة من الزمن؛ ينبغي للإنسان أن يغضب؛ لأننا تارة يجب علينا أن نمدح أولئك الذين يقصرون عن هذا الحد ويمتنعون، ونقول إنهم مملوءون حلمًا، وتارة نمدح كذلك الذين يغضبون ونجد فيهم حزمًا خليقًا بالرجل.

حق إنَّ من لا يحيد إلا قليلًا جدًّا عن الخير، لا يستهدف للذم سواء حاد عنه إلى جهة الأكثر، أو حاد إلى جهة الأقل، في حين أن الذي يبتعد عنه أكثر لا يمكن أن يفر من الانتقاد على خطيئة امرئ يراها.

ثم يجيء بعد ذلك:

ومهما يكن فإن من الواضح أنَّ الملَكة الوسطى هي وحدها الممدوحة، وأنَّه لتقويم أنفسنا يلزمنا أن نميل تارة نحو الإفراط، وتارة نحو التفريط؛ لأننا بهذه المثابة يمكننا بأسهل ما يكون أن نصيب الوسط والخير. ا.ﻫ.

وبعد، فهذا هو تلخيص أرسطوطاليس الذي يعقب به على تقاسيمه التي أوردناها وقابلناها بدرجات اللذة عند أرسطبس.

وهل تجد من الشرح والبيان ما هو أروع من تفسير أرسطوطاليس لفضيلة «الوسط» التي هي لذة (حركة لطيفة) عند أرسطبس؟

أما إذا كانت الملكة الوسطى هي وحدها الممدوحة كما يقول أرسطوطاليس، وأن تقويم النفس، على ما يقول، يلزمنا أن نميل تارة نحو الإفراط (الألم) وتارة نحو التفريط (التحرر من اللذة والألم) لأننا بهذه المثابة يمكننا بأسهل ما يكون أن نصيب الوسط والخير (الحركة اللطيفة)؛ أي اللذة عند أرسطبس، فأي شيء بقي بعد ذلك من مذهب أرسطبس لم يدخل في مذهب أرسطوطاليس الأخلاقي؟ وأي شيء من مذهب أرسطوطاليس في السعادة لم يرجع إلى هيدونية أرسطبس؟

ورأيُنا الأخير أن مذهب أرسطوطاليس لا يختلف عن مذهب أرسطبس من حيث القواعد، إلا في موضعين:
  • الأول: أنَّ أرسطبس يحدد الخير بأنَّه اللذة، على أن تكون «حركة لطيفة» لا إفراط فيها فتصبح ألمًا، ولا تفريط فيها فتصبح سلبًا، في حين أن أرسطوطاليس يقول بأن الخير هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة.
  • والثاني: أن أرسطبس يقيم مذهبه على اللذة والألم، وهما من جوهر الطبع، في حين أن أرسطو يقيم مذهبه على مثالية عليا، وبالأحرى على مجهولات.

ولا شك في أن مذهب أرسطبس أقرب إلى أساليب العلم الحديث من مذهب أرسطوطاليس.

هوامش

(١) راجع أفلاطون في «الجمهورية»، وأرسطوطاليس في «ما بعد الطبيعة».
(٢) «موسوعة الدين والآداب» ج٤، ص٣٨٣.
(٣) «ديوجنيس لايرتيوس» ج٢، ص٩٢.
(٤) وإليك ما أثبته القفطي في كتابه «تاريخ الحكماء» ص٧٠، طبع ليبزج سنة ١٣٢٠ﻫ: أرسطفس أو أرسطبس من أهل قورينا وقيل إن قورينا في القديم هي رَفَنِيَّة بالشام عند حمص — والله أعلم، وقد رأيته مكتوبًا في موضع الرَّفَنِيِّ هذا من فلاسفة اليونانيين له ذكر وتصدر، وكانت له شيعة، وفلسفته هي الفلسفة الأولى قبل أن تتحقق الفلسفة، وكانت فرقته من الفرق السبع التي ذكرناهم في ترجمة أفلاطون، وكان أصحابه يعرفونه بالقورينانيين نسبة إلى البلد، وجُهلت فلسفتهم في آخر الزمان، لما تحققت فلسفة المشائين. وله من الكتب المصنفة كتاب «الجبر» يعرف بالحدود، نقل هذا الكتاب وأصلحه أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب، وله أيضًا شرحه وعلله بالبراهين الهندسية. ا.ﻫ.
(٥) إن لفظتي «خير وشر» لا يصاغ منهما أفعل تفضيل، ولكن المعنى لا يتم هنا إلا بمخالفة هذه القاعدة، والسياق بمخالفتها أروع، والأسلوب أكثر سبكًا.
(٦) القول بأن اللذة إحساس عام لجميع الكائنات الحية، أصل من أصول المذهب القوريني الرسيسة، وأما القول بأن اللذة توجد على أثر جميع الأفعال المتروكة لإيثارنا واختيارنا الحر؛ فإطلاق وتعميم، لا يسلم الباحث معهما من الزلل، ذلك بأنَّ الآلام توجد أيضًا على أثر كثير من الأفعال المتروكة لإيثارنا واختيارنا الحر، وأكثر الأفعال التي نقول بأنَّ مصدرها «الفضيلة» تنتج آلامًا، وجماعها متروك لإيثارنا واختيارنا الحر.
(٧) عُني أرسطبس بهذا الأمر عناية كبيرة، وبحثه كل رجال مذهبه بحثًا وافيًا، فإنهم لما رأوا أن فلسفة اللذة قد يُساء فهمها، عنوا كل العناية بالبحث في كيف نحسن أو نسيء التلذذ والتألم، ولعل هذا الأمر هو الذي حمل أبيقور على أن يختار الجانب السلبي من المذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤