الفصل السادس

أهل الأندلس

كان الجيش الذي فتح الأندلس بادئ بدء مؤلفًا من قليل من العرب ومن البربر سكان الغرب الأقصى والأوسط وما إليهما. نزل كل فريق منهم في بقعة فأعمرها، وأقطعهم القواد ما رحل عنه أهله من المزارع والمداشر، وقد فرق الحسام بن ضرار الذي ولي إمارة الأندلس في سنة ١٢٥، وخضعت لسلطانه جميع العرب الشاميين الغالبين على البلد، وأبعدهم عن دار الإمارة قرطبة؛ إذ كانت لا تحملهم، وأنزلهم مع العرب البلديين أي السابقين إلى الأندلس في سنة الفتح سنة ٩٢ للهجرة، والشاميون هم الذين دخلوا سنة ١٢٥. أنزلهم على شبه منازلهم في كور شامهم، وتوسع لهم في البلاد، فأنزل في كورتي أكشونبة وباجة جند مصر مع البلديين الأول، وأنزل باقيهم في كورة تدمير، وأنزل في كورتي لبلة وإشبيلية جند حمص مع الأول أيضًا، وأنزل في كورتي شذونة والجزيرة جند فلسطين، وأنزل في كورة رية جند الأردن، وأنزل في كورة ألبيرة جند دمشق، وأنزل في كورة جيان جند قنسرين أي حلب، وجعل لهم ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمة، وبقي العرب البلديون من الجند الأول على ما بأيديهم من أموالهم لم يعرض لهم في شيء منها. فلما رأوا بلادًا شبه بلادهم خصبًا وتوسعة سكنوا واغتبطوا وتمولوا.

قال ابن الخطيب: أنزلوا القبائل الشامية في كور على شبه منازلهم التي كانت في كور شامهم، وجعل لهم ثلث أموال أهل الذمة طعمة، وبقي العرب والبلديون والبرابرة شركاءهم، وسكنوا واغتبطوا وكبروا وتمولوا إلا من كان نزل منهم لأول قدومه موضعًا رخيًّا فإنه لم يرتحل وسكن به مع البلديين، وحكى غيره أنه نزل في ألبيرة من كان قدمها من جند دمشق من مضر، وجلهم قبس وأفناء قبائل العرب، ونزل رية جند الأردن، وهم يمن كلهم من سائر البطون، ونزل شذونة جند حمص، وأكثرهم يمن، وفيهم من نزار نفر يسير، ونزل مدينة الجزيرة البربر وأخلاط من العرب قليل في حيان جند قنسرين والعواصم، وهم أخلاط من العرب من معد واليمن، ونزل قبائل البربر مدينة بلنسية.

وما عدا قبائل العرب والبربر الذين تفرقوا في بلاد الأندلس على ما رأيت كان فيها أخلاط من الشعوب من رومان وغوط ومهاجرة من أقطار شتى، فامتزجوا كلهم في بودقة واحدة. قال هوار: ولما أصبح عبد الرحمن ملكًا على جميع إسبانيا الإسلامية (٣٢٠ / ٩٣٢) استند لقتال طبقة الأشراف من نسل العرب المهاجرين على الإسبانيين الذين دانوا بالإسلام، وعلى كثير من الإسرائيليين والمسيحيين، فتوصل بذلك إلى جعل الكل أمة واحدة عرفت في الشرق باسم الأندلس.

ولقد استمرت قبائل العرب الشاميين «في غمار من الروم يعالجون فلاحة الأرض وعمران القرى يرأسهم أشياخ من أهل دينهم أولو حلكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية اللازمة لرءوسهم»، فاحتفظ العرب بسكان البلاد الأصليين، وهيَّئُوا السبل لدخول المهاجرين إليها من المسلمين على اختلاف عناصرهم ومن غيرهم، فأسلم كثير من أهل البلاد، واختلطت أنسابهم بأنساب العرب، وكان المغلوبون يقلدون الغالبين لأول الأمر في مناحيهم وعاداتهم شأن المغلوب مع الغالب، قال فوليه: بعد أن حكم العرب إسبانيا قرونًا دخلتها كمية وافرة من الدم الإفريقي، فكان ذلك من موجبات ارتقاء العقل في إسبانيا، ومزج الدم الإسباني بالدم العربي هو ولا شك من جملة الأسباب التي تحمل بالإسبان على اختلاف أصقاعهم إلى الطموح إلى العظائم ومراتب الشرف. ا.ﻫ.

ولما دب الضعف في الأندلس أصبح العرب يتشبهون بجيرانهم من الإفرنج. روى المقري: أن بني الأحمر كثيرًا ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم، وذكر ابن خلدون أوائل المائة التاسعة أن أهل الأندلس يتشبهون باسم الجلالقة «في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء»، فبعد أن كان القشتاليون والجلالقة — دع أبناء الأندلس من غير المسلمين — يتشبهون بالعرب أصبح هؤلاء في أواخر أيامهم يتشبهون بهم شأننا اليوم مع أمم الغرب نقلدهم في أزيائهم ولباسهم وعاداتهم، ونفسح المجال لكل ما ينفقونه علينا من بضائعهم العلمية والاجتماعية سنة الله في الضعيف مع القوي.

امتزج المستعربة Lesmozarabes أو المسيحيون الذين يتكلمون بالعربية في الأندلس بالقادمين عليها، فلقي المعاهدون منهم رعاية من الفاتحين اللهم إلا في الأدوار التي كانوا يكيدون فيها للمسلمين ويخرجون عن الذمة، فإن الفقهاء كانوا يفتون بتغريبهم وإجلائهم عن أوطانهم، وقد أجاز منهم يوسف بن تاشفين إلى بر العدة «عددًا جمًّا أنكرتهم الأهوار، وأكلتهم الطرق، وتفرقوا شذر مذر، على أنه لم يقع شيء من هذا القبيل إلا في النادر؛ لأن العرب كانوا يحرصون على بقاء أهل البلاد فيها ليعمل التطور عمله، فيسلم من يسلم مع الزمن منهم، أو يعطي الجزية ويتعلم العربية فتخف الفوارق بينه وبين عصبية الفاتح.»

فمن ثم ساغ لنا أن نقول: إن أهل الأندلس لم يكونوا كلهم من نسل العرب؛ بل كان منهم العرب، قال صاحب فرحة الأنفس: أهل الأندلس عرب: في الأنساب والعزة والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية … هنديون: في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم. بغداديون: في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم. يونانيون: في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر؛ فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع، وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب، وقال ابن حزم: إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية. تركيون: في معاناة الحروب ومعالجة آلاتها والنظر في مهماتها، وقال ابن بسام: في جزيرة الأندلس أشراف عرب المشرق افتتحوها، وسادات أجناد الشام والعراق نزلوا، فبقي النسل فيها بكل إقليم على عرق كريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤