الفصل الحادي عشر

بين المسرح والسينما

قررنا أن نزور الجزائر بعد أن انتهى مقامنا في تونس، فشددنا رحالنا إليها.

وهنا أقف لحظة بسيطة لأقول إن علاقتنا بالسيد السند علي يوسف (الامبرزاريو) كانت قد انقطعت، وإننا احتجنا إلى من يقوم مقامه ليسبقنا إلى البلاد التي نزورها ويمهد لعملنا فيها، فكان أن أوفدنا الزميل العزيز بديع خيري إلى بلدة «سراكوس». وقد قصد إليها قبل وصول الفرقة بعدة أيام. وبعد أن انتهينا من هذه البلدة، زرنا بلادا أخرى، وأخيرا قصدنا إلى عاصمة القطر (الجزائر)، فأحيينا فيها بنجاح منقطع النظير ثلاث حفلات جاءتنا بإيراد كبير، استطعت ببعضه أن أسدد جميع الديون التي طوقنا بها متعهدنا السابق، كما أنني وسعت على الممثلين بالبعض الآخر.

ثم حدث في بلدة «وهران» ما لم أكن أتوقعه. فقد سافرت بديعة دون علمي، فأسندت أدوارها إلى كل من فتحية شريف وبهية أمير، ولكن بديعة بعدئذ اتصلت بي تليفونيا من الجزائر واعتذرت عن تسرعها بالهرب، وأكدت أنها عائدة في اليوم التالي. ولكنها للأسف لم تف بوعدها.

العودة إلى مصر

وبعد أن انتهينا من بلاد الجزائر، قمنا إلى مراكش، فلقينا الكثير من ضروب الحفاوة في قصر «الباشا»، الذي نفحنا كثيرا من الهدايا في الليلة الختامية لرحلة الفرقة في بلاد المغرب الأقصى. ثم قصدنا إلى مرسيليا ومن هناك قصد أعضاء الفرقة إلى مصر، بينما سافرت أنا إلى باريس، وهناك استطعت أن أسترد من جمعية المؤلفين مبلغ ضريبة الستة في المائة، التي كانت تحجزها مسارح البلديات من إيراد رواياتي في بلاد المغرب الأقصى، وقد بلغ ما استرددته من الجمعية مائة وعشرين جنيها، بقي لدي منها بعد «فسحة» باريس خمسون جنيها مصريا عدت بها إلى مصر. وقد حزمت أمري على أن أجعل بيني وبين الممثلين سدا، فلا أجمع فرقة ولا أعتلي المسرح لحسابي.

وبعد أيام قليلة «برم» المبلغ وأصبحت على الحديدة، فعمدت إلى بعض ما لدي من أثاث وحلي وهات يا بيع، هو احنا رايحين ناخد حاجة.

واستحكمت حلقات الأزمة (أزمتي الخاصة) واستولت «الكريزة» على جيب العبد لله، فهبطت بطعامي من «الرستورانات» إلى محلات الفول المدمس!

أول فيلم سينمائي

وقضيت على هذه الحال المدة من أبريل إلى أغسطس سنة ١٩٣٣، ثم وصلتني برقية من الأستاذ إميل خوري، الذي كان سكرتير تحرير جريدة الأهرام، يحمل تحويلا بمبلغ خمسين جنيها ويطلب مني أن أوافيه بباريس، لتصوير فيلم كان قد حدثني عنه وقت مروري بباريس. فقمت على عجل بعد أن طلبت من زميلي بديع أن يعد نفسه للحاق بي حين أرسل برقية باستدعائه.

ووصلت إلى باريس وقوبلت بالحفاوة اللازمة، وما هي إلا يومين ثلاثة وبدأت أفهم الفولة!! وإيه هي الفولة؟ هي أن عم خوري أخذ المقاولة من شركة جومون لحسابه هو، وجاء يقنعني بقبول الاشتراك معه بنسبة الثلث، ثم قدم لي سيناريو من وضعه هو، وذكر أنه مشرف لمصر وأنه سينال نجاحا لا نظير له … وأنه … إلى آخر الأنهات اللي في الدنيا!

اطلعت على السيناريو فوجدت أنه لا بأس به، إذ تركت لنا الحرية في وضع الحوار الذي يدور بين ممثليه، وفي الحال أرسلت في طلب بديع. ولكن قبل أن يصل الزميل، تقدم إلي إميل وأعطاني نسخة من حوار وضعه باللغة الفرنسية، وطلب إلي ترجمته إلى العربية، بحيث لا نخرج عنه قيد أنملة، فلما قرأته وجدت أنه لا يصلح بتاتا، وخاصة لجمهوري الذي عرفته وعرفني، فحاولت أن أقنع الشريك (المخالف) بأن هذا الحوار في مقدوره أن يسقط بدل الفيلم الواحد فيلمين أو ثلاثة، ولكنه أصر ولم يصغ لأي اعتراض. فصممت إزاء هذه الصلابة على التوقف عن العمل والعودة إلى الوطن، فظل بديع يهدئ من ثورتي، ويعمل على إقناعي بأن عودتي خاوي الوفاض إلى مصر ستطلق ألسنة الناس بالإشاعات والأقوال، وستدع لحضوري فرصة النيل مني، وستكون النتيجة كيت وكيت.

وخشت هذه النصائح في مخي، وزادها ثباتا أن جيبي كان فارغا حتى من ثمن تذكرة العودة، فقلت في نفسي صهين يا واد يا نجيب وأهو فيلم ويفوت ما حد يموت!

وبدأنا عملنا في الفيلم — وقد نسيت أن أذكر لك بأننا اخترنا له اسم (ياقوت) — بدأنا في إخراجه باستوديو جومون يوم الاثنين وانتهينا منه نهائيا يوم السبت التالي، أي أننا كروتناه في ستة أيام!

أما الداعي لهذه «الكروتة» و«الطلصقة»، فهو أن السيد خوري لم يكن يهمه إلا أن يضغط الميزانية. وقد كان، وبعد أسبوعين انتهت عملية المونتاج وجاء خوري ومن معه يجزلون لي التهنئة ويقسمون إنني … فشر هاري بور وشارل بواييه ومش عارف مين ومين كمان، فهززت رأسي وطمأنتهم بأن الفيلم — مع هذا وذاك — لن تقوم له قائمة، ولن يلاقي أي حظ من النجاح.

أما لماذا نظرت إلى الفيلم هذه النظرة فذلك لأنني صادفت مخرجا لا يفهمني ولا أفهمه وسيناريست عقله زي الحجر وممثلين، سيدي يا سيدي، جمعناهم من الحي اللاتيني ومن جميع الملل والنحل، فمثلا احتجنا لشخص يقوم بدور أستاذ يلبس العمة والقفطان فلم نجد من نسند إليه الدور إلا شخصا فرنسيا لا يعرف من العربية حتى اسمها. وقس على ذلك بقية الأدوار الهامة وغير الهامة، أي أن صيغة منتهى الجموع بتاعة قلة البخت، قد تفضلت بمرافقتي في ذلك الفيلم من بدايته إلى نهايته. ما علينا والسلام نقول إن نجاح هذا الفيلم بعد عرضه كان نسبيا لأنه — كما قلت — لم يكن شعبيا وقد اقتنع ممول الفيلم بصحة ما ذهبت إليه ولكن بعد إيه … بعد خراب مالطة.

وقبل أن أبارح باريس «ليموني» على خمسين جنيها أخرى على أن أتناول حصتي في الأرباح بعد عرض الفيلم في مصر وعلى خير!

عودتي إلى المسرح

وفي هذه الآونة تسلمت — وأنا بباريس — خطابا من الحاج حفني مدير تياترو برنتانيا يعرض علي العودة إلى مصر لتوقيع عقد اتفاق معه على العمل في مسرحه. ففكرت في ذلك الفن الجميل الذي أحببته من كل قلبي، وتملكت هوايته نفسي، واحتل حبه فؤادي حتى صار كالحسناء التي أخلصت لي وأخلصت لها. فهل أستطيع هجر هذه المعبودة؟ كلا … وألف مرة كلا!!

وعدت إلى مصر … واتفقت مع الحاج مصطفى، على أن يتكفل هو بالفرقة مما جميعه، بما في ذلك الممثلات والممثلون، على أن أتقاضى أنا حصة معلومة. وهنا بدأت في تنظيم حياتي ووهبت نفسي مرة أخرى للفن الذي عشقته بعد أن رفعت عن كاهلي عبء التفكير فيما عداه.

وأعددت مع الزميل العزيز بديع رواية «الدنيا لما تضحك» وما كدت أظهر على المسرح في الليلة الأولى من التمثيل، حتى قابلني الجمهور المحبوب بعاصفة من التصفيق عقدت لساني، فطفر الدمع من عيني لحظات غمرني فيها شعور لا أستطيع وصفه.

فيلم ثان

وفي هذا الوقت تقدم إلي بعض الممولين السينمائيين، وطلبوا الاتفاق معي على إخراج فيلم «بسلامته عاوز يتجوز»، وعرضوا أن أتقاضى منهم ثمانمائة جنيه مصري وخمسة في المائة من الإيراد وشاورت عقلي، فاتضح لي أن هذه الجنيهات الثمانمائة مبلغ لا يستهان به، خصوصا في وقت أنا فيه بحاجة إلى … إلى إيه … إلى مائة فقط.

ومن ناحية أخرى فإنني ذهبت إلى أن إخراج الفيلم الجديد قد يعوضني ما فات في سابقه (ياقوت)، لا سيما وأن مدير الإنتاج الأخير قد أظهر لي منتهى الاستعداد في أن يدع لي جميع المهام الفنية التي يقضتيها إظهار الفيلم في مظهر لائق.

وجاء المدير المالي بشخص وفد من بلاد المجر، وقال لي إنه شقيق السينمائي الشهير «فاركاتش» الذي اقترن اسمه باسم فيلم (الموقعة)، مثل فيه شارل بواييه … وأنه … وأنه … إلخ … فقلت له إنني لا أطمئن لمخرج أجنبي، حتى ولو كان من الذين أشرفوا على أفلام جريتا جاربو ومارلين ديتريش، لأنه لن يصل إلى حقيقة أخلاقنا وباطن عاداتنا، قلت هذا قبل أن أرى المخرج المذكور أو أختلط به، فلما تم ذلك زدت يقينا بما أدليت، واعتقدت أنني سائر بالفيلم الجديد في نفس الطريق الذي رسم في رصيفه القديم، وأن «شهاب الدين» لا يزال يسعى وراءنا مطالبا بأخيه!!

وحاول المنتج أن يزيل مخاوفي فطمأنني بأنه سيتركني أقبل ما بدا لي.

وبدأنا الفيلم، بل وقطعنا في العمل شوطا بعيدا، كانت الحزازات أثناءه بيني وبين المخرج تزداد ضراما، لأنني كنت أشاهد بعيني منه عكس ما أريد، فقد كانت إرشاداته للممثلين في المواقف الفكاهية باعثة على البكاء … لا على الضحك.

وعرض الفيلم على المتفرجين، وكنت بين المتفرجين بالإكراه. وأصارحك أيها القارئ العزيز بأنني حين رأيت نفسي على الشاشة لم أكن أتصور أنني بمثل هذه الفظاعة المؤلمة، وأنني من السخافة على مثل هذه الدرجة التي ابتدعها المخرج من «صبيان» أفكاره البايخة، حتى لقد كان يتراءى لي — كمتفرج — أنني لو لقيت نجيب الريحاني عند الباب أثناء خروجي، لخلعت — يكرم من سمع — ونزلت ترقيع في أصداغه إلى أن أوصله بيته العامر!

انتقام من السينما

وفي هذا الوقت كان حظي في المسرح «ضارب» نار، وكأنني كنت أنتقم من خذلاني في السينما، فقد شفيت غليلي ومعي بديع زميلي، ووضعنا كل همنا في إخراج رواية كاملة المعاني. وكان التوفيق رائدنا بعون واحد أحد، فأتممنا تأليف رواية «حكم قراقوش»، وقد جاءت هذه الرواية بدعة من حيث الوضع والتنسيق، ومن ناحية وجود الفكاهة العذبة والتسلية اللذيذة، في سرد حوادثها وفي رسم شخصياتها.

فلما رأيت نجاحها، حمدت الله الذي عوضني عن السينما بهذا النجاح المسرحي الهائل، ولهذا عقدت نيتي من ذلك الحين على أن أهجر الشاشة بتاتا، وفي خشبة المسرح متسع لي، وإطفاء لشهوتي الفنية وغذاء لروحي المتلهفة على الوصول إلى الكمال بقدر الإمكان، ومن ثم رفضت جميع العروض السينمائية التي تقدم إلي بها كثيرون من الماليين ومن رجال الفن العديدين.

وبعد «حكم قراقوش» أخرجت «مين يعاند ست»، فكانت هي الأخرى انتصارا لي مع أنها كوميديا من النوع «الناعم»، إلا أن المتفرج تقبلها بقبول حسن، وحل الصيف فتأبطت ذراع زميلي بديع وقصدنا إلى جزيرة قبرص، وهناك هيأت لنا الظروف الصالحة وضع رواية «مندوب فوق العادة»، وكان في عزمنا أن نفتتح بها موسم ١٩٤٦، ولكن الظروف المواتية مكنتنا من وضع رواية (قسمتي)، التي افتتحنا بها ذلك الموسم، وأبقينا الرواية الأولى بمثابة احتياطي لنا. وأعترف بأن هذه هي أول مرة في حياتي أحتفظ فيها بما يسمى الاحتياطي.

وبعد عرض الروايتين «قسمتي» و«مندوب فوق العادة» فكرت في إخراج رواية استعراضية نختم بها الموسم فأعددت العناصر اللازمة لها واشتركت مع الزميل بديع خيري في وضعها بعد أن أطلقنا عليها اسم «الدنيا على كف عفريت».

فيلم ثالث

وفي أحد الأيام التي كنا نستعد لإخراج تلك الرواية على المسرح، وبينما كنت أرتدي ملابسي لموافاة الممثلين في البروفة دق جرس التليفون وكان المتحدث زميلي بديع، يبلغني أنه في أستوديو مصر، وأن الأستاذ أحمد سالم مديره يود رؤيتي سريعا. فسألت بديعا: ألم يطلعك على أسباب هذه الرغبة؟ فقال كلا. وقبل أن أتوسع في طلب معلومات من بديع تناول الأستاذ سالم بوق «الأرزيز» … أنت فاهمني؟ الأرزيز … والأرزيز هو التليفون بلغة المجمع اللغوي، واسألوا أهل الذكر! وسمعت الأستاذ أحمد سالم يضرب لي موعدا أقصاه نصف ساعة ولكي يسهل مأموريتي أبلغني أن سيارته ستكون أمام منزلي قبل هذا الموعد.

وأكملت ارتداء ملابسي، ورحت أضرب أخماسا في أسداس. لا شك بأن مدير أستوديو مصر لم يطلبني بمثل هذه السرعة لأشترك معه في مباراة شطرنج، والا عشرة دومينو أمريكاني، فلابد إذن أن هناك عملا اقتضى هذا الاستدعاء، وأن هذا العمل لن يكون إلا فيلما للأستوديو. لقد كان مجرد التفكير في السينما يزعجني، بعدما رأيت منها فيما مضى، وبعدما قاسيت ممن اشتركت معهم، ولذلك قضيت الطريق بين منزلي وبين الأستوديو، مفكرا في طريقة الاعتذار «بذوق» عن ظهوري على الشاشة، وبزيادة علينا المسرح … وبينا وبين السينما ربنا!!

ووصلت الأستوديو وهناك لقيت الأستاذ أحمد سالم وحسني نجيب وبديع خيري. سلام عليكم. عليكم السلام، وبعد التحيات الطيبات، والمجاملات المتبادلات (معلهش يا اخوانا يا فصحاء القافية حكمت)، فهمت من الأستاذ سالم أنه يسر الأستوديو أن يخرج فيلما لي … آه وقعت الفاس في الراس!! ولم أجد ما أجيب به غير أنني مشتغل إذ ذاك بإخراج رواية مسرحية جديدة وأنها تستغرق كل أوقاتي فأمهلني حتى أنتهي منها.

ودارت بيننا مناقشة أكد لي فيها الأستاذ سالم أن روح التعاون بيننا ستكون وثيقة، ويظهر أنه أحس من ناحيتي بعض التردد أو الرغبة في «الحمرقة»، فصارحني بحقيقة كنت أجهلها، قال لي ما معناه إن الناس بدءوا يلوكون اسمك في معرض الفشل في السينما، وإن واجبك يدعوك إلى الدفاع عن نفسك بطريقة عملية، فقدم الدليل لأولئك القوم على أن الفشل الماضي أتى عن غير طريقك، لأن العوامل التي أفسدت عليك سبيلك لن يكون لها وجود في ستوديو مصر.

كان هذا الكلام الحكيم وغيره كافيا لإقناعي، لا سيما وقد شعرت من خلال الحديث أن روح الصداقة تتمثل فيه، وأن الصراحة هي التي تمليه. كما تبين لي أن محدثي كان يرمي إلى أن يجعل هدفه الأول، وغرضه الأسمى، الوصول إلى النجاح دون كل الاعتبارات المتباينة … النجاح الذي يعود أثره لا لي وحدي — بل وللهيئة التي يشرف على إدارتها. وانتهت هذه الجلسة بالاتفاق المبدئي على الاشتراك في إخراج الفيلم بعد الانتهاء من رواية «الدنيا على كف عفريت».

لماذا عدت إلى السينما

وفي هذه الأثناء ظهر فيلم «الحل الأخير» فكان نجاحه مشجعا لي على الإقدام، لأننا رأينا من الجمهور ناحية طيبة مطمئنة، هي أنه بدأ ينظر إلى العمل من حيث قيمته الفنية لا من حيث الشخصيات القائمة به. أقول إن هذا الإقبال الكبير على «الحل الأخير» زادني طمأنينة، وطرد من مخيلتي شبه التردد الذي كان يلازمني قبل مشاهدته، واشتركت مع بديع في وضع فكرة السيناريو ثم ذهبنا إلى الأستوديو ولقينا الأستاذ أحمد سالم، فعرضنا عليه فكرتنا، ولكنه أمهلنا يومين قابلناه بعدهما فعرفنا منه أنه قائم في الغد إلى أوربا، لأعمال تستدعي غيابه فترة. ثم قص علينا فكرة جديدة مفضلا جعلها أساسا للسيناريو الذي نضعه، ولا أجد غضاضة في التصريح بأن هذه كانت المرة الأولى التي استحسنت فيها قصة لأي إنسان كان!

ووافقني بديع على صلاحية هذه الفكرة، فعقدنا النية على بناء سيناريو «سلامة في خير» على أساسها. وقد كان. وأود أن أشير هنا إلى أن اختيارنا كان قد وقع على اسم «أفراح» لإطلاقه على الفيلم، ولكن الأستاذ سالم فضل عليه اسم «سلامه في خير» وقد كان … برضه، وسافر الأستاذ أحمد سالم إلى أوربا بعد أن سلمنا للأستاذ نيازي مصطفى بصفته مخرجا للفيلم. وإني لأذكر أنني صدمت هذا الفتى في ذلك الحين بتصريح غير مستحب، لأنني لدغت من مخرجين قبله. ولا يلدغ الممثل من مخرج مرتين!! ولكن بمرور الوقت وبالاختلاط في العمل عرفت قيمة نيازي، فاعترفت بخطئي السابق في تقديره فهو كفء مخلص لفنه.

وكانت اجتماعات متعددة متتالية بيني وبين بديع ونيازي عالجنا فيها وضع السيناريو وربط موضعه وحوادثه.

وهنا أكشف للقراء سرا لم يقف عليه واحد منهم، وهو أنه بعد أن تم من تصوير الفيلم أربعة أخماسه ولم يبق إلا خمسه، كانت هناك أجزاء من الفيلم لم ننته من تأليفها بعد تماما. كما نفعل في رواياتنا المسرحية … واللي فيهش ما يخلهش!

وسرنا في عمل الفيلم وحولنا جو من التفاهم التام لم يكن لي به عهد من قبل، فقد كان المخرج يعمل في حدود واجبه، وكثيرا ما عاوننا بأفكار ثاقبة، وآراء ناضجة، فكنا نحن الثلاثة نواصل العمل سويا، وكل منا يشعر أنه يؤدي فرضا واجبا يدفعه إليه الإخلاص والحرص على النجاح.

وقبل أن ننتهي من آلام الوقوف أمام الكاميرا آناء الليل وأطراف النهار، استلمني المسرح. ولهلبني الموسم فاقتحمته بروايات قديمة نزولا على نصائح الأعزاء من الإخوان واقتراحات المحبين من المتفرجين. ولكن ذلك لم يحل بيني وبين التفكير مع الزميل في الرواية الجديدة «لو كنت حليوه».

ومع ذلك فإن أبراج المخ الغلبان، كانت حاتطير طيران، والذي زاد الطين بلة ما أصابه في نهاية العمل بالأستوديو على أثر الأضواء التي كنت أقف تحت وهجها الساعات الطويلة، والتي تكفي من غير مبالغة لكهربة خزان أسوان، ولولا أن الله قيض لي بعض الأطباء الأصدقاء الذين اختشى منهم المرض على عرضه ففارقني غير مأسوف عليه … أقول لولا ذلك لعرضت نفسي على مؤتمر الرمد الدولي الذي عقد بالقاهرة، ولكن الحمد لله جت سليمه … والبركة في الإخوان.

لتحيا المنصورة

وشاء الحظ أن أتنقل بعدئذ بين طنطا والمنصورة ودمياط حيث أمضيت مع الفرقة ليلة في كل من هذه المدن، أحيينا في الأولى حفلتين (ماتينيه وسواريه) وأريد أن أثبت هنا أن الفقير الماثل الآن بين يديكم أيها القراء، استقبل في مدينة المنصورة استقبالا لم يكن ينتظره. ويظهر أن منشأ هذه الحفاوة عائد إلى أن فيلم «سلامه في خير» عرض في المنصورة قبل أن نزورها، فأرادوا — المنصوريون الكرام — أن يظهروا «لمحسوبهم» لونا من ألوان التكريم، الذي اشتهروا به، فقابلوني تلك المقابلة التي لا أنساها!! وقد أطلق جميلهم لساني بترديد الشكر لهم في كل مجال وأثبته في مذكراتي ليكون مسكا للختام.

وفي المساء قدمنا رواية (مندوب فوق العادة)، فما كدت أظهر على المسرح حتى استمر التصفيق بضع دقائق. وهذا عمل أعترف بعجزي عن الشكر من أجله. وإن كنت لا أجد ما أقوله غير: «فلتحيا المنصورة».

وعدت إلى القاهرة في يوم الأربعاء، ويصح أن أعترف أن الأيام الثلاثة التي قضيتها خارجها كانت بمثابة إجازة من بعض الوجوه، استراح فيها فكري ومخي راحة أرجو أن تعوضني بعض ما أفقدني العمل إياه، وهاأنذا واضع نصب عيني وضع رواية جديدة «لو كنت حليوه» بالاشتراك مع أخي وصديقي بديع وأرجو الله أن يكتب لها الفلاح فنضمها إلى لستة أخواتها السابقات.

نتيجة

الآن يا قارئي العزيز أقف لحظة قبل أن أضع القلم في مكمنه وقبل أن أدفع هذه الخاتمة إلى المطبعة.

أقف لأتذاكر وإياك في حديث لابد منه، وهو أنني قصرت ما نشرت على حياتي العملية وحدها ولم أمس الحياة الشخصية إلا مسا خفيفا كانت تقتضيه ظروف السرد والشرح، وكم كانت ذكريات الحوادث تمثل أمام ناظري حين كتابتها وكأنها كانت من حوادث اليوم الذي أكتب فيه مع أنه مضى على وقوعها سنوات.

والآن … بعد أن تذوقت من الحياة حلوه ومرها، وبعد أن جرعتني كأسها حتى الثمالة — كما يقولون — بعد ذلك كله أقر وأعترف أنا الواضع اسمي بخطي أدناه نجيب الريحاني أنني خرجت من جميع التجارب التي مرت بي، خرجت منها بصديق واحد، صديق هو كل شيء، وهو المحب المغرم الذي أتبادل وإياه الوفاء الشديد والإخلاص الأكيد … ذلك الصديق هو عملي!!

إنه أشبه بالمعشوقة الفاتنة التي كملت أوصافها ومحاسنها، أولا أنها غيور … غيور بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فهي وفية ما دمت وفيا لها، أما إذا حدثتني النفس بخيانتها فالويل وسواد الليل إنها تكشر عن أنيابها، وتقلب لي ظهر المجن تتنمر وتتنكر، وترغي وتزبد، وتفور وتثور، وتطلع القديم والجديد. نعم أيها السادة، فإنني حين أتفرغ لعملي أجد النجاح يواتيني والحظ مقبلا علي … أما إذا اتجهت بقلبي إلى شيء آخر … أو إذا ساقت لي الظروف غراما طائشا … فإنه يخلع نعليه … ليجعل من رأسي منفضة لهما … والعياذ بالله.

وكثيرا ما تعاودني الذكريات حين أجتمع بالأخ الصادق بديع خيري فنتذكر شئون الماضي، ونعترف بأننا كوفئنا حق المكافأة إذ اكتسبنا جمهورا يقدرنا ويقدر عملنا، وإن كان حظنا من الناحية المادية هو حظ الأديب في مصر ولكن معلهش برضه … مستورة والحمد لله، وكل ما يهمنا هو أننا نشعر بأن علينا رسالة نؤديها للوطن المحبوب وقد أديناها كاملة وكوفئنا على هذه التأدية، وحتى لو فرضنا أننا لم نكافأ فما كان ذلك ليحول بيننا وبين أداء الواجب.

بقيت العبرة التي أبثها أخيرا وهي أنني أصبحت أعتقد أن العواطف وما إليها من الكلمات والاصطلاحات المنمقة ليست إلا لهوا ولعبا وتجارة، يمارسها بعض الناس للضحك بها على عقول السذج وقاصري الإدراك، تماما كما تفعل «المعددة» في المآتم، فإنها تأتي بعبارات الأسى والحزن العميق الذي يفتت الأكباد ويحرك الجماد، ومع ذلك فإنك تبحث في قرارة فؤادها فلا تجد مثقال ذرة من الحزن والألم.

ذلك ما أوصلتني إليه التجارب فيما يختص بالعواطف، ولعل ما يراه الجمهور من المواقف المضحكة في رواياتي منشؤها هذا الاعتقاد الراسخ في حياتي.

كلمة واجبة

وهنا أراني مدينا للصديق العزيز توفيق المردنلي بكلمة شكر لأنه كان السبب الأول والأخير في حملي على كتابة هذه المذكرات، فأنا — ولا حياء في الحق — أقرب إلى الكسل إذا لم أجد الدافع الذي يسوقني إلى ما أريد.

وقد قيض الله لي في صديقي توفيق ناصحا أقنعني في البداية بضرورة كتابة مذكراتي ونزلت على تلك النصيحة إلى أن انتهيت منها بعون الله وحمده … فليكن شكري لتوفيق آخر ما تخط يميني في هذه المذكرات. ووداعا يا قرائي الأعزاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤