الفصل العاشر

تفنن عرب الأندلس

لم تقف همة الأندلسيين عند حد الإبداع في هندسة الدور والمصانع، وعمل النقش والتزويق، وتنجيد البناء والزخرف فيه، وبناء الجسور وتعبيد الطرق، وإنشاء السكور والسدود. فإن هذه الأعمال في العمران كانت نتائج لازمة للثروة العظيمة التي فاضت عليهم من زراعاتهم وصناعاتهم ومتاجرهم. فقد تفننوا أنواع التفنن في الزراعة، ونقلوا إلى الأندلس من الشام أنواعًا من الأشجار والأزهار والغراس والبقول لم يكن لإسبانيا عهد بها، ومنها انتقلت إلى أوروبا الغربية، ومن جملة ما أدخلوه من أنواع الشجر والنبات الفستق والموز والنخيل والأرز والقطن والتوت وقصب السكر والزعفران والهيلون وزهر الكاميليا الحمراء والبيضاء والورد الياباني وغير ذلك، وتفننوا في هذا تفنن الغربيين لعهدنا بزروعهم وورودهم وثمارهم وبقولهم حتى كانت الأندلس المعتدلة الأقاليم الحسنة المناخ تعطي ثلاثة مواسم في السنة؛ لحسن استثمارها، فتدر على أهلها أخلاف الرزق والغنى سواء في العناية عندهم الأعذاء؛ أي الأراضي التي تسقى بالأمطار أو التي تسقى سيحًا؛ أي بماء الأنهار؛ ذلك لأنهم حفروا آبارًا، وأسالوا المياه من القاصية، وعملوا خزانات وسدودًا.

وكان لهم بصر بالصنائع حملوا معهم من الشام أيضًا صناعة صقل السيوف، وهي الصناعة التي نسبت إلى دمشق حتى اليوم فقيل لها بالإفرنجية Damasquinure أو Damasquinerie أو Damasquinage أي تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ، وقد اشتق منه الفعل عندهم Damasquiner كما نقلوا صنعة الأقمشة من الحرير والكتان مزينة بالرسوم من دمشق أيضًا فنسبت إليها عندهم، وقالوا في فعلها Damasser أي عمل ثيابًا على النمط الدمشقي.
واختصت قرطبة بدبغ الأديم أي الجلود، وإشبيلية بالحرير (كان فيها سنة ١٥١٥ ستة عشر ألف نول يعمل فيها ١٣٠ ألفًا من العملة، فأصبح عددها سنة ١٦٧٣ أربعمائة نول فقط، وذلك بعد جلاء العرب والإسرائيليين) وكان بمالقة يعمل الزجاج كما «يصنع الفخار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد» وإلى اليوم ينسبون هذا الصنف إلى مالقة، فيقولون في بلاد الشام المالقي للصحاف والأواني المعروفة، واشتهرت ألمرية بعمل الوشي والديباج والجوخ (كان فيها ٦٠٠٠ نول للأجواخ) و«لكورة باجة خاصية في دباغة الأديم وصناعة الكتان» وكان في ألمرية «لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللأسقلاطون١ كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصفهانية مثل ذلك، وللعنابي والمغاجر٢ المدهشة والستور المكللة، ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف».

وكان الديباج والوشي يعمل أولًا في قرطبة، ثم غلبت عليها ألمرية، فلم يتفق في الأندلس من يجيد عمل الديباج إجادة أهل ألمرية، وانفردت سرقسطة بصنعة السمور ولطف تدبيره وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطة خصوصية لأهل هذا الصقع «وفي جميع نواحيها يعمل الكتان والحرير الفائق» وكان في جيان ٦٠٠ نول للحرير، ويعمل السجاد في رية والسلاح والحلي في قرطبة ومرسية وطليطلة وسرقسطة، وأخذت شاطبة تصدر الورق بكثرة منذ سنة ١٠٠٩، قال ياقوت: وفي شاطبة يعمل الكاغد الجيد، ويحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس، وبالجملة فلأهل هذه الديار «خصائص كثيرة، ومحاسن لا تحصى، وإتقان لجميع ما يصنعون» قال ميجون: كانت في الأندلس عدة معامل مشهورة لصنع الفسيفساء، ويسمونه المفصص، ونقلت صناعة الفسيفساء عن الرومان.

وهكذا رسخت الصنائع في أمصار الأندلس برسوخ الحضارة، وطول أمدها، قال ابن خلدون: «فإنا نجد في الأندلس رسوم الصنائع قائمة وأحوالها مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني والطبخ، وأصناف الغناء واللهو من الآلات والأوتار والرقص، وتنفيذ الفرش في القصور، وحسن الترتيب والأوضاع في البناء، وصوغ الآنية من المعادن والخزف، وجمع المواعين، وإقامة الولائم والأعراس، وسائر الصنائع التي يدعو إليها الترف وعوائده، فنجدهم أقوم عليها وأبصر بها، ونجد صنائعها مستحكمة لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك وحفظ متميز بين جميع الأمصار.»

وذكر سيديليون أن العرب من حيث الأخلاق والعلم والصناعة كانوا أرقى بكثير من الإسبان، وهم أمتن أخلاقًا وطبائع، وفيهم الكرم والإخلاص والإحسان الذي لم يكن عند عداتهم، كما أن فيهم عزة النفس التي امتازوا بها في كل زمن، وكان الإفراط المضر فيها داعيًا إلى إحداث البراز، وساعد على عظمة العرب في إسبانيا انتشار الآداب والعلوم والفنون على عهدهم انتشارًا كبيرًا، وكذلك الزراعة والصناعة، وعم الذوق في اللذائذ العقلية جميع طبقات المجتمع، والشعر يرقي النفوس، وغدت المنافسة الشريفة على أتمها في الأفكار، وكانوا يكتبون على جميع المصانع اسم من أمر ببنائها واسم بانيها، والأمة تمدح المحسن لبنائها، وارتقت عندهم الهندسة والموسيقى والرقص إلى درجة ذات بال، ولا يزال إلى اليوم في الغرب يدرس أسلوب بنائهم، ويعجب بما نقشوه فيها من النقوش، وكان لدولة الموحدين في الأندلس ذوق خاص في البناء؛ أنشئوا الجوامع والمآذن والأماكن العامة والمستشفيات والرباطات في كل بلد من بلادهم، وأقاموا الطرق والجسور والسدود، وحفروا الآبار، وأجروا الأنهار. ا.ﻫ.

ولقد كانوا يستخرجون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، ويستقطرون السكر، ويعملون اللبود «المشهور في جميع الأرض بالجودة والصبغ والحسن. ولهم من الألوان والأصباغ والحشائش التي يلون بها الحرير وأنواع الصوف والثياب ما ليس في بلد من بلدان الأرض له نظير حسنًا وكثرة»، ويحملون حاصلاتهم ومصنوعاتهم إلى أقطار المملكة العربية؛ بل إلى أقاصي البلاد الشرقية والغربية في البحار على سفن الأندلسيين التجارية، وكان لهم أساطيل في كل فرضة من فرضهم تقلع على الدوام من مواني الأندلس؛ لتحمل إلى شواطئ إفريقية وآسيا وأوروبا ما يروج فيها من سلعهم ومعادنهم وثمارهم وحبوبهم.

قال كاباتون: كانت مدنية العرب في إسبانيا ظاهرة في الأمور المادية، وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البائرة في الأندلس من الأساليب العلمية التي اتخذوها لريها، وهي أساليب إن لم تكن من اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها، وأحسنوا استخدامها، كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبللور وغزال الصوف والقطن والكتان والقصب، وأقاموا ما لا يحصى من المعاهد العامة، وفيها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من إنشائه. ا.ﻫ.

وقال أحد علماء الفرنجة: كان في الأندلس على عهد الحضارة العربية أربعون مليون نسمة من أرباب الصنائع والعمل (سكان إسبانيا اليوم ٢١ مليونًا، وسكان البرتغال ٦ ملايين) وعلى ذلك العهد قامت فيها المدن المهمة التي يعجب الناس إلى اليوم بحرائبها، وعلى ذاك العهد كانت الزراعة ناجحة، وبفضل هندسة العرب كانت المياه تجري إلى كل مكان في بسائطها فتحمل الخصب والإمراع، وقال آخر: إن عهد استيلاء العرب على إسبانيا كان أسعد أيامها؛ لنجاح زراعتها بما قام فيها من أعمال السقيا، وبفضل غراسهم وزروعهم، وحسن استثمارهم لمعادن الأرض ومناجمها، ولما اغتنت البلاد كثر فيها سكان الدساكر والقرى كما كثر سكان المدن الكبرى.

ولا عجب — وحال البلاد من ارتقاء الصنائع والزراعة وتعدين المناجم واتساع التجارة قد بلغ هذا الحد — وإن كانت جباياتها من حقوقها وغير واجبها إلى سنة ٣٤٠ﻫ نحو عشرين ألف ألف دينار، قال ابن حوقل: ولست أشك على ما يوجبه النظر، وتوطأ به الخبر، فيما جمعه الحكم بعد هلاك أبيه من خدمة والمصادرين الذين كانوا في جملته عن أسباب الأندلس ولوازمها وجباياتها وخراجها وأعشارها وصدقاتها وجواليها تمام أربعين ألف ألف دينار، وبلغ خراج الأندلس على عهد عبد الرحمن الثالث عدا ما كانت دولته تستوفيه عينًا ٦٢٤٥٠٠٠ دينار، وحكى ابن خلدون عن الثقات من مؤرخي الأندلس: أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف ألف دينار، مكررة ثلاث مرات، يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار، وكان هذا الملك يقسم الجباية أثلاثًا؛ ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر، وكانت جباية الأندلس يومئذٍ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن الستوق٣ والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين دينارًا، وأما أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان، وانتهت جباية قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار بالأنصاف.

كان للأندلسيين حذق باستخراج العلوم واستنباطها، من ذلك: أن عباس بن فرناس حكيم الأندلس صنع في بيته هيئة السماء، وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود، وهو الذي استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمثقال (؟) ليعرف الأوقات على غير مثال، واحتال في تطيير جثمانه، وكسا نفسه الريش، ومد له جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة، ثم سقط؛ فهو أول من حاول الطيران من بني الإنسان.

وكان أهل قرطبة أول من عني بتبليط المدن، وكذلك إنارة الطرق في الليل عرفت لأول مرة في قرطبة أيضًا، ولما ارتقت العلوم على عهد بني الأحمر في غرناطة اكتشفوا بل اخترعوا بارود المدافع، وعرف منذ ذاك العهد، ولا تزال مدافعهم التي دافعوا بها عن غرناطة محفوظة إلى اليوم في أحد متاحف إسبانيا.

وفي الأندلس: عُرف الطبع؛ فكان أحد أبنائها هو السابق في مضمار هذا الاختراع الذي لم تنتفع الإنسانية بأفيد منه. فكانت لهم فيه طريقة لم ينته إلينا خبرها بالتفصيل؛ بل عرف إجمالًا أن عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر من أهل المائة الرابعة «كان ينفرد بالولايات فتكتب السجلات في داره، ثم يبعثها للطبع فتطبع، وتخرج إليه، فتبعث في العمال، وينفذون على يديه» فإذا كان هذا هو الطبع المعروف وما نظنه إلا هو، فيكون ابن المنذر بدر العربي قد سبق الألماني مخترع الطباعة بنحو أربعة قرون.

وذكروا أن ملوك غرناطة فرضوا جوائز للمخترعين؛ لينشطوهم، ويلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة على نحو ما فعل لويز الرابع عشر وكولبر في فرنسا، وعني الأندلسيون بتأليف رسائل يفهمها كل إنسان تكون معوانًا على الانتفاع بالأعمال العامة، وهم أنشئوا دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعملة، فتفيدهم فيما هم بسبيله.

واخترع الأندلسيون الخطوط المخصوصة بهم، كما اخترعوا الموشحات التي استحسنها أهل المشرق، وصاروا ينزعون منزعها، وكانت طبقاتهم في نظمهم ونثرهم لا تخفى على بصير، ولم يكن يخلو بلد من كاتب بليغ وشاعر مفلق، بل «كان من مدنهم مثل شلب قل أن ترى من أهلها من لا يقول شعرًا، ولا يعاني الأدب، ولو مررت بالفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه، وأي معنى طلبته منه» وخص أهل وادي آش بالأدب وحب الشعر، وعلل ذلك أحد العارفين بقوله: إن أهل الأندلس أشعر الناس؛ لما كثر الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكئوس لا ينازعهم أحد في هذا الشأن.

وكانت للأندلسيين عناية بنقد الشعر لا يجوز عليهم ساقطه، ونبغ كثيرون منهم في هذا المعنى، وألفوا فيه التآليف الممتعة، وكانت لهم مدارس لتعليم القرآن والكتابة والحساب وتعلم العلوم على اختلاف ضروبها في الجوامع من غير نكير يعلمون الفلك والجغرافيا واللغة والطب والنحو ومبادئ الطبيعة والكيمياء والمواليد الثلاثة. ذكروا أنه كان في قرطبة ثمانون مدرسة عامة، وسكانها مليون نسمة، وأن الموحدين أنشئوا في الأندلس مدارس عامة ومدارس عليا، وأغدقوا إحسانهم على العلماء، يريدون أن يعيدوا إلى الأندلس بهاءها على عهد الأمويين وأن الحكم أنشأ في قرطبة سبعًا وعشرين مدرسة اتخذ لها المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن، وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم، وفي ذلك يقول ابن شخيص:

وسماحة المسجد الأعلى مكللة
مكاتب لليتامى من نواحيها
لو مكنت سور القرآن من كلم
نادتك يا خير تاليها وواعيها

وأحدث رضوان النصري (٧٦٠) المدرسة بغرناطة، ولم تكن بها، وكانوا كما قال ابن سعيد: يقرءون في جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرءون لأن يعملوا لا لأن يأخذوا جاريًا، فالعالم منهم بارع؛ لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على ذلك أن يترك الشغل الذي يستفيد منه وينفق من عنده حتى يعلم.

وكثيرًا ما كان ملوك الأندلس يقترحون على الناس حفظ الكتاب الفلاني من كتب الأدب والعلم، ومن حفظه فله كذا دينار، فما هو إلا أن يحفظه مئات طمعًا في الجائزة، وعم التلذذ بالأدب جميع طبقات المجتمع عندهم، وكثير من الشعراء كانوا ينتجعون بشعرهم الملوك والأمراء يمتدحونهم فيصلونهم ويئونهم زمنًا على نحو ما كانت الحال في القرون الوسطى في المتشاعرين المتغنين بالشعر المتكففين في بلاد الإفرنج، ويسمونهم بالإفرنسية: التروبادور والتروفير Les Troubadours et les Trouueres.٤

وكان تعليم البنات شائعًا عندهم، وكثير منهن يحفظن بضعة دواوين من دواوين العرب، وينظمن ويترسلن كالأوروبيات اليوم، وإذا عرفت أن المدارس كانت مبذولة في المدن والقرى فلا تستغرب بعد ذلك أن قال أحد مؤرخي الإفرنج: إن سكان إسبانيا الإسلامية إلا قليلًا كانوا يقرءون ويكتبون على حين كان أهل الطبقة العليا في أوروبا المسيحية أميين لا يقرءون ما عدا أفرادًا قلائل من الشمامسة جعلوا الكتابة من شأنهم.

وكان للأندلسيين غرام بتسبيل الكتب على المطالعة، ولهم خزائن كتب عامة وخاصة، وكانت قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتبًا، وأهلها أشد الناس اعتناءً بخزائن الكتب صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرئاسة، فلا يكاد يخلو دار من خزانة فيها كتب قيمة، وقد أنشأ الحكم الثاني عدة مكاتب للمطالعين فكان يرسل وكلاءه إلى المشرق يستنسخون الأسفار فما هو إلا أن يؤلف المؤلف تصنيفه حتى تستنسخ منه نسخة أو تنسخ لتحمل إلى خليفة الأندلس، ولا يفوت بلاده شيء من حركة العقول، وكانت دار كتبه تحتوي على أربعمائة ألف مجلد جاء فهرسها في أربعة وأربعين مجلدًا، ولطالما أجزل ملوك الأندلس الصلات لبعض مؤلفي الشرق والأندلس حتى يذكروا في مقدمتها أنهم ألفوها برسم خزائنهم، ومن المؤلفين من كانوا يرضون بذلك، ومنهم من لا يرضون به يقصدون أن يكون لمن يستفيد منه.

وكان للعلماء والمؤرخين والشعراء والأدباء في الأندلس مجامع علمية وأدبية أشبه بالمجامع أو الأكاديميات في هذا العصر، وذلك لنشر العلم والمعارف، ومفاوضة الحكمة بينهم، فتنتج من اجتماعهم فوائد مهمة للعلم والمدنية، وكان المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس من أعلم الملوك بالأدب، وله التصنيف المترجم بالتذكرة، والمشتهر بالكتاب المظفري في خمسين مجلدًا في الفنون والعلوم، واستأدب لبنيه أبا عبد الله بن يونس، وكان يحضره، وأبا الحزم بن عليم وأمثالهما للمذاكرة والمباحثة فيفيد ويستفيد، وكان لأبي عامر أمير الأندلس في دولة هشام المؤيد مجلس معروف في الأسبوع يجتمع فيه أهل العلوم للكلام فيها بحضرته.

وقد أنشأ الحكم مجمعًا في قصر مروان وقلده غيره من أمراء الأندلس فأنشئوا مجامع لهم، وأنشأ أحمد بن سعيد النصري مجمعًا في طليطلة فكان يجتمع عنده أربعون عالمًا من طليطلة والبلاد المجاورة ثلاثة أشهر في السنة؛ أي في شهر تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني يعقدون اجتماعاتهم في ردهة فرشت أحسن فرش، فيبدءون عملهم بتلاوة آيات من الكتاب العزيز، ثم يتذاكرون في تفسير ما قرءوا، ويأخذ بهم الاستطراد إلى البحث في فنون شتى من العلم والحكمة.

وكان أمير المسلمين علي بن تاشفين لا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء٥ فكان إذا ولى أحدًا من قضاته كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغًا عظيمًا لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، وأمير المسلمين هذا هو الذي اجتمع له ولأبيه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار، فانقطع إليهما من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى اشتبهت حضرتهما حضرة بني العباس في صدر دولتهم، وكانت أيام بني المظفر بمغرب الأندلس أعيادًا ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الآداب خلدت فيهم ولهم قصائد أشادت مآثرهم، وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم.

كان أهل دانية أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدًا العامري كان يستجلب القراء، ويفضل عليهم، وينفق الأموال فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده فكثروا في بلاده. قلنا: وإذا كان عرض للأندلس في بعض أدوارها ما فرق جامعتها السياسية فاستفاد من ذلك أعداؤها فقد كان لتفريقهم إلى ممالك صغرى داعيًا إلى التنافس أحيانًا حتى صار لكل إقليم مزية ليست لغيره، واختص كل ملك بشيء فاتخذ أسباب النجاح فيه، واستدعى أهل الأخصاء من رجاله.

ومن لطيف تدبيرهم في الإنفاق على الجند دون تحميل الأمة أعباءه وهو تحت السلاح ما عمله ابن جهود رئيس قرطبة من جعل أهل الأسواق جندًا، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاة عليهم يأخذون ربحها فقط، ورءوس الأموال باقية محفوظة يؤخذون بها، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم بتفريقه في الدكاكين وفي البيوت، حتى إذا هم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه.

ومن أجمل أعمالهم في إقامة قسطاس العدل: أن هشام بن عبد الرحمن الداخل كان يبعث إلى البكور قومًا عدولًا يسألون الناس عن سير العمال، ثم ينصرفون إليه بما عندهم، واعترض له يومًا متظلم من أحد عماله فبدر إلى الشاكي، وقال له: احلف على كل ما ظلمك فيه فإن كان ضربك فاضربه أو هتك لك سترًا فاهتك ستره أو أخذ لك مالًا فخذ من ماله مثله إلا أن يكون أصاب منك حدًّا من حدود الله، فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه.

ولقد بنى الخليفة عبد الله بن محمد الساباط بين القصر والجامع بمدينة قرطبة، وكان يقف فيه قبل صلاة الجمعة وبعدها فيرى الناس، ويشرف على اجتهادهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول المتظلم، ولا يخفى عليه شيء من أمور الناس، وكان يقعد أيضًا على الأبواب في أيام معلومة فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب على باب حديد قد صنع مشربًا مستطيلًا؛ لذلك فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقته بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه، وفتح بابًا في قصره سماه باب العدل، وكان يعقد فيه للناس يومًا معلومًا في الجمعة؛ ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين المظلوم سترًا. فكانت سيرة عمالهم مع الرعايا أن يتحفظوا من كل أمر يوجب الشكوى منهم، وينقبضون عن التحامل على من دونهم.

وهكذا فإنه لا يكاد يخطر ببالك شيء من أدوات الحضارة ومقومات العمران وأساليب العلم والمعرفة إلا قام به أو ببعضه ملوك الأندلس وأهلها حتى التماثيل فإنها كانت في قصور العظماء والصور تزين بها غرفهم وردهاتهم؛ لذلك أبقوا على أكثر ما كان في البلاد قبل الفتح من التماثيل للاعتبار بها خصوصًا بعد أن انغمسوا في الحضارة، قال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة:

بقية من بقايا الروم معجبة
أبدى البناة بها من علمهم حكما
لم أدر ما أضمروا سوى أمم
تتابعت بعد سموه لنا صنما
كالمبرد الفرد ما أخطا مشبهه
حقًّا لقد برد الأيام والأمما
كأنه واعظ طال الوقوف به
مما يحدث عن عاد وعن إرما
فانظر إلى حجر صلد يكلمنا
أشجى وأوعظ من قس لمن فهما
وقد أقاموا حدائق للحيوانات والنباتات، وعنوا حتى بصراع الثيران، فضارعوا الإسبانيين، وربما فاقوهم، وأولعوا بالرقص ولهم منه أنواع، وكذلك آلات الطرب كالخيال٦ والكرج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والقيشار والزلامى والشفرة والنورة والبوق، وكان في مدينة آبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة ما تظنهن فيه أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدكر، وإخراج القزى والمربط والفتوخة.

أما الموسيقى: فقد كان زرياب أدخلها الأندلس، فكان يجري عندهم مجرى الموصلي في الغناء، وله طريق أخذت عنه، وأصوات استفيدت منه، وعلا عند الملوك، وأحسنوا إليه حتى كادوا يفرطون، وشهر شهرة ضرب بها المثل، ولا عجب إذا قلنا إن تفرق الأندلس أصقاعًا وممالك كان أشبه بتفرق ألمانيا وإيطاليا قبل وحدتهما إلى إمارات صغيرة تتنافس في مضمار العلم والصنائع والعمران.

هوامش

(١) بلد بالروم تنسب إليه الثياب السقلاطونية، وقد تسمى الثياب بنفسها سقلاطونًا، قال في التاج هي كلمة رومية.
(٢) المعجر ثوب يمني يلتحف به، ويرتدى، والجمع المعاجر.
(٣) الستوق: الزيف البهرج الملبس بالفضة.
(٤) التروبادور: شعراء كانوا يقولون الشعر باللغة الإفرنسية القديمة في القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر، والتروفير: شعراء بلغة وال من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر كانوا يختلفون إلى الملوك والعظماء ينشدون الأشعار ويضربون على الأوتار، وربما أقاموا في قصورهم مدة ثم يتنقلون.
(٥) كان للقضاة في الأندلس مشاورون حتى لا يصدروا إلا عن آراء ناضجة، وإليك مثالًا من تقليدهم: هذا كتاب تنويه وترفيه، وإنهاض إلى مرقى رفيع، أمر بكتبه الأمير الناصر للدين أبو جعفر بن أبي جعفر أدام الله تأييده ونصره، للوزير الفقيه الأجل المشاور الحسيب الأكمل أبي بكر بن أبي جمرة أدام الله عزه أنهضه به إلى الشورى؛ ليكون عندما يقطع بأمر، أو يحكم في نازلة، يجري الحكم بها على ما يصدر عن مشورته ومذهبه؛ لما علمه من فضله وذكائه وجده في اكتساب العلم واقتنائه، ولكون هذه المرتبة ليست طريفة له بل تليده، متوارثة عن أسلافه الكريمة وآبائه، فليتحملها تحمل المستقل بأعبائها، اللحن بأنبائها، العالم بمقاصدها المتوخاة المعتمدة وأنحائها، والله يزيده تنويهًا وترفيعًا، ويبوئه من حظوته وتمجيده مكانًا رفيعًا، وكتب في التاسع لذي حجة ٥٣٩ الثقة بالله عز وجل. ا.ﻫ.
(٦) الخيال هو الذي يسمى خيال الظل أو الخيال الراقص أو خيال جعفر الراقص، وجعفر اسم مخترعه يسميه العامة كركوز «قوة كوز» وبالفرنسية Marionnette, polichinelle والكرج تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان، ويحاكين بها امتطاء الخيول، فيكررن ويفررن ويفاقفن، وهي من آلات الرقص وتسمى بالفرنسية Carrousel, cheuaux de bois والروطة ضرب من الرباب معربة عن الأندلسية Rotta أو Rota وبالإفرنسية rotte أو Rote والمؤنس قربه يركب فيها مزمار، ولعلها من أصل إسباني يقابلها بالفرنسية Musette أو Cornemuse والكثيرة ضرب من السنطور تنقر أوتارها بالأصابع Cihare والقثار Cuitare آلة ذات ستة أوتار، ولها يد مقسومة إلى أنصاف ألحان يركب عليها دساتين، والزلامى نوع من المزمار هو تصحيف الزنامي نسبة إلى زنام مستنبط الناي، وكان زنام زمارًا مشهورًا عند هارون الرشيد يضرب به المثل في حسن صناعته، والشقرة والنورة مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه، والعود معروف وبالفرنسية Luth والرباب معروف وبالفرنسية Rebec والقانون مشهور وبالفرنسية Harpe والبوق معروف، والدكر نوع من الرقص أو اللعب يعرفه الزنج والحبش وبالفرنسية Kalenda والقزى نوع من لعب المشعوذين، والفتوخة جمع فتخة وهي خاتم كبير وهي لعبة الخاتم (من مقالة للعلامة الأب أنستاس ماري الكرملي: المقتبس م١ ص٤٣٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤