الفصل الحادي عشر

مدينة مجريط

سار بنا القطار من باريز إلى جنوبي فرنسا مارًّا بأرض عامرة بزراعتها دالة على سلامة ذوق أهلها، وتفننهم في ضرب الحياة المادية والأدبية، ولما اجتزنا جبال البيرنات «جبل الثنايا» دخلنا ليلًا محطة إرون الإسبانية قاصدين إلى مجريط عاصمة إسبانيا الحديثة كثرت لواعج الأشواق إلى الصقع الأندلسي، واشتدت تباريح الذكرى.

وأكثر ما يكون الشوق يومًا
إذا دنت الخيام من الخيام

تمثلت للعين تلك الأمة العربية الغربية، وما أثلته من الأمجاد في هذه البلاد، وظهرت فيه من مظاهر الحياة الراقية، تذكرت جيلًا عظيمًا، لم يبق سوى التحدث بطيب أخباره، والتطلع إلى جميل آثاره، ذكرت عشرات الألوف من العظماء، ضمت الأندلس أعظمهم، وكان كل واحد أمة برأسه، ومنهم من لم ينبغ أمثال لهم في أمة في القرون المتواصلة، ووددت لو أمكن العمل بحكمة المعري حين قال:

خفف الوطء ما أظن أديم الـْ
أرض إلا من هذه الأجسادِ
وحرام بنا وإن قدم العهـ
ـد هوان الآباء والأجدادِ

مدينة مجريط أو مدريد هي عاصمة إسبانيا منذ سنة ١٥٦٠، وسكانها اليوم يقربون من سبعمائة ألف، وهي العاصمة التي اختارها فيليب الثاني؛ لتوسطها من البلاد، وكانت على عهد العرب حصنًا أو بليدة، ولم ترزقها الطبيعة نهرًا كبيرًا، ولا ضاحية بديعة مشجرة مثمرة؛ بل كان قديمًا في أرباضها بعض الغابات فحطمت، ولم يبق منها إلا القليل. على أن فيها اليوم ما في جميع عواصم الغرب من المرافق والمصانع. زرت بعضها وهي لا تختلف عن مصانع الأمم اللاتينية إلا قليلًا بل هي أقل عظمة من مصانع إيطاليا وفرنسا، وليس في مجريط أثر يعتد به من آثار العرب، وأما آثار الإسبانيين الحديثة: فليست مما يعجب به كثيرًا؛ لأنها حديثة عهد على الأغلب، وتكاد تكون الصنعة الدينية متجلية في كل مصنع من مصانعهم.

وأكثر أحياء المدينة ضيقة، وبيوتها مزدحمة كسائر المدن المنحطة في أوروبا إلا أن بعض الأحياء والدور المستحدثة هي على الطراز الغربي الجديد، ولها حدائق وساحات على جانب من السعة مستوفاة شروط الصحة، وقد أنشئت في زمن الحرب العامة في مجريط وغيرها من مدن إسبانيا بيوت أقامها أغنياء الحرب؛ أي الذين اتجروا فيها وربحوا، وربحت بهم إسبانيا لحيادها، وقد أحسنت لنفسها بالتزامها خطة المسالمة، ومن هذه البيوت ما يقتضي ألوفًا من الليرات. فلما اشتدت الأزمة على أوروبا عامة لحق إسبانيا من أثرها شيء بالطبع فوقف العمل في بعض تلك البنايات، وكذلك كثير من المشاريع والمعامل التي أحدثوها مغتنمين فرصة تقاتل جيرانهم.

في مجريط تسعون كنيسة من الكنائس التي لا شأن لها في نظر التاريخ وعلم العاديات، وليس لها مقام رفيع في باب البناء الحسن. المصانع التي من هذا القبيل ليست بالكثيرة العدد، وقد قام القصر الملكي اليوم محل القصر العربي، وكان هنري الرابع جعل هذا القصر محلًّا للصيد، وفي متحفها الوطني بعض آثار العرب التي أفلتت من أيدي الذين زهدوا فيها بصنع المتعصبين من رجال الدين وخربوها وأتلفوها. أما تاريخ هذا الحصن العربي أي مجريط فليس بعظيم، وخلاصته: أنه أُخذ من العرب، ثم استعادوه إلى أن استولى الإسبان على طليطلة سنة ١٠٨٦م فأصبحت مجريط يومئذ إسبانية، وقد زادت مكانة مجريط فكبرت رقعتها في الجزء الثاني من القرن التاسع عشر؛ وذلك لاتصالها بالخطوط الحديدية مع الولايات ومع فرنسا والبرتغال، وقد أنشئ فيها في العهد الأخير ترامواي كهربائي Metropolitain تحت الأرض على مثال ترامواي باريز ولندرا وبرلين ونيويورك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤