الفصل الرابع عشر

ذلك أنه إلى جانب الفلسفة الإسلامية القائمة على منطق العقل، ترى جماعةَ المتصوِّفة المسلمين يَلجَئُون لمعرفة الحق إلى شيءٍ غير العقل ومنطقه؛ إذ يَلجَئُون إلى الحَدْس المباشِر، أيْ إنهم يَلجَئُون إلى دمج أنفسهم في الحق دمجًا يتيح لهم أن يَشْهَدوه شُهودًا مباشِرًا وأن يتذوَّقوه، وهذه — كما أسلفنا لك القول في مواضع كثيرة — هي نفسها وسيلةُ الفنان في الإدراك، فهذا هو «ذو النون» المصري المتصوِّف (تُوفِّي ٨٥٩م) يقول في عبارة صريحة: «إن المعرفة الحقيقية بالله … ليست من علوم البرهان والنظر، التي هي علوم الحكماء والمتكلمين والبُلَغاء، ولكنها معرفةُ صفاتِ الوَحْدانية التي لأولياء الله خاصةً؛ لأنهم هم الذين يشاهدون الله بقلوبهم، فيكشف لهم ما لا يكشفه لغيرهم من عباده.» وكذلك يقول: «المعرفة الحقيقية بالله هي أن يُنِير الله قلبك بنور المعرفة الخالص …» «والعارفون بالله فانُون عن أنفسهم، لا قوامَ لهم بذواتهم، وإنما قوامُهم من حيث ذواتهم بالله، فهم يتحركون بحركة الله، وينطقون عن الله بما يُجرِيه على ألسنتهم، وينظرون بنور الله في أبصارهم.» وهكذا ترى «ذا النون» — جرْيًا على سُنَّة المتصوِّفة جميعًا — يجعل الإدراكَ دمجًا للذات العارفة في الموضوع المعروف، فلا يكون هنالك إلا حقٌّ واحد، فيه اتَّحَد الإنسان بالله؛ إذ تَفْنى ذاتيةُ الإنسان بزوال صفاته البشرية جميعًا، بحيث لا يكون له بعدئذٍ بقاءٌ إلا بما قد أفنى نفسَه فيه من صفات الله؛ وتلك حالةٌ شديدةُ الشبه بحالة «النرفانا» التي حدَّثناك عنها حين حدَّثناك عن الشرق الأقصى، فقلنا إن الفرد الناظر بحَدْسه المباشِر إلى محيطه الكوني، إنما ينمحي فيه انْمِحاءً تامًّا، فينمحي تَبَعًا لذلك وهْمُه بأنَّ له وجودًا حقيقيًّا خاصًّا به.

ولمَن شاء كذلك أن يقرأ «تائية» عمر بن الفارض (وُلِد بالقاهرة ١١٨٢م، وتُوفِّي بها ١٢٣٥م)، التي ترقى إلى أن تكون آيةً من آيات الأدب الصوفي في العالَم كله؛ فهو في هذه القصيدة العصماء يتكلم بلسان الصوفي الذي وصل إلى مَقام «الاتحاد»، وفيها يَصِف فناءَ ذاته في محبوبه (الذات الإلهية) بأنها حالةٌ تتجرَّد فيها النفس من رغباتها وميولها وبواعثها، بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة أصبحت النفْسُ طوْعَ الإرادة الإلهية تُحرِّكها كيف تشاء، وهذا هو حبُّ الله لها، ولكن المُحِب والمحبوب يكونان شيئًا واحدًا، فيتَّحِد العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق في شخصيةٍ واحدة:

كِلانا مُصَلٍّ واحدٌ ساجِدٌ إلى
حقيقتِه بالجمع في كلِّ سَجْدةِ
وما كان لي صلَّى سواي ولم تكن
صَلاتي لغيري في أَدَا كلِّ رَكْعةِ

•••

فلا حيَّ إلَّا مَن حياتي حياتُه
وطَوْعُ مُرادي كلُّ نفسٍ مُرِيدةِ
ولا قائلٌ إلَّا بلفظي مُحدِّثٌ
ولا ناظِرٌ إلَّا بناظِرِ مُقْلَتي
ولا مُنصِتٌ إلا بسَمْعي سامِعٌ
ولا باطِشٌ إلَّا بأزْلي وشِدَّتي
ولا ناطِقٌ غيري ولا ناظِرٌ ولا
سميعٌ سِوائِي من جميعِ الخليقةِ

وهكذا عبَّرَ ابن الفارض عن الحالة الصوفية «التي يَفْنى فيها العبد عن صفاته البشرية ليتحقَّق وجوده بصفات الربوبية.»

ثم اقرأ قولة الحلَّاج المشهورة «أنا الحق»، التي صاغ بها مذهبه في وَحْدة الوجود صياغةً مختصرة واضحة، فهو يرى أن الإنسان إذا ما طهَّرَ نفسه وصفَّاها بأنواع الرياضة والمُجاهَدة والزهد، وجَدَ حقيقةَ الصورة الإلهية التي طبَعَها الله فيه؛ لأن الله خلق الإنسان على صورته، وهو في ذلك يقول: تجلَّى الحق لنفسه في الأَزَل، قبلَ أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حَضْرة أُحَدِيَّته مع نفسه حديثٌ لا كلامَ فيه ولا حروف، وشاهد سبحات ذاته في ذاته، وفي الأَزَل — حيث كان الحق ولا شيءَ معه — نظر إلى ذاته فأحَبَّها وأثنى على نفسه، فكان هذا تجلِّيًا لذاته في ذاته في صورة المَحَبة المُنزَّهة عن كل وصف وكل حد، وكانت هذه المَحَبة عِلَّةَ الوجود والسبب في الكثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلًا في صورةٍ خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرَجَ من العَدَم صورةً من نفسه لها كلُّ صفاته وأسمائه وهي آدم الذي جعله الله صورتَه أبدَ الدهر، ولمَّا خلق الله آدمَ على هذا النحو عظَّمَه ومجَّدَه واختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو.

ونختم حديثَنا عن الجانب الصوفي من الثقافة الإسلامية بكلمةٍ عن أبي حامد الغزالي، الذي كثيرًا ما قال المسلمون عنه: «لو كان بعدَ النبيِّ محمدٍ نبيٌّ لَكان الغزاليُّ ذلك النبي.» وكلنا يعلم كيف بدا له في سِنِّ الصِّبا أن يترك الأخذ بالعقائد والآراء تقليدًا لسِواه، وكيف أخذ يبحث عن الطريق الحقيقي لتحصيل العِلم اليقيني، فلمَّا أعجَزَه ذلك وقع في غَمْرة من الشك، حتى اعتراه المرض إلى أن أنقَذَه الله من ضلاله، وقذف بنوره في قلبه، فاستعاد قُوَاه، وبدأ يفكِّر من جديد ويبحث من جديد، فكان أنْ هداه الله إلى كُتُب الصوفية فوجد فيها طَلِبَتَه، كما وجد في طريقتهم سبيلًا إلى الحق واليقين.

أخذه الشكُّ فنازعَتْه نفْسُه وتجاذَبَتْه العواملُ المختلفة بين أنْ يضحِّي بجَاهِه العريض وشُهْرته الواسعة — إذ كان أستاذَ العلوم الدينية بالمدرسة النِّظَامية ببغداد — وبين أن يخرج عن كلِّ هذا إلى حياة الزُّهْد والعُزْلة بعدما أيقَنَ أن «نِيَّتَه في التدريس غيرُ خالصة لوجه الله … وأن كل ما فيه من العلم والعمل رياءٌ وتخييل»، فأدَّى به طول التردُّد وحِدَّة الصراع النفسي إلى المرض، فالْتَجأ إلى الله، فأجابه الله وسهَّلَ على قلبه الإعراضَ عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، فترك بغداد وعاش عِيشةَ العُزْلة عشْرَ سنوات تعلَّمَ في أثنائها التصوُّفَ لا عن طريق العِلم والكُتُب فحسب، بل عن طريق العمل أيضًا، وأخيرًا عاد إلى طوس مسقط رأسه بخُراسان، بعدَ أن استأنف التدريسَ مدةً يسيرة ومات بها عام ١١١١م.

يحكي لنا الغزالي ذلك عن نفسه في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهو في هذا الكتاب يميز بين مرحلتين من مراحل الطريق الذي وصل به إلى الله، أمَّا المرحلةُ الأولى — وهي مرحلة الكشف الإلهي الذي نجَّاه الله به من غائلة الشك — فيقول فيها: «فأعضَلَ هذا الداءُ ودامَ قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السَّفْسَطة بحُكْم الحال لا بحُكْم النُّطْق والمَقال، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض، وعادَتِ النفسُ إلى الصحة والاعتدال، ورجعَتِ الضروراتُ العقلية مقبولةً موثوقًا بها على أَمْن ويقين، ولم يكن كل ذلك بنَظْم دليلٍ وترتيبِ كلام، بل بنورٍ قذَفَه الله تعالى في الصدر، وذلك النورُ هو مِفْتاحُ أكثرِ المعارف؛ فمَن ظنَّ أن الكشف موقوفٌ على الأدلة المجردة، فقد ضيَّقَ رحمةَ الله الواسعة.» والجملةُ الأخيرة من هذا النص هي خلاصةُ ما نريد أن نجعله علامةً مميزة لثقافةِ الشرق الأوسط كلها، وهي أن ثمةَ طريقين للإدراك لا طريقًا واحدًا، أحدهما هو الأدلة العقلية المجردة، وذلك هو أساس العلم، والثاني هو اللمسة الذاتية المُباشِرة، وذلك هو أساسُ الإيمان وأساسُ التصوف وأساسُ الفن على حدٍّ سواء.

وأمَّا المرحلةُ الثانية من مراحل تَوْبته، ففيها يقول إنه بعدَ أن استعرَضَ أقوالَ المتكلمين والفلاسفة: «أقبلتُ بهِمَّتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتمُّ بعِلم وعمل، وكان حاصلُ علمهم قطْعَ عَقَبات النفس، والتنزُّه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصَّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذِكْر الله، وكان العِلْم أيسرَ عليَّ من العمل، فابتدأتُ بتحصيل عِلمهم من مُطالَعة كُتُبهم … وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطَّلَعت على كُنْه مقاصدهم العلمية، وحصَّلتُ ما يمكن أن يُحصَّل من طريقهم بالتعلُّم والسماع، وظهَرَ لي أنَّ أَخَصَّ خواصِّهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلُّم، بل بالذوق والحال، وتبدُّلِ الصفات، فكَمْ من الفرق بين أن يَعلَم حدَّ الصحة وحدَّ الشَّبَع وأسبابَهما وشروطَهما، وبين أن يكون «الجسم» صحيحًا وشبعان، وبين أن يعرف حدَّ السُّكْر وبين أن يكون سكران، بل السكران لا يعرف حدَّ السُّكر وعِلْمه وهو سكرانُ وما معه من عِلمه شيء، والصاحي يعرف حدَّ السُّكر وأركانَه وما معه شيءٌ من السُّكر … فعلمتُ يقينًا أنهم (أيِ الصوفية) أربابُ أحوال لا أصحابُ أقوال، وأنَّ ما يمكن تحصيله بطريقِ العلم فقد حصَّلتُه، ولم يَبْقَ إلَّا ما لا سبيلَ إليه بالسماع وبالعلم، بل بالذوق والسلوك …»

هذه التفرقة التي وصَفَها الغزالي وصْفًا ينبض بالتجرِبة الوِجْدانية الحية، بين العلم العقلي بشيءٍ وأن يحيا الإنسان ذلك الشيءَ حياةً حقيقية، هي نفسها التفرقة بين نظرة العالِم من جهةٍ ونظرة الفنان من جهةٍ أخرى، وقد تمثَّلَتِ الأولى على الأغلب في ثقافة الغرب، وتمثَّلَتِ الثانيةُ على الأغلب في ثقافة الشرق الأقصى، وتجاوَرَتِ النظرتان في الشرق الأوسط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤