الفصل الثالث

نظرةُ الشَّرقي هي في جوهرها نظرةُ الفنان، تمسُّ الأشياءَ مسًّا مباشِرًا يهزُّ الوجدان، ولا تبعد عن الأشياء بالتحليل والتجريد اللذين هما من وظائف العقل المنطقي الصِّرْف، وهي نظرةٌ ترى الكائنَ الواحد في مجموعه كأنه حقيقةٌ واحدة، لا بعناصره التي ينحلُّ إليها ويتألَّف منها، ثم هي نظرةٌ سرعانَ ما تَهتدِي إلى الوَحْدة التي تضمُّ شتَّى الكائنات في كائنٍ واحد يَطْوِيها في ذاته فإذا هي جزءٌ منه؛ فمهما يكن من أمرِ هذه الكَثْرة الكثيرة التي تراها أَعْينُنا هنا وهناك في أرجاء المكان، فالحقيقةُ واحدةٌ لا تَعدُّدَ فيها.

والطابعُ الذي يُميِّز هذه النظرةَ الجمالية للوجود، فيُميِّز بالتالي ثقافةَ الشَّرق، إنَّما يَتمثَّل في الأسفار الدينية، وفي الكُتُب المُنزلة التي أراد الله أن يُوحِي بها في بِقاع الشرق المبارك، فمن هذه الأسفار والكُتُب انبثقَتْ نظرةُ الشرقي إلى الحياة وإلى الفن وإلى الدنيا وإلى الآخِرة، ومَن لم يتمثَّل الرُّوحَ المنبثَّة السارية في هذه الأسفار والكُتُب، بحيث يَمزُجها بنفسه مَزْجًا، فلا أملَ له في معرفةٍ صحيحة عن الشرق وثقافته، حتى لقد قِيل إنَّ تفهُّمَ هذه الأسفار والكُتُب لَيُغنِي الغريبَ عن السَّفَر إلى الشرق والعيش فيه بين أهله وبَنِيه؛ لأنه إنْ أدرَكَها تمامَ الإدراك، فقد أدرَكَ تلك الوحدانية الصوفية التي تَدْمُج الكونَ في كائنٍ واحدٍ على اختلاف ما فيه من كائنات، أو التي تجعل للكون ربًّا واحدًا على تعدُّد ما فيه من أشياء وأحياء، وأمَّا مَن لم يستطع أن يَتمرَّس هذه الخبرةَ الرُّوحانية في حياته وفي فلسفته، فهو أبعدُ ما يكون عن رُوح الشرق، ولو عاش في رُبُوعه طيلةَ حياته.

نعم، إنَّ هذا بعَيْنه يَصْدُق على كلِّ ثقافةٍ غير ثقافة الشرق، فحسْبُك أن تَدْرس وتتمثَّل ذخيرةَ الغرب الفكرية لتصبح ذا نظرةٍ غربية إلى دنياك، ولكنه أصدقُ بالنسبة إلى الشرق منه بالنسبة إلى الغرب؛ لأنَّ ثقافة الشرق — كما أسلفنا — مُعتمِدةٌ على اللمسة الفنية والخبرة الذاتية الباطنية، وثقافة الغرب أقربُ إلى النظرة العلمية، واللمسة الفنية مستحيلةٌ على مَن لم يُمارِسْها لمْسًا مباشِرًا، كما يستحيل على مَن لم يَذُق لونًا من الطعام أن يعرف كيف يكون طَعْمه على ذَوْق اللسان، وأمَّا النظرةُ العلمية فتُوقِف صاحبَها على مَبْعَدة من موضوعِ بحثه، فليس به حاجةٌ مثلًا إلى أن يرى الضوءَ بعينَيْه ليفهم قوانينَ الضوء في عِلم الطبيعة.

ففي مصر القديمة كان الدِّين — والدِّينُ خبرةٌ ذاتية لا صيغةٌ رياضية نظرية — عمادَ الحياة ومحورَ الأدب والفن وأساسَ النظام الاجتماعي كله، وقد كانت عقيدةُ المصري أنَّ بدايةَ الخلق هي السماء، ولكنَّه لم يصوِّر لنفسه هذه السماء وأجرامها تصويرًا يُحوِّلها إلى مسافات وأبعاد فلكية يَقِيسها القَيَّاسون ويَحْسبها الحاسبون، بل تصوَّرَها قبةً تقف في فضائها الرحيب بقرةٌ عظيمة أقدامُها مُرتكِزة على الأرض، وبطنُها هو هذا الذي تراه مُزْدانًا بآلاف النجوم الساطعة، وبهذه الصلة بين الأرض والسماء عن طريق البقرة الثَّرَّة الوَلُود، وُلِدت الأشياءُ جميعًا … فماذا تكون هذه النظرةُ إنْ لم تكن نظرةَ الفنان؟

ونظر المصري إلى الحياة فلم تتحوَّل في عينَيْه «بيولوجيا» تخضع لتجارب العلماء، بل نظر إليها فإذا هي حقيقةٌ متصلة واحدة مُقدَّسة أصولًا وفروعًا؛ فمصدرُ الحياة مُقدَّسٌ، نباتًا كان أو حيوانًا، فالنخلةُ السامقة المُثقَلة بثَمَرها والوارِفةُ بظِلِّها في قلب الصحراء، والجُمَّيزةُ التي تزدهر وتترعرع في الرمال، والماءُ الذي يَسْقِيهم، كلها قَمِينةٌ بالقداسة والتوقير … أَلَا ما أجملَ أن ترى القرَويَّ حتى يومنا هذا ينحني لقطعة الخبز إذا وجدها مُلقاةً في عُرْض الطريق، فيُقبِّلها ثم يضعها في حضن الجدار بمَأْمَن من أقدام السائرين؛ لأنَّ لقمةَ الخبز نعمةُ الله إذ هي مِن مُقوِّمات الحياة.

والمغرورُ من الناس هو الذي ينظر إلى صنوف الحيوان والطَّيْر، فلا يلمس فيها رابطةَ الحياة التي تُؤَاخِي بينه وبينها، فلا غرابةَ أن يهتدي المصري بوجدانه الحي الحسَّاس إلى توقيرِ هذه الأسرة الكبيرة بمختلِف أفرادها توقيرًا بلَغَ حدَّ التقديس.

على أنَّ ما هو أقربُ صلةً بموضوعنا، عقيدةُ المصري في الخلود؛ فها هو ذا النيلُ يَغِيض ثم يَفِيض بالحياة، وها هو ذا النباتُ يَذْبُل ويَذْوِي مع الخريف والشتاء، ثم يَحْيا ويَزدهِر مع الربيع والصيف، أَفيكونُ الخلودُ مكتوبًا للماء والنبات ولا يُكتَب للإنسان؟ كلا! بل إنَّه لَيَعُود إلى الحياة بعد موت، يَعُود ليحيا حياةَ الخلود في فردوس السماء، على شريطةِ ألَّا يكون قد اقترَفَ في حياته من الإثم ما يستلزم بقاءَ جسده في قبره ظمآنَ جائعًا، ولقد أُعِدَّ مَركبٌ للصالحين يَعبُر بهم إلى حيث الجنة الأبدية، لكنَّ أحدًا من الناس لا ينزل هذا المَركبَ إلا بعد حسابٍ يُؤدِّيه له «أوزيريس» بميزان، فيضع قلبَه في كفَّة، ويضع ريشةً خفيفة في الكفَّة الأخرى، حتى إذا ما تعادَلَا كان جزاؤه العبورَ إلى جنة الخلد … فماذا تكون هذه الصورة إذا لم تكن من لَمْسة الفنان؟

واستمِعْ إلى هذا الدُّعاء يُخاطِب به الإنسانُ قاضِيَه الإلهي عند لقائه — وهو من المجموعة الكبيرة من الأدعية والصلوات والتعاويذ التي يُطلَق عليها اسم «كتاب الموتى»:
يا مَن يَكمُن في كلِّ خفايا الحياة،
ويا مَن يُحصِي كلَّ كلمةٍ أنطِقُ بها،
انظر! إنك تَستحِي مني، وأنا وَلَدك،
وقلبك مُفعَم بالحزن والخجل؛
لأني ارتكبتُ في دُنياي مِنَ الذنوب ما يُفعِم القلبَ حزنًا،
وقد تَماديتُ في شُرُوري واعتدائي،
فعَفْوك اللهم عَفْوك،
حَطِّمِ الحواجزَ القائمة بيني وبينك،
وَامْحُ اللهم ذنبي؛
لتَسْقط آثامي عن يمينك وشمالك.
أو استمِعْ إلى هذا الدعاءَ يُخاطِب به الإنسانُ قاضِيَه الإلهي ليُثبِتَ له براءتَه من الذنوب:

سلامٌ عليك أيها الإله العظيم، ربُّ الصِّدق والعدالة! لقد وقفتُ أمامك يا رب، وجِيء بي لأشهدَ جمالَك … جِئتُ إليك أحملُ قولَ الصدق. إني لم أظلم الناس … لم أظلم الفقراء … لم أفرض على رجلٍ حُرٍّ أكثرَ مما فرَضَه هو على نفسه … لم أهمل ولم أرتكب إثمًا بغيضًا لدى الآلهة، ولم أكن سببًا في أن يُسِيء السيدُ مُعامَلةَ عبده، لم أُمِت أحدًا من الجوع، ولم أُبْكِ أحدًا، ولم أقتل أحدًا، ولم أخدع أحدًا … لم أُطفِّفِ الكَيْل، ولم أَنتزِع اللبن من أفواه الرُّضَّع … أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر.

على أنَّ المصري القديم قد بلغ من نظرته الرُّوحانية الفنية ذُرْوتَها في شخصِ «إخناتون»، الذي ربما كان أولَ إنسانٍ في الوجود أدرَكَ وَحْدانية الوجود، أدرَكَها بالبصيرة لا بالبصر، أدرَكَها بخَفْقة الوجدان لا بالقياس العقلي، أدرَكَها بطَوِيَّته لا من خارج، أدرَكَها بالرُّوح لا بالبدن، أدرَكَها إدراكَ الفنان لا إدراكَ العالِم، وهاكَ ترنيمةً من ترانيمه الخالدات، لترى هل ينطق بمثل هذا الكلام إلا شاعِرٌ فنان؟

قال يخاطب الشمسَ رمزَ الإله الواحد، ومصدرَ النور والحياة:

ما أجملَ مَطْلعَك في أُفق السماء! إيه يا مُنشِئ الحياة، ويا مُخرِج الأحياء، إنك إذا أشرقْتَ ملأْتَ الأرض جمالًا من جمالك، فأنت الجميل العظيم المُضِيء المتعال، يحيط شعاعك بالأرض وما عليها من خلائقك التي ربطْتَها جميعًا بآصِرة من حبك، فمهما نأيْتَ غمرْتَ الأرضَ بنورك، ومهما علوتَ ألمَّتْ أطرافُك بالأرض لألأةً بإشراقِ الضحى.

إنك حين تَغْرُب يكتنف الأرضَ ظلامٌ كالموت، ويأوي الناسُ إلى مخادعهم، معصوبةً رءوسهم، مسدودةً خياشيمهم، لا يرى أحد منهم أحدًا … وعندئذٍ يخرج الأسد من عرينه، وتلدَغُ الأفعى، وتسكن الدنيا سكونًا لا حَراكَ فيه.

أَلَا ما أبهى الأرضَ حين تُشرِق أنت في الأفق فتُضِيئها بنورك يا مصدرَ النور، فتمحو آيةَ الظلام … ويستيقظ الناس وينشطون، فيغسلون أجسادَهم ويرتدون ثيابَهم، ويرفعون أيديهم تمجيدًا لطلعتك.

عندئذٍ تَنْشَط الدُّنيا بالعمل، وتستريح الأنعامُ في مراعيها، ويزدهر الشجر، ويُورِق النبات، ويرفرف الطير في مناقعه باسطَ الجناحين تسبيحًا بحمدك، وترقص الأغنام نشوانة، ويطير كل ذي جناحين؛ إنَّها كلها لَتحيا بإشراقك عليها.

وبإشراقك تُقلع السفائن رائحةً غادية، وتَثِب الأسماك في أنهارها، ويَتَلألأ بشُعاعك البحرُ العظيم الأخضر.

يا خالقَ الناسلة في المرأة، ويا صانعَ النُّطْفة في الرجل، ويا واهبَ الحياة للجنين في بطن أمه، تهدهده فلا يبكي، وتَغْذُوه وهو في الرَّحِم، يا واهبَ الأنفاس ويا محرِّكَ العباد! إنَّه إذا ما خرج الوليد من بطن أمه، فَرَجْتَ شفتَيْه لينطق، وسدَدْتَ له حاجته.

إنك أنت واهبُ الحياة للفَرْخ في بيضته، وحافظ له حياته حتى يخرج منها مُغرِّدًا بكل قوته، ماشيًا على قدمَيْه منذ اللحظة الأولى.

زُرْقة السَّماء وصُفْرة الصَّحراء، هكذا رأى المصري بلادَه نورًا على نور، فأقام شوامخَ الأهرامات والمعابد، وسَوامِقَ المَسلَّات والتماثيل، ليصل بين النورين، وجاشت نفسه بما لمسه في الطبيعة كلها من حوله، من صمتٍ رهيب، فتكلَّمَ مُعبِّرًا عما جاش في نفسه، تكلَّمَ بلغةِ الحجر الأصَمِّ تماثيلُ تراها على اختلاف عصورها ذات طابع واحد، هو طابع الجلال الهادئ الرزين الرصين، تراها فتحسبها الرُّهْبان قد ملَأَتْهم السَّكِينة والرضا، وترى على شِفَاهها بَسَمات خفيفات هامسات، فيها معنى الإشفاق على مَن أَلْهَتْه دنيا العوابر والزوائل؛ هذا الإيمانُ الصابر، هذا الجلالُ الصامت، هو المصري من أوَّل عصوره حتى اليوم، وإنما اكتسب المصري القديم فنَّه من عقيدته، ثم استمدَّ حكمتَه من فنه، وكلُّها جوانبُ من نفسه نشأت حين لمس الوجودَ لَمْسةَ الرُّوحاني الفنان.

وأنظرُ إلى التَّصوير المصري على جدران المعابد، أنظرُ إليه نظرةَ الفاحص المتأمل، وأعجبُ أن يمضي على هذا التصوير ثلاثون قرنًا أو يزيد، وإذا بالفنان المعاصر — فنان القرن العشرين — يعود القَهْقَرى مع القرون، ليجعل مبادئ فن التصوير كما عرفه المصريون هي المبادئ التي يَثُور بها على الفن الأوروبي التقليدي، ثم يجعلها هي نفسها المبادئ التي يحتذيها ويسير في فنه الحديث على نهجها.

ذلك أنَّ المصوِّر المصري كان يرسم شخوصَه مسطوحةً ذات بُعْدين، ويُهمِل البُعْد الثالث الذي من شأنه أن يُظلِّل الرسوم ليُجسِّمها فتصبح على اللوحة كما هي قائمة في عالَم الواقع؛ أقول إنَّ الفنان المصري كان يُهمِل البُعْد الثالث، لا جهلًا منه بقواعد المنظور في الرسم، بل إدراكًا منه بجوهر الفن الأصيل، وهو ألَّا يُحاكِي الفنانُ بفنِّه موجوداتِ الطبيعة الخارجية محاكاةً تجعل اللوحةَ الفنية صورةً تُطابِق الواقعَ كما يعرفه الإنسان بعقله، لا كما ينطبع ذلك الواقع على حواسِّه؛ فأنت إذ ترى رجلًا قائمًا أمامك على مَقْرُبة أو على مَبْعَدة، إنما ترى منه في حقيقة الأمر مُسطَّحًا مُلوَّنًا، فإذا قدَّرتَ لنفسك بعد ذلك أنه جسمٌ ذو أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق، فإنما تضيف العمق من خبرةٍ أخرى غير الخبرة المباشِرة التي تنطبع على شبكية العين عند الرؤية. ولقد أراد الفنانُ المصري أن يكون أمينًا في فنه مُخلِصًا لحواسِّه، فأثبت على لوحاته رسومَ الأشياء وفْقَ إدراكِ الحس لها لا وفْقَ حسابِ العقل، وها هم أولاء قادةُ الفن في عصرنا الراهن «بيكاسو» و«جوجان» و«ماتيس» وغيرهم، يَثُورون على التقليد الذي كان قائمًا في الفن الغربي منذ النهضة الأوربية في القرن السادس عشر، ويستلهمون الفنَّ القديم في مبادئه؛ لأنه أقربُ إلى الخلق الفني بمعناه الصحيح.

وكذلك لم يكن الفنان المصري — إذ يضع على لوحةٍ عدةَ أشياء، بعضُها قريبٌ منه وبعضُها بعيدٌ عنه — لم يكن ذلك الفنان يعبأ عندئذٍ بقواعد المنظور، من حيث تكبير القريب وتصغير البعيد، بل كان يضع أشكالَه كلها في حجم واحد رغم تَفاوُتها في البُعْد بعضها عن بعض، فتراه يرصُّها جنبًا إلى جنب، أو يضعها بعضها فوق بعض، كأنما هي كلها في مستوًى واحد، ثم لم يكن يعبأ أيضًا برسم المحيط الذي تكون تلك الأشياء موضوعةً فيه، فلا منظرَ من مناظر الطبيعة، ولا جدرانَ غرفةٍ ولا أرضية بأي معنًى من المعاني … وهو ها هنا أيضًا لم يكن جاهلًا بقواعد المنظور، بل كان على وعي كامل بأنه فنانٌ حرٌّ في وضع أشيائه، ولا إلزامَ عليه بأن يجعل صورتَه تنطق بالمحاكاة الدقيقة للطبيعة كما هي قائمة.

وانظرْ آخِرَ الأمر كيف كان يرسم الفنان أشخاصَه: فالوجهُ جانبي، ولكن العين مرسومةٌ كاملة على الجانب الظاهر، والصدر متَّجِه كله إلى الأمام، غير مُلتفِت إلى جانب مع اتجاه الوجه، ثم القدمان متَّجِهتان إلى جانب، على غير اتساقٍ بينهما وبين اتجاه الصدر، ولا مانعَ عنده من أن يجعل الفخذين ظاهرين كأنهما عاريتان، مع أنه يلفهما بالرداء، فهو يضع الثوب على الجسم، ثم يتجاهل وجوده ليُظهِر ما تحته، وهكذا وهكذا من ألوانِ الخروج على قواعد المنظور. لماذا؟ لا لأن الفنان جاهلٌ بتلك القواعد، بدليلِ أنه يُراعِيها كلما أراد ذلك، إنما هو يصدر عن مبدأ فني أصيل، وهو أن يُبرِز «الشكل» (الفورم) على أكمل وجوهه، فخيرُ شكلٍ يبدو عليه الوجه هو الجانب، فيرسمه ملتفتًا إلى جانب، وخيرُ شكلٍ تبدو عليه العين هو أن تكون شاخصةً كلها إلى أمام، فيرسمها بأكملها على جانب الوجه رغم قواعد المنظور، وخيرُ شكلٍ للجِذْع هو أن يكون متَّجِهًا إلى أمام، فَلْيكن كذلك، سواء وافَقَ هذا الوضْعُ وضْعَ الوجه الجانبي أو لم يوافقه، وخيرُ شكلٍ للقدمين هو حين تكون جانبية ليراها الرائي كاملة، وإذن فَلْتكن كذلك في الصورة، ولا عِبْرةَ باتفاقِ وضْعِهما مع وضع الصدر والوجه والعين. ثم لماذا يجعل الثوبَ يُخفِي الفخذين ما دام هدفه هو أن يُبرِز شكلَ الفخذين في استدارتهما واستقامتهما، فليس الأصل عنده هو أن يُحاكِي الواقعَ على حقيقته، بل الأصل هو أن يُوضِّح الأشكالَ في أجمل صورها … ليس الفنان آلةَ تصوير تنقل عن الطبيعة وهي صمَّاء بكماء، فتنقلها كما هي، بل الفنان إنسان خلَّاق يتصرَّف في خلقه الفني كما يَهْدِيه ذوقه وفطرته، ولقد كان الفنان المصري أوَّل مَن عرفته دنيا الفنون أو يكاد، لكنَّه كان من سلامة الذوق والفطرة بحيث استطاع أن يقع على المبادئ الفنية التي غفلت عنها القرون الطويلة بعدئذٍ، حتى جاءت بعض مدارس الفن المعاصرة فالتقطَتْ أطرافَ الخيوط من جديدٍ لتستأنف السير في طريقٍ شَقَّها ذلك الفنانُ الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤