محرم الحرام ابتدا سنة ألف ومايتين وسبعة عشر هجرية (١٨٠٢م)

استهل بيوم الاتنين، فيه تواترت الأخبار بحصول الصلح العمومي بين القرانات جميعًا ورفع الحروب فيما بينهم.

وفيه ترادفت الأخبار بأمر عبد الوهاب وظهور شأنه من مدة تلات سنوات من ناحية نجد، ودخل في عقيدته قبايل من العرب كثيرة، وبثَّ دعاته في أقاليم الأرض، ويزعم أنه يدعو إلى كتاب الله — سبحانه وتعالى — وسنَّة رسوله، ويأمر بترك البدع التي ارتكبها الناس ومشوا عليها إلى غير ذلك.

وفيه سافر عثمان كتخدا الدولة إلى الديار الرُّومية، ونزل إلى بولاق، وضربوا له عدة مدافع، وأخذ صحبته الخزينة، وسافر معه مختار أفندي ابن شريف أفندي دفتردار مصر.

وفي هذه الأيام حصلت أمطار متتابعة وغيام ورعود وبروق عدة أيام، وذلك في أواسط نيسان الرُّومي.

وفي ذلك اليوم نبهوا على الوجاقات والعسكر بالحضور من الغد إلى الديوان لقبض الجامكية، فلما كان في صبحها يوم التلات نصبوا صيوانًا كبيرًا ببركة الأزبكية، وحضر العساكر والوجاقلية بترتيبهم، ونزل الباشا بموكبه إلى ذلك الصِّيوان وهو لابس على رأسه الطلخان والقفطان الأطلس، وهو شعاير الوزارة، ورصوا الأكياس وخطفوها على العادة القديمة، فكان وقتًا مشهودًا.

وفي يوم التلات تاسعه حضر كبير الإنكليز من السكندرية، ونصبوا وطاقهم ببر إنبابة، فلما كان يوم الأربع يوم عاشوراء عَدَّى النيل كبير الإنكليز ومعه عدة من أكابرهم فتهيَّا لملاقاته الباشا، واصطفت العساكر عند بيت الباشا.

ووصل الإنكليز إلى الأزبكية وطلعوا إلى عند الباشا وقابلوه، فأخلع عليهم وقدَّم لهم خيلًا وهدية، ثم نزلوا وركبوا ورجعوا إلى وطاقهم، وعند ركوبهم ضربوا لهم عدة مدافع فلم يعجب الباشا ضربها، فأمر بحبس الطبجية لكونهم لم يضربوها على نسق واحد.

وفيه وردت الأخبار بأن الإنكليز أخلوا القلاع بإسكندرية، وسلموها لأحمد بك خورشيد وذلك يوم الاتنين تامنه، وأبطلوا الكرنتيلة أيضًا، وحصل الفرج للناس، وانطلق سبيل المسافرين برًّا وبحرًا، وأخذ الباشا في الاهتمام بتشهيل الإنكليز المسافرين إلى السويس والقصير، وفيما يحتاجون إليه من الأدوات والطلب والجمال والعليق وجميع ما يلزم، ولما حضر الإنكليز إلى عند الباشا، فدعوه إلى الحضور عندهم فوعدهم على يوم الجمعة.

فلما كان يوم الجمعة تالت عشره ركب الباشا وصحبته طاهر باشا في نحو الخمسين، وعدى إلى الجيزة بعد الظهر، فلما طلع إلى البر وقفت عساكر الإنكليز صفوفًا رجالًا وركبانًا وبأيديهم البنادق والسيوف، وأظهروا زينتهم وأبهتهم، وذلك عندهم من التعظيم للقادم، فنزل الباشا ودخل القصر، فوجدهم كذلك صفوفًا بدهليز القصر ومحل الجلوس، فجلس عندهم ساعة زمانية وأهدوا له هدايا وتقادم.

وعند قيامه ورجوعه ضربوا له عدة مدافع على قدر ما ضرب لهم هو عند حضورهم إليه، فلقد أخبرني بعض خواصهم أن الباشا ضرب لهم سبعة عشر مدفعًا، ولقد عددت ما ضربه الإنكليز للباشا فكان كذلك.

وأخبرني حسين بك وكيل قبطان باشا، وكان بصحبة الباشا عند ذهابه إلى الإنكليز قال: كنا في نحو الخمسين، والإنكليز في نحو الخمسة آلاف، فلو قبضوا علينا في ذلك الوقت لملكوا الإقليم من غير ممانع، فسبحان المنجي من المهالك!

وإذا تأمل العاقل في هذه القضية يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام؛ حيث سخر الطايفة الذين هم أعدا للملة هذه لدفع تلك الطايفة ومساعدة المسلمين عليهم، وذلك مصداق الحديث الشريف وقوله : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.» فسبحان القادر الفعال!

واستمرت طايفة كبيرة بإسكندرية من الإنكليز حتى يريد الله.

وفي ذلك اليوم سافرت لملاقاة الحجاج بالوش.

وفيه وصلت مكاتبات من أهل القدس ويافا والخليل يشكون ظلم محمد باشا أبي مرق، وأنه أحدث عليهم مظالم وتفاريد ويستغيثون برجال الدولة، وكذلك أعرضوا أمرهم لأحمد باشا الجزار، وحضر الكثير من أهل غزة ويافا والخليل والرملة هروبًا من المذكور.

وفي ضمن المكاتبات أنه حفر قبور المسلمين والأشراف والشهدا بيافا، ثم رمى عظامهم وشرع يبني في تلك الجبانة سورًا يتحصن به، وأذن للنصارى ببنا دير عظيم لهم، ومكنهم أيضًا من مغارة السيدة مريم بالقدس، وأخذ منهم مالًا عظيمًا على ذلك، وفعل من أمثال هذه الفعال أشيا كثيرة.

وفيه حضر جماعة من العسكر القبالي وصحبتهم أربعة روس من المصرلية، وفيهم راس علي كاشف أبي دياب، وتواترت الأخبار بوقوع معركة بين العثمانية والمصرلية، وكانت الغلبة على العثمانية وقُتل منهم الكثير، وذلك عند أرمنت، ورأس عصبة المصرلية الألفي وصحبته طايفة من الفرنسيس، وتجمع عليهم عدة من عسكر الفرنساوية والعثمانية؛ طمعًا في بذلهم وأن عثمان بك الحسني انفرد عنهم، وأرسل يطلب أمانًا ليحضر، فأرسلوا له أمانًا، فحضر عند حسن باشا والي دجرجا، وأخلع عليه فروة سمور، وقدم له خيلًا وهديةً.

وفيه ورد الخبر بموت محمد باشا توسون والي جدة، وكذلك خازنداره.

وفي يوم السبت رابع عشره شرع الإنكليز المتوجهون إلى جهة السويس في تعدية البر الشرقي، ونصبوا وطاقهم عند جزيرة بدران وبعضهم جهة العادلية، وذهبت طايفة منهم إلى جهة البر الغربي متوجهين إلى القصير، واستمروا يعدون عدة أيام ويحضر أكابرهم عند الباشا، فيضربون لهم مدافع حال ركوبهم إلى أماكنهم إكرامًا لهم.

وفي يوم الاتنين تاني عشرينه عدا حسين بك وكيل القبطان إلى الجيزة، وتسلمها من الإنكليز وأقام بها وسكن بالقصر.

وفي خامس عشرينه وصل إلى ساحل بولاق أغا وعلى يده مثالات وأوامر، وحضر أيضًا عساكر رومية فأرسلوا عدة منهم إلى الجيزة، فركب ذلك الأغا في موكب من بولاق إلى بيت الباشا، فأخلع عليه وقدم له تقدمة، وضربوا له عدة مدافع.

وفيه حضر ططري من ناحية قبلي بالأخبار بما حصل بين العثمانية والمصرلية، وطلب جبخانة ولوازم.

وفيه وصلت الأخبار بأن أحمد باشا أَرسل عسكرًا إلى أبو مرق من البرِّ والبحر، فأحاطوا بِيافا وقطعوا عنها الجالب، واستمروا على حصاره.

وفيه اتخذ الباشا عسكرًا من طايفة التَّكرور الذين يأتون إلى مصر بقصد الحج، فأعرضهم واختار منهم جملة، وطلبوا الخياطين ففصَّلوا لهم قناطيش قصارًا من جوخ أحمر، وألبسه في وسطهم من جوخ أزرق، وصدريات، وجميعها ضيقة مقطمة مثل ملابس الفرنسيس، وعلى روسهم طراطير حمر، وأعطوهم سلاحًا وبنادق وأسكنوهم بقلعة الجامع الظاهري خارج الحسينية، وجعلوا عليهم كبيرًا يركب فرسًا ويلبس فروة سمور.

وجمع الباشا أيضًا العبيد والسود، وأخذهم من أسيادهم بالقهر وجعلهم طايفة مستقلة، وألبسهم شبه ما تقدم، وأركبهم خيلًا وجعلهم فرقتين صغارًا وكبارًا، واختارهم للركوب إذا خرج إلى الخلا، وعليهم كبير يعلمهم هيئة اصطفاف الفرنسيس، وكيفية أوضاعهم والإشارات بمرش واردبوش.

وكذلك طلب المماليك وغصب ما وجده منهم من أسيادهم، واختص بهم وألبسهم شبه لبس المماليك المصرلية وعمايم شبه عمايم البحرية الأروام، ويلكات وشراويل، وأدخل فيهم ما وجده من مرادن الفرنسيس، وجعل لهم كبيرًا أيضًا من الفرنسيس يعلمهم الكر والفر والرمي بالبنادق، وفي بعض الأحيان يلبسون زرديات وخوذًا وبأيديهم السيوف المسلولة، وسموا ذلك كله «النظام الجديد».

وأستهل شهر صفر الخير بيوم الأربع (سنة ١٢١٧)

في ثانيه وصل سعيد أغا وكيل دار السعادة، وهو فحل أسمر، فحضر عند الباشا فقابله وخلع عليه وقدم له تقدمة، وضربوا له عدة مدافع أيضًا.

وفي يوم الخميس تاسعه عمل الباشا ديوانًا، وحضر القاضي والعلما والأعيان، وقروا خطًّا شريفًا حضر بصحبة وكيل دار السعادة المذكور مضمونه أنه ناظر أوقاف الحرمين ووكيلها.

وفي يوم الاتنين ثالث عشره قَتل الباشا ثلاثة أشخاصٍ من النصارى المشاهير؛ وهم: ألْطون أبو طاقية، وإبراهيم زيدان، وبركات معلم الديوان سابقًا. قتلوهم في طريق الأزبكية ولم يعلم سبب ذلك، وفي الحال أرسل الدفتردار فختم على دورهم وأملاكهم، وشرعوا في نقل ذلك إلى بيت الدفتردار على الجمال ليباع في المزاد، فبدوا بإحضار تركة ألطون أبي طاقية فوُجد له موجود كثير من ثياب وأمتعة ومصاغ وجواهر وغيرها، وجوارٍ سود وحبوش وساعات، واستمر سوق المزاد في ذلك عدة أيام.

وفيه تواترت الأخبار بأن بونابارته عظيم الفرنسيس خرج بعمارة كبيرة ليحارب الجزاير، وأنه انضم إلى طايفة الفرنسيس الإسبانيول والنابولطان، وتفرقوا في البحر وكثر اللغط بسبب ذلك، وامتنع سفر المراكب، ورجع الإنكليز إلى قلاع إسكندرية، واستمرت هذه الإشاعة مدة أيام، ثم ظهر عدم صحة هذه الأخبار، وأن ذلك من اختلاقات الإنكليز.

وفي يوم الخميس سابع عشره حضر جاويش الحاج وصحبته مكاتبات الحجاج من العقبة، وضربوا لحضوره مدافع، وأخبروا بالأمن والرخا والراحة ذهابًا وإيابًا، ومشوا من الطريق السلطاني، وتلقتهم العربان وفرحوا بقدومهم، فلما كان يوم الاتنين وصل الحجاج ودخلوا إلى مصر.

وفي صبحها دخل أمير الحاج وصحبته المحمل.

وفي يوم الخميس ثالث عشرينه سافر حسين أغا شنن وذو الفقار كتخدا وصحبتهما علي كاشف لملاقاة عثمان بك الحسيني، وأخلوا له دار عبد الرحمن كتخدا بحارة عابدين.

وفي يوم التلات ثامن عشرينه حضر عثمان بك الحسيني فأرسل إليه الباشا أعيان أتباعه من الأغوات وغيرهم والجنايب، فحضر بصحبتهم وقابل حضرة الباشا، وخلع عليه خلعة وقدم له تقدمة، وذهب إلى الدار التي أعدت له.

وحضر صحبته صالح بك غيطاس وخلافه من الأمرا البطالين، ومعهم نحو المايتين من الغُزِّ والمماليك، سكن كل من الأمرا والكشاف في مساكن أزواجهم، فكانوا يركبون في كل يوم إلى بيت عثمان بك، ويذهبون صحبته إلى ديوان الباشا، ورتب له خمسة وعشرين كيسًا في كل شهر.

وأستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس (سنة ١٢١٧)

وفيه شرعوا في عمل المولد النبوي، وعملوا صواري ووقدة قبالة بيت الباشا وبيت الدفتردار وبيت الشيخ البكري، ونصبوا خيامًا في وسط البركة، ونودي في يوم الخميس تامنه بتزيين البلد وفتح الأسواق والحوانيت والسهر بالليل تلات ليالٍ؛ أولها صبح يوم الجمعة، وآخرها الأحد ليلة المولد الشريف، فكان كذلك.

وفي ليلة المولد حضر الباشا إلى بيت الدفتردار باستدعا، وتعشى هناك، واحتفل لذلك الدفتردار، وعمل له حراقة نفوط وصواريخ حصة من الليل.

وفيه وصلت الأخبار بكثرة عربدة الأمرا القبالي، وتجمع لديهم الكثير من غوغا الحوف والهوارة والعربان، ووصلوا إلى غربي أسيوط، وخافتهم العساكر العثملية، وداخلهم الرعب منهم، وتحصن كل فريق في الجهة التي هو فيها، وانكمشوا عن الإقدام عليهم، وهابوا لقاهم مع ما هم عليه من الظلم والفجور والفسق بأهل الريف والعسف بهم، وطلبهم الكلف الشاقة والقتل والحرق، وذلك هو السبب الداعي لنفور أهل الريف منهم وانضمامهم إلى المصرلية.

ومن جملة أفاعيلهم التي ضيقت المنافس، وأحرجت الصدور حتى أعاظم الدولة، حجزُهم المراكب ومنعُهم السفار، حتى تعطلت الأسباب وامتنع حضور الغلال من الجهة القبلية، وخلت عرصات الغلة والسواحل من الغلال مع كثرتها في بلاد الصعيد، ولولا تشديد الباشا في عدم زيادة سعر الغلة لغلت أسعارها، وأمر بأن لا يُدخلوا إلى الشون والحواصل شيًّا من الغلة، بل يباع ما يرد على الفقرا حتى يكتفوا. وفي كل وقت يرسلون أوراقًا وفرمانات إلى العساكر بإطلاق المراكب، فلا يمتثلون، ويحجز الواحد منهم أو الاثنان المركب التي تحمل الألف أردب، ويربطونها بساحل الجهة التي هم بها، وتستمر كذلك من غير منفعة، وربما مرت بهم المراكب المشحونة بالغلة، فيأخذون منها النواتية والريس يستخدمونهم في مركبهم، ويأخذ غيرهم المركب فيرمي ما بها من الغلال على بعض السواحل إن لم يجدوا من يشتريه، ويأخذون المراكب فيربطونها عندهم.

وأمثال ذلك مما تقصر عنه العبارة. وفيه تواترت هذه الأخبار بزحف الأمرا القبالي ومن انضم إليهم، فشرعوا في تسفير العسكر أيضًا وصاري عسكرهم طاهر باشا، وأخذ في التشهيل والسفر، فلما كان يوم الخميس خامس عشره عدى إلى البر الغربي وتبعه عسكره.

وفي ذلك اليوم حضرت مكاتبة من الأمرا القبالي ملخصها أن الأرض ضاقت عليهم، واضطرهم الحال والضيق والتغرب عن الوطن إلى ما هم فيه، وأنهم مستمرون في طاعة الله ورسوله والسلطان، ولم يقع منهم ما يوجب إبعادهم وطردهم وقتلهم، فإنهم خدموا وجاهدوا وقاتلوا مع العثمانية وأبلوا مع الفرنساوية فجُوزُوا بضد الجزا، ولا يهون بالنفس الذل والإقبال على الموت، فإما أن تعطونا جهة نتعيَّش فيها أو ترسلوا لنا أهلنا وعيالنا وتشهلوا لنا مراكب على ساحل القصير فنسافر فيها على بر الحجاز، أو تعينوا لنا جهة نقيم بها نحو خمسة أشهر، مسافة ما نخاطب الدولة في أمرنا، ويرجع لنا الجواب ونعمل بمقتضى ذلك، فإن لم تجيبونا لشي من ذلك فيكون ذنب الخلايق في رقابكم لا رقابنا.

وورد الخبر عنهم أنهم رجعوا القهقرى إلى قبلي، فلما حضرت تلك المكاتبة فاشتوروا في ذلك، وكتبوا لهم جوابًا بإمضا الباشا والدفتردار والمشايخ، حاصله الأمان، ما عدا: إبراهيم بك والألفي والبرديسي وأبا دياب، فلا يمكن أن يوذن لهم بشي حتى يرسلوا إلى الدولة، ويأتي الإذن بما تقتضيه الآراء، وأما بقيتهم فلهم الأمان والإذن بالحضور إلى مصر، ولهم الإعزاز والإكرام، ويسكنون فيما أحبوا من البيوت، ويرتب لهم ما يكفيهم من التراتيب والنفقة وغير ذلك مثل ما وقع لعثمان بك الحسيني، فإنهم رتبوا له خمسة وعشرين كيسًا في كل شهر، ومكنوه مما طلبه من خصوص الالتزام، ورفعوها عمن كان أخذها حلوان، وهذه أول قضية شنيعة ظهرت بقدومهم. واستمر طاهر باشا مقيمًا بالبر الغربي.

وفي هذا الشهر كمل تتميم عمارة المقياس على ما كان عمره الفرنسيس على طرف نفقة الميري، وأنشا الباشا طيارة في علوه عوضًا عن الطيارة القديمة التي هدمها الفرنسيس، وأنشا أيضًا مصطبة في مرمى النشاب بالناصرية، وجعل فيها كشكًا لطيفًا مزينًا بالأصباغ، ودرابزين حول المصطبة المذكورة.

ومن الحوادث بثغر سكندرية أنه حضر قليون وفيه تجار وبزرجانية، يقال له: قليون مهردار الدولة فارسي بالمينة الغربية، وطلع منه قبطان وبعض التجار إلى البلدة وأقام نحو يومين أو تلاتة، فطلع رجل من نصارى الأروام، وأخبر الإنكليز أنه مات بالقليون رجل بالطاعون، ومات قبله تلاتة أيضًا فطلبوا القبطان فهرب، فأرسلوا إلى المركب وأحضروا اليازجي وتحققوا القضية وأحرقوا المركب بما فيها، وأشهروا اليازجي وعروه من ثيابه وسحبوه بينهم في الأسواق، وكلما مروا به على جماعة من العثمانية مجتمعين على مصاطب القهاوي بطحوه بين أيديهم وضربوه ضربًا شديدًا، ولم يزالوا يفعلون به ذلك حتى قتلوه.

ووقع أيضًا أن خورشيد باشا حاكم سكندرية أحدث مظالم ومكوسًا على الباعة والمحترفين، فذهب بعض الإنكليز يشتري سمكًا، فطلب السماك منه ثمنًا زايدًا على العادة، فقال له الإنكليزي: لأي شيء تطلب الزيادة عن المعتاد؟ فعرَّفه علة ذلك بما أحدثه الحاكم عليهم من المكس، فرجع الإنكليزي وأخبر كبراه، فتحققوا القضية وأحضروا المنادي وأمروه بالمناداه بإبطال ما أحدثه العثمانية من المكوس والمظالم، فخرج المنادي وقال: حسبما رسم الوزير محمد باشا وخورشيد أغا بأن جميع الحوادث المحدثة بطالة. فسمعوه يقول ذلك فأحضروه وضربوه ضربًا شديدًا وعزروه على ذلك القول، وقالوا له: قل في مناداتك: حسبما رسم صاري عسكر الإنكليز.

ووقع أيضًا أن جماعة من العسكر أرادوا القبض على امرأة من النسا الذين يصاحبن الإنكليز، فمنعها منهم عسكر الإنكليز فتضاربوا معهم، فقتل من الإنكليز اثنان، فاجتمع الإنكليز وأرسلوا إلى خورشيد باشا بأن يخرج إلى خارج البلدة ويحاربهم، فامتنع من ذلك، فأمروه بالنزول من القلعة وأسكنوه في دار بالبلد، ومنعوا عسكره من حمل السلاح مطلقًا مثل الإنكليزية واستمروا على ذلك.

واستهل شهر ربيع التاني (سنة ١٢١٧)

فيه حضر أحمد أغا شويكار من عند القبالي ومحمد كاشف صحبته من جماعة الألفي، ومعهم مكاتبات وأشيع طلبهم الصلح، فأقاموا عدة أيام محجوبين عن الاجتماع بالناس، ثم سافروا في أواسطه ولم يظهر كيفية ما حصل وبطل سفر طاهر باشا إلى الجهة القبلية، ورجع إلى داره بعد عدة أيام من رجوعهم.

وفيه عمل مولد المشهد الحسيني، ودعا الشيخ السادات الباشا في خامسه وتعشى هناك ورجع إلى داره.

وفيه تقلد السيد أحمد المحروقي أمين الضربخانة وفرق ذهبًا كثيرًا في ذلك اليوم ببيت الباشا، وعمل له ليلة بالمشهد الحسيني ودعا الباشا والدفتردار وأعيان الدولة والعلما، وأولم لهم وليمة عظيمة، وأوقد بالمسجد وقدة كبيرة، وقدم للباشا تقدمة، وفي صبحها أرسل للباشا مع ولده هدية وتعبية أقمشة نفيسة، فخلع عليه الباشا فروة سمور.

وفي غرة هذا الشهر شرع الباشا في هدم الأماكن المجاورة لمنزله التي تهدمت واحترقت في واقعة الفرنسيس ليبنيها مساكن للعساكر المختصة به، وتسمى عندهم بالقشلة، وذلك من قبالة منزله من المكان المعروف بالساكت إلى جامع عثمان كتخدا حيث رصيف الخشاب، واهتم لذلك اهتمامًا عظيمًا، ورسم بتفريد فِردة على البلاد: أعلى وأوسط وأدنى، وأرسلوا المعينين لقبض ذلك من البلاد مع ما الفلاحون فيه من الظلم والجور من العساكر والمباشرين، وحق الطرد وفرد الإنكليز.

وفي منتصفه كملت عمارة مشهد السيدة زينب بقناطر السباع، وكان من خبره أن هذا المشهد كان أنشاه وعمَّره عبد الرحمن كتخدا القاردغلي في جملة عمايره، وذلك في سنة أربع وسبعين وماية وألف. فلم يزل على ذلك إلى أن ظهر به خلل ومال شقه، فانتدب لعمارته عثمان بك المرادي المقتول المعروف بالطنبرجي في سنة اثنتي عشرة ومايتين وألف، فهدمه وكشف أنقاضه وشرع في بناه وأقام جدرانه، ونصبوا أعمدته وأزادوا عقد قناطره، فحصلت حادثة الفرنسيس وجرى ما جرى، فبقي على حالته إلى أن خرج الفرنسيس من أرض مصر.

وحضرت الدولة العثمانية فأعرض خدمة الضريح إلى الوزير يوسف باشا، فأمر بإتمامه وإكماله على طرف الميري، ثم وقع التراخي في ذلك إلى أن استقر قدم محمد باشا في ولاية مصر، فاهتم لذلك، فشرعوا في إكماله وتتميمه وتسقيفه، وتقيد لمباشرة ذلك ذو الفقار كتخدا، فتم على أحسن ما كان، وأحدثوا به حنفية وفسحة وزخرفوه بالنقوشات والأصباغ.

ولما كان يوم الجمعة رابع عشره حصلت به الجمعية، وحضر الباشا والدفتردار والمشايخ وصلوا به الجمعة، وبعد انقضا الصلاة عقد الشيخ محمد الأمير المالكي درس وظيفته، وأملى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ الآية. والأحَاديث المتعلِقة بذلك، وتمَّ المجلس وأخلع عليه الباشا بعد ذلك خلعة، وكذا الإمام.

وفيه نصب للباشا خيمة عند بيته بقرب الهدم يجلس بها حصة كل يوم لمباشرة العمل، وربما باشر بنفسه ونقل بعض الأنقاض، فلما عاين الأغوات والجوخدارية منه ذلك بادروا إلى الشيل، ونقل التراب بالغلقان فلما أشيع ذلك حضر طاهر باشا وأعيان العساكر، فنقلوا أيضًا وأشيع طلب المساعدة.

فحضر طايفة من ناحية الرميلة وعرب اليسار، ومعهم طبول وزمور، فسأل عن ذلك، فقال له المحتسب ذو الفقار: هولا طايفة من طوايفي حضروا لأجل المساعدة. فشكرهم على ذلك وأمرهم بالذهاب، فبقي منهم طايفة واحده. وأخذوا في شيل التراب بالأغلاق ساعة والطبول تضرب لهم فانسرَّ الباشا من ذلك، وحسن القُرَنَا المُلازمين للباشا المساعدة وأن الناس تحب ذلك، فرتبوا له ترتيب هذا الأمر.

وأحضروا قوايم أرباب الحرف التي كتبت أيام فِرَد الفرنسيس، ونبهوا عليهم بالحضور، فأول ما بدوا بالنصارى الأقباط فحضروا، ويقدمهم رُيَسَاهم وهم: جرجس الجوهري وواصف وفلتيوس ومعهم طبول وزمور، وأحضر لهم أيضًا مهتار باشا النوبة التركية وأنواع الآلات والمغنين، حتى البرامكة بالرباب فاشتغلوا نحو ثلاث ساعات.

وفي ثاني يوم حضر منهم أيضًا كذلك طايفة، ولما انقضت طوايف الأقباط حضر النصارى الشوام والأروام.

ثم طلبوا أرباب الحرف من المسلمين، فكان يجتمع الطايفتان والثلاثة، ويحضرون معهم عدة من الفَعَلَة يستأجرونهم ويحضرون إلى العمل، ويقدمهم الطبول والزمور والمجرية، وذلك خلاف ما رتبه مهتار باشا، فيصير ضجة عظيمة مختلطة من نوبات تركية، وطبول شامية ونقاقير كشوفية ودبادب حربية وآلات موسيقية، وطبلات بلدية وربابات برامكية، كل ذلك في الشمس والغبار والعفار.

وزادوا في الطنبور نغمة، وهي أنهم بعد أن يفرغوا من الشغل، ويأذنوا لهم بالذهاب يلزمونهم بدراهم يقبضها مهتار باشا برسم البقشيش على أوليك الطبالين والزمارين، فيعطيهم النزر اليسير ويأخذ لنفسه الباقي، وذلك بحسب رسمه واختياره، فيأتي على الطايفة الماية قرش والخمسون قرشًا ونحو ذلك، ويركب في ثاني يوم ويذهب إلى خطتهم ويلزمهم بإحضار الذي قرره عليهم، فيجمعونه من بعضهم ويدفعونه.

وإذا حضرت طايفة ولم تقدم بين يديها هدية أو جعالة، طولوا عليهم المدة، وأتعبوهم ونهروهم واستحثوهم في الشغل، ولو كانوا من ذوي الحرف المعتبرة، كما وقع لتجار الغورية والحريرية.

وإذا قدموا بين أيديهم شيًّا خففوا عليهم وأكرموهم، ومنعوا أعيانهم وشيوخهم من الشغل وأجلسوهم بخيمة مهتار باشا، وأحضر لهم الآلات والمغاني فضربت بين أيديهم، كما وقع ذلك لليهود.

واستمر هذا العمل بقية الشهر الماضي إلى وقتنا هذا، فاجتمع على الناس عشرة أشيا من الرذالة وهي السخرة، والعونة، وأجرة الفعلة، والذل، ومشقة العمل، وتقطيع الثياب، ودفع الدراهم، وشماتة الأعدا، وتعطيل معاشهم، وعاشرها أجرة الحمام.

وفي يوم الأربع ثاني عشره الموافق لسادس مسرى القبطي كان وفا النيل المبارك، وكُسر السد في صبحها يوم الخميس بحضرة الباشا والقاضي، والشنك المعتاد وجرى الما في الخليج ولم يطف مثل العادة، ومنعوا دخول السفن والمراكب المعدة للنزهة؛ وذلك بسبب أذية العساكر العثمانية.

وفي منتصفه حضر قصاد (رسل) من الططر، وعلى يدهم مكاتبات من الدولة بوقوع الصلح العام بين العثملي والقرانات وعثمان باشا، ومن معه من المخالفين على الدولة من جهة الروملي، فعملوا شنكًا ومدافع تلات أيام تضرب في كل وقت من الأوقات الخمسة، وكتبوا أوراقًا بذلك وألصقوها في مفارق الطرق والأسواق، وقد تقدم مثل ذلك وأظنه من المختلقات.

وفي أواخره حضر حريم الباشا من الجهة الرومية، وهما اثنتان: إحداهما معتوقة أم السلطان، والأخرى معتوقة أخته زوجة قبطان باشا، وصحبتهما عدة سراري، فأسكنهن ببيت الشيخ خليل البكري، وقد كان عمَّره قبل حضورهن وزخرفه ودهنوه بأنواع الصباغات والنقوش، وفرشوه بالفرش الفاخرة وفرش الشيخ المحروقي مكانًا، وكذلك جرجس الجوهري فرش مكانًا، وأحمد بن محرم واعتنوا بذلك اعتنًا زايدًا، حتى إن جرجس فرش بساطًا من الكشمير وغير ذلك، وعمل وليمة العقد، وعقد على الثنتين في آن واحد بحضرة القاضي والمشايخ، وأهدوا لكل من الحاضرين بقجة من ظرايف الأقمشة الهندية والرومية، وعملوا شنكًا وحراقة بالأزبكية عدة ليالٍ.

واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الاتنين (سنة ١٢١٧)

في يوم الاتنين تامنه شنقوا تلاتة من عساكر الأروام: أحدهم بباب زويلة، والتاني بباب الخرق، والتالت بالأزبكية بالقرب من مسجد عثمان كتخدا، وقتلوا أيضًا شخصًا بالنحاسين.

وفي يوم التلات تاسعه عمل الباشا ديوانًا وفرق الجامكية على الوجاقلية.

وفيه وردت الأخبار بوقوع حادثة بين الأمرا القبالي والعثملية، وذلك أن شخصًا من العثملية يقال له أجدر، موصوفًا بالشجاعة والإقدام، أراد أن يكبس عليهم على حين غفلة؛ ليكون له ذكر ومنقبة في أقرانه، فركب في نحو الألف من العسكر المعدودين، وكانوا في طرف الجبل بالقرب من الهو، فسبق العين إلى إلى الأمرا وأخبرهم بذلك، فلما توسطوا سطح الجبل، وإذا بالمصرلية أقبلت عليهم في ثلاثة طوابير فأحاطوا بهم، فضرب العثملية بنادقهم طلقًا واحدًا لا غير، ونظروا وإذا بهم في وسطهم وتحت سيوفهم، ففتكوا فيهم وحصدوهم ولم ينج منهم إلا من طال عمره وفرَّ، وأُخذ كبيرهم أجدر المذكور أسيرًا.

وانجلت الحرب بينهم وأحضروا أجدر بين يدي الألفي، فقال له: لأي شيء سموك أجدر؟ فقال: الأجدر معناه الأفعى العظيم، وقد صرت من أتباعك. فقال: لكن يحتاج إلى تطريمك وإخراج سُمِّك أولًا. وأمر به فأخذوه وقلعوا أسنانه ثم قتلوه، وأخذوا جميع ما كان معهم، ومن جملة ذلك أربعة مدافع كبار.

وفيه قلدوا أحمد كاشف سليم إمارة أسيوط، وعزل أميرها «مقدار» بك العثماني؛ بسبب شكوى أهل النواحي من ظلمه.

وفي منتصفه تواترت الأخبار برجوع الأمرا القبالي إلى بحري، وأنهم وصلوا إلى بني عدي، فنهبوا غلالها ومواشيها، وقبضوا أموالها وأعطوهم وصولات بختمهم، وكذلك «الحواوشة» وما جاور ذلك من البلاد، فشرع العثمانية بمصر في تشهيل تجريدة وعساكر.

وفيه حضرت أيضًا عساكر كثيرة من جنود الأتراك والأرنؤد، فأحضروا مشايخ الحارات، وأمروهم بإخلا البيوت لسكناهم، فأزعجوا الكثير من الناس وأخرجوهم من دورهم بالقهر، فحصل للناس غاية الضرر وضاق الحال بالناس وكلما سكنت منهم طايفة بدار أخربوها وأحرقوا أخشابها وطيقانها وأبوابها، وانتقلوا إلى غيرها فيفعلون بها كذلك، ومن تكلم أو دافع عن داره وُبِّخَ بالكلام القبيح الذي لا أصل له، وقيل له: عجب! كنتم تُسكنون الفرنسيس وتخلون لهم الدور. وأمثال ذلك من الكلام القبيح الذي لا أصل له.

ولما شرعوا في تشهيل التجريدة حصلت منهم أمور وأذيِّة في الناس كثيرة؛ فمنها أنهم طلبوا الحمَّارة المُكارية وأمروهم بإحضار ستماية حمار، وشددوا عليهم في ذلك، فقيل إنهم لما جمعوها أعطوهم أثمانها في كل حمار خمسة ريال، بعدته ولجامه، مع أن فيها ما قيمته خمسون ريالًا خلاف عدته.

ثم ما كفاهم ذلك، بل صاروا يخطفون حمير الناس من أولاد البلد بالقهر، وكذلك حمير السقايين، التي تنقل الماء من الخليج للبيوت، حتى امتنع السقايون بالكلية، وبلغ ثمن القربة الكتافي من الخليج عشرة أنصاف فضة.

وتعدَّى بالخطف أيضًا من ليس بمسافرٍ، فكانوا يُنزلون الناس من على حميرهم ويذهبون بها إلى الساحة ويبيعونها، والبعض تبعهم واشترى حماره بالثمن.

فخبا جميع الناس حميرهم في داخل الدور، فكان يأتي الجماعة من العسكر ويتنصتون بآذانهم على باب الدار ويتبعون نهيق الحمير، وبعض شياطينهم يقف على الدار ويقول: «زر» ويكررها، فينهق الحمار، فيعلمون به ويطلبونه من البيت، فإما أخذوه قهرًا أو افتداه صاحبه بما أرادوه وغير ذلك.

وفيه حضر قاضي إسكندرية إلى مصر، وذلك أنه لما حضر من إسلامبول طلع إلى داره وحضرت إليه الدعاوى، فأخذ منهم المحصول على الرسم المعتاد، فأرسل إليه الإنكليز ولاموه على عدم حضوره إليهم وقت قدومه، وقالوا له: إن أقمت هنا بتقليدنا إياك فلا تأخذ من أحد شيًّا ونرتب لك ثلاثة قروش في كل يوم، وإلا فاذهب حيث شيت. فحضر إلى مصر بذلك السبب.

شهر جمادى التانية (سنة ١٢١٧)

في خامسه سافرت العسكر بالتجريدة إلى الأمرا القبالي، وسافر أيضًا عثمان بك الحسيني وباقي العساكر المعزولين وأمير العساكر العثملية محمد علي سرششمه، وكان الباشا أرسل إبراهيم كاشف الشرقية بجواب إليهم، فرجع في ثامنه بجواب الرسالة، وأعطاه الألفي ألفين ريال، وقدم له حصانين.

وحاصل تلك الرسالة كما تقدم: الأمان لجميع الأمرا المصرلية، وأنهم يحضرون إلى مصر، ويقيمون بها، ولهم ما يرضيهم من الفايظ وغيره ما عدا الأربعة الأمرا، وهم: إبراهيم بك والألفي والبرديسي وأبا دياب؛ فإنهم مطلوبون إلى حضرة السلطان، يتوجهون إليه مع الأمن عليهم، ويعطيهم مناصب وولايات كما يحبون، فإن لم يرضوا بذلك، فالباشا يعطيهم إقطاع إسنا ويقيمون بها، فلما وصل إبراهيم أغا المذكور إلى ناحية أسيوط وأرسل إليهم، أرسلوا إليه أحمد أغا شويكار ومحمد كاشف الألفي، فانتظروه خارج الجبانة، فخرج إليهم ولاقوه وأخذوه صحبتهم إلى عرضهم وأنزلوه في بوطاق بات به، فلما أصبح الصباح طلبوه إلى ديوانهم، فحضر ووقفت عساكرهم صفوفًا ببنادقهم، وفيهم كثير على هيَّة اصطفاف الفرنسيس، وعملوا له شنكًا ومدافع، ثم أعطاهم المكاتبة بحضرة الجميع، فقروها، ثم تكلم الألفي، وقال: أما قولكم: نذهب إلى إسلامبول ونقابل السلطان ينعم علينا، فهذا مما لا يمكن، وإن كان مراده أن ينعم علينا، فإننا في بلاده، وإنعامه لا يتقيد بحضورنا بين يديه، وأما باقي إخواننا، فهم بالخيار إن شاوا أقاموا معنا، وإلا ذهبوا. كل إنسان أمير نفسه، وأما كون حضرة الباشا يعطينا إقطاع إسنا فلا يكفينا هذا، وإنما يكفينا من أسيوط إلى آخر الصعيد، ونقوم بدفع خراجه، فإن لم ترضوا بذلك فإن الأرض لله، ونحن خلق الله نذهب حيث شينا، وناكل من رزق الله ما يكفينا، ومن تعدى علينا وحارَبَنا حاربْناه حتى يكون من أمرنا ما يكون.

ثم استقروا بقنطرة اللاهون وكسروا القنطرة، وشرعوا في قبض الأموال من بلاد الفيوم، فلما رجع إبراهيم كاشف بذلك الجواب، ركب الباشا في صبحها إلى الآثار، واستعجل العسكر بالذهاب، فعدوا إلى البر الغربي، وتأخر عنهم عثمان بك الحسيني والغز المصرلية وباتوا بطرًا.

وفيه شنق الباشا رجلًا طبجيًّا في المشنقة التي عند قنطرة المغربي.

ثم إن عثمان بك أرسل إلى الباشا يطلب حسين أغا شنن ومصطفى أغا الوكيل؛ ليتفاوض معهما في كلام، فأرسل له إبراهيم أغا كاشف الشرقية، فأعطاه الخلعة التي خلعها عليه الباشا ودراهم الترحيلة، وقال له: سلِّم علي الباشا أفندينا، وأخبره أني جاهدت الفرنسيس، وبلوت معهم، ثم إني حضرت بأمان طايعًا، فلم أجازَ، ولم أحصل ما كنت أومِّله، ولم يوف معي وعدًا، وأنا لا أقاتل إخواني المسلمين وأختم عملي بذلك، ولا أقيم بمصر آكُل الصدقة، وإنما أذهب سايحًا في بلاد الله. وكان في ظن عثمان بك أنه إذا أتى إلى مصر على هذه الصورة يجعله الباشا أمير البلاد أو أمير الحاج.

وفيه أمر الباشا محمد كتخدا المعروف بالزربة بالسفر إلى جهة قبلي، فاستعفى من ذلك فأمر بقتله، فشفع فيه يوسف كتخدا الباشا، وقال: إن له حرمة، وقد كان في السابق كتخدا لأفندينا، ولا يناسب قتله على هذه الصورة. فأمر بسفره إلى جهة البحيرة محافظًا، فسافر من يومه.

وأما عثمان بك فإنه ركب وذهب إلى جهة قبلي من الحاجز في البر الغربي على غير الرسم، وأشيع ذلك في الناس ولغطوا به، فلما تحقق العثمانية ذلك رسموا لطوايف العسكر أن يقيموا منهم طوايف بالقلاع التي على التلول، ونصبوا عليها بيارق، وأوقفوا حراسًا على أبواب المدينة يمنعون من يخرج من المدينة من الغز الخيالة والمصرلية، فمن خرج إلى بولاق أو غيرها فلا يخرج إلا بورقة من كتخدا الباشا.

وفي ليلة الجمعة عاشره أمر الباشا بكبس بيوت الأمرا الحسنية، ونهب ما بها من الخيول والجمال والسلاح.

وفيه حضر أغات التبديل إلى بيت الخربطلي بعطفة خُشْقَدَم، وبه جماعة من عسكر المغاربة، فكبس عليهم وقبض على جماعة منهم وكتفهم، وكشف روسهم وأحاطت بهم عساكره وسحبوهم، وأخذوا ما وجدوه في جيوبهم على هيَّة شنيعة، ومروا بهم على الغورية، ثم على النحاسين وباب الشعرية، حتى انتهوا بهم إلى الأزبكية على حارة النصارى، ودخلوا بهم بيت الباشا، وهم لا يعلمون لهم ذنبًا، فلما مثلوا بين يدي كتخدا الباشا ذكر لهم أن بجوارهم ديرًا للنصارى، وأنهم فتحوا طاقًا صغيرًا يطل على الدير، فقالوا: لا علم لنا بذلك. وأخبروا أن جماعة من الأرنؤد ساكنون معهم بأعلى الدار، فيحتمل أن ذلك من فعلهم، فأرسلوا من كشف عن ذلك، فوجدوه كما قال المغاربة، فأطلقوهم بعد هذه الجرسة الشنيعة ومرورهم بهم إلى حارة النصارى، وأخْذ دراهمهم ومتاعهم، والأمر لله وحده.

وفيه أشيع عن مرور جماعة من الغُز القبالي على جهة الجيزة إلى جهة إسكندرية، وكذلك جماعة من الإنكليز من إسكندرية إلى قبلي.

وفيه تداعى مصطفى خادم مقام سيدي أحمد البدوي مع نسيبه سعد بسبب ميراث أخته، فقال مصطفى: أنا أحاسبه على خمسين ألف ريال. فقال سعد: أنا أستخرج منه مايتي ألف، ريال بشرط أن تعوقوه هنا وتعطوني خادمه وجماعة من العسكر. ففعلوا ذلك وعوقوه ببيت السيد عمر النقيب، وتسلم سعد خادمه والعسكر، وذهب بهم إلى طندتا، فعاقبوا الخادم، فأقرَّ على مكان أخرجوا منه ستة وتلاتين ألف ريال فرانسة، ثم فتحوا بيرًا مردومة بالأتربة، وأخرجوا منها ريالات فرانسة، وأنصافًا وأرباعًا كلها مخلوطة بالأتربة، وقد ركبها الصدا والسواد فأحضروها وجلوها في قاعة اليهود، ولم يزالوا يستخرجون حتى غلقوا ماية وسبعة وتمانين ألفًا وسبعماية وكسورًا خلاف الهالك، وآخر الأمر أخرجوا خبية لا يعلم قدرها.

ثم حصل العفو ورجع العسكر وأخذوا كِرَا طريقهم، وأخذوا من أولاد عمه عشرة أكياس.

وفي يوم السبت حادي عشره كان آخر التسخير في الهدم ونقل التراب من العمارة، وكان آخر ذلك طايفة الخردة من الغياش والقرداتية وأرباب الملاعيب وبطل الزمر والطبل، واستمر الفعلة في حفر الأساس ورشح الماء عليهم بأدنى حفر؛ لكون أن ذلك في وقت النيل والبركة مَلآنة بالماء حول ذلك.

وفي خامس عاشره خرجت عساكر كثيرة ودلاة أيضًا وسافروا إلى قبلي.

وفي ثالث عشرينه سافر عساكر في نحو الأربعين مركبًا إلى جهة البحيرة؛ بسبب عرب بني عدي، فإنهم حضروا إلى تلك الناحية وحصل منهم ضرر زايد وعاثوا بالبحيرة ودمنهور.

ومن الحوادث السماوية أن في تلك الليلة، وهي ليلة الأربع ثاني عشرينه، احمرت السما بالسحاب عند غروب الشمس حمرة مشوبة بصفرة، ثم انجلت وظهر في أثرها برق من ناحية الجنوب في سحاب قليل متقطع، وازداد وتتابع من غير فاصل، حتى كان مثل شعلة النفط المتوقدة المتموجة بالهوا، واستمر ذلك إلى تالت ساعة من الليل، ثم تحول إلى جهة المغرب وتتابع، لكنه بفاصل على هيئة البرق المعتاد، واستمر إلى خامس ساعة، ثم أخذ في الاضمحلال وبقي أثره غالب الليل، وكان ذلك ليلة سادس عشرين درجة من برج الميزان وحادي عشر «بابه» القبطي وتامن تشرين أول الرومي، ولعل ذلك من الملاحم المنذرة بحادث من الحوادث.

وفيه ورد الخبر بورود مركب من فرانسا، وبها ألجي وقنصل، وصحبتهما عدة فرنسيس، فعمل لهم الإنكليز شنكًا ومدافع بإسكندرية، فلما كان ليلة التلات تامن عشرينه وصل ذلك (الألجي) وصحبته خمسة من أكابر الفرنسيس إلى ساحل بولاق، فأرسل لهم الباشا لملاقاتهم خازنداره وصحبته عدة عساكر خيالة، وبأيديهم السيوف المسلولة، فقابلوهم وضربوا لهم مدافع من بولاق والجيزة والأزبكية، وركبوا إلى دار أعدت لهم بحارة البنادقة، وحضروا في صبحها عِند الباشا وقابلوه، وقدم لهم خيلًا معدة وأهدى لهم هدايا، وصاروا يركبون في هيئة وأبهة معتبرة، وكان فيهم جبير ترجمان بونابرته.

وفيه وردت الأخبار بأن الغُز القبالي نهبوا بلاد الفيوم، وقبضوا أموالها ونهبوا غلالها ومواشيها، وحرقوا البلاد التي عصت عليهم، وقتلوا أناسها حتى قتلوا من بلدة واحدة ماية وخمسين نفرًا، وأما العثمانية الكاينون بالفيوم، فإنهم تحصنوا بالبلدة وعملوا لهم متاريس بالمدينة وأقاموا داخلها.

شهر رجب الفرد (١٢١٧)

استهل بيوم الجمعة، وفيه رموا أساس عمارة الباشا، وكان طلب من الفلكيين أن يختاروا له وقتًا لوضع الأساس، ففعلوا ذلك وكان بعد اثني عشر يومًا من يوم تاريخه، فاستبعده وأمر برمي الأساس في اليوم المذكور، ورب النجم يفعل ما يشا.

وفيه أحضروا أربعة روس فوضعت عند باب الباشا، زعموا أنهم من قتلى الغز المصرلية.

وفي خامسه يوم التلات سافر الألجي الفرنساوي وأصحابه، فنزلوا إلى بولاق وأمامهم مماليك الباشا بزينتهم، وهم لابسين الزروخ والخوذ، وبأيديهم السيوف المسلولة، وخلفهم العبيد المختصة بالباشا، وعلى روسهم طراطير حمر، وبأيديهم البنادق على كواهلهم، فلم يزالوا صحبتهم حتى نزلوا ببيت «راشتو» ببولاق، ثم رجعوا، ثم نزلوا المراكب وسافروا إلى جهة دمياط، وضربوا لهم مدافع عند تعويمهم السفن.

وفيه أشيع انتشار الأمرا القبالي إلى جهة بحري وحضروا إلى إقليم الجيزة، وطلبوا منها الكلف حتى وردان.

وفيه حضر محمد كتخدا المعروف بالزربه الذي كان كتخدا الباشا، وتقدم أنه كان أمَره بالسفر إلى قبلي، فامتنع وأذن له بالسفر إلى البحيرة محافظًا، فلما تقدم طوايف الأمرا إلى بحري، فمر منهم جماعة قليلة على محمد كتخدا الزربه المذكور، فلم يتعرض لهم مع قدرته على تعويقم، فبلغ الباشا ذلك فحقدها عليه، وأرسل إليه وطلبه إلى الحضور فحضر، فلما كان يوم السبت تاسعه طلبه الباشا في بكرة النهار، فلما حضر أمر بقتله فنزل به العسكر، ورموا رقبته عند باب الباشا، ثم نقلوه إلى بين المفارق قبالة حمام عثمان كتخدا، فاستمر مرميًّا عريانًا إلى قبيل الظهر، ثم شالوه إلى بيته وغسلوه في حوش البيت سكنه ودفنوه، وعند موته أرسل الدفتردار، فختم على داره وأخرج حريمه، وفي تاني يوم أحضروا تركته ومتاعه وباعوا ذلك ببيت الدفتردار.

وفيه وردت مكاتبات من الديار الرومية، وفيها الخبر بعزل شريف محمد أفندي الدفتردار وولاية خليل أفندي الرجاوي المنفصل عن الدفتردارية عام أول، فحزن الناس لذلك حزنًا عظيمًا؛ فإن أهل مصر لم يروا راحة من وقت دخول العثمانية إلى مصر، من نحو أربعين سنة، سوى هذه السنة التي باشرها هو، فإنه أرضى خواطر الصغير قبل الكبير، والفقير قبل الغني، وصرف الجامكية وغلال الأنبار عينًا وكَيلًا، وكان كثير الصدقات، ويحب فعل الخير والمعروف، وكان مهذبًا في نفسه بشوشًا متواضعًا، وهو الذي أرسل يطلب الاستعفا من الدفتردارية لما رأى من اختلال أحكام الباشا.

وفي يوم الاتنين حادي عشره عدى يوسف كتخدا الباشا إلى بر إنبابة، وعدى معه الكثير من العسكر، ونصب العرضي ببر إنبابة على ساحة البحر، وأُشيع وصول الأمرا إلى ناحية الجسر الأسود، وقطعوا الجسر لأجل تصفية المياه وانحدارها من الملق لأجل مشي الحافر، ثم رجعوا ناحية المنصورية وبشتيل.

واستمر خروج العساكر العثمانية التي كانت جهة قبلي إلى بر إنبابة، وهم كالجراد المنتشر، ونصبوا وطاقهم ظاهر إنبابة، واستمر خروج العساكر والطلب ونقل البقسماط والجبخَانة على الجمال والحمير ليلًا ونهارًا، وأخذوا المراكب ووسقوها معهم في البحر، وغصبوا ما وجدوه من السفن قهرًا.

وانتشرت عساكرهم وخيامهم ببر إنبابة حتى ملوا الفضا، بحيث يظن الرائي أنهم متى تلاقوا مع الغز المصرلية، أخذوهم تحت أقدامهم لكثرتهم واستعدادهم، بحيث كان أوايل العرضي عند الوراريق، وآخرهم بالقرب من بولاق الدكرور طولًا، ثم إن الأمرا رجعوا إلى ناحية وردان والطرانة.

وفي يوم الجمعة خامس عشره انتقل العرضي من بر إنبابة وحلُّوا الخيام، وفي ثاني يوم خرجت عساكر خلافهم ونصبت مكانهم، وسافروا وخرج خلافهم، وهكذا دأبهم في كل يوم تخرج طايفة بعد أخرى.

وفيه رسم الباشا بألف أردب قمح إنعام تفرق على طلبة العلم والمجاورين والأروقة بالجامع الأزهر، ففرقت بحسب الأغراض، وأنعم أيضًا بعد أيام بألف أخرى، فُعل بها كذلك.

وإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلًا ولا كرمَا

وفي يوم الأحد سابع عشره وصل جماعة ططر، وأخبروا بتقليد شريف محمد أفندي الدفتردار ولاية جدة.

وفي يوم التلات تاسع عشره خرج طاهر باشا، ونصب وطاقه جهة إنبابة للمحافظة، وخرجت عساكره ونصبت وطاقاتهم ببر إنبابة أيضًا متباعدين عن بعضهم البعض، واستمروا على ذلك.

وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه حضر رجل من طرف الدولة يقال له حجان، وهو رجل عظيم من أرباب الأقلام، وعلى يده فرمان، فأرسل الباشا إلى ملاقاته، وأصبح عَمِل ديوانًا، وجمع فيه المشايخ والقاضي والوجاقلية، وحضر شريف أفندي الدفتردار والقاضي والمشايخ، وجمعهم بعد الظهر، وقُري عليهم ذلك الفرمان، وهو خطاب إلى حضرة الباشا، وملخصه: إننا اخترناك لولاية مصر لكونك عريقًا في رجال الدولة ورُبيت بالسراية، ولما نعلمه منك من نور عقلك وحسن سياستك والشجاعة، وأرسلنا إليك عساكر كثيرة وأمَرناك بقتل الخاينين، وإخراج الأربعة أنفار من الإقليم المصري، بشرط الأمان عليهم من القتل، وتقليدهم ما يختارونه من المناصب في غير إقليم مصر، وإكرامهم غاية الإكرام إن امتثلوا الأوامر السلطانية (وأطلقنا لك التصرف في الأموال الميرية لنفقة العسكر واللوازم، وما عرفنا الموجب تأخير أمرهم لهذا الوقت، فإن كنت محتاجًا إلى الأمداد أو المال، أرسلنا إليك الأمداد الكثيرة من العساكر، أو المال أرسلنا إليك كذلك) وإن لم يمتثلوا، وكل من انضم إليهم مثلهم، ومن شذ عنهم وطلب الأمان فهو مقبول وعليه الأمان إلى آخر ما ذكر من ذلك المعنى.

وفي يوم السبت تالت عشرينه كتبت أوراق بمعنى ذلك وألصقت بالطرقات.

وفي خامس عشرينه تواترت الأخبار بوقوع معركة بين العثمانيين والأمرا المصرلية بأراضي دمنهور، وقتل من العساكر العثمانية مقتلة عظيمة، وكانت الغلبة للمصرليين وانتصروا على العثمانيين.

وصورة ذلك أنه لما تراي الجمعان، واصطفت عساكر العثمانيين الرجالة ببنادقهم، واصطفت الخيالة بخيولهم، وكان الألفي بطايفة من الأجناد نحو التلاتماية قريبًا منهم وصحبتهم جماعة من الإنكليز، فلما رأوهم مجتمعين لحربهم قال لهم الإنكليز: ماذا تصنعون؟ قالوا: نصدمهم ونحاربهم. قال الإنكليز: انظروا ما تقولون، إن عساكرهم الموجهين إليكم أربعة عشر ألفًا وأنتم قليلون! قالوا: النصر بيد الله. فقالوا: دونكم. فساقوا إليهم واقتحموا إلى الخيالة، فقتل منهم من قتل، فانهزم الباقون وتركوا الرجالة خلفهم، ثم كروا على الرجالة فلم يتحركوا بشي وطلبوا الأمان فساقوا منهم نحو السبعماية مثل الأغنام.

وأخذوا الجبخانة والمدافع وغالب الحملة والإنكليز وقوف على علوة ينظرون إلى الفريقين بالنظارات.

فلما تحقق الباشا ذلك اهتم في تشهيل عساكر ومدافع، وعدوا إلى بر إنبابة، ونصبوا وطاقهم هناك، وانتقل طاهر باشا إلى ناحية الجيزة.

استهل شعبان بيوم السبت (سنة ١٢١٧)

فيه شرعوا في عمل متاريس جهة الجيزة، وقبضوا على أناس كثيرة من ساحل مصر القديمة ليسخِّروهم في العمل.

وفيه حضر الكثير من العساكر المجاريح، وجمع الباشا النجارين والحدادين، وشرع في عمل شر كفلك، فاشتغلوا فيه ليلًا ونهارًا حتى تمموه في خمسة أيام، وحملوه على الجمال وأنزلوه المراكب وسفروه إلى دمنهور في سادسه.

وفي عاشره كتبوا عدة أوراق وختم عليها المشايخ؛ ليرسلوها إلى البلاد خطابًا لمشايخ البلاد والعربان، مضمونها معنى ما تقدم، وكتبوا كذلك نسخًا ولصقوها بالأسواق، وذلك بإشارة بعض قُرَنَا الباشا المصرلية، وهي بمعنى التحذير والتخويف لمن يسالم الأمرا المصرلية، وخصوصًا المغضوب عليهم، مطرودين السلطنة، العصاة، إلى آخر معنى ما تقدم.

وفي هذه الأيام كثرت الغلال حتى غصت بها السواحل والحواصل، ورخص سعرها حتى بيع القمح بماية وعشرين نصفًا الأردب، واستمرت الغلال مُعَرَّمَة في السواحل ولا يوجد من يشتريها، وكان شريف أفندي الدفتردار أنشا أربعة مراكب كبار لحمل غلال الميري.

ولما حصلت النصرة للمصرلية على العثمانية، خصوصًا هذه المرة مع كثرتهم وقوتهم واستعدادهم، ضبَّعوا فيهم واحتقروهم، ووقفوا على سواحل النيل يمنعون الصادر والوارد منهم ومن غيرهم، وأما الباشا فإنه سخط على العساكر، وصار يلعنهم ويشتمهم في غيابهم وحضورهم.

وفيه حضرت جماعة من أشراف مكة وعلماها هروبًا من الوهابيين، وقصدهم السفر إلى إسلامبول، يخبرون الدولة بقيام الوهابيين، ويستنجدون بهم لينقذوهم منهم ويبادروا لنصرهم عليهم، فذهبوا إلى بيت الباشا والدفتردار وأكابر البلد، وصاروا يحكون ويشكون وتنقل الناس أخبارهم وحكاياتهم.

استهل شهر رمضان المعظم (سنة ١٢١٧)

عملت الرؤية ليلة الأحد، وركب المحتسب ومشايخ الحرف على العادة ولم ير الهلال، وكان غيمًا مطبقًا، فلزم إتمام عدة شعبان ثلاثين يومًا، فانتبذ بعض الفقها وتبعه آخر وشهدا أنهما رايا هلال شعبان ليلة الجمعة، فقبله القاضي وحكم به تلك الليلة، على أن ليلة الجمعة التي شهدوا برويته فيها لم يكن للهلال وجود البتة، وكان الاجتماع في سادس ساعة من ليلة الجمعة المذكورة بإجماع الحساب والدساتير المصرية والرومية، على أنه لم ير الهلال ليلة السبت إلا حديد البصر في غاية العسر والعجب، وشهر رجب كان أوله الجمعة، وكان عسر الرؤية أيضًا، وأن الشاهد بذلك لم يتفوه به إلا تلك الليلة، فلو كانت شهادته صحيحة لأشاعها في أول الشهر؛ ليوقع ليلة النصف — التي هي من المواسم الإسلامية — في محلها، حيث كان حريصًا على إقامة شعاير الإسلام.

وفيه حضرت جماعة من أشراف مكة وغيرها. وفي خامس عشرينه حضر خليل أفندي الرجاوي الدفتردار في قلة من أتباعه، وترك أثقاله بالمراكب، وركب من مدينة فوة وحضر على البر؛ وذلك بسبب وقوف جماعة من الأمرا المصرلية ناحية النجيلة يقطعون الطريق على المارِّين في المراكب، ولما حضر نزل ببيت إسماعيل بك بالأزبكية.

وفي غايته وقع ما هو أشنع مما وقع في غرته، وذلك أن ليلة الاتنين غايته كان بالسما غيم مطبق ومطر ورعد وبرق متواتر، وأوقدت قناديل المنارات والمساجد، وصلى الناس التراويح، واستمر الحال إلى سابع ساعة من الليل، وإذا بمدافع كثير وشنك من القلعة والأزبكية.

ولغط الناس بالعيد، وذكروا أن جماعة حضروا من دمنهور والبحيرة، وشهدوا أنهم رأوا هلال رمضان ليلة السبت، فذهبوا إلى بيت الباشا، فأرسلهم القاضي، فتوقف في قبول شهادتهم، فذهبوا إلى الشيخ الشرقاوي، فقبلهم وأيدهم وردهم إلى القاضي، وألزمه بقبول شهادتهم، فكتبوا بذلك إعلامًا إلى الباشا، وقضوا بتمام عدة رمضان بيوم الأحد، ويكون غرة شوال صبحها يوم الاتنين، وأصبح الناس في أمر مريج، منهم الصايم ومنهم المفطر، فلزم من ذلك أنهم جعلوا رجب تمانية وعشرين يومًا، وشعبان تسعة وعشرين، وكذلك رمضان، والأمر لله وحده.

شهر شوال (سنة ١٢١٧)

كان أوله الحقيقي يوم التلات، وجزم غالب الناس المفطرين بقضا يوم الاتنين.

وفي خامسه وصلت أثقال خليل أفندي الرجاوي الدفتردار، وفيه طلبوا ألف كيس سلفة من التجار وأرباب الحرف، فوزعت وقبضت على يد السيد أحمد المحروقي، وهي أول حادثة وقعت بقدوم الدفتردار.

وفي يوم الخميس عاشره نصب جاليش شريف باشا المعبر عنه بالطوخ عند بيته بالأزبكية، وضربت له النوبة التركية، وأهدى له الباشا خيامًا كثيرة وطقمًا ولوازم.

وفي يوم الاتنين تاني عشرينه كان خروج أمير الحاج بالموكب والمحمل المعتاد إلى الحصوة، وكان ركْب الحجاج في هذه السنة عالَمًا عظيمًا، وحضر الكثير من حجاج المغاربة من البحر، وكذلك عالم كثير من الصعيد والقرى القبلية والبحرية والأروام، والقرمان وغير ذلك.

وفي يوم الخميس خامس عشرينه خرج شريف باشا في موكب جليل، ونصب وطاقه عند بركة الشيخ قمر، فأقام به إلى أن يسافر إلى جدة من القلزم، وانتقل خليل أفندي الرجاوي الدفتردار إلى دار شريف باشا بالأزبكية.

وفي غايته حضر أولاد الشريف سرور، شريف مكة، هروبًا من الوهابيين؛ ليستنجدوا بالدولة، فنزلوا ببيت المحروقي بعدما قابلوا محمد باشا والي مصر وشريف باشا والي جدة.

شهر ذي القعدة الحرام (سنة ١٢١٧)

استهل بيوم الأربعا فيه تقدم الناس بطلب الجامكية، فأمرهم الدفتردار بكتابة عرضحالات، فثقل عليهم ذلك، فقالوا: إننا كتبنا عرضحالات في السنة الماضية، وأخذنا سنداتنا من الدفتردار المنفصل، ودفع لنا سنة ستة عشر. فقيل لهم: إنه دفع لكم سنة معجلة، والعبرة بتاريخ السندات، والحساب لا يكون إلا من يوم التوجيه. فضجوا من ذلك وكثر لغط الناس بسبب ذلك، وأكثروا من التشكي من الدفتردار.

وفي سادسه اجتمع الكثير من النسا بالجامع الأزهر، وصاحوا بالمشايخ وأبطلوا دروسهم فَاجتمعوا بِقبلته، ثُم ركبوا إلى الباشا فوعدهم بخير حتى ينظر في ذلك، وبقي الأمر وهم في كل يوم يحضرون، وكثر اجتماعهم بالأزهر وباب الباشا، فلم يحصل لهم فايدة من ذلك سوى أن رسم لهم بموجب آخر سنة تاريخه معجلة، ولم يقبضوا منها إلا ما قل بسبب تتابع الشرور والحوادث.

وفي حادي عشره يوم السبت ارتحل شريف باشا إلى بركة الحج متوجهًا إلى السويس.

وفيه ارتحل حجاج المغاربة، وكانوا كثيرين فسافر أغنياهم والكثير من فقراهم من طريق البر وآخرون من السويس على القلزم.

وفي رابع عشره حضر ططريات إلى الباشا وعلى يدهم مثالات شريفة وبشارة بتقريره على السنة الجديدة، وزيد له تشريف تترخانية، ومعناه مرتبة عالية في الوزارة، فضربوا شنكًا ومدافع متوالية يومين.

وفيه أشيع انتقال الأمرا المصرلية من جهة البحيرة، وقبلوا إلى ناحية الجسر الأسود، وأشيع أيضًا أن جماعة منهم نزلوا بصحبة جماعة من الإنكليز إلى البحر قاصدين التوجه إلى إسلامبول، وانتقل كتخدا بك خلفهم بعساكره، ولكن لم يتجاسروا على الإقدام عليهم.

وفيه وصلت الأخبار من الديار الشامية بهروب محمد باشا أبو مرق من يافا، واستيلا أحمد باشا الجزار عليها، وذلك بعد حصاره فيها سنة وأكثر.

وفي رابع عشره حضر كتخدا الباشا وتقدم الأمرا المصرلية إلى جهة قبلي حتى عدوا الجيزة، وحصل منهم ومن العساكر العثمانية الضرر الكثير في مرورهم على البلاد: من التفاريد والكلف ورعي الزروع وقطع الطرق برًّا وبحرًا.

وكان أغات الجوالي القبلية، وهو نجيب أفندي كتخدا الدفتردار، مسافرًا إلى قبلي وصحبته أرباب مناصب عدوا إلى الجيزة ونصبوا خيامهم هناك، فصادفوهم الأمرا القبالي وهجموا عليهم وقتلوا منهم من وجدوه وهرب الباقون، فاستولوا على خيامهم ووطاقهم، وكذلك كتخدا الدفتردار خرج إلى مصر القديمة متوجهًا الصعيد لقبض الغلال والأموال، فاستمر مكانه وتأخر لعدم المراكب وخوفًا من المذكورين.

وفيه ورد الخبر بنزول شريف باشا إلى المراكب بالقلزم يوم الخميس سادس عشره.

وفي يوم الأربع تاني عشرينه طلبوا أيضًا خمسة آلاف كيس سلفة؛ من التجار ثلاثة آلاف كيس، ومن الملتزمين ألفَا كيس، وشرعوا في توزيعه، فانزعج الناس وأغلق أهل الغورية حوانيتهم، وكذا خلافهم وهرب أهل وكالة الصابون إلى الشام على الهجن، واختفى أكثر الناس مثل السكرية وأهل مرجوش وخلافهم، فطلبهم المعينون ولزموا بيوتهم وسمروا مطابخ السكر، وكذلك عملوا فردة على البلاد؛ أعلى وأوسط وأدنى: الأعلى خمسماية ريال، والأوسط تلاتماية، والأدنى ماية وخمسون.

وفيه تحقق الخبر بنزول طايفة الإنكليز وسفرهم من ثغر إسكندرية في يوم السبت حادي عشره، ونزل بصحبتهم محمد بك الألفي، وصحبته جماعة من خمسة عشر شخصًا من مماليكه الصغار وأتباعه.

وفي خامس عشرينه حضر أحمد باشا والي دمياط، وكانوا أرسلوا له طَوخًا ثالثًا، وأنه يحضر ويتوجه لمحافظة مكة، وكذلك قلدوا آخر باشوية المدينة يسمى أحمد باشا، وضموا لها عسكرًا يسافرون صحبتهم من الوهابيين وأخذوا في التشهيل.

وفي هذه الأيام تشكى العسكر من عدم الجامكية والنفقة، فإنه اجتمع لهم جامكية نحو سبعة أشهر، وقد قطع عليهم الباشا رواتبهم وخرجهم لقلة الإيراد وكثرة المطلوبات وكراهته لهم، فصار كبراهم يترددون ويكثرون من مطالبة الدفتردار، حتى كان يهرب من بيته غالب الأيام، وأشيع بالمدينة قيام العسكر، وأنهم قاصدون نهب أمتعة الناس، فنقل أهل الغورية وخلافهم بضايعهم من الحوانيت، وامتنع الكثير منهم من فتح الحوانيت، وخافهم الناس حتى في المرور، وخصوصًا أوقات المسا، فكانوا إذا انفردوا بأحد شلحوه من ثيابه وربما قتلوه، وكذلك أكثروا من خطف النساء والمردان.

وفي ليلة التلات تامن عشرينه كان انتقال الشمس لبرج الحمل وأول فصل الربيع، وفي تلك الليلة هبت رياح شمالية شرقية هبوبًا شديدًا مزعجًا، واستمرت بطول الليل.

وفي آخر الليل قبل الفجر اشتد هبوبها، ثم سكنت عند الشروق وسقط تلك الليلة دار بالحبالة بالرميلة، ومات بها نحو تلات أشخاص، وداران أيضًا بطولون وغير ذلك حيطان وأطارف أماكن قديمة، ثم تحولت الريح غربية قوية واستمرت عدة أيام ومعها غيم ومطر.

وفيه وصل الأمرا القبالي المصرلية إلى الفيوم، فأخذوا كلفًا ودراهم كثيرة، فردوها على البلاد، ثم سافروا إلى الجهة القبلية.

وفيه ورد الخبر بأن المراكب التي فيها ذخيرة أمير الحاج بالقلزم المتوجهة إلى الينبع والمويلح، غرقت بما فيها، ومركب الجميعي من جملتها.

وفيه حضر مصطفى بينباشي الذي كان أيَّام الوزير بمصر إلى بلبيس، وهو موجه بطلب مبلغ دراهم، فأقام ببلبيس حتى شهلوها وأرسلوها له، ثم ذَهب إلى دمياط وصحبته نحو الأربعماية من الأرنؤد ليسافر من البحر.

وفيه توجه السيد أحمد المحروقي والكثير من الناس لزيارة سيدي أحمد البدوي لمولد الشرنبلالية، وأخذ معه عدة كثيرة من العسكر خوفًا من العربان، ووصل إليه فرمان بطلب دراهم من أولاد الخادم ومن أولاد البلد، فدلوا على مكان لمصطفى الخادم، فاستخرجوا منه ستة آلاف ريال، وطلبوا من كل واحد من أولاد عمه مثلها.

شهر ذي الحجة الحرام (سنة ١٢١٧)

استهل بيوم الجمعة. في يوم الاتنين رابعه قتلوا شخصًا عسكريًّا نصرانيًّا عند باب الخرق، قتله أغا التبديل؛ بسبب أنه كان يقف عند باب داره بحارة عابدين هو ورفيقان له يخطفون من يمر بهم من النسا أثنا النهار، إلى أن قبض عليه وهرب رفيقاه.

وفيه أيضًا أخرجوا من دار بحارة خشقدم قتلى كثيرة؛ نسًا ورجالًا من فعل العسكر.

وفيه عدى إبراهيم باشا إلى بر الجيزة.

وفي يوم الأحد عاشره كان عيد الأضحى، وفي ذلك اليوم حضر من الأمرا القبالي مكاتبة على يد الشيخ سليمان الفيومي خطابًا للمشايخ، فأخذها بختمها وذهب بها إلى الباشا ففتحها واطلع على ما فيها، ثم طلب المشايخ فحضروا إليه وقت العصر.

وفي يوم الجمعة خامس عشره حضرت مكاتبات من الديار الحجازية، يخبرون فيها عن الوهابيين أنهم حضروا إلى جهة الطايف، فخرج إليهم شريف مكة الشريف غالب، فحاربهم فهزموه، فرجع إلى الطايف وأحرق داره التي مر بها، وخرج هاربًا إلى مكة فحضر الوهابيون إلى البلدة وكبيرهم المضايفي نسيب الشريف، وكان قد حصل بينه وبين الشريف وحشة، فذهب مع الوهابيين وطلب من مسعود الوهابي أن يؤمِّره على العسكر الموجه لمحاربة الشريف، ففعل، فحاربوا الطايف وحاربهم أهلها تلات أيام حتى غلبوا، فأخذ البلدة الوهابيون، واستولوا عليها عنوة، وقتلوا الرجال وأسروا النسا والأطفال، وهذا دأبهم مع من يحاربهم.

وفي ذلك اليوم مر أربعة أنفار من العسكر، وأخذوا غلامًا لرجل حلاق بخط بين السورين عند القنطرة الجديدة، فعارضهم الأسطى الحلاق في أخذ الغلام، فضربوا الحلاق وقتلوه، ثم ذهبوا بالغلام إلى دارهم بالخطة، فقامت في الناس ضجة وكرشة، وحضر أغات التبديل فطلبهم فكَرْنَكُوا بالدار وضربوا عليه البنادق من الطيقان، فقتلوا من أتباعه تمانية أنفار.

ولم يزالوا على ذلك تاني يوم، فركب الباشا في التبديل، ومر من هناك وأمر بالقبض عليهم، فنقبوا عليهم من خلف الدار، وقبضوا عليهم بعدما قتلوا وجرحوا آخرين، فشنقوهم ووجدوا بالدار مكانًا خربًا أخرجوا منه زيادة عن ستين امرأة مقتولة، وفيهن من وجودها وطفلها مذبوح معها في حضنها.

وفيه حضر علي أغا الوالي إلى بيت أحمد شويكار بضرب سعادة، وأخرج منه قتلى كثيرة، وأمثال ذلك شي كثير.

وفي خامس عشره أيضًا أمر الباشا الوجاقلية أن يتهيوا ويخرجوا جهة العادلية لأجل الغفر من العربان، فإنهم فحش أمرهم وتجاسروا في التعرية والخطف، حتى على نواحي المدينة، بل وطريق بولاق وغير ذلك.

فلما كان في تاني يوم ركب الوجاقلية المذكورون بأبهتهم وبيارقهم، وحضروا إلى بيت الباشا وخرجوا من هناك إلى وطاقهم الذي أعدوه لأنفسهم خارج القاهرة، وشرعوا في تعمير قصر من القصور الخارجة التي خربت أيام الفرنسيس.

وفي تاسع عشره سافر جماعة الوجاقلية المذكورين وصحبتهم عدة من العسكر إلى جهة عرب الجيزة؛ بسبب إغارة موسى خالد ومن معه على البلاد وقطع الطرق، فلاقاهم المذكور وحاربهم وهزمهم إلى وردان وذهب هو إلى جهة البحيرة.

وفي رابع عشرينه يوم الأحد كان عيد النصارى الكبير في ليلتها، وهي ليلة الاتنين، وقع الحريق في الكنيسة التي بحارة الروم وفي صبحها شاع ذلك، فركب إليها أغات الإنكشارية والوالي، وأحضروا السقايين والفعلة الذين يعملون في عمارة الباشا، حتى أخذوا الناس المجتمعة بسوق المؤيد بالأنماطيين، وحضر الباشا أيضًا في التبديل، واجتهدوا في إطفاها بالماء والهدم حتى طفيت في تاني يوم، واحترق بها أشياء كثيرة وذخاير وأمتعة، ونهبت أشيا كثيرة.

وفيه وردت أخبار بأن الأمرا المصرلية وصلوا إلى منية ابن خصيب، فأرسلوا إلى حاكمها بأن ينتقل منها ويعدي هو ومن معه من العسكر إلى البر الشرقي، حتى إنهم يقيمون بها أيامًا ويقضون أشغالهم ثم يرحلون، فأبوا عليهم وحصنوا البلدة وزادوا في عمل المتاريس.

أما حاكمها المذكور سليم كاشف تابع عثمان بك الطنبرجي المرادي المقتول، فإنه سالم العثمانيين وانضم إليهم، فألبسوه حاكمًا على المنية، وأضافوا إليه عساكر فذهب إليها، ولم يزل يجتهد في عمل متاريس وحفر خنادق ونصْب مدافع، حتى ظن أنه في مَنعة عظيمة، فلما أجابهم بالامتناع حضروا إلى البلدة، وحاربهم أشد المحاربة مدة أربعة أيام بلياليها، حتى غلبوا عليهم ودخلوا البلدة وملكوها، وأطلقوا النار وقتلوا أهلها وما بها من العسكر، ولم ينج منهم إلا من ألقى نفسه في البحر وعام إلى البر الآخر، أو كان قد هرب قبل ذلك، وأما سليم كاشف فإنهم قبضوا عليه حيًّا، وأخذوه أسيرًا إلى إبراهيم بك فوبخه وأمر بضربه، فضربوه علقة بالنبابيت.

وفيه وصلت هجانة من شريف باشا بمكاتبة للباشا والدفتردار يخبر فيها أنه وصل إلى الينبع، وهو عازم على الركوب من هناك على البر؛ ليدرك الحج ويترك أثقاله، فتوجه في المركب إلى جدة.

وفي غايته وصل سلحدار الباشا وصحبته أغات المقرر الذي تقدمت بشارته، فلما وصلوا إلى بولاق أرسل الباشا في صبحها إليهم فركبوا إلى بيت الباشا، وضربوا لهم مدافع، وحضر المشايخ والقاضي والأعيان والوجاقات فقُرِي عليهم ذلك، وفيه الأمر بتشهيل غلال للحرمين والحث والأمر بمحاربة المخالفين.

وفيه بعثوا نحو ألف من العسكر إلى جهة أسيوط للمحافظة، فساروا على الهجن من البر الشرقي.

وفيه أرسلوا أوراقًا إلى التجار وأرباب الحرف بطلب باقي الفردة، وهو القدر الذي تشفَّع فيه المحروقي وأخذوا في تحصيله، فلما قبضوا الذي تقرر طلبوا الباقي.

وانقضت هذه السنة وما وقع بها من الحوادث الكلية التي ذكر بعضها، وأما الجزئية فلا يمكن الإحاطة ببعضها، فضلًا عن كلها؛ لكثرتها واختلاف جهاتها، واشتغال البال عن تتبع حقايقها ونسيان الغايب لعلة الشنيع بالأشنع والقبيح بالأقبح، فمن الكلية التي عم الضرر بها:
  • زيادة المكوس والجمارك أضعاف المعتاد في كل ثغر ذهابًا وإيابًا.

  • ومنها توالي الفرد والمظالم والمغارم، التي يسمونها السُّلف، على أهل المدينة والأرياف، وحق طريق المعينين وكلفهم الخارجة عن الحد والمعقول بأدنى شكوى، ولو بالباطل، فبمجرد ما يأتي الشاكي بعرضحال شكواه، يكتب له ورقة، ويعين بها عسكري أو بشتلي أو اثنان أو أكثر بحسب اختيار الشاكي وطلبه للتشفي من خصمه، فبمجرد وصوله إلى المشكي بصورة منكرة وسلاح كثير متقلد به، فلا يكون له شغل إلا طلب خدمته؛ لأن في اعتقاده أنها منفعة وجهت إليه، ولا يسأل عن الدعوى ولا عن صورتها، ويطلب طلبًا خارجًا عن المعقول كألف قرش في دعوى عشرة قروش، وخصوصًا إذا كانت الشكوى على فلاح في قرية فيحصل أشنع من ذلك من إقامتهم عندهم، وطلبهم وتكليفهم الذبايح والفطور بما يشترونه ويقترحونه عليهم.

    وربما يذهب الشخص الذي يكون بينه وبين آخر عداوة قديمة أو مشاحنة أو دعوى قُضي عليه فيها بحرق من زمان طويل، فيقدم له عرضحال ويعين له مباشرًا بفرمان، ويذهب هو فلا يظهر ويذهب المعين في شغله والمشكي لا يرى الشاكي ولا يدري من أين جاته هذه المصيبة، ويمكن أنه من بعد خلاصه من أمر المباشر يحضر إلى بيت الباشا، ويبحث عن خصمه ويعرفه فيُنهي دعواه ويظهر حجته، بأنه على الحق وأن خصمه على الباطل، فيقال له: عين على خصمك أيضًا. فإن أجاب إلى ذلك رسم له بفرمان ومعين آخر كذلك، وإلا ترك أجره على الله ورجع.

    فضاق خناق الناس من هذه الحال وكرهوا هذه الأوضاع، وربما قتل الفلاحون المعينين وهربوا من بلادهم وجلوا عن أوطانهم خوف الغايلة.

    ولم يزل هذا دأبهم حتى نفرت منهم القلوب وكرهتهم النفوس، وتمنوا لهم الغوايل، وعصت أهل النواحي وعربدت العربان وقطعوا الطرق، وعلموا خيانتهم فخانوهم، ومكالبتَهم فكالبوهم.

    وانتمى عربان الجهة القبلية إلى الأمرا المصرلية، وساعدوهم عليهم، ولما انحدر الأمرا إلى جهة بحري انضمت إليهم جميع قبايل الجهة العربية والهنادي وعرب البحيرة وخلافهم.

    فلما وقعت الحروب بين الأمرا والعثمانيين، وكانت الغلبة للأمرا والعربان، زَادت جسارتهم عليهم، ورصدوا لهم الغوايل وقطعوا عليهم وعلى المسافرين الطرق بحرًا وبرًّا، فمن ظفروا به ومانعهم، نهبوا متاعه وقتلوه، وإلا سلبوه وتركوه، وفحش الأمر جدًّا قبلي وبحري، حتى وقف حال الناس ورضوا عن أحكام الفرنسيس.

  • ومنها أن الباشا لما قتل الوالي والمحتسب وعمل قايمة تسعيرة للمبيعات، وأن يكون الرطل اثنتي عشرة أوقية في جميع الأوزان، وأبطلوا الرطل الزياتي الذي يُوزن به السمن والجبن والعسل واللحم وغير ذلك، وهو أربع عشرة أوقية، لم ينفذ من تلك الأوامر شي سوى نقص الأرطال، ولم يزل ذو الفقار محتسبًا حتى رتب المقررات على المتسببين زيادة عن القانون الأصلي، وجعل منها قسطًا لخزينة الباشا والكتخدا وخلافهما.

    ورجعت الأمور في الأسعار أقبح وأغلى مما كانت عليه في كل شي، واستمر الرطل اثنتي عشرة أوقية لا غير، وكثر ورود الغلال أيام النيل، ورخص سعرها، والرغيف على مقدار رغيف الغلا.

  • ومنها أن الفضة الأنصاف العددية صاروا يأخذونها من دار الضرب أولًا بأول ويرسلونها إلى الروم والشام بزيادة الصرف، ولا ينزل إلى الصيارف منها إلا القليل، حتى شحت بأيدي الناس جدًّا، ووقف حالهم في شرا لوازم البيوت ومحقرات الأمور، ويدور الإنسان بالريال أو المحبوب أو المجر وهو في يده طوال النهار فلا يجد مصارفته. وأغلقت غالب الصيارف حوانيتهم بسبب ذلك؛ وبسبب أذية العسكر؛ فإنهم يأتون إليهم ويلزمونهم بالمصارفة فيقول له الصيرفي: ليس عندي فضة. فلا يقبل عذره ويفزع عليه بيَطقانه أو بَارودته، وإن وجد عنده المصارفة وكان المحبوب أو البندقي ناقصًا في الوزن ولا يستقيم في نقصه، ولا يأخذ إلا صرفه كاملًا، وإذا اشترى شيًّا من سوقي أعطاه بندقيًّا وطلب باقيه، ولم يكن عند البايع باقية، أخذ الذي اشتراه والبندقي وذهب، ولا يقدر المسبب استخلاص حقه منه، وإن وجد معه باقي المصارفة وأخذ ذلك البندقي ونقده عند الصراف وكان ناقصًا، وهو الغالب، لا يقدر الصيرفي أن يذكر نقصه فإن قال: إنه ينقص، فزع عليه وسبه، وبعضهم أدخل أصبعه في عين الصراف، وأمثال ذلك.

  • ومنها شحة المراكب حتى أخذ المسافر يمكث الأيام الكثيرة ينتظر مركبًا فلا يجد، وربما أخذوها بعد تمام وسقها فنكتوه وأخذوها، وإن مرت على الأمرا المصرلية وما انضم إليهم تعرضوا لها ونهبوا ما بها من الشحنة، وأخذوا المركب، واستمر هذا الحال على الدوام، فكان ذلك من أعظم أسباب التعطيل أيضًا.

  • ومنها تسلط العسكر على خطف الناس وسلبهم وقتلهم، وخصوصًا في أواخر هذه السنة، حتى امتنعت الناس من المرور في جهات سكنهم، إلا أن يكونوا في عزوة ومنعة وقوة، ولا تكاد ترى شخصًا يمر في الأسواق السلطانية من بعد المغرب وقبيل العشا، وإذا اضطر الإنسان إلى المرور تلك الأوقات فلا يمر إلا كالمجازف على نفسه، وكأنما على رأسه الطير.

    فيقال: إن فعلهم هذه الفعايل من عوايدهم الخبيثة إذا تأخرت نفقاتهم فعلوا ذلك مع العامة. على حد قول القايل: «خلص تارك من جارك.» وذلك كله بسبب تأخير جماكيهم وقطع خرجهم نحو خمسة أشهر، والباشا يشوفهم ويقول: هولا لا يستحقون فلسًا وأي شي خرج من يدهم، وطول المدى نكلفهم ونعطيهم وما يستروا أنفسهم مع الغز المصرلية ولا مرة، فلا حاجة لنا بهم، بل يخرجون عني ويذهبون حيث شاءوا، فليس منهم إلا الأذية والعنطزية، وهم يقولون: لا نخرج ولا نذهب حتى نستوفي حقنا على دور النصف فضة الواحد، وإن شينا أقمنا وإن شينا ذهبنا.

  • ومنها استمرار الباشا على الهمة والاجتهاد في العمارة والبنا وطلب الأخشاب والمون، حتى عز جميع أدوات العمارة، وضاق حال الناس بسبب احتياجهم لعمارة أماكنهم التي تخربت في الحوادث السابقة، وبلغ سعر الأردب الجبس ماية وعشرين نصفًا، والجير المخلوط أربعين نصفًا القنطار، وأجرة المعلم في اليوم خمسة وأربعين نصفًا، ويتبعه آخر مثل ذلك، والفاعل اثنين وعشرين نصفًا.

    وأحدثوا أخذ إجازة من المعمارجي، وهو أن الذي يريد بنا ولو كانونًا لا يقدر وأن يأتيه البنا حتى يأخذ ورقة من المعمارجي، ويدفع عليها خمسين نصفًا.

    ولم يزل الاجتهاد في العمارة المذكورة حتى أقاموا جانبًا من القشلة، وهي عبارة عن وكالة يعلوها أطباق وأسفلها اصطبلات وحولها من داخل حواصل ومن خارج حوانيت وقهوة، فعندما تمت الحوانيت ركبوا عليها درفها وأسكنوا بها قهوجيًّا ومزينًا من أتباع الباشا وخياطين وعقادين وسروجية الباشا، وغير ذلك، لم يكمل تسقيف الطباق وعملوا لها بوابة عظيمة بمصاطب، وهدموا حائط الرحبة المقابلة لبيت الباشا الخارجة، وعمرت وأنشيت بالحجر النحت المحكم الصنعة، وعملوا لها بوابة عظيمة ببدنات وأبراج عظام، وبها طاقات عليا وسفلى وصفوا بها المدافع العظيمة، وبركن الرحبة مثل ذلك وعملوا لها بابًا آخر قبالة باب القشلة، بحيث صار بينها وبين القشلة رحبة متسعة يسلك منها المارون إلى جهة بولاق على الجسر الذي عمله الفرنسيس، ويخرجون أيضًا في سلوكهم من بوابة عظيمة إلى طريق بولاق من الجهة الغربية بحايط حجر متصلة من الرحبة، حيث البوابة المواجهة للقشلة.

    وعلى هذه البوابة من الجهتين مدافع كبيرة مركبة على بدنات وأبراج وطبقات مهندمة، وبها باب يصعد منه إلى تلك الأبراج والجبخانة والعساكر جلوس على تلك المصاطب الخارجة والداخلة، لابسين الأسلحة وبنادقهم مرصوصة بداير الحيطان.

    وبداخل الرحبة الوسطانية مدافع مرصوصة بطول الرحبة يمينًا وشمالًا، وكذلك بداخل الحوش الجواني الأصلي وبأسفل الرحبة نحو المايتي مدفع مرصوصة أيضًا، وعربيات وصناديق جبخانة وآلات حرب وغير ذلك، والجبخانة الكبيرة لها محل مخصوص بالحوش الداخل الأصلي، ولها خزنة وطبجية وعربجية.

  • ومنها أنه عدم البصل الأحمر حتى بيع الرطل بسعر القنطار في الزمن السابق، وعدم الملح أيضًا بسبب احتكاره، وعدم المراكب التي تجلبه من بحري لما ترتب عليهم من زيادة الجمارك، وعدم مكاسبهم فيه؛ لأن الذي تولى على جمرك الملاحة صار يأخذه من أصحابه على ذمته بسعر قليل معلوم، ويبيعه على ذمته بسعر كثير لمن يسافر به إلى جهة قبلي؛ وذلك خلاف ما يأخذه من المراكب التي تحمله، فامتنع المتسببون فيه من تجارته، فعز وجوده في آخر السنة، حتى أُبيع الرطل بثمانين نصفًا من تلات أنصاف، وضجت الناس من ذلك، فأرسل ذلك الملتزم تلات مراكب على ذمته، ووسقها ملحًا وصار يبيع الرطل بعشرين نصفًا، ويبيعه المسبب بثلاثين، وهذا لم يعهد فيما تقدم من السنين.

    وعدم أيضًا الصابون بسبب تأخر القافلة حتى أُبيع بأغلى ثمن، ثم حضرت القافلة فانحل سعره وتواجد وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة بمنِّه وكرمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤