الفصل العاشر

إلى الأقطار الشقيقة

وبعد أن مكث السيد ناجي صبيح يعمل معنا حينا، تناول أجرة العودة إلى القطر الشقيق وما كاد يستقر هناك، حتى وصلتني منه رسالة يستحثني فيها على السفر فورا مع أفراد الفرقة، للقيام برحلة في سوريا ولبنان. ولم ينس السيد ناجي أن يفهمني بأن في انتظارنا هناك سمنا وعسلا، وأن الفرصة سانحة ستفلت من أيدينا إذا لم ننتهزها عاجلا. وإنما الذي نسي الإشارة إليه هو أنه سوف يخبطنا طبنجة يخطف بها روحنا إذا امتنعنا عن السفر!

وصادف أن حضر إلى مصر في ذلك الحين الوجيه (خضر النحاس)، وهو من أنشط رجال الأعمال في الأقطار الشقيقة، وقد وافق على أن يتعهد بنشاطه المعروف رحلتي، وتلطف فدفع مبلغ مائتي جنيه كعربون أو كدفعة أولى تحت الحساب.

وقمنا إلى فلسطين أولا فنجحنا فيها والحمد لله، ثم واصلنا السير إلى لبنان وسوريا، ولكن للأسف لم نر ما كنا نأمل فيه من نجاح مادي، إذ اقتصر الأمر على النجاح الأدبي، وهو وحده «ما يأكلش عيش!» والغريب أننا كنا نرى التياترو مليئا بالجماهير، فإذا عدنا للإيراد تبين أنه لا يزيد عن العشرين جنيها أو ما حواليها صعودا وهبوطا.

وحتى لا أطيل في شئون هذه الرحلة أكتفي بالقول إنني عدت منها مدينا للسيد خضر النحاس بالعربون الذي دفعه، وهو الـ ٢٠٠ جنيه، ولعله يستحق مني أن أسجل له في هذا المقام فضلا لست أنساه، ذلك أن هذا الدين ظل في عنقي أمدا طويلا، بحيث لم يسدد إلا بعد مدة طويلة. وهذا ما يحملني على أن أجدد للسيد خضر شكري، لأنه يا سادة يا قراء عمل بأصله صحيح.

عملي في السينما

وعدنا من رحلة الأقطار الشقيقة للاستعداد لموسم سنة ١٩٣١. وبينما أنا في التفكير زارني استيفان روستي ومعه المصور السينمائي المعروف (كياريني)، وعرضا علي الاشتراك معهما في إخراج فيلم (صامت) إلا أنني اعتذرت لهما بأن أعمالي المسرحية من الكثرة بحيث تحول بيني وبين ما يرميان إليه، ولكنهما لم يقنعا بهذه الإجابة. وكلما أبديت لهما الأعذار، زادا في الإصرار. وأخيرا قبلت، واتفقنا على إخراج فيلم أطلقنا عليه اسم «صاحب السعادة كشكش بك».

وقد كان غريبا أن نبدأ العمل فيه دون أن نضع له فكرة معينة، أو نكتب له سيناريو محدد المناظر والوقائع. وكل ما هنالك أننا كنا نخرج في السادسة صباحا دون أن ندري ما سنفعل، حتى إذا جلست لتركيب لحية كشكش، بدأت أفكر في المناظر التي نصورها وفي الحوادث التي نمثلها. فإذا انتهيت من تركيب اللحية أكون قد انتهيت من تفكيري فنبدأ في التنفيذ، يعني في التصوير.

وتكلف فيلم «صاحب السعادة كشكش بك» أولا عن آخر مبلغا وقدره أربعمائة جنيه مصري فقط لا غير. يعني أننا أخرجناه بتراب الفلوس، ومع ذلك فقد نجح وجلب فلوس، وأقبل الجمهور على مشاهدته إقبالا لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا.

مأزق حرج

وافتتحنا موسم سنة ١٩٣١ التمثيلي برواية «أموت في كده». وفي هذا الحين بدأت الحكومة (تحت ضغط الرأي العام) تهتم بالمسرح، فتألفت في وزارة المعارف لجنة من أفاضل العلماء والأدباء، وكانت مهمتها الإشراف على ما تخرجه المسارح من الروايات، وتخصيص إعانات تتناسب مع مجهود كل فرقة، وأثرها في تقدم هذا الفن في البلاد.

ندع هذا جانبا لنذكر حادثة طريفة وقعت حين إعداد رواية «أموت في كده». كان المرحوم إسماعيل (بك) شرين مديرا لإدارة المطبوعات، وكان يرأس لجنة ينحصر اختصاصها في مشاهدة تمثيل الروايات قبل عرضها في المسارح، وكان رحمه الله من أشد المعجبين بفرقتي ومجهودات العبد لله المتواضعة في خدمة فن التمثيل. ولما كنت لا أجد غضاضة في التصريح بنقائصي وعيوبي، فإنني أعترف بأن الفصل الثالث من كل رواية جديدة تظهر على مسرحي لا يتم تأليفه إلا في يوم ظهور الرواية. واديني عقلك بقى … متى نستطيع إجراء البروفة له مثنى وثلاث ورباع ومش عارف كام؟!

فلما انتهينا من بروفات الفصلين الأول والثاني على ما يرام بدأنا (بديع وأنا)، نضع فكرة الفصل الأخير، ونرتب حوادثه، وكنا قد حددنا يوم ظهور الرواية، حتى إذا جاء الموعد لم يكن الممثلون قد رأوا أدوارهم في هذا الفصل، بل لم أكن قرأته لهم. وفي الساعة الثانية بعده ظهر ذلك اليوم شرفت لجنة إدارة مطبوعات المسرح وعلى رأسها المرحوم شرين (بك).

ومثلنا أمامها الفصل الأول على ما يرام، وتبعه الفصل الثاني على ما يرامين: كل ذلك واللجنة مغتبطة مستريحة. وأسدل الستار وجاء أوان عرض الفصل الثالث، وهو على ما وصفت، فما العمل؟ يقولون في الأمثال إن الحاجة تفتق الحيلة، فلتسعفنا الحيلة إذن! توكلنا على الله ورفعنا الستار بين استحسان السادة الأماجد أعضاء اللجنة، وابتساماتهم العريضة وأذهانهم المهيأة لسماع بقية ما رأوا من فكاهات الفصلين السابقين.

وكان حسين إبراهيم يمثل دور امرأة من النوع «القباقيبي المصفح»، فلما رفع الستار ظهر حسين على المسرح يتمخطر في الملاية والبرقع، وما كاد ينطق جملة واحدة حتى سقط مغشيًّا عليه، وتقدمنا جميعا لإسعافه، وشاركنا في هذا الإسعاف أعضاء اللجنة، جزاهم الله عن المروءة كل خير! ولم يكتفوا بهذه المعاونة الشخصية، بل خرج واحد منهم يعدو في الخارج باحثا عن طبيب. ورأى المرحوم شرين (بك) ألا يرهقنا بتمثيل الفصل الثالث أمام اللجنة، مكتفيا بالفصلين الأول والثاني، وتفضل رحمه الله بالتصريح بالرواية كلها! ولم أنس أن أشدد عليه في التريث لحظة حتى يفيق حسين إبراهيم، فنستأنف التمثيل! ولكنه شكر لي ذلك، ونصحني أن نذهب لنستريح بضع ساعات إلى موعد التمثيل مساء!

وخرج رحمه الله مع أعضاء اللجنة، وتركونا — لا للنوم والراحة — لاستئناف الشقاء وإجراء بروفة الفصل الطازة، وليس القارئ بالطبع في حاجة إلى إفهامه أن حسين إبراهيم أفاق في اللحظة نفسها التي غادرت اللجنة فيها المسرح!

لجنة تشجيع التمثيل

قلنا إن وزارة المعارف فكرت في تشجيع التمثيل إذ ذاك بمنح إعانات للفرق، ولذلك كانت اللجنة التي يرأسها الأستاذ العشماوي، بين أعضائها الأساتذة الأدباء مصطفى عبد الرازق، وطه حسين، تزور المسارح مرة في الأسبوع لتشاهد رواياتها وتحكم على قيمتها الفنية.

وكان مسرحي من بين المسارح التي تتشرف بزيارة هذه اللجنة، وكم سمعت من حضرات أعضائها، وخاصة الدكتور طه حسين كلمات الثناء والإعجاب، وكيف أننا نستحق أكثر العطف والتقدير. وزاد الدكتور على ذلك قوله أنه يلمس الصدق في رواياتنا، ومماشاة الطبيعة دون خروج على أوضاعها، أو مغالاة في تصويرها، ذلك بينما يسمع عند غيرنا ألفاظا جوفاء كالطبل صوتها عال، جوفها خال.

وكان أن نلت من المبلغ المخصص في ميزانية المعارف لتشجيع التمثيل في ذلك العام، ثلاثمائة وخمسين جنيها، وكان عدد الفرق التي منحت مكافآت أربع، كانت فرقتي الثالثة من بينها، حسب الترتيب الذي وضع للمكافآت! وما له معلهش، برضه رضا، لأن هذه كانت المرة الأولى التي أحسسنا فيها تقديرا من الحكومة.

على أن أهم ما سررت له هو أن ممثلي فرقتي فازوا جميعا برضاء اللجنة، ونالوا كلهم مكافآت مالية، بنسبة لم ينلها زملاؤهم في الفرق الأخرى. وتناولت الثلاثمائة وخمسين جنيها، وكنت قبل ذلك قد أعددت كشفا بأصحاب الديون المستحقة علي، وقيمة هذه الديون ومواعيد الاقتراض، وشروط السلفيات، وكيفية التسديد، وما إلى ذلك من أمور أخرى. ورحت أسدد بعض هذه الديون بقدر الإمكان، بعد أن راجعت النظريات الاقتصادية القديمة، التي كنت أسمع بها أيام اشتغالي في البنك الزراعي ولا أعمل بها!

على مسرح الكورسال

وبقى لي من المكافأة — بعد تسديد المستحقات — مبلغ ضئيل استعنت به على افتتاح موسم صيفي في كازينو الفانتازيو بالجيزة، أشكر الله كثيرا على نجاحه كما كنت أقدر وأتوقع. وانتهى موسم الصيف وكان في نيتي أن أعود إلى مسرحي في عماد الدين، لولا ما حدث من سوء التفاهم بيني وبين صاحب الملك، فقد كنت أستأجر منه ذلك المسرح الضيق الصغير بمبلغ ألف جنيه في العام، مع أنني كنت أعمل به ستة أشهر سنويا.

ألغي التعاقد إذن بيني وبين صاحب الملك (المسيو عاداه)، ونظرت حولي باحثا منقبا عن مكان أعمل به، إلى أن عولت على استئجار مسرح الكورسال من الخواجة دلباني، وكان إذ ذاك في موضع عمارة عدس، التي تقع الآن عند ملتقى شارعي الألفي وعماد الدين. تعاقدت مع المسيو دلباني، وبقيت مهمة انتقاء رواية الافتتاح. فاجتمعت لجنة التأليف المكونة من شخصين لا ثالث لهما، وهما محسوبكم كاتب هذه السطور، أو الأحرف زي ما يعجبك، والثاني زميله وصديقه وعزيزه الأستاذ بديع خيري.

اجتمعت اللجنة وتناقش «الأعضاء» في الموضع الذي يقع عليه الاختيار، وهل يحسن أن يكون من نوع الكوميدي أو الريفيو أو الفودفيل … أو … أو … إلخ وطرح أحد الأعضاء — وهو العبد لله — فكرة نالت موافقة «الأعضاء بالإجماع»، والإجماع هو بديع وحده طبعا، لأنني لم أقترع ولم أصوت، بصفتي صاحب الاقتراح.

كان قد ظهر في فرنسا أديب شاب اسمه (مارسيل بانيول) وضع رواية أطلق عليها اسم بطلها (توباز)، واختار له أن يكون مدرسا بسيطا في إحدى المدارس … التي مش ولا بد.

قرأت هذه الرواية وقرأت ما استقبلت به من النقاد، وعرفت أنها ترجمت إلى جميع اللغات الحية، ونجحت في البلاد الأجنبية نجاحا لم تصادفه رواية قبلها! ولذلك اقترحت أن نقتبسها ونخرجها على مسرحنا، ونلت موافقة «الأعضاء» بالإجماع كما تقدم.

وإني لأذكر أننا قضينا في مهمتنا هذه (بديع وأنا) أسعد ليالي التأليف التي مرت بنا، وكنا كلما انتهينا في الليل من إعداد جزء منها، قرأناه للممثلين في الصباح فأبدوا كبير إعجابهم ومزيد استحسانهم.

إديني عقلك

أتممت وزميلي بديع اقتباس رواية (توباز) وأطلقنا عليها اسم «الجنيه المصري». ومع أنني أثناء قراءتها لممثلي الفرقة كنت أشعر بدلائل الإعجاب ترتسم على وجوههم، إلا أنني كنت إذا خلوت ببديع، أصارحه بخوفي على الرواية، وإشفاقي من أنها لا تنال شيئا من إقبال الجماهير، أو من الإعجاب بها، لأسباب شتى تتراءى لي!

ولعله من المناسب في هذا المقام، أن أذكر بأن إدارة المطبوعات كانت تضم في ذلك الحين بين موظفيها طائفة وقاك الله شرها. كانت هذه الطائفة تتمتع بعقليات ممتازة! وقاك الله شرها برضه، وإليك عينة من المضايقات التي كان يسببها لنا أولئك السادة المراقبون.

كان المنظر الأول من الرواية عبارة عن فصل في إحدى المدارس الأولية أو الابتدائية، فلما أرسلنا الرواية إلى إدارة المطبوعات لمراجعتها قبل تمثيلها، أشار أحد حضرات المراقبين بأن فيها نقدا جارحا لمدرسة أميرية! ومن أين جاءك يا سيدي أن مدرستنا أميرية؟ وهل ورد على لسان أي واحد من الممثلين أية كلمة يشتم منها تعيين أو تحديد أو حتى تمييز نوع هذه المدرسة!؟ أبدا والله العظيم!

قال المراقب: «صحيح مافيش ما يثبت، ولكن لابد من أن تشيروا إلى أن المدرسة أهلية وليست أميرية» … طيب حاضر … على عيني وراسي! وتبعت ذلك أن سحبت القلم من جيبي وكتبت ما يأتي:

ملحوظة

هذه المدرسة أهلية وليست أميرية! …

وبذلك استراح المراقب، ولم أخسر أنا شيئا لأن هذه الملحوظة لم تنقص من الرواية شيئا، ولم تؤثر في شيء، لأنها مجرد تسجيل في خانة الملحوظات، ولن يتفوه بها أي ممثل فوق خشبة المسرح! ولكن انظر ماذا تكون حالتي إذا نوقشت في مثل هذه الملحوظات كل يوم عدة مرات لا مرة واحدة.

سخرية وزارية!

قلت إنني اقتبست مع زميلي بديع خيري رواية «توباز» وأطلقنا عليها اسم «الجنيه المصري» وافتتحنا موسمنا بالكورسال، وقدمنا لجمهورنا هذه الرواية المقتبسة. ولا تنس أنني وضعت قبل رفع الستار يدي على قلبي أتحسس خفقاته بعد أن سلمت أمري لله من قبل ومن بعد.

كان إيراد الليلة الأولى ثلاثين جنيها، ثم تقهقر في الليلة الثانية إلى ستة جنيهات، وبعدها أربعة ثم ثلاثة! شايف التعاديل! ثلاثة جنيهات! وأين؟ في تياترو الكورسال الذي كان أكبر وأرحب تياترو في مصر، يعني أن الزبائن الذين جادوا علينا بالجنيهات الثلاثة، ما كانوش باينين فيه! فكان ذلك صدمة لنا وضربة قاصمة لظهورنا من ناحية.

وأريد أن أقرر في هذه المناسبة أنني تلقيت بعض كتب التقدير والتهنئة من أقلية صغيرة من حضرات الأدباء والمثقفين، الذين راقت الرواية في نظرهم، أو الذين اطلعوا من قبل على أصلها الفرنسي. ولكن أين لمثل هذه الأقلية أن تظهر أمام تيار الأغلبية الجارف. الذي ثار في وجه الرواية ووقف منها موقفا … ربنا ما يوري عدو ولا حبيب!

ولما لم تفلح الرواية في القاهرة، أردت أن أرى أثرها في غيرها. فقصدت إلى المنصورة، ولكن شعبها — الله يصبحه بالخير — لم ير فيها غير ما رآه القاهريون، بل قل إنهم كانوا شرا عليها من زملائهم هنا. فقد قابلوها مقابلة كلها هزؤ وزراية واستخفاف! وإني لا أزال أحتفظ إلى اليوم بخطاب وصلني من طالب بالمنصورة، يخلع علي فيه من النعوت أشنعها ومن الشتائم أقذعها، وهو فضلا عن ذلك يحذرني العودة إلى المنصورة بعد هذه «العملة» السودة! والعملة هي بالطبع تمثيل رواية «الجنيه المصري»! وانسدت في وجهي السبل، وانهار الأمل بعد أول محاولة قصدت إليها، فجلست قبالة بديع وتركنا لأفكارنا العنان، عسى الله أن يفتح علينا بالفرج بعد الضيق.

انتقام

الرواية قطعة فنية رائعة، لا في ترتيب حوادثها فقط، بل وفي المنطق السليم الذي عولجت به الوقائع وانتهت إليه النتائج! فما الذي حاق بالرواية يا ترى؟ وما الذي أنزلها إلى هذا الدرك في نظر جمهورنا، الذي شهدنا له بالتفوق في الإدراك والسمو في الفهم؟

لم أدر علة ذلك، وإن كنت أستدرك فأذكر أننا أعدنا في الموسم الأخير (أي في هذا العام) تمثيلها على مسرح رتيز، كتجربة نرى من خلالها هل لا تزال حافظة مكانتها المقندلة في نفوس الجمهور؟ أم أن الأفكار تغيرت نحوها؟ وقد راعنا أنها نجحت نجاحا لم نكن نتصوره، بل لم نكن نقدره.

ما علينا. نعود إلى أيام زمان فأقول إننا حين يئسنا من «الجنيه المصري»، هدانا التفكير إلى طريق فيه شيء من اللعب على الجمهور، بل قل من الانتقام منه. ذلك أننا جمعنا بعض الراقصات وأعددنا جملة مشاهد فكاهية، حشرنا بينها عدة نكات وهزليات، وأطلقنا على هذا العبث اسم رواية «المحفظة يا مدام»، فجاءت بعون واحد أحد، أسخف ما وضعنا في عالم التمثيل من مهازل، وأحط «ما جادت» به قرائحنا (بديع وأنا) مدة اشتغالنا بالمسرح!

«المحفظة يا مدام» رواية — كما سميناها — لا في العير ولا في النفير، فلن تجد لها معنى ولا مغزى ولا … ولا … على آخره … أو إلخ … زي الناس ما بيكتبوها!

كان هذا حال الرواية في نظرنا، أما في نظر الجمهور، فقد كان شباك التياترو خير شاهد على التقدير والاستحسان. ويكفي أن أذكر أن الإيراد ضرب لفوق، وبدأنا لأول مرة في الكورسال نشاهد الأرقام القياسية التي حرمتنا رواية «الجنيه المصري» منها، بل وأنستنا إياها! وكم كنت أسمع أناسا يقولون أثناء انصرافهم عقب مشاهدة البتاعة اللي اسمها «المحفظة يا مدام»: «أيوه … آدي الرواية والا بلاش … مش الجنيه المصري».

إعانة الحكومة

أريد هنا أن أذكر بأن وزارة المعارف كانت تشترط إخراج ثلاث روايات جديدة على الأقل في أثناء الموسم، وإلا فلا إعانة ولا يحزنون وكانت فرقتي قد أخرجت اثنتين فقط، هما «الجنيه المصري» و«المحفظة يا مدام». ولم يبق من الموسم إلا شهر أو أقل! فماذا نفعل وكيف نستطيع تأليف الرواية الثالثة وإخراجها وتمثيلها؟

وفي هذه الأثناء تقدم إلينا الأستاذ أمين صدقي برواية جاهزة اسمها «الرفق بالحموات»، فوزعنا أدوارها وأسرعنا في تدريب الممثلين وأخرجنا الرواية، ومع ذلك فقد عاشت أسبوعا واحدا لا غير! وكان أن منحتنا لجنة المعارف الدرجة الرابعة، أي أقل مبلغ منحته لفرقة في هذا العام. وبذلك قد تقهقرنا في نظرها عن العام السابق وسبحان من يغير ولا يتغير.

وانتهى موسم ١٩٣١، وأسدلنا الستار على آخر لياليه. ورحت أعاود بفكري ما انتابني فيه، فتراءى لي أولا ما كان من قسوة الجمهور في معاملة «الجنيه المصري»، وما كان من الحكومة اللي أنزلتني لجنتها درجة بعد درجة إذ كان أملي معقودا على التقدم درجات! أضف إلى ذلك ما كنت أحس به من اضطرابات داخلية يرجع الفضل في أكثرها إلى القلب، وما صدم به من فشل في الحياة الخاصة، وهو ما كنت أبذل جهودي في كتمه عن الناس قاطبة، محتفظا بآلامه لنفسي وحدها.

في شمال أفريقيا

آليت على نفسي أن ألجأ إلى الراحة فترة من الزمن، أستريح فيها لا من عناء الأعداء وألسنتهم، التي كانت في قوارصها أحد من السيف وأشد من العضب، ومضت أيام شعرت بعدها أن ميلي إلى الجمهور العزيز وحبي له، يدفعني إلى العودة لمفاجأته. ورغم ما لقيت منه من عنف وظلم، فإن ميلي له لم يتخلله وهن ولا ضعف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعب سريع النسيان، فما هي إلا أن يغيب عن ناظره الشخص فترة حتى يدرجه في قائمة المنسيين، وحتى يصبح وكأنه لم يكن بالأمس ملء العين والأذن.

وكانت هذه العوامل سببا في أن أفكر في العودة إلى الظهور سريعا وكان أن تقدمت إلى إدارة كازينو الفانتازيو بالجيزة للعمل به شهرا أثناء الصيف، فمددت يدي مستريحا إلى ذلك. ويهمني هنا أن أقول بأنني نلت من عطف عبد الخالق مدكور (باشا) صاحب الكازينو ومن محبته ومعونته، ما لا أزال أذكره بالشكر والحمد الوافر. وأمضيت شهر الفانتازيو على خير ما أريد. فنجحت كما أؤمل، وعادت أواصر المودة بيني وبين الجمهور سيرتها الأولى. وكأن الذي جرى ما كان. ويا دار ما دخلك شر.

إلى المغرب

وفي هذه الأثناء قابلت صديقنا (الأستاذ علي يوسف) بعد عودته من بلاد المغرب، وكان قد رحل إليها مع فرقة السيدة فاطمة رشدي كدليل أو بالاصطلاح الفني (امبرزاريو) … وراح يصف لي مقدار محبة القوم هناك لفن التمثيل، وشغفهم به، وكيف أنهم لا يضنون بأموالهم في سبيل مشاهدته. ثم أضاف إلى ذلك أنني إذا قصدت إلى بلاد المغرب، عدت منها مملوء الوفاض بأموال تحتاج في حصرها وعدها إلى حنكة صرافي بنوك العاصمة مجتمعين!

ولقيت أقوال علي يوسف مني نفسا «مفتوحة» وجيوبا «برضه مفتوحة»! فعزمت عزما صادقا على الرحيل كي أدلي بدلوي في دلاء هذه الثروة القريبة المنهل، السهلة المنال، وبدأت في تأليف فرقتي وكنت إذ ذاك في حاجة إلى مطربة تقوم بالأدوار الأولى في رواياتي، وتمثل الأدوار التي كانت تضطلع بها السيدة بديعة مصابني، التي خلا محلها منذ عهد طويل، فطوى معها كثير من الروايات التي كانت هي البطلة فيها.

وبعد البحث تمكنا من الاتفاق مع المطربة حياة صبري، التي كانت فيما قبل تلميذة لفقيد الموسيقى الشيخ سيد درويش، وقام قبلنا إلى بلاد المغرب الأقصى (الامبرزاريو) المحترم علي يوسف. وكانت مهمته أن ينشر الدعاية اللازمة للفرقة، وأن يقوم بحركة الإعلان الكافي لتعريف الناس في تونس والجزائر ومراكش بمكانة الممثلين الذين تضمهم، والممثلات اللواتي يعملن فيها. وعليه إلى جانب ذلك أن يبيع الليالي لمن شاء، أو أن يطبع التذاكر ويوزعها على الراغبين، ثم يرسل إلينا جانبا من المال، نستعين به في الموعد الذي يحدده.

نقول إن علي يوسف قام قبلنا، ومكثنا نحن في مصر نوالي عمل البروفات لجميع الروايات، ونحن نحدث أنفسنا بالخير الوافر الذي ينتظرنا في هذه الرحلة العتيدة.

الممثلة الأولى

وبعد أن قضينا في البروفات شهرا كاملا، انقطعت ممثلتنا الأولى (حياة صبري) عن الحضور، وبحثنا عن علة ذلك فقيل لنا أنها اتفقت مع فرقة أخرى، وإنها لن تكون معنا في رحلتنا المنتظرة! وما العمل الآن ونحن في انتظار برقية من علي يوسف بين لحظة وأخرى، يشير فيها علينا أن نقوم توا إلى المغرب؟

ورجونا حياة دون جدوى، فاضطررنا إلى البحث عن غيرها … وكلما فكرنا في واحدة كعلية فوزي مثلا، قيل لنا إنها اتفقت منذ يومين أو أسبوعين أو ساعتين مع غيرنا للعمل معهم، فيسقط في أيدينا ونعود إلى ندب حظنا السيئ وبختنا اللي زي ما أنت شايف!

والآن، ونحن كالغرقى في محيط بعيد الغور، جاءنا من يحمل إلينا نبأ يتلخص في أن السيدة بديعة مصابني تعرض أن ترافقنا في رحلتنا هذه! بديعة! وماذا يا ترى ساقها إلى طلب ذلك؟

بل ما هو الدافع لها بعد أن هجرت عملنا، ومضت مدة لم تباشره وايانا؟ القصد! فما دامت هي التي تريد، فلنرد نحن ما يكون! واتفقنا مع بديعة والخيرة في الواقع.

كيف الرحيل

وسارت البروفات في طريقها كما كانت، ومضت مدة كنا ننتظر في أثناءها أي شيء من علي يوسف، ولكن لم نسمع عنه نبأ! فماذا حل به يا ترى؟ وإذا كان هناك ما يسوء فهل تبقى أخباره مكتومة مجهولة؟

هناك مثل إنجليزي معناه أنه «إذا لم يكن هناك أي أخبار، فالأخبار خير» طيب صدقنا وآمنا بأن الأخبار خير، ولكن كيف يمكننا الرحيل وليس في أيدينا حتى أجرة القطار من القاهرة إلى بنها؟!

ظللنا ننتظر أن يحن علينا (أبو يوسف) بقرشين من «العرابين» التي تسلمها، ولكن مضت أسابيع وأسابيع ولم نر فيها (ريح يوسف) ولما أكمل في غيابه عنا حوالي الشهرين، يئسنا من الرحلة ومن إتمامها، ورحت أفكر في الطريقة التي أعتذر بها إلى أفراد الفرقة، وأحمل إليهم نبأ حلها شيئا فشيئا. وفيما نحن كذلك، إذا بي أرى علي يوسف شخصيا! علي يوسف بنفسه لا خطاب منه ولا برقية!

– ما الذي جاء بك؟ وما نتيجة عملك؟

– إنني أتيت إلى مصر لأدبر المال اللازم لترحيل الفرقة إلى بلاد المغرب!

– ما شاء الله. والمال الذي ننتظره من هناك يا سي علي! هل تبخر؟

– كلا. ولكن مسرح البلدية تسلم النقود ولم يشأ أن يعطينا شيئا منها حتى تصل الفرقة إلى هناك ويروها رأي العين!

البحث عن ممول

وراح الله يمسيه بالخير يبحث هنا وهناك عن ابن حلال يدخل وإياه في هذه العملية، وكان له صديقان قديمان هما الشقيقان صالح وموريس كريم. وقد حملتهما هذه الصداقة على أن يعثرا لصديقهما هذا على «لقطة» أو زي ما تقول «هدية» في شخص صديق آخر لهما اسمه الخواجة «جياكومو». وما كاد علي يوسف يلتقي به حتى هيأ له البحر طحينة وأفهمه أن قرشه سيتضاعف آلافا مؤلفة، وأن المليم سيصبح بقدرة قادر دهب أحمر بعد الرحلة. وأن من قدم شيء بيداه التقاه.

ووضع الخواجة «جياكومو» يده في محفظته، فخرجت تحمل ثلاثمائة جنيه (جنيه ينطح جنيه) ويسلمها لعلي يوسف قائلا هذا نصيبي كشريك في هذه الرحلة. وبعد أن تأكد أبو يوسف أنه يحمل هذا القدر من المال (ضحك في عبه) على رأي إخواننا المبسوطين! وعاد إلينا وقد تهلل وجهه بشرا، فأعطانا مما أعطاه الله، وأبلغنا أنه سيسبقنا إلى تونس على أن نلحق به بعد إتمام بعض الإجراءات الخاصة بالتأشير على جوازات السفر وما إلى ذلك. فودعناه أحسن وداع، وانتظرنا بصبر نافد موعد الرحيل يا حبايب! وترك الخواجة «جياكومو» أعماله التجارية بالإسكندرية، وجاء للقيام معنا إلى تونس، انتظارا لجمع الأموال الطائلة التي ستدرها الرحلة عليه وعلينا، وعلى الناس أجمعين!

وسبقتنا السيدة بديعة مصابني إلى فرنسا لأعمال سينمائية خاصة، بعد أن اتفقنا على اللقاء في معهد مرسيليا. وبعد أيام قمت أنا على باخرة فرنسية وقصدت مرسيليا توا.

أما أفراد الفرقة ومعهم الخواجة «جياكومو»، والزميل العزيز الأستاذ بديع خيري فقد اختار لهم علي يوسف قبل سفره من باب الوفر والاقتصاد باخرة (على قد الحال)، تسير إلى الإسكندرية لبورسعيد لبيروت لأثينا … إلى … إلى أن تصل مرسيليا بعد عمر طويل! … هذا إذا وصلت في سنتها.

الباخرة التائهة

وقامت هذه الباخرة قبل باخرتي بأيام، وكان المفروض أن تصل بعدي بيومين، فلما وصلت انتظرت يوما ويومين وأسبوعا وأسبوعين ولكن اشتد قلقي إذ لم تصل الباخرة ولم يصلنا عنها أي خبر!

سألنا في إدارة الشركة التي تتبعها الباخرة وفي جميع إدارات شركات الملاحة الكبرى والصغرى كمان، ولكن للأسف كنا نسمع جوابا واحدا، معناه بالعربي الذي يفهمه المعلم «دؤدؤ» وأفهمه أنا وأنت … أن العلم عند الله!

طبعا العلم عند الله يا بني آدم أنت وهو، لكن احنا كمان عاوزين يكون عندنا علم … نعمل إيه؟ لست أحاول شرح حالتي النفسية وما انتابني من آلام طيلة هذه الأيام.

فقد فقدت الأمل في لقاء أعزائي وأصدقائي الذين شاركوني في حلو الحياة ومرها، فلعنت علي يوسف، ولعنت الساعة التي أشار فيها بهذه الباخرة المقصوفة الرقبة! ولقيت بديعة مصابني، فحملت معي نصيبا من البحث.

وأخيرا وبعد أن كاد اليأس يقطع خيوط الأمل الدقيقة، عرفنا أن إصابة بالطاعون ظهرت في أحد ركاب الباخرة بأثينا، فأخرجوا الركاب جميعا وحجزوهم في «كردون». وكان هذا سبب التأخير. وبعد انتهاء أيام الحجر الصحي استأنف الركاب سفرهم إلى مرسيليا، وبينهم زملاؤنا الأعزاء الذين فرحنا بلقائهم فرحا لا يوصف.

وهنا أرى أن أسرد قليلا مما قصوه علينا في محنتهم هذه. فقد ذكروا أن الأطباء كانوا يجرون الكشف علينا يوميا، وكانوا يأمرونهم بخلع كل ما عليهم من ملابس. أما في مواعيد تناول وجبات الطعام … فقد كانوا يلقون إليهم المأكل من بين قضبان حديدية، بحيث لا تلمس أيديهم يد أحد من نزلاء «الكارنتينا» أو «الكردون» الذي كان محاطا من جميع نواحيه بالأسلاك الشائكة وخلفها هذه القضبان الحديدية.

وأخيرا تونس

والآن نترك باخرة «الطاعون» ونحمد الله الذي نجى زملاءنا منها، فنقول إننا أخذنا باخرة أخرى من مرسيليا إلى تونس. ولا أطيل عليك القول، فأقول إننا وصلنا إلى ثغر «بيزرت» فاستقبلنا أهلها الأكرمون استقبال الفاتحين ورأينا الموسيقيين يدقون الطبول والزمور، وشاهدنا مندوبي الجمعيات الخيرية يحملون إلينا الأزهار، والشعراء ينثرون أمامنا القصائد من كل البحور، وخطب الترحيل تتلى علينا من هنا ومن هناك بشكل لم نر له مثيلا من قبل.

شاهدت كل ذلك فقلت: اللهم إني أسألك أن تجعل الخاتمة خيرا، وأن لا تسئنا يا ربي في عملنا، ولا تخيب رجاءنا يا أكرم الأكرمين.

وراحت السكرة ثم جاءت الفكرة. كان علي يوسف — وآخ من علي يوسف — كان قد استأجر مسرح البلدية في تونس لمدة اثنتي عشرة ليلة، وهي كل الليالي الخالية فيه إذ ذاك، لأنه استأجر لفرق أخرى بعد ذلك. ولكن الطاعون قاتله الله، وتأخير الباخرة أكل علينا أربعا من هذه الليالي، لأننا وصلنا متأخرين أربعة أيام عن الموعد الذي قدره علي يوسف.

آدي دقة، أما الأخرى فهي أن الأستاذ أبا علوه … كان قد استدان قبل وصولنا مبلغ ألف ومائتي جنيه لتسديد مصروفات المطبعة والإعلانات والجرائد والتوزيع والمأكل والمشرب، وقبل أن نبدأ العمل بوغتنا بحضرات السادة الدائنين وقد شرفوا قبل وصول أي زبون، شرفوا لا للفرجة كغيرهم لا سمح الله، بل للحجز على إيراد الشباك سدادا لديونهم المستحقة بس! … والله عال … يعني جايين من مصر مخصوص، وشايفين الويل وويل الويل في البر والبحر وفي الطاعون وأثينا علشان تسدد الديون. وإن شالله ما حد أكل ولا شرب.

زاد الطين بلة

كانت الرحلة منصبة على اثنتي عشرة حفلة كما سبق القول، ولكنها رست على ثمان (كما سبق القول برضه)، ومع ذلك فإن الطين رأى أن يزداد بلة أخرى، وكأن هذا كله لم يكف! هذه البلة هي أن سي على رأي أن يتبرع للجمعيات الخيرية في تونس بإيراد أربع حفلات مجانا لوجه الله.

وهنا جلس مديرنا المالي (الخواجة جياكومو) على قرافيصه يندب حظنا اللي ما فيش منه. وإني لأذكر جملة مأثورة خرجت من فمه فأضحكتنا جميعا (وشر المصائب ما يضحك) جلس جياكومو يذكر صديقيه اللذين ورطاه هذه الورطة فقال: «يعني صالح وموريس بعتوا تلغراف لعلي يوسف قالوا له فيه وجدنا بغل نركبه سوا»!

ذلك هو الوصف الذي ارتضاه مديرنا المالي لنفسه، فجزاه الله عن المروءة كل خير!

كان موقفي في منتهى الحرج مع فرقة مؤلفة من أربعين شخصا بينهم ست ممثلات وراقصات ممتازات، وليس معنا ما نقتات به. فكنت أعمل جاهدا لإدخال أكبر كمية من الصبر على قلوبهم، بينما كان (الخيبة الثقيلة) الأخ علي يوسف يزوغ مني هنا وهناك ولا حياة لمن تنادي.

عملنا أول ليلة فكان الإيراد مائتين وخمسين جنيها، ولكن هل دخل جيبنا منها مليم واحد؟ أبدا والله العظيم والبركة في الدين والدائنين!

وقد فاتني أن أشير إلى شخص بالذات تقدم إلي مرحبا أجل ترحيب، ومحييا أحسن تحية، وتطوع بالتعريف قائلا إنه من هواة التمثيل، وإنه سمع عني كثيرا ورغب في العمل بفرقتي، وقد رحبت به أنا الآخر، ولكن رابني منه بعض تصرفات لم أفهم سرها! فما كدنا نصل مدينة تونس حتى سعى في كثير من العناية والاهتمام بإنزالنا في أكبر فنادق المدينة (واسمه ماجيستيك)، وراعني أنه نجح في حجز أحسن أجنحة الفندق لنا، كما راعني قبول إدارة الفندق أن تتقاضى من الممثلين مبلغ عشرين قرشا فقط كأجر عن الغرفة يوميا، في حين أن إيجار غرفتي في اليوم الواحد هو مائة وستون قرشا. وهو أجر معقول بالنسبة لفخامة الفندق الذي لا يقل من هذه الناحية عن أفخم فنادق القاهرة.

أقول إنني رأيت في هذه التصرفات ما رابني، وأخيرا عرفت أن ريبتي كانت في موضعها تماما، وأن صديقنا الجديد هذا، لم يكن إلا عينا خصصته الإدارة الفرنسية ليكون بمثابة رقيب علينا في كل خطوة نخطوها، أو حركة نأتيها. وذلك خشية من أن نثير في البلاد شعور الوطنية والحماس، وهو ما يأباه الاستعمار ويعمل على محاربته بكل وسيلة.

ولما كنا والحمد لله لم نقصد من رحلتنا أن نثير حربا شعواء بين الفرنسيين والوطنيين، فإن هذه الرقابة لم تؤثر فينا أقل تأثير، بل بالعكس أفادتنا كل الفائدة بأن جمعت أفراد الفرقة كلهم في صعيد واحد، وصعيد إيه يا سيدي … أوتيل، لا تقوللي ولا تعيد لي. والأجرة إيه؟! تراب الفلوس!

نهايته … توددت إلى الأخ المحترم الرقيب الهاوي وقربته إلي … وصافي يا لبن.

الدائنون وراءنا

قلت إن إيراد الحفلة بلغ مائتين وخمسين جنيها استولى عليها الدائنون وتركونا نأكل بعضنا.

أما رواية الافتتاح فكانت (الليالي الملاح) … أظن كمان رايح تقول إن السجع هنا مقصود! أبدا واللي خلقك! وقد كان استعدادنا لها فائقا بحيث كانت المناظر والملابس من أفخم الأصناف، كما أن الممثلات والممثلين كانوا على سنجة عشرة، ولذلك ظهرت الرواية بأحسن مظهر ونالت أحسن ما كنا نرجوه من النجاح. وكان هذا الجمهور بالطبع يملأ جوانب تياترو البلدية العظيم وكنت أشعر بفرح كبير لهذا النجاح «الأدبي» الممتاز وأعتبره تعزية لا شك فيها. ولكن حينما أرى الإيراد منحدرا في اتجاه غير طبيعي، كنت أشعر أن لسان حالي يقول: «آخ أيها الفن أتمنى في تلك اللحظة أن تكون خبزا فتؤكل أو عرقسوسا فتشرب!».

قلت إن مجموع الليالي الباقية لنا من التعاقد في التياترو ثمان. ولكن متعهدنا المبارك (السيد علي يوسف) كان قد طبع قبل وصولنا تذاكر اشتراكات عن اثنتي عشرة ليلة، وباع منها الشيء الكثير وتسلم الأثمان كذلك.

ولما لم يكن في طوقنا أن نقدم أكثر من هذه الليالي الثمان، فقد خفت أن يرمينا مشترو تذاكر الاشتراكات بالنصب والاحتيال. ولذلك قصدت إلى محام مشهور هناك وطلبته إليه أن يكتب عريضة باسمي إلى النيابة العمومية يشرح فيها الموقف، ويقول إنني مستعد أن أعيد لمن بيدهم الاشتراكات أثمانهم بعد أن أحصل على المال من بقية البلاد التي في النية زيارتها.

وأخيرا استطعنا أن نتفق مع إدارة التياترو على العمل به بعض ليال أخرى نحييها عقب عودتنا من عدة بلاد غير مدينة تونس، وقمنا إلى صفاقص وصوصه وبيزرت وكان النجاح في كل منها بالغا أشده، وبدأت يدي تلمس النقود بعض الشيء، ولكن السادة دائني متعهدنا كانوا لنا بالمرصاد، فلم يرحموا غربتنا ولم يرعوا مصيبتنا فلاحقونا في كل مكان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤