الفصل الثالث عشر

قرطبة والزهراء

بأربعة فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها

لم يكتب لي أن أزور مدينة طليطلة لأشهد فيها قصور العرب القديمة، ومساجدها القائمة إلى اليوم، وعادياتها المأثورة، وكانت من عظائم مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يومًا فاكتفيت بزيارة ثلاث مدن من أمهات المدن الأندلسية قرطبة وإشبيلية وغرناطة، وهي العواصم الثلاث التي تأصل فيها حكم العرب وطالت أيامه.

وقرطبة كانت في عزها أعظم مدائن الأندلس، فأصبحت الآن ليس فيها من السكان سوى ثمانية وخمسين ألف ساكن، وقيل: إن مساجدها بلغت ألفًا وستمائة مسجد وحماماتها ستمائة، وذكر آخرون أنه كان فيها مائتا ألف دار وثمانون ألف قصر دورها ثلاثون ألف ذراع، وكان بخارجها ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص١ تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له يأتون كل جمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة، ويطالعونه بأحوال بلدهم.

قال المراكشي: بلغت قرطبة من القوة، وكثرة العمارة، وازدحام الناس مبلغًا لم تبلغه بلدة. حكى ابن فياض في تاريخه في أخبار قرطبة، قال: كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي في هذا ما في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها، وكان الماشي يستضيء بسرج قرطبة ثلاثة فراسخ لا ينقطع عنه الضوء.

وفي تواريخ الإفرنج أن قرطبة كانت منقطعة القرين بين مدن الغرب؛ أي أوروبا، وليس ما يشبهها بعمرانها وسكانها، فكان فيها خمسمائة ألف ساكن و٢٨٧ ربضًا، وهي مكتظة بالسكان، وقد قامت المتنزهات البهجة المغروسة بأنواع الأشجار على طول الوادي الكبير والقصور والمصايف مغطاة بالخضرة، وكان في هذا الوادي الكبير أربعة عشر ألف قرية.

فقرطبة كانت أعظم مدينة بالأندلس ليس بجميع المغرب «لها شبه كثرة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق» ووصفها المقدسي فقال: «وصف ما شئت من طيبها ورحبها فإنها جنة الأندلس على ما حكي لي وهي مصر الأندلس، وقد دلت الدلائل، واتفقت الآراء على أنه مصر جليل رفيق طيب، وأن ثم عدلًا ونظرًا وسياسة طيبة ونعمة ظاهرة ودينًا، وهي في جهاد ونفير أبدًا مع علم كثير، وسلطان خطير، وخصائص وتجارات وفوائد» وذكروا أن لأهل قرطبة رئاسة ووقارًا لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم.

ليس في قرطبة اليوم من آثار العرب سوى قطعة من مسجدها الأعظم بناه عبد الرحمن الداخل، وكان معبدًا للويزغوت على اسم القديس منصور، وقد ملكه المسيحيون، وأخذ المسلمون نصفه سنة ٧٨٥م، ولما شرع بالبناء ابتاع عبد الرحمن النصف الآخر منهم كما فعل الوليد الأموي في دمشق يوم بنى جامعها، واستصفى النصف الآخر من أربابه المسيحيين، وعوضهم عنه كنائس أخرى.

وزاد الناصر عبد الرحمن بن محمد في المسجد الجامع بقرطبة زيادته المشهورة، وفيها القبو الكبير الذي يصطف المؤذنون أمامه يوم الجمعة للآذان، وهو من أعجب البنيان، وحبس المستنصر بالله على الجامع بقرطبة لما كملت زيادته ربع جميع ما جرته إليه الوراثة عن أبيه أمير المؤمنين في جميع كور الأندلس وأقاليمها على ثغور الأندلس كافة، تفرق غلات هذه الضياع عامًا بعد عام على ضعفائهم، إلا أن تكون بقرطبة مجاعة فتفرق فيهم.

ومما قيل في آثار مدينة قرطبة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية: أن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة: مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار، ومساجدها: ثلاثة آلاف، وعدة الدور التي بقصرها الزهراء: أربعمائة دار، وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته.

وقالوا: إن المسلمين لما فتحوا قرطبة وجدوا بها آثار قنطرة فوق نهرها على حنايا وثائق الأركان من تأسيس الأمم الدائرة قد هدمها مرور النهر على الأزمان فتقدم إلى فضيلة النظر فيها عمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه — عندما اتصل به خبرها، فأمر السمح بابتنائها؛ فصنعت على أتم وأعظم ما بني عليه جسر من حجارة سور المدينة، وربما كان هذا أول عمل في العمران قام على أيدي عرب الأندلس في القرن الأول للهجرة.

قال بعضهم: لم يكن للعرب هندسة خاصة لما دخلوا قرطبة، وكانوا يعتمدون على هندسة أهل البلاد التي تغلبوا عليها، فنسجوا في بناء المسجد على مثال مساجد مصر ومسجد القيروان، وكان هذا من أعظم مساجد الإسلام، وقيل: إنه بني على شكل مسجد دمشق، وكان فيه ١٤١٨ سارية تشبه غابة ملتفة، والباقي منها الآن ٨٦٠، وهي أدق من سواري الجامع الأموي اليوم، وقال آخر: إن الباني وأخلافه جلبوا هذه السواري من أبنية قديمة وبيع مسيحية في القاصية كجنوبي فرنسا وإفريقية؛ أي قرطاجنة والآستانة، وتبيَّن أن أكثرها من مقالع أندلسية، ومحراب هذا المسجد الجامع لا يزال محفوظًا، وهو دهشة إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم، وعلو قبته تسعة أمتار، حفر في قطعة واحدة من المرمر، وعمل بالفسيفساء، وزبرت عليه آيات كريمة، وله اثنان وعشرون بابًا معمولًا بالنحاس، بقي الآن منها ١٢ بابًا، وعلى بعضها صورة نقوشها الأصلية، وقد قام البرج الذي هناك مقام المنارة التي أنشأها عبد الرحمن الناصر. يقول جوسيه: لو أقيمت البيعة التي أقاموها وسط الجامع على عهد شارلكان في مكان آخر لصار لها شأن، وهي هنا من أبشع آثار الهندسة إذا أحدث بانوها بها ضررًا على بناء وحيد من نوعه في العالم.

وكان في جامع قرطبة سبعة آلاف مصباح تنعكس أنوارها على النقوش المذهبة والزمرد والياقوت والمفصص … وغيرها، فتزيد في جماله، وعلى ما أصيب به هذا المسجد من الأضرار بقي إلى اليوم من أغرب أبنية الأرض.

وقال غوتيه: لا سبيل إلى وصف التأثر الذي يشعر به المرء عند دخوله هذا المسجد الإسلامي القديم، فيتراءى لك أنك تسير في غابة مسقوفة لا في بناء مصنوع، وحيث اتجهت يضيع بصرك في صفوف من السواري تلتقي وتمتد على مرمى البصر مثل غراس من المرمر ظهرت من تلقاء نفسها على أديم الأرض. ا.ﻫ.

نعم، إن البيعة التي أقيمت وسط جامع قرطبة والبيع الصغرى التي جعلت في أكثر زواياه قد شوهت من محاسنه، وأبدلته عن أصله، وفي نية ديوان الآثار فيما بلغني أن يرجع القديم كما كان، وينقل الآثار المسيحية من جامع قرطبة؛ ليبقى بدون زيادة ولا نقصان طرازًا في البناء منقطع القرين في الأرضين، إلا أن البيعة الوسطى شارلكان يصعب نقل أنقاضها؛ لما فيها من الزخرف، ولما صرف عليها من المال.

هذا ما بقي من آثار الأجداد في قرطبة، وقد زرتها وأرباضها فرأيتها وهي على منبسط من الأرض تشبه ضاحيتها ضواحي دمشق وهندسة أكثر بيوتها الجديدة على الطراز العربي البديع، ولأهلها إلى هذا العهد حرمة له، وغرام به، وحرص عليه يعدونه من جملة مقدساتهم.

وعلى أربعة أميال من قرطبة بنيت مدينة الزهراء سنة ٣٢٥ﻫ بناها الناصر لدين الله الأموي في ست عشرة سنة، وطولها ألف وستمائة ذراع، وعرضها ألف وسبعون ذراعًا، وجعل في سورها ثلاثمائة برج وخص قصورًا للخلافة وثلثها للخدم وثلثها بساتين، وكان يدخل فيها كل يوم من الحجر المنحوت ستة آلاف صخرة سوى الآجر وغيرها، وحمل إليها الرخام من أقطار الغرب، ودخل فيها أربعة آلاف وثلاثمائة سارية، وأهدى ملك الإفرنج لبانيها أربعين سارية رخام، وأما الوردي والأخضر فمن إفريقية، والحوض المذهب جلب من قسطنطينية، والحوض الصغير على صورة أسد وصورة غزال وصورة عقاب وصورة ثعبان … وغير ذلك والكل بالذهب المرصع بالجوهر، وكان ينفق عليها ثلث دخل الأندلس، وكان دخلها يومئذ خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف درهم.

وقال أحد المؤرخين: إن مباني الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية جلبت من رومية وقسطنطينية وقرطاجنة وتونس وإفريقية، فيها خمسة عشر ألف باب ملبس بالحديد والنحاس المموه، وكان عدد الفتيان فيها ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء بقصر الزهراء ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة امرأة، وكان على الحجر الذي جلب من مقالع الأندلس أو حمل من القاصية نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان، ولما جلبه أحمد الفيلسوف، وقيل غيره، أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالًا، وقال بعضهم: عمل في الزهراء عشرة آلاف عامل خمسًا وعشرين سنة، وفي الشرق من الوادي الكبير مدينة الزاهرة التي بناها المنصور بن أبي عامر التي يقول فيها ابن عربي لما دخلها ووجدها متهدمة:

ديار بأكفاف الملاعب تلمع
وما إن بها من ساكن فهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب
فتصمت أحيانًا وحينًا ترجع
فخاطبت منها طائرًا متفردًا
له شجن في القلب وهو مروع
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي
فقال على دهر مضى ليس يرجع

وقد حرقت الزهراء وهدمت في حدود سنة ٤٠٠ﻫ وبقيت رسومها، وخربت قرطبة وما فيها من القصور والمرافق في حرب البربر، وسقطت في أيدي العدو سنة ٦٣٣ﻫ بعد أن كانت مدة خمسة قرون وخمس قرون في أيدي العرب، ولم يعد حكمهم إليها بعد ذلك، ولما خلت قرطبة من سلطان يرجع إلى أمره صار كل من قويت يده عمر مدينة فخربت قرطبة وعمرت إشبيلية.

هوامش

(١) المقلس: هو الذي يلبس القالس أو القلنسوة، وكان يحق للمقلس وحده في الأندلس أن يفتي، وكان عليه أن يستظهر الموطأ والمدونة أو عشرة آلاف حديث، وللمقلسين الحق أن يلبسوا القالس فقط، وتكتب بالصاد (قاله دوزي في ملحقه على المعجمات العربية).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤