الفصل التاسع عشر

جلاء المسلمين وتنصيرهم

لما استولى العرب المسلمون على الأندلس لم يكرهوا أحدًا من سكان البلاد الأصليين على الدخول في دينهم؛ بل أظهروا التسامح المقبول الذي يأمرهم به الدين الحنيف، وأطلقوا للناس حريتهم في ذلك، فكان الإسبانيون يدينون بالإسلام برضاهم.

فعهد العرب إذًا في الأندلس كان عهد تسامح وحرية، لم تعهده من قبل ولا من بعد، ولم يمنع عن بث الدين المسيحي إلا دعاته المفرطون، ممن كانوا يقفون على أبواب المساجد والجوامع، ويدعون المسلمين إلى دينهم، ولا جوزوا أخذ مال أحد من أهل ذمتهم؛ بل اكتفوا بجزية بسيطة، وساووهم في جميع الأمور بأنفسهم.

مثال من لطف الحكم تعلمه الفاتحون من كتابهم فلم يحيدوا عنه قيد غلوة، وهم في عز سلطانهم، والقول الفصل في الأرض كلها لهم ولقومهم مدة قرون طويلة.

هكذا فعل العرب في إبان قوتهم، فانظر ماذا صنع الإسبان يوم قوي سلطانهم، وكيف عاملوا العرب نقلًا عن شاهد العيان قال: لما استولى صاحب قشتالة على مدينة بلش عام اثنين وتسعين وثمانمائة، ودخلت في ذمته جميع القرى التي تلي بلش وقرى جبل منتميس وحصن قمارش خرج أهل بلش من بلدهم مؤمنين، وحملوا ما قدروا على حمله من أموالهم؛ فمنهم من جوزه العدو إلى أرض العدوة، ومنهم من أقام في بعض تلك القرى، ومنهم من صار إلى أرض المسلمين التي بقيت بالأندلس.

ولما استولى الغالبون على مدينة مالقة وبلش وجميع الجهات لم يبق للمسلمين في تلك الناحية ملجأ، وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو نحو حصون الشرقية، وكانت في صلحه فاستولى على تلك الحصون كلها، وفي سنة ٨٩٤ خرج نحو حصن موجر فاستولى عليه وعلى الحصون القريبة منه ومن مدينة بسطة.

وكان صاحب قشتالة كثيرًا ما يستعين بالمرتدين والمدجنين على قتال المسلمين يدلونه على عوراتهم، ولطالما أمر بهدم المدن والقرى التي يستولي عليها يبني بأنقاضها مسورات في بضعة أيام كما فعل في غرناطة، ومن جملة الشروط التي شرط أهل غرناطة على ملك قشتالة: أن يؤمنهم في أنفسهم ونسائهم وصبيانهم ومواشيهم ورباعهم وجناتهم ومحارثهم وجميع ما بأيديهم، ولا يغرمون إلا الزكاة والعشر لمن أراد الإقامة ببلدة غرناطة، ومن أراد الخروج منها يبيع أصله بما يرضاه من الثمن لمن يريده من النصارى والمسلمين من غير غبن، ومن أراد الجواز لبلاد العدوة بالغرب يبيع أصله، ويحمل أمتعته، ويحمله في مراكبه إلى أي أرض أراد من بلاد المسلمين من غير كراء ولا شيء يلزمه لمدة ثلاث سنين، ومن أراد الإقامة من المسلمين بغرناطة فله الأمان على نحو ما ذكر، وكتب لهم بذلك كتابًا، وأخذ عليه عهودًا ومواثيق في دينه مغلظة، وبعد ذلك أخلى المسلمون مدينة الحمراء كما أخلوا غرناطة، ودخلها الإسبانيون، ولما سمع أهل البشرة أن أهل غرناطة دخلت تحت ذمة النصارى أرسلوا بيعتهم إلى ملك الروم، ودخلوا في بيعته، فلم يبق للمسلمين موضع بالأندلس.

ولقد صرح صاحب قشتالة للمسلمين بالجواز إلى الساحل، فصار كل من أراد الجواز يبيع ماله ورباعه ودوره، فكان الواحد يبيع الدار الكبيرة الواسعة المعتبرة بالثمن القليل، وكذلك يبيع جنانه وأرض حرثه وكرمه وفدانه بأقل من ثمن الغلة التي كانت فيه، فمنهم من اشتراه منه المسلمون الذين عزموا على الدجن، ومنهم من اشتراه منه النصارى، وكذلك جميع الحوائج والأمتعة، ومن المسلمين من ظلموا في عناية ملك النصارى بهم فاشتروا أموالًا رخيصة وأمتعة، وعزموا على المقام في الأندلس.

ثم إن الملك أمر الأمير محمد بن علي بالانصراف من غرناطة إلى قرية أندرش من قرى البشرة، فارتحل بعياله وحشمه وأمواله وأتباعه، ثم ظهر له أن يصرفه فبعث للمراكب تأتي لمرسى عذرة، واجتمع معه خلق كثير ممن أراد الجواز، فركب الأمير محمد ومن معه في تلك المراكب حتى نزلوا مدينة مليلة ففاس من عدوة المغرب.

وأخذ ملك الإسبان بعد حين ينقض الشروط التي اشترطها عليه المسلمون، وشرع يفرض عليهم الفروض، وثقلت عليهم المغارم، وقطع لهم الأذان، وأمرهم بالخروج من مدينة غرناطة إلى الأرباض والقرى، وبعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه، وذلك سنة أربع وتسعمائة فدخلوا في دينه كرهًا، وصارت الأندلس كلها نصرانية، وامتنع بعض أهل الأندلس من التنصر كأهل قرية ونجر والبشرة وأندرش وبلفيق فأحاط بهم ملك قشتالة وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأخذ صبيانهم وسلب أموالهم ونصَّرهم واستعبدهم، وامتنع أناس في غربي الأندلس من التنصر، وانحازوا إلى جبل وعر منيع، فلما امتنعوا عليه وقاتلهم فلم ينل منهم منالًا أعطاهم الأمان على أن يجوزهم لعدوة المغرب مؤمنين على أن لا يسرح لهم شيئًا من أموالهم غير الثياب التي كانت عليهم، وجوزهم لعدوة المغرب كما شرطوا، ولم تقم للإسلام والمسلمين بعد ذلك قائمة.

قال السلاوي: التزم أهل غرناطة طاعة صاحب قشتالة لما استولى عليها سنة سبع وتسعين وثمانمائة، والبقاء تحت حكمه، ولما نقض الشروط وهي سبعة وستون شرطًا عروة عروة ومنها شريعة المسلمين على ما كانت، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، إلى أن آل الحال لحملهم على التنصر فتنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وكان أهل الأندلس كثيرًا ما يهاجرون إلى بلاد الإسلام غير أن عامتهم كانوا قد تخلقوا بأخلاق العجم (غير العرب من الإسبان) وأثر فيهم ذلك أثرًا ظاهرًا؛ لطول صحبتهم لهم، ونشأة أعقابهم بين أظهرهم إلى أن كانت سنة ست عشرة وألف فهاجر جميع من لم يتنصر منهم إلى بلاد المغرب وغيرها، وفي خلال ذلك منع العرب من التكلم بالعربية.١
قال المقري: كان النصارى بالأندلس قد شددوا على المسلمين بها في التنصر حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغير فضلًا عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارًا، ولم يقيض الله لهم ناصرًا إلى أن كان إخراج النصارى إياهم أعوام سبعة عشر وألف؛ فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان ووهران، وخرج جمهورهم بتونس، وخرج طوائف بتطاوين وسلا والجزائر، وعمروا القرى، واغتبط بهم الناس، وتعلموا حرفهم، وقلدوا ترفهم٢ ووصل جماعة منهم إلى القسطنطينية وإلى مصر والشام، وغيرها من بلاد الإسلام.
هذا ما رواه مؤرخو العرب، وإليك ما قاله مؤرخو الإفرنج في هذه الكارثة: جاء في التاريخ العام للأفيس ورامبو: صحت النية سنة ١٦٠٩ على نفي العرب Les morisques وكانوا يؤلفون عنصرًا خاصًّا عصي على التمثل، ولم ينزل عن مشخصاته ومميزاته على كثرة ما بذل فيليب الثاني من الجهد فوقع الاتفاق على التذرع بكل ما يمكن لإهلاكهم، فعمدت الحكومة إلى الخروج عن القانون بدعوى قيامها بما فيه سلامتها، ولإنجاز وحدة إسبانيا، وإنقاذ البلاد من أولئك المخالفين سرًّا للأتراك والإنجليز والفرنسيين، على حين اشتدت شوكة قرصان البحر من البربر، وهنري الرابع يضع خططه السرية؛ فحاذت إسبانيا العواقب، وقام رئيس أساقفة بلنسية يدعو إلى طرد العرب مدعيًا أن منهم تسعين ألفًا يستطيعون حمل السلاح، وإذا غار على إسبانيا عدوها تسوء حالها، ويحرج موقعها، وإذ كان القشتالي كسلانًا فقيرًا كان يكره من العرب منافستهم الشديدة له التي أكسبتهم غنى بفضل اقتصادهم، نادى رئيس الأساقفة أن مما يخشى منه أن يحتكر هؤلاء العرب جميع ثروتنا، ويؤدوا بالمسيحيين إلى العدم والشقاء، وقال غيره: إنهم يدخرون على الدوام، وعملهم عبارة عن سرقتنا، فهم الدودة التي تقرض إسبانيا.

وعلى هذا كان من التعصب الديني أن قضي على العرب، ولما تعذر تنصيرهم رأوا أن الطريق الوحيد إلى الخلاص من خطرهم المادي والمعنوي يكون بطردهم، فقوي نفوذ رجال الكهنوت على ممثلي طبقات الأشراف في البلاد، وكانت عقول هؤلاء أكثر استنارة يحرصون على الاحتفاظ بالعرب في بلادهم؛ لأنهم عاملون ينفعونهم بعملهم، ويدرون عليهم ريعًا كبيرًا، فقاموا ينكرون الشدة التي ارتأى أن يعمد إليها المجلس والحبر نديم الملك، فلم يلبث بقايا العرب في بلنسية والأندلس ومرسية وقشتالة وأرغون وكتلون أن غربوا (أيلول ١٦٠٩-تموز ١٦١٠) وحملوا إلى إفريقية حيث هلك عدد كبير منهم، وثار أربعون ألفًا منهم فاعتصموا في جبال بلنسية فذبحوا أو استعبدوا، ففقدت إسبانيا بهم على أقرب تقدير من خمسمائة إلى ستمائة ألف من أحسن العاملين في الزراعة والصناعات، وعجلت بذلك خرابها، وبعملها هذا ابتاعت وحدتها الدينية بالثمن الغالي، وفرح الرأي العام الإسباني إذ ذاك بما تم في هذا الشأن، وعدوه من أعظم الأعمال التي قامت في عهد ملكهم، ومنهم من رأوه نعمة من السماء! وقال مؤرخ إسباني: يا لسعادة ملك توفق إلى أن يعمل هذا العمل من طرد العرب، ولكن الأمم خارج إسبانيا عدوا عمل الإسبانيين من تغريب العرب جنونًا؛ بل وصفه ريشليو بأنه أفظع عمل بربري ذكره تاريخ القرون.

وفي التاريخ العام أيضًا أن خضوع العرب في إسبانيا قد أقلق ملوك الكاثوليك٣ وفتح أمامهم مسألة تطالوا إلى حلها بما عهد في عنصرهم من المضاء الوحشي، وبما اشتهرت به قرون التدين من التعصب، وعدم التسامح، فرأوا أن بعض مئات الألوف من الإسرائيليين والمسيحيين يكثرون سواد المخالفين، وهم كثير نسلهم لا يعلم ماذا يكون منهم، وهم على ما هم فيه من النمو يغتنمون ويعملون، فاشتد القلق من قوم يخالفون الإسبانيين بحضارتهم؛ بل يعجبون بها ولهم ميول وعقائد وعواطف تخالف ما عليه الجمهور، فبدءوا بالإسرائيليين حتى إن مايكل لوكاس أعظم سادات قشتالة ذبحه سكان حيان أمام المذبح في الكنيسة سنة ١٤٧٣ لاتهامه بالعطف على الإسرائيليين.
وكان من مذابح سنة ١٣٩٠ أن اضطرت ألوف من اليهود في معظم مدن قشتالة أن يتنصروا، ومنهم من دام على نصرانيته، ومنهم من رجع إلى دينه الأصلي أو كان ظاهره مسيحيًّا وقلبه وعاداته قلب إسرائيلي وعاده، وكان منهم طبقة غنية محترمة، وفي سنة ١٤٨١ وقع تخييرهم بين التنصير والجلاء فآثروا الثاني إلا أن ديوان التفتيش لم تأخذه بهم رحمة كما لم يشفق على المسلمين سنة ١٤٩٢ فشقوا عصا الطاعة بما رأوه من تعصب الكاردينال كسيمنس٤ الذي عمد إلى تنصيرهم بأبشع الطرق من الحبس والشدة، وأخذ الأولاد، ولما فرغ صبرهم وعمدوا إلى السلاح نقض ما أعطوه من الشروط يوم تسليمهم غرناطة، ولئن فضلوا أن يتنصروا على أن يهجروا بلادهم فإنهم لم يسلموا أيضًا، واشتد ديوان التفتيش في مراقبتهم، وكان الإسبانيون يرون في عمل هذا الديوان الديني سلامة عنصرهم وسلامة دينهم، ولذلك كانوا شاكرين لعمله مهما قسا وغرم.

وقال ريناخ: لم تكتف إسبانيا بما قامت به من المظالم باسم الدين وإحراق البشر وقتلهم وتعذيبهم؛ بل رأت أن توهم الناس أنه لا سبيل إلى قيام وحدتها إلا بنفي اليهود سنة ١٤٩٢ ونفي العرب (١٦٠٩) فسار مئات الألوف منهم يهجرون بلادهم، وهلك منهم في الطرق عشرات الألوف، فحرمت إسبانيا من أحسن العاملين فيها، وفقدت تجارها الماهرين، وأطباءها الحاذقين، وقد قتل في إسبانيا وحدها بفعل ديوان التفتيش الديني نحو مائة ألف إنسان على الأقل، ونفي منها مليون ونصف، وبذلك خربت مدنية تلك البلاد الجميلة.

وقال سيديليو: كان طرد العرب من إسبانيا من موجبات تأخرها كما وقع لمدينة نانت يوم طرد منها من كان مخالفًا للكثلكة فأضر ذلك بالصناعة الفرنساوية، وقد تمكن الكردينال كسيمنس من تعوير جميع آثار المسلمين، وأمر بإحراق ثمانين ألف مخطوط عربي في ساحات غرناطة.

هوامش

(١) لما انقرضت دولة العرب وبقي بعضهم فيها حافظوا على دينهم مع شدة الاضطهاد، ولكنهم نسوا أو ألزموا بإهمال اللغة العربية، وصارت اللغة القشتالية أي الإسبانية ملكة متوارثة فيهم، فكتبوا علومهم بها لكن بحروف عربية وسموها الخميادو Aljamiado ووجه التسمية: أن العرب يسمون كل ما ليس بعربي أعجميًّا، وجرى على منوالهم الأندلسيون فكانوا يسمون اللغة القشتالية أي الإسبانية باسم «الأعجمية» ثم انتقلت هذه اللفظة إلى اللغة الإسبانية بغير حرف العين؛ لعدم وجود ما يقابله في اللغات الإفرنجية فصارت الكلمة مقابل هذا الصوت «الاجاميا» ولما كان أهل إسبانيا يقلبون أغلب الجيمات خاءات قالوا «الاخاميا» أو «الخميا» ورسموها بحروفهم هكذا بعد أن سكنوا حركة اللام Aljamia وعلامة النسبة عندهم do توضع في آخر الكلمة فلذلك قالوا Aljamiado أي الأعجمي. (السفر إلى المؤتمر).
(٢) قال ابن أبي دينار: إن المهاجرين من الأندلس إلى تونس سنة ١٠١٧-١٠١٨ﻫ كانوا خلقًا كثيرًا فأوسع لهم عثمان داي في البلاد، وفرق ضعفاءهم على الناس، وأذن لهم أن يعمروا حيث شاءوا، فاشتروا الهناشير، وبنوا فيها، واتسعوا في البلاد، فعمرت بهم، واستوطنوا في عدة أماكن، وبنوا أكثر من عشرين بلدًا، فصار لهم مدن عظيمة، وغرسوا الأشجار، ومهدوا الطرقات بالكراريط للمسافرين، وصاروا يعدون من أهل البلاد، وذكر السيد حسن حسني عبد الوهاب من علماء تونس في رسالة بالإفرنسية ذكر فيها أصول التونسيين أنه دخل تونس في القرنين ونصف القرن الذي انتهى بها جلاء العرب عن الأندلس لا أقل من مائة ألف أندلسي، وأن الطبقة المتمدنة الغنية من الأندلسيين نزلت مدينة تونس، واختلطت بأهلها، وقلدهم ملوك بني حفص فيها خطط القضاء والإدارة والتعليم.
(٣) يريد ملوك إسبانيا، فإن ملك إسبانيا لا يزال إلى اليوم يدعى في الرسميات صاحب العظمة الكاثوليكي: Sa Majeste, Catholica.
(٤) هو مرشد إيزابيلا الكاثوليكية ملكة قشتالة حكم إسبانيا بعد موت فرديناند الكاثوليكي مات سنة ١٥١٧، وقد كان من أعظم من قضوا على العرب ومدنيتهم على ما مر بك في الفصول السابقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤