الفصل الثالث عشر

إنني أعتقد أن التفكير الفلسفي في أمَّة من الأمم مِفْتاحٌ هامٌّ لفَهْم طبيعتها، فليس من المُصادَفات العارضة أن نرى الفلسفةَ الفرنسية عقلية، والفلسفةَ الإنجليزية تجريبيةً حِسِّية، والفلسفةَ الألمانية ميتافيزيقيةً مِثالية، والفلسفةَ الأمريكية براجماتيةً عملية … فماذا نرى في الفلسفة الإسلامية ممَّا يدلُّنا على طابع الشرق الأوسط؟

نرى المشكلات المعروضة للبحث هي مشكلات دينية، لكنَّ طريقَ معالجتها طريقةٌ عقلية منطقية، فلا فرقَ إطلاقًا بين فلاسفةِ الشرق الإسلامي من جهةٍ وفلاسفةِ الغرب المسيحي (في العصور الوسطى) من جهةٍ أخرى، لا في نوع المشكلات ولا في منهج البحث، اللهم إلا أن الفريقَ الأول مسلمٌ يختار مشكلاته من العقيدة الإسلامية، والفريقَ الثاني مسيحيٌّ يختار مشكلاته من العقيدة المسيحية، لكنَّ كلَّ فريق من الفريقين يلتمس للعقيدة أساسًا من العقل، مستعينًا في ذلك بأدوات من الفلسفة اليونانية، وبالمنطق الأرسطي على وجه الخصوص.

فهؤلاء هم المعتزلة من فِرَق المتكلمين: فريقٌ يصطنع منهجَ العقل في تأويل ما أرادوا تأويلَه من مسائل العقيدة، فافرِضْ مثلًا أن المسألة المطروحة للبحث هي حرية إرادة الإنسان التي معناها أن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله ولذلك فهو مسئول عنها، ففي استطاعته أن يفعلها وأن يتركها حينما يشاء، فكيف كانوا يُقِيمون الدليلَ العقلي على هذه الحرية الإنسانية التي آمنوا بها؟ إنك لَتَراهم يَنْهَجون في ذلك النَّهْجَ الذي يضع المقدمات ويستدل النتائج، وهو نَهْج العقل والعلم، فيقولون: إن سلوك الإنسان في حياته ليس كله من صنف واحد؛ فهنالك حركاتٌ للجسد نشعر فيها بأننا مضطرون إليها، وأخرى نشعر فيها بأن زِمامها في أيدينا، فمن النوع الأول حركةُ المُرتعِش من البرد مثلًا، ومن النوع الثاني حركةُ مَن يرفع ذراعه ليُؤدِّي بها عملًا يريده، فلو كان الإنسان مُجبَرًا لا سلطانَ له على مَسْلكه لَمَا كان هذا الفرق بين النوعين من السلوك، هذا إلى أنه لو لم يكن الإنسان خالقَ أفعاله الإرادية، لَمَا كلَّفَه الله أن يعمل كذا ويترك كذا من الأعمال، ولَمَا كان هناك معنًى للثواب والعقاب، بل لَمَا كان هناك أيةُ فائدة في إرسال الأنبياء لإصلاح الناس؛ إذ كيف يُصلِحون الناس إذا كان الناس لا يملكون من أمرهم شيئًا؟ وإذا كان الله هو الذي خلق للإنسان أفعالَه، فكيف يغضب من بعضِ ما خَلَق؟

فانظُرْ إلى مثل هذا الحِجَاج وقارِنْه بنوعِ الكتابة الواردة في أسفار الشرق الأقصى، تجد منطقًا عقليًّا في الأول، وعبارةً وِجْدانية في الثانية، فإذا تذكَّرْنا أن المسألة المعروضة هي مسألةٌ دينية أقَرَّها الإنسان بوِجْدانه أولًا، ثم جاء المعتزلة فأيَّدوها بالبرهان؛ جاز لنا أن نقول إن الوِجْدان والعقل في مثل هذا يجتمعان.

وهؤلاء هم فريق «الفلاسفة» المسلمين، تقرأ لهم فترى منهجًا عقليًّا منطقيًّا كهذا الذي رأيتَه عند المعتزلة، فانظُرْ إلى الكِنْدي مثلًا يشرح العقلَ الإنساني وقُواه، فيحلِّله تحليلًا منطقيًّا ويقول إن له درجاتٍ أربعًا: ثلاث منها فطرية في النفس ولا تكون النفْسُ نفْسًا إلا بها، وأما الرابعةُ فقد جاءت إليها من خارج، وهي مستقلة عنها وتستطيع أن تفارقها لتقوم بذاتها، ومن ثلاث القوى الفطرية واحدةٌ موجودة بالقوة كما يوجد فن الكتابة عند مَن تعلَّمَ كيف يكتب، وثانيةٌ تُخرِج ما كان موجودًا بالقوة ليكون موجودًا بالفعل، كما يُخرِج الكاتبُ فنَّ الكتابة من حالةِ الكمون إلى حالةِ الظهور حين يكتب شيئًا معينًا، وثالثةٌ هي الذكاء المُتضمَّن في عملية الإخراج السالفة، وأما العقل الذي يأتي إلى الإنسان من خارج نفسه فهو هِبَة من الله يُفِيضها على الإنسان، وهو وإنْ حرَّكَ الجسدَ فليس جزءًا منه، أعني أنه لا يعتمد في عِلمه على تحصيل الحواس.

أو انظُرْ إليه وهو يحلِّل الحركةَ إلى ستة أنواع: اثنتان تكونان في المادة نفسها، فهي إمَّا حركةٌ تَسِير بالمادة نحو التكوين والإنشاء، وإمَّا حركةٌ تَسِير بها نحو التحلُّل والفساد؛ واثنتان تكونان في كَمِّية الشيء، فهي إمَّا حركةٌ تَسِير به نحو الزيادة، وإمَّا حركةٌ تَسِير به نحو النقصان؛ وحركةٌ خامسة تطرأ على كيفيات الشيء حين تُغيِّر صفاته فيكون أصفرَ بعد أن كان أخضرَ مثلًا؛ وسادسةٌ تطرأ على وضع الشيء فيكون هنا الآن ثم يصبح هناك، والزمانُ عنده هو حقيقةٌ متصلة بالحركة، فلولا حركةُ الأجرام والأجسام لَمَا استطعنا أن نقول عن شيء إنه بعد كذا أو قبل كذا من الأشياء … وأمَّا المكانُ فهو السطحُ المُلامِس لجسمٍ ما، فإذا أُزِيح الجسمُ لم يَبطُل المكان؛ لأن المكان الذي سيمتلئ في الحال بجسمٍ آخَر كهواءٍ أو ماء، يكون له نفس السطح الملامِس الذي كان يحيط بالجسم الأول، أيْ أن المكان ليس في ذاته جسمًا، ولكنه السطح الذي يَمسُّ ظاهرَ الجسم ويحيط به.

فماذا ترى في مثل هذا التحليل؟ أتراه دالًّا على نظرةٍ عقليةٍ منطقيةٍ تحليلية، أم تراه تعبيرًا فيه اللمسة الجمالية وحْدَها؟

ثم انظُرْ إلى الفارابي كيف كان يتناول مسائلَه، انظُرْ إليه مثلًا يُقِيم البرهانَ المنطقي على وجود الله فيقول: إن كل موجود جاء بعد أنْ لم يكن لا بد أن يكون قد سبقَتْه عِلَّة هي التي سبَّبت وجوده، وهذه العِلَّةُ لا بد أن تكون بدورها نتيجةً لسببٍ سابق لها، وهكذا حتى تصل إلى عِلَّة أولى لم تَسْبقها عِلَّةٌ أخرى، لكنها هي التي سبَّبت نفسها؛ إذ بغير هذا الفرض سنظل نَنسِب كلَّ عِلَّة إلى أخرى سابقة لها إلى ما لا نهاية، وهذا التسلسُلُ في العِلَل إلى غير نهاية شيءٌ مستحيل على العقل أن يَقْبَله. وهذه العِلَّة الأولى هي الله، ومعرفتُه هي الغاية من الفلسفة؛ وذلك بديهي لأنك تقصد من الفلسفة أن تفهم الوجود، ولا سبيلَ إلى هذا الفهم إنْ لم تعلم عِلَّة ظواهره، فإذا عرفْتَ الله معرفةً صحيحة، فقد عرفْتَ عِلَّة العِلَل؛ وبذلك تفهم الأشياء. غير أن الله لا يمكن تعريفه؛ لأن تعريف الشيء يكون بذِكْر الجنس والفصل، أيْ بذِكْر جنسه الذي ينتمي إليه، وبذِكْر الصفة الذاتية التي تفصل النوع الذي تُعرِّفه عن سائر الأنواع التي تدخل معه تحت ذلك الجنس، ولمَّا كان الله لا يقع تحت جنس، وليس هو نوعًا من الأنواع حتى نذكر الصفة التي تفصله عن تلك الأنواع التي تقع معه في مَرتَبة واحدة، فليس يمكن تعريفه؛ فكيف إذن نَعرِفه إذا لم نستطع تعريفه؟ نَعرِفه بصفاته: فهو واحد، وهو كامل، وهو قادرٌ … إلى آخِر الصفات التي تَصِفه تعالى.

فالوجود ضربان: وجودٌ واجب، أيْ أنه لا يمكن في حُكْم العقل ألَّا يكون؛ ووجودٌ مُمكِن، أيْ أن العقل يتصوَّر إمكانَ وجوده وإمكانَ عدم وجوده. واللهُ واجبُ الوجود؛ لأن العقل يستحيل أن يتصوَّر سلسلةً من العِلَل بغير عِلَّة أولى، وكلُّ شيء آخَر غير الله هو ممكنُ الوجود؛ لأن العقل يتصوَّر وجودَه وعدم وجوده على السواء؛ وعلى ذلك تكون الأشياءُ كلُّها مُفتقِرةً إلى أسبابٍ تعلِّل وجودها، والله وحْدَه هو الذي لا سببَ لوجوده غير نفسه.

فماذا ترى في مثل هذا السياق؟ أتراه صادرًا عن عقل منطقي، أم تراه تعبيرًا عن شعور ووِجْدان؟ أتراه مُحكَم الحَلَقات نتائج ومقدمات، أم تراه قَفْزًا من قولٍ إلى قول بغيرِ صلةٍ ولا رِباط؟

هذه لَمَحاتٌ قِصارٌ سِراعٌ نستشهد بها على أن عقلية الشرق الأوسط لها من الطابع المنطقي ما للعقل الغربي سواء بسواء، يضاف إليها قلبُ المتديِّن ووِجْدان الفنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤