مقدمة

الأدب العربي القديم من أعرق الآداب وأبرعها في رسم الأشخاص وتصوير الطبائع. وما من عجب في ذلك، فهذا الأدب وليد حضارة ذكية خلاقة. إنما العجب هو أن يبقى أكثر آثاره وكنوزه بعيدًا عن متناول العالم الغربي الذي رشف من نبع الإغريق والرومان.

أغلب الظن أن علة ذلك ترجع إلى اختلاف النظرة إلى الجمال الفني عند العرب والغرب؛ فالعرب يرون الفن الأعلى في الإيجاز، أي التركيز، في حين أن الغرب يرى الفن الأغنى في الإطناب أي التحليل. وكان من أثر الإيجاز أن اكتفى العرب في رسم شخصية أو تصوير طبع بنادرة تُروى أو حادثة تُذكر أو بيت من الشعر يُنظم، فيجدون في ذلك متعتهم وبغيتهم. بينما الغرب لا يكتفي باللمحة الخاطفة ولا تشبعه النادرة العابرة، فهو يريد اللوحة الكاملة ذات الحوادث المتصلة.

والنظرتان إلى الفن صحيحتان؛ فللإيجاز جماله وقوته، وهو يفترض في المتذوق له ذكاءً وفطنة وتصورًا وعلمًا، فيبصر الكثير من خلال القليل، ويلمح الصورة التامة من وراء الجزء المقتضب … فن يبدعه منشئ بارع لقارئ بارع يتباريان في ميدانه، مُنتضِيَين أسلحة متكافئة من الذوق والفهم.

كما أن للتحليل أيضًا مزاياه؛ فهو يفترض في المتذوق له خلو الذهن أو قصور الخيال … فيرى من واجبه أن يعاونه ويكون في خدمته، وأن يحتال بالإسهاب والتفصيل ليُعلم من لا يَعلم … فيجتذب من الناس عديدًا ينشر فيهم دعوته ويبلغهم رسالته.

•••

لو استطعنا أن نوفق بين النظريتين، ونجمع بين الفنين، لكانت النتيجة أتم والفائدة أعم.

وهذا ما أخذت به نفسي حين وضعت هذا الكتاب في عام ١٩٣٨م، في ذلك الإطار الذي يُظهرنا على صورة من المجتمع العربي في ذلك العصر، نكاد نلمس لها وشائج قربى بما نراه اليوم في بعض أحياء مدننا وعادات مجتمعنا.

فالمالك والمستأجر وما بينهما من علاقة … والمنازل ومرافقها، والسوق وحركتها، والولائم ومراسمها، والحمام وزبائنه، والحلاق وطباعه … كل تلك الصور عن الحياة الاجتماعية، كما بدت من الأدب العربي القديم، قد راقتني فيما راقني من طبائع وأشخاص رأيت أنْ أُبرِزها إلى جانب شخصية «أشعب»، ذلك الراصد للموائد والطعوم كما يرصد الفلكي الكواكب والنجوم، وأشهد أني ما رأيت قط في أدب من الآداب صورة لطفيلي أدق من صورته، فتتبعت آثاره وتنسمت أخباره، وطفقت أجمع نوادره من كتب الأقدمين، وأمزجها وأخلطها وأطبخها، على حد تعبيري في بيان الطبعة الأولى؛ إذ قلت يومئذٍ: «ما دمنا في صدد المعدة — أعني معدة أشعب — فلأبين للناس كيف طبخت لهم هذا اللون من ألوان الأدب. لقد استحضرت اللحم والبقل والتوابل والأبازير من حوانيت أربعة مشاهير: «الجاحظ» و«ابن عبد ربه» و«الخطيب البغدادي» و«بديع الزمان». فقد بهرني حقًّا وأسال لعابي ما وجدته لديهم من اللذائذ والطرائف. غير أني وجدت كل هذا مبعثرًا ضمن بضاعتهم، ومُلقًى على غير نظام، حتى وقع الملح على السكر. كما وجدت أكثر هذه الأشياء شائعة مكررة بنصها وتفصيلها عند الأربعة، كلٌّ يضعها من حانوته نفس الوضع، ويعرضها عين العرض، فملأت يدَيَّ مما تخيرت من أطايبها وذهبت به إلى «مطبخِ» فني، حيث مزجته وخلطته وجعلت منه «عجينة» واحدة، صنعت منها هذه القصة المتصلة الفصول.»

توفيق الحكيم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤