الفصل السادس عشر

قصر الحمراء

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم
ملك محاه حوادث الأزمان
إن البناء إذا تعاظم شأنه
أضحى يدل على عظيم الشان

الحمراء، ويقال لها القصبة الحمراء، ومعنى القصبة عندهم القلعة، وتسمى حمراء غرناطة، وهي مطلة على مدينة غرناطة أطلال الصالحية من سفح قاسيون على دمشق. سميت بالحمراء لاحمرار جدرانها، بل للون التربة التي قامت عليها في سفح جبل غرناطة، ومعظمها مبني بالخزف والكلس والحصباء، وفي قصبة الحمراء قصور العرب، وهي ثلاثة قصور منفصلة عن القلعة، وتدخل فيها المدينة الصغرى القائمة على تلك الأكمة، وقد بني كل قصر منها في زمن غير زمن القصر الآخر، وبقي من القصر الأول شيء قليل، وهي المقصورة والكنيسة، وكان جامعًا بناه محمد الثالث من ملوك بني نثر، قال فيه ابن الخطيب: إن أعظم مناقبه المسجد الجامع بالحمراء على ما هو عليه من الظرف والتنجيد والترفيش وفخامة العمل وإحكام أنواع الفضة وإبداع أثرها، أنفق عليه من مال الجزية، فظهر بها منقبة له يتيمة فاق بها من تقدمه ومن تأخره من قومه.

والقصر الثاني: قصر الآس، وفيه الآس الكثير كان مقر السلطان، ومجلس الحكم، أو دار السلطنة، يقعد فيه للمظالم، ويستقبل السفراء، وكبار رجال المملكة.

والقصر الثالث: منعزل عن القصرين الآخرين قليلًا، وكان فيه دائرة حرمه، ومساكنه الخاصة، وفي هذا القصر صحن الأسود، وهو في الجزء الأوسط منه.

فقاعة السفراء عبارة عن مربع مساحته ١١مترًا بعلو ١٨ كان الملك يستقبل بها وفيها عرشه إلى الشمال أمام المدخل، وهي تطل على ربض البيازين، ومدينة غرناطة، وقد ركبت في كل نافذة وسطى أعمدة صغيرة من العجمي أو الشمسية تدفع حرارة الشمس، ونقش هذه القاعة من أجمل ما حوت الحمراء، وكان فيها ١٥٢ صورة مختلفة طبعت بالجص الطري على الجدران في قوالب من حديد، وهي إلى الحمرة والزرقة المشبعة.

أما فناء الأسود فهو صحن واسع فيه اثنا عشر أسدًا رابضًا من الرخام، تحمل الإناء العظيم القائم وسط الدار، ويخرج الماء من أفواهها، وتسيل الفوارات من أعلى الصحن الذي جعل قطعة واحدة كبيرة كأنه حوض واسع من أحواض بيوت دمشق القديمة، وكأن ابن حمديس الصقلي وصف هذه الدار عندما وصف دار المنصور ببجاية فقال:

واعمر بقصر الملك ناديك الذي
أضحى بمجدك بيته معمورا
قصر لَوَ انَّكَ قد كحلت بنوره
أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
واشتق من معنى الحياة نسيمه
فيكاد يحدث للعظام نشورا
نسي الصبيح مع المليح بذكره
وسما ففاق خورنقًا وسديرا
ولَوَ انَّ بالإيوان قوبل حسنه
ما كان شيئًا عنده مذكورا
أعيت مصانعه على الفرس الألي
رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا
ومضت على الروم الدهور وما بنوا
لملوكهم شبهًا له ونظيرا
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا
غرفًا رفعت بناءها وقصورا
فالمحسنون تزيدوا أعمالهم
ورجوا بذلك جنة وحريرا
والمذنبون هدوا الصراط وكفرت
حسناتهم لذنوبهم تكفيرا
فلك من الأفلاك إلا أنه
حقر البدور فأطلع المنصورا
أبصرته فرأيت أبدع منظر
ثم انثنيت بناظري محسورا
وظننت أني حالم في جنة
لما رأيت الملك فيه كبيرا
وإذا الولائد فتحت أبوابه
جعلت ترحب بالعفاة صريرا
عضت على حلقاتهن ضراغم
فغرت بها أفواهها تكبيرا
فكأنها لبدت لتهصر عندها
من لم يكن بدخوله مأمورا
تجري الخواطر مطلقات أعنة
فيه فتكبو عن مداه قصورا
بمرخم الساحات تحسب أنه
فرش المها وتوشح الكافورا
ومحصب بالدر تحسب تربه
مسكًا تضوع نشره وعبيرا
يستخلف الأصباح منه إذا انقضى
صبحًا على غسق الظلام منيرا
وضراغم سكنت عرين رئاسة
تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلُّورا
أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما
أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها
نارًا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول
ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه
درعًا فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها
عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى
سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد صولجت أغصانها فكأنما
قنصت لهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لواقع طيرها
أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها
ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت
جعلت تغرد بالمياه صقيرا
وكأنما في كل غصن فضة
لانت فأرسل خيطها مجرورا
وتريك في الصهريج موضع قطرها
فوق الزبرجد لؤلؤًا منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما
جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبرًا نظَّروا
بالنقش بين شكوله تنظيرا
تبدو مسامير النضار كما علت
فلك النهود من الحسان صدورا
خلعت عليه غلائلًا ورسية
شمس ترد الطرف عنه حسيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه
أبصرت روضًا في السماء نضيرا
وعجبت من خطاف عسجده التي
حامت لتبني في ذراه وكورا
وضعت به صناعة أقلامها
فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقة
مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأن ماء اللازورد مخرم
بالخط في ورق السماء سطورا
وكأنما وشوا عليه ملاءة
تركوا مكان وشاحها مقصورا
يا مالك الأرض الذي أضحى له
ملك السماء على العداة نصيرا
كم من قصور للملوك تقدمت
واستوجبت لقصورك التأخيرا
فغمرتها وملكت كل رياسة
منها ودمرت العدا تدميرا

وهناك قاعة الحكم وقاعة بني سراج والمقصورة. تخرج من واحدة فتدخل في أخرى، فتخالك في جنة عالية، قطوفها دانية، لا تستطيع وصفها لبدائعها الكثيرة، وهناك قاعة اسمها قاعة الأختين كانت على ما يظهر لجلوس نساء الملك في الشتاء، ونقشها من أقصى ما بلغه النقش العربي من الإتقان، وأهم ما فيها المقرنص الذي حوى نحو خمسة آلاف شكل مختلف بعضها عن بعض، تألف منها مجموع يصعب لجماله وقبتها أعجوبة البناء، ومثال الصبر والعمل، وكأنها كانت في يد صانعها كالعجين يعمل فيها ما شاء من الصور، أو كأنها خلقت خلقة ولم تمسها يد بشر.

وبالقرب من قصور الحمراء جنة العريف، وهي حديثة كبرى، فيها جميع أشجار القطر وأزهاره قاست هندستها في منحدراتها وأكماتها وبسائطها على أسلوب يأخذ بمجامع القلوب، وفيها سطوح ومغاور ومخابئ وفوارات وسياج تشبه المصايف الإيطالية في عهد النهضة، وفيها كثير من شجر السرو، ومن جملتها سروة يدعونها سروة السلطان عمرها نحو ستمائة سنة، وتحتها فيما يقال تواعدت امرأة أبي عبد الله مع ابن سراج.

ولقد كان للسلطان أوائل المائة الثامنة في غرناطة ما يناهز مائة جنة مثل جنة العريف على ما روى صاحب الإحاطة بمدينة فيها مثل هذا العدد الدثر من الجنان، وذلك في الحقيقة من أمارات المدنية والرفاهية.

ورد ذكر الحمراء لأول مرة في واقعة حدثت سنة ٢٧٧ﻫ فاعتصم بها القيسيون من العرب، وقد أسرتهم عصابة من الإسبانيين فنجا الأمير الأموي بحيلة غريبة، وخرج مخرجًا مدهشًا مع رجاله، ولما استولى الموحدون على غرناطة التجأ المرابطون إلى هذا القصر، واشتهرت الحمراء على عهد دولة بني نصر أو بني الأحمر الذين استقلوه بإمارة غرناطة بعد سقوط قرطبة وإشبيلية، وجعلوها عاصمتهم، فأنشأ محمد بن الأحمر قصره الملكي بالقرب من السور والقلعة، وفي عهد الإمبراطور شارلكان جعل جامع الحمراء كنيسة، فأبدلت صورة القصر الملكي القديم، وأنشئ باب المدخل الذي يجتاز منه السور الذي طوله ٣٥٠٠ متر، وفيه عدة أبراج.

وقالوا: إن فرديناند وإيزابيلا الكاثوليكية عنيا كل العناية بالحمراء لما اغتنما فرصة اختلاف العرب وأمرائهم، وعزما على إخراج جميع العرب من إسبانيا، وقد أمرا بترميم نقوشها الداخلية، ورمما جدرانها، وكان شارلكان على شدة حرصه على آثار الحمراء والإبقاء عليها عمر مباني؛ ليخلد اسمه، ولكنها لم تتم، وأوردوا في معرض البرهان على ولوعه بالآثار العربية ما نسب إليه من القول عندما وقع بصره على آثار الحمراء: بالشقاء من أضاع كل هذا.

جاء في دائرة المعارف الإسلامية: وإذا ما وقع التنظير بين قصر الحمراء والقصور والجوامع التي بنيت على ذاك العهد في القاهرة مثلًا كجامع السلطان حسن الذي بني سنة ١٣٥٦م تبين الفرق العظيم بين البنائين؛ فإنك ترى لهندسة جامع القاهرة أمثالًا كثيرة، في حين بني قصر الحمراء على غير محتذى، ولا يوجد في مملكة من الممالك قصر إسلامي مثل الحمراء، وبقدمه لم يبن له شبيه مع أنه شيد بمواد سريعة الانحلال اللهم إلا أبنية العصر الأموي التي عثر عليها الباحثون في بادية الشام شرقي بلاد موآب، وبعض الخرائب من العصر العباسي في سامراء والرقة.

وقصارى القول: إن الحمراء مصيف تحف به حدائق واسعة ومتنزهات، وفيه المياه الجارية والنبات والحيوان الكثير، ونقوشه تبهر الأبصار، وفي مسالك الأبصار: إن الحمراء كثيرة المباني الضخمة والقصور ظريفة جدًّا يجري الماء تحت بلاط كما يجري في المدينة فلا يخلو منه مسجد ولا بيت، وبأعلى برج منها عين ماء، وجامعها من أبدع الجوامع حسنًا، وأحسنها بناءً، وبه الثريات الفضية معلقة، وبحائط محرابه أحجار ياقوت مرصعة في جملة ما نمق به من الذهب والفضة، ومنبره من العاج والأبنوس.

ولما استولى ملوك قشتالة على الحمراء سلموها إلى مهندسين من العرب بلغ من حذقهم أنك لا تعرف ما أدخلوه فيها من الإصلاح، ولا تميزه عن الأصل الذي كانت عليه من قبل، ودام هذا الترميم في الحمراء إلى ثورة العرب سنة ١٥٦٩، وفي سنة ١٥٢٢ أصيب بهزة أرضية، وفي سنة ١٥٩٠ بحريق في مطحنة بارود سببت خراب أقسام منها، ثم تركت وشأنها في القرن السابع عشر والثامن عشر، وقد نسف جنود نابليون سنة ١٨١٢ قسمًا منها بالمواد الملتهبة معتبرين الحمراء حصنًا، وذلك عند جلائهم عن إسبانيا، ثم أخذت همة حكومة إسبانيا تتجدد لإعادة الحمراء إلى حالتها الأولى.

ويقول جوسيه: إن ملوك إسبانيا لما دخلوا الحمراء لم يعاملوا آثار خصومهم معاملة أعداء؛ بل معاملة أصحاب، وبعد أن ذكر كيف كانوا يتعهدونها، وكيف عهدوا إلى مهندسين من العرب استخدموهم لترميمها، قال: وأهملت الحمراء من بدء القرن السابع عشر إلى أواسط القرن الثامن عشر، فأخذ يسكنها جنود بياطرة، وأرباب حرف وحاكة وفاخرانيون وأسرات فقيرة، فكانت الأوساخ فيها وفي جدرانها، والناس يعبثون بما فيها، وربما أصابها شيء من البارود والقذائف فتبدلت محاسنها، وبليت بعض حيطانها ونقوشها ورسومها ومعالمها، ثم صحت نية حكومة إسبانيا على تعهد تلك القصور وإرجاعها إلى حالها، وكانت الهمة في هذا الشأن تفتر ثم تتجدد بحسب سلطان ملوك إسبانيا، ودرجتهم من العقل والفهم.

وفي هذا القصر أو المدينة البديعة ما عدا الآثار العربية قصر شارلكان أراد أن يوسع به دائرته سنة ١٥٢٦ بناه من الجزية التي كان يتقاضاها من العرب؛ للسماح لهم بإجراء بعض شعائرهم. من أعمال شارلكان أبنية لم تتم؛ لقلة المال فيما يظهر، والغالب أنه حاول بما أنشأه من الأبنية أن يطمس آثار العرب؛ ليجعل لبنائه الرجحان، فلم يتم له ما أراد، وبقيت الحمراء أجمل مثال في القصور على مر العصور والدهور.

وليس في الحمراء من الفرش والأواني الباقية من عهد العرب سوى جرة طولها أكثر من متر، صُنعت من تراب بالميناء، ولها لمعان لازوردي وذهبي، رسم عليها حيوانات ونقوش عربية، وهي من صنع معامل غرناطة في القديم.

هذه صورة مصغرة من وصف هذا القصر، وما طرأ عليه إلى يومنا هذا، وهو مقصد السائحين من أهل الأرض، وكأن ابن حمديس وصفه إذ قال:

قصرٌ يقصِّر وهو غير مقصِّر
عن وصفه في الحين والإحسان
وكأنه من درة شفافة
تُعشي العيون بشدة اللمعان
لا يرتقي الراقي إلى شرفاته
إلا بمعراج من اللحظان
عرج بأرض الناصرية كي ترى
شرف المكان وقدرة الإمكان
في جنة غناء فردوسية
محفوفة بالروح والريحان
وتوقدت بالجمر من تاريخها
فكأنما خلقت من النيران
وكأنهن كرات تبر أحمر
جعلت صوالجها من القضبان
إن فاخر الأترج قال له ازدجر
حتى تجوز طبائع الأيمان
لي نفحة المحبوب حين يشمني
طيبًا ولوم الصب حين تراني
مني المصبغ حين يبسط كفه
فبنان كل خريدة كبناني
والماء منه سبائك فضية
ذابت على درجات شاذوران
وكأنما سيف هناك مشطب
ألقته يوم الحرب كف جبان
كم شاخص فيه يطيل تعجبًا
من دوحة نبتت من العقيان
عجبًا لها تسقي الرياض ينابعًا
نبعت من الثمرات والأغصان
خصت بطائرة على فنن لها
حسنت فأفرد حسنها من ثان
قس الطيور الخاشعات بلاغة
وفصاحة من منطق وبيان
فإذا أتيح لها الكلام تكلمت
بخرير ماء دائم الهملان
وكأن صانعها استبد بصنعة
فخر الجماد بها على الحيوان
أوفت على حوض لها فكأنها
منها إلى العجب العجاب رواني
فكأنها ظنت حلاوة مائها
شهدًا فذاقته بكل لسان
وزرافة في الجوف من أنبوبها
ماء يريك الجري في الطيران
مركوزة في الرمح حيث ترى له
من طعنة الحلق انعطاف سنان
وكأنها ترمي السماء ببندق
مستنبط من لؤلؤ وجمال
لو عاد ذاك الماء نفطًا أحرقت
في الجو منه قميص كل عنان
في بركة قامت على حافاتها
أسد تذل لعزة السلطان
نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها
فلذلك انتزعت من الأبدان
وكأن برد الماء منها مطفئ
نارًا مضرمة من العدوان
وكأنما الحيات من أفواهها
يطرحن أنفسهن في الغدران
وكأنما الحيتان إذ لم تخشها
أخذت من المنصور عقد أمان
كم مجلس يجري السرور مسابقًا
منه خيول اللهو في ميدان
يجلو دماه على الخدود ملاحة
فكأنه المحراب من غمدان
فسماؤه في سمكها علوية
وقبابه فلكية البنيان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤