ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومايتين وألف (١٨١٣م)

استهل المحرم بيوم الجمعة، فيه في ليلة الجمعة ثامنه وردت مكاتبات من الديار الحجازية، وفيها الأخبار بأن الباشا قبض على الشريف غالب أمير مكة، وقبض على أولاده التلاتة وأربعة عبيد طواشية من عبيده، وأرسلهم إلى جدة، وأنزلهم في مركب من مراكبه وهي واصله بهم، والذي وصل بالخبر وصل في مركب صغيرة تسمى السحاب، سبقتهم في الحضور إلى السويس.

وأخبروا أيضًا في المكاتبة أنه لما قبض عليهم أحضر يحيى ابن الشريف سرور، وقلده الأمارة عوضًا عن عمه غالب، وقبضوا أيضًا على وزيره الذي بجدة وأصحبوه معهم، وقلد مكانه في الكمارك شخصًا من الأتراك يسمى علي الوجاقلي، فلما وصل الهجان بهذه المكاتبة إلى السيد محمد المحروقي ليلًا ركب من وقته إلى كتخدا بك في بيته وأطلعه على المكاتبات، فلما طلع النهار نهار يوم الجمعة، ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا وسرورًا بذلك.

وفيه احتفل كتخدا بك بعمل مهم أيضًا لزواج إسماعيل باشا ابن محمد علي باشا ومحمد بك الدفتردار على ابنة الباشا، وإسماعيل باشا على ابنة عارف بك ابن خليل باشا التي أحضرها صحبته من إسلامبول، وقد تقدم ذكر العقد عليهما في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان من السنة الماضية قبل توجُّه الباشا إلى الحجاز، فألزم كتخدا بك السيد محمد المحروقي بتنظيم الفرح والاحتياجات واللوازم، واتفقوا على أن يكون نصبة الفرح ببركة الأزبكية تجاه بيت حريم الباشا، وتعمل الولايم واجتماع المدعوين ببيت طاهر باشا، والمطبخ بخرايب بيت الصابونجي.

وأرسلوا أوراق التنابيه للمدعوين على طبقات الناس بالترتيب، ونصبوا بوسط البركة عدة صواري لأجل الوقدات والقناديل التي تعمل عليها التصاوير من القناديل، فترى من البُعد صورة مركب أو سبعَين متقابلَين أو شجرة أو محمل على جمل أو كتابة مثل: ما شاء الله ونحو ذلك، وصفوا بوسط البركة عدة مدافع صفَّين متقابلَين، ونصب بهلوان الحبل حبله أوله من تجاه بيت الباشا وآخره برأس المنارة التي جهة حارة الفوالة خلف رصيف الخشاب، حيث الأبنية المتخربة في الحوادث الماضية، بالقرب من القشلة وعمارات محمد باشا خسرو التي لم تكمل، وبهلوان آخر شامي بالناحية الأخرى.

وانتقل السيد محمد المحروقي من داره إلى بيت الشرايبي تجاه جامع أزبك لأجل مباشرة المهمات.

فلما أصبح يوم السبت وهو يوم الابتدا ودعوة الأشياخ، رتبوهم فرقتَين: فرقة تأتي ضحوة النهار وأخرى بعد العصر، واجتمع بالأزبكية أصناف أرباب الملاعيب والمغزلكين والجنباذية والحبيظية والحواة والقرداتية والرقاصين والبرامكة، وغير ذلك أصناف وأشكال فاحتفلت، وأقبل من كل ناحية أصناف الناس رجال ونسا وأقارب وأباعد وأكابر وأصاغر وعساكر وفلاحون ويهود ونصارى وأروام لأجل التفرج، حتى ازدحمت الطرق الموصلة إلى الأزبكية من جميع النواحي بأصناف الناس الذاهبين والراجعين والمترددين.

واستمر ضرب المدافع من ليلة السبت المذكور إلى ليلة الجمعة التالية الأخرى ليلًا ونهارًا، والحرايق والنفوط والسواريخ في الليل، ولعبت أرباب الملاعيب والبهلوانات على الحبال.

وكذلك احتفل النصارى وعملوا وقدات وحراقات تجاه حاراتهم ومساكنهم، وصادف ذلك عيد الميلاد وعملوا لهم مراجيح وملاعيب.

وفي أثنا ذلك وقع التنبيه على أصحاب الحرف والصنايع بعمل عربات مشكلة وممثلة بحرفتهم وصنايعهم ليمشوا بها في زفة العروس، فاعتنى أهل كل حرفة وصناعة بتنميق وتزيين شكله، وتباهوا وتناظروا وتفاخروا على بعضهم البعض، فكان كل من سولت له نفسه وحدثه الشيطان بأحدث شي فعله، وذهب إلى المتعين لذلك فيعطيه ورقة؛ لأن ذلك لم يكن لأناس مخصوصة أو عدد مقدر، بل بتحكماتهم وإلزام بعضهم البعض، فيفرض رئيس الحرفة على أشخاص أهلها فرايض ودراهم يجمعها منهم، وينفقها على العربة وما يلزمها من أخشاب وحبال وحمير أو خيل أو رجال يسحبونها، وما يكتريه أو يستعيره لزينتها من المزركشات والمقصبات والطلعيات، وأدوات الصنعة التي تتميز بها عن غيرها فتصير في الشكل كأنها حانوت، والبايع جالس فيها كالحلواني، وأمامه الأواني فيها أنواع الحلوى والسكر، وحوله أواني الملبس وأقماع السكر معلقة حوله والشربات، والشربتلي والعطار والحريري والعقاد البلدي والرومي والزيات والحداد والنجار والخياط والقزاز والحباك، والنشار وهو ينشر بمنشاره المعلق، والطحان والفران وعه الفرن وهو يخبز فيه، والفطاطرة والجزار وحوله لحم الغنم، ومثله جزار الجاموس والكبابجي والنيفاوي وقلاء الجبن والسمك، والجيارين والجباسين بالحجر والثور يدور به وهو ماشٍ بالعربة، والبَنَّاء والمبلط والمبيض للنحاس، وللبناء والسمكري تتمتة إحدى وتسعون عربة، وفيهم حتى المراكبي في قنجة كبيرة كاملة العدة، والقلوع تمشي على الأرض على العجل، خلاف أربع عربات المختصة بالعروس.

فلما كان يوم الأربع سحبوا تلك العربات، وانجروا بمواكبهم وطبولهم وزمورهم، وأمام كل عربة أهل حرفتها وصناعها مشاة خلف الطبول والزمور، وهم مزينون بالملابس وملابسهم الفاخرة وأكثرها مستعارة، فكانوا ينزلون إلى البركة من ناحية باب الهوا ويمرون من تحت بيت الباشا إلى ناحية رصيف الخشاب، ويأتي كبير الحرفة بورقته إلى المتعين لملاقاتهم فينعم عليه بخلعة ودراهم، فيعطي البعض شال كشميري وألفين فضة، والبعض طاقة تفصيلة قطني أو أربعة أذرع جوخ على قدر مقام الصنعة وأهلها.

واستمر مرورهم من أول النهار إلى بعد الغروب، واصطفوا بأسرهم عند رصيف الخشاب، ولما أصبح يوم الخميس رتبوا مرور الزفة، وعين لترتيبها أشخاصًا ومنهم السيد محمد ضرب الشمس وهو كبير المنظمين.

وكان خروجها من بيت الحريم، وهو الذي كان سكن الشيخ خليل البكري، وذهبوا وانجروا على طريق الموسكي على تحت الربع إلى باب زويلة إلى الغورية إلى بين القصرين إلى سوق مرجوش إلى باب الحديد إلى بولاق إلى سراية إسماعيل باشا التي حددوها قبلي بولاق قريبًا من الشون، فلم تصل إلى منزلها إلا عند الغروب.

وكان في أول الزفة طايفة من العسكر الدلاة ثم والي الشرطة ثم المحتسب، ثم موكب أغات الينكجرية وبعدهم المساخر والنقاقير، وعدتها عشرة نقاقير وعلى كل نقارة تفصيلة.

ثم العربات المذكورة وفيها أيضًا تجار الغورية وطايفة تجار خان الخليلي في موكب حفل، وتجار الحمزاوي من نصارى الشوام وغيرهم.

وكان يومًا مشهودًا اجتمعت فيه الخلايق للفرجة في طرقها حتى طريق بولاق، واكتره الناس الأماكن المطلة على الشارع والحوانيت بأغلى الأثمان.

ولما وصلت العروس إلى قصرها ضربوا عدة مدافع من بولاق والأزبكية والجيزة.

وكان العزم على المهم الثاني والابتدا فيه يوم السبت الذي بعد الجمعة، فرسموا بتأخيره إلى الجمعة الأخرى لتأخر أم العريس ومن يصحبها من النسا، وأقمن ببولاق تلك الجمعة، واستمرت نصبة الصواري والحبال والآلات على حالها بالأزبكية.

وفي يوم الأحد سابع عشره وصل السيد غالب شريف مكة إلى مصر القديمة، وقد أتت به السفينة من القلزم إلى مرساة ثغر القصير، فتلقاه إبراهيم باشا وحضر صحبته إلى قنا وقوص، ثم ركب النيل بمن معه من أولاده وعبيده والعسكر الواصلين صحبته وحضر إلى مصر القديمة، فلما وصل الخبر إلى كتخدا بك ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلامًا بوصوله وإكرامًا له، على حد قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.

وركب صالح بك السلحدار وأحمد أغا أخو كتخدا بك في طايفة لملاقاته وإحضاره، وهيَّئُوا له مكانًا بمنزل أحمد أغا أخي كتخدا بك بعطفة ابن عبد الله بك بخط السروجية لينزل فيه، وانتظره الكتخدا هناك وصحبته بونابارته الخازندار ومحمود بك ومحو بك وإبراهيم أغا أغات الباب والسيد محمد المحروقي، فلما وصل إلى الدار نزل الكتخدا والجماعة ولاقوه عند سلم الركوبة وقبَّلوا يده، ولزم الكتخدا بيده تحت إبطه حتى صعد إلى محل الجلوس الذي أعدوه له، واستمر الكتخدا قايمًا على قدميه حتى أذن له في الجلوس هو وباقي الجماعة، وعرفه الكتخدا عن السيد محمد المحروقي فتقدم وقبَّل يده، فقام له وسلم عليه وجلس بحذا الكتخدا ليترجم عنه في الكلام ويؤانسوه ويطمنوا خاطره، ثم إن الكتخدا اعتذر له باشتغاله بأحوال الدولة واستأذنه في الذهاب إلى ديوانه، وعرفه أن أخاه ينوب عنه في الخدمة ولوازمه، فقبل عذره وقام منصرفًا هو وباقي الجماعة ما عدا السيد محمد المحروقي ومحمود بك، فإن الكتخدا أمرهما بالتخلف عنده ساعة، فجلسا معه وتغديا صحبته ومعه أولاده التلاتة وعبيده، ثم انصرفا إلى منزلهما.

ولم يأذن الكتخدا لأحد من الأشياخ أو غيرهم من التجار بالسلام عليه والاجتماع به، والذي بلغنا في كيفية القبض عليه أنه لما ذهب الباشا إلى مكة، واستمر هو وابنه طوسون باشا مع الشريف غالب على المصادقة والمسالمة والمصافاة، وجدد معه العهود والأيمان في جوف الكعبة بأن لا يخون أحدٌ صاحبَه، كان الباشا يذهب إليه في قلة، وهو الآخر يأتي إليه وإلى ابنه كذلك، واستمروا على ذلك خمسة عشر يومًا من ذي القعدة، ثم دعاه طوسون باشا إليه كعادته في قلة فوجد بالدار عساكر كثيرة، فعندما استقر به المجلس وصل عابدين بك في عدة وافرة، وطلع إلى المجلس فدنا منه وأخذ الجنبية من حزامه وقال له: أنت مطلوب للدولة، فقال: سمعًا وطاعة، ولكن حتى أقضي أشغالي في ظرف تلاتة أيام وأتوجه، فقال: لا سبيل إلى ذلك، والسفينة حاضرة في انتظارك.

فحصل في جماعة الشريف وعبيده رجة، وصعدوا على أبراج سرايته وأرادوا الحرب، فأرسل إليهم الباشا يقول لهم: إن وقع منكم حرب أحرقت البلدة وقتلت أستاذكم، وأرسل لهم أيضًا الشريف يكفهم عن ذلك، وكان بها أولاده التلاتة، فحضر إليهم الشيخ أحمد تركي وهو من خواص الشريف وخدمهم، وقال لهم: لم يكن هناك بأس وإنما والدكم مطلوب في مشاورة مع الدولة ويعود بالسلامة، وحضرة الباشا يريد أن يقلد كبيركم نيابة عن أبيه إلى حين رجوعه.

ولم يزل حتى انخدع كبيرهم لكلامه وقاموا معه، فذهب بهم إلى محل خلاف الذي به والدهم محتفظًا بهم، وفي الوقت أحضر الباشا الشريف يحيى بن سرور، وهو ابن أخي الشريف غالب، وخلع عليه وقلده أمارة مكة، ونودي في البلدة باسمه وعزل الشريف غالبًا حسب الأوامر السلطانية، واستمر الشريف غالب أربعة أيام عند طوسون باشا، ثم أركبوه وأصحبوا معه عدة من العسكر وذهبوا به وبأولاده إلى بندر جدة، وأنزلوهم السفينة وساروا بها إلى ناحية القصير من صعيد مصر، وحضر كما ذكر.

وفي يوم الأربع وصل قاصد من الديار الرومية وعلى يده مثالان، فعمل كتخدا بك ديوانًا في صبحية يوم الخميس حادي عشرينه وقري ذلك، وهما مثالان أحدهما التقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر على السنة الجديدة، والثاني الإخبار والبشارة باستيلا العثمانيين على بلاد الصرب، ولما فرغوا من قرايتهما ضربوا عدة مدافع من القلعة.

وفي عصرية ذلك اليوم حضر حريم الباشا من بولاق إلى الأزبكية في عربات، فضربوا لحضورهن مدافع من الأزبكية وشرعوا في عمل المهم التاني لابنة الباشا علي الدفتردار، وافتتحوا ذلك من ليلة السبت على النسق المتقدم، وعملوا العزايم والولايم واحتفلوا أزيد من المهم الأول، وأحضروا الشريف غالب وأعدوا له مكانًا ببيت الشرايبي على حدته هو وأولاده ليتفرجوا على الملاعب والبهلوانات نهارًا والشنك والحراقات ليلًا، وعلى الشريف وأولاده الحرس، ولا يجتمع بهم أحد على الوجه والصورة التي كانوا عليها بالمنزل الذي أنزلوا فيه.

فلما كان في يوم الأربع اجتمع أرباب العربات وأصحابها، وقد زادوا عن الأولى خمسة عشر عربة وفيهم معمل الزجاج، وباتوا بنواحي البركة على النسق المتقدم، ونصبوا لهم خيامًا تقيهم من البرد والمطر؛ لأن الوقت شتا.

ولما أصبح يوم الخميس انجرت العربات وموكب الزفة من ناحية باب الهوا على قنطرة الموسكي على باب الخرق على درب الجماميز، وعطفوا من الصليبة على المظفر على السروجية على قصبة رضوان بك على باب زويلة على شارع الغورية على الجمالية على سوق مرجوش على بين السورين على الأزبكية على باب الهوا إلى المنزل الذي أعدوه لها، وهو بيت ابنه إسماعيل بك وهي بنت إبراهيم بك، وكانت متزوجة بإسماعيل بك، ولما مات تزوج بها مملوكه محمد أغا ويعرف بالألفي، وقد تولى أغاوية مستحفظان في هذه الدولة واعتنى بهذه الدار، وعمر بها مكانين بداخل الحريم وزخرفها ونقشها نقشًا بديعًا صناعة صناع العجم، واستمروا في نقشها سنتين، ولما ماتت المذكورة في أوايل هذه السنة واستمر هو ساكنًا فيها، وأنزل الباشا عنده القاضي المنفصل عن قضا مصر المعروف ببهجة أفندي وقاضي مكة صادق أفندي حين حضر من إسلامبول، ثم أمره الباشا بالخروج منها وإخلاها لأجل أن يسكن بها ابنته هذه المزفوفة، فخرج منها في أوايل شوال، وكذلك سافر القاضيان إلى الحجاز بصحبة الباشا، وعند ذلك بيضوها وزادوا في زخرفتها وفرشوها بأنواع الفرش الفاخرة، ونقلوا إليها جهاز العروس والصناديق وما قدم إليها من الهدايا والأمتعة والجواهر والتحف من الأعيان وحريماتهم، حتى من نسا الأمرا المصريين المنكوبين، وقد تكلفوا فوق طاقتهم وباعوا واستدانوا وغرموا في النقوط والتقادم والهدايا في هذين المهمين ما أصبحوا به مجردين ومديونين.

وكان إذا قدمت إحدى المشهورات منهن هديتها عرضوها على أم العروسين التي هي زوجة الباشا، فقلبت ما فيها من المصاغ المجوهر والمقصبات وغيرها، فإن أعجبتها تركتها، وإلا أمرت بردها قايلة: هذا مقام فلانة التي كانت بنت أمير مصر أو زوجته، فتتكلف المسكينة للزيادة ونحو ذلك مع ما يلحقها من كسر الخاطر وانكساف البال، ثم أدخلوا العروس إلى تلك الدار عندما وصلت بالزفة.

ومما حصل أنه قبل مرور موكب الزفة بيومين طاف أصحاب الشرطة ومعهم رجال بأيديهم مقياس، فكلما مروا بناحية أو طريق يضيق عن القياس هدموا ما عارضهم من مساطب الدكاكين أو غيرها من الجهتين لاتساع الطريق لمرور العربات والملاعيب وغيرها، فأتلفوا كثيرًا من الأبنية، ونودي في يوم الأربع بزينة الحوانيت والطرق التي تمر عليها الزفة بالعروس.

ومما حصل من الحوادث السماوية أن في يوم الخميس المذكور عندما توسطت الزفة في مرورها بوسط المدينة، أطبق الجو بالغيام وأمطرت السما مطرًا غزيرًا حتى تبحرت الطرق وتوحلت الأرض وابتلت الخلايق من النسا والرجال المتجمعين للفرجة، وخصوصًا الكاينين بالسقايف وفوق الحوانيت والمساطب، وأما المتعينون للمشي في الموكب ولا بد، الذين لا مفر لهم من ذلك ولا مهرب، فاختل نظامهم وابتلت ثيابهم وتكدرت طباعهم وانتقضت أوضاعهم وزادت وساوسهم وتلفت ملابسهم، وهطل الغيث على الأبريسم والحرير والشالات الكرخانة والسليمي والكشمير، وما زينت به العربات من أنواع المزركش والمقصبات، ونفذت على من بداخلها من القيان والأغاني الحسان، وكثير من الناس وقع بعدما تزحلق وصار ثوبه بالوحل أبلق، ومنهم من ترك الزفة وولَّى هاربًا في عطفة يمسح يديه في الحيط بما تلطخ لها من الرطريط، وتعارجت الحمير وتعثرت البياجير، وانهدم تنور الزجاج ولم ينفع به العلاج، وتلف للناس شي كثير، ولا يدفع قضا الله حيلة ولا تدبير، ولم تصل العروس إلى دارها إلا قبيل دنو الشمس من غروبها، وعند ذلك انجلى الجو وانكشفت بيوت النَّو ووافق ذلك اليوم ثالث عشر طوبة من شهور القبط المحسوبة، وحصل بذلك الغيث العميم النفع لمزارع الغلة والبرسيم.

وفيه وردت مكاتبات من العقبة فيها الإخبار بوصول قافلة الحج صحبة المحمل وأميرها مصطفى بك دالي باشا.

وفي يوم الجمعة تاسع عشرينه وصل كثير من الحجاج الأتراك وغيرهم، وردوا في البحر إلى بندر السويس، ووصل تابع قهوجي باشا، وأخبر عنه أنه فارق مخدومه من العقبة ونزل في مركب مع أم عابدين بك وحضر إلى السويس.

واستهل شهر صفر بيوم الأحد (سنة ١٢٢٩)

مما وقع في ذلك اليوم من الحوادث أن صناع البارود الكاينين بباب اللوق حملوا نحو عشرة أحمال من الجمال أوعية ملآنة بارود، وهي الظروف المصنوعة من الجلود التي تسمى البطط يريدون بها القلعة، فمروا من باب الخرق إلى ناحية تحت الربع، فلما وصلوا تجاه معمل الشمع، وبصحبة الجمال شخص عسكري، فتشاجر مع الجمال ورد عليه القول، فحنق منه فضربه بفرد الطبنجة فأصابت إحدى البطط، فالتهبت بالنار وسرت إلى باقي الأحمال، فالتهب الجميع وصعد إلى عنان السما، فاحترقت السقيفة المطلة على الشارع وما بناحيتها من البيوت والذي أسفلها من الحوانيت، وكذلك من صادف مروره في ذلك الوقت، واحترق ذلك العسكري والجمال فيمن احترق.

واتفق مرور امرأة من النسا المحتشمات مع رفيقتها، فاحترقت ثيابها مع رفيقتها وذهبت تجري والنار ترعى فيها، وكانت دارها بالقرب من تلك الناحية، فما وصلت إلى الدار حتى احترق ما عليها من الثياب، واحترق أكثر جسدها، ووصلت الأخرى بعدها وهي محترقة وعريانة، فماتت من ليلتها ولحقتها الأخرى في ضحوة اليوم التاني.

ومات في هذه الحادثة أكثر من الماية نفس من رجال ونسا وأطفال وصبيان، وأما الجمال فأخذوها إلى بيت أبي الشوارب، وهي سود محترقة الجلود وفيها من خرجت عينه، فإما يعالجوها أو ينحروها، وكل هذا الذي حصل من الحرق والموت والهدم في طرفة عين.

وفي تانيه، يوم الاتنين وصل مصطفى بك أمير ركب الحجاج إلى مصر وترك الحجاج بالدار الحمرا، فبات في داره وأصبح عايدًا إلى البركة، فدخل مع المحمل يوم الأربع، ودخل الحجاج وأتعبهم بحيث إنه أخذ المسافة في واحد وعشرين يومًا، وسبب حضور المذكور أنه ذهب بعساكره وعساكر الشريف من الطايف إلى ناحية تربة، والمتأمر عليها امرأة فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة، فحنق عليه الباشا وأمره بالذهاب إلى مصر مع المحمل.

وفيه أرسل الباشا يستدعي ثنتين أو تلاتة عينهم من محاظيه، وصحبتهن خمسة من الجواري السود الأسطاوات في الطبخ وعمل أنواع الفطور، فأرسلوهن في ذلك اليوم إلى السويس وصحبتهن نفيسة القهرمانة، وهي من جواريه أيضًا وكانت زوجًا لقاضي أوغلي المحتسب الذي مات بالحجاز في العام الماضي.

وفيه أيضًا وصل حريم الشريف غالب فعينوا له دارًا يسكنها مع حريمه جهة سويقة العزى، فسكنها ومعه أولاده وعليهم المحافظون، واستولى الباشا على موجودات الشريف غالب من نقود وأمتعة وودايع ومخبآت وشرك وتجارات وبن وبهار ونقود بمكة وجدة والهند واليمن، شي لا يعلم قدره إلا الله، وأخرجوا حريمه وجواريه من سرايته بما عليهن من الثياب، بعدما فتشوهن تفتيشًا فاحشًا وهتكوا حرمته.

قل اللهم مالك الملك، هذا الشريف غالب انتُزع من مملكته وخرج من دولته وسيادته وأمواله وذخايره، وانسل من ذلك كله كالشعرة من العجين، حتى إنه لما ركب وخرج مع العسكر وهم متوجهون به إلى جدة أخذوا ما في جيوبه، فليعتبر من يعتبر، وكل الذي وقع له وما سيقع له بعدُ من التغريب وغيره فيما جناه من الظلم ومخالفة الشريعة، والطمع في الدنيا وتحصيلها بأي طريق، نسأل الله السلامة وحسن العاقبة.

وفي يوم الخميس خامسه طاف الأغا أيضًا بأسواق المدينة، وأمامه المناداة على أبواب الخانات والوكايل من التجار بأنهم لا يتعاملون في بيع البن والبهار إلا بحساب الريال المتعارف في معاملة الناس، وهو الذي يصرف تسعين نصفًا؛ لأن باعة البن لا يسمون في بيعه إلا الفرانسة، ولا يقبضون في ثمنه إلا إياها بأعيانها، ولا يقبلون خلافها من جنس المعاملات، فيحصل بذلك تعب للمتسببين الفقرا والقطاعين ومن يشتري بالقنطار أو دونه، فبهذه المناداة يدفع المشتري ما يشا من جنس المعاملة والريال المعروف بين الناس، الذي صرفه تسعون نصفًا فضة، وإذا سمى سعر القنطار فلا يسمي إلا بهذا الريال، وهذه المناداة بإشارة السيد محمد المحروقي؛ بسبب ما كان يقع من تعطيل الأسباب.

وفيه سافر محمود بك وصحبته المعلم غالي للكشف عن قياس الأراضي البحرية التي نزل إليها القياسون بصحبة مباشريهم من النصارى والمسلمين من وقت انحسار الماء عن الأراضي، وانتشروا بالأقاليم البحرية وهم يقيسون بقصبة تنقص عن القصبة القديمة.

وفي يوم الاتنين تاسعه وصل حريم الشريف غالب من السويس، فأنزلوهن ببيت السيد محمد المحروقي وعدتهن خمسة، إحداهن جارية بيضا، والأربعة حبشيات، ومعهن جواري سود وطواشية، وحضر إليهم سيدهم وصحبته أحمد أغا أخو كتخدا بك، وصحبته نحو العشرين نفرًا من العسكر، واستمر الجميع مقيمين بمنزل المذكور، وهو يُجري عليهم النفقات اللايقة بهم والمصاريف، وفصَّل لهم كساوي من مقصبات وكشميري وتفاصيل هندية.

وفي يوم السبت رابع عشره خرج محو بك إلى ناحية الآثار بعساكره ليسافر من ساحل القصير إلى الحجاز باستدعا الباشا، فاستمر مقيمًا هناك عدة أيام لمخالفة الريح وارتحل في أواخره، وفي أوايل هذا الشهر، بل والذي قبله، عملوا كورنتيلة في إسكندرية ودمياط.

واستهل شهر ربيع الأول (١٢٢٩)

فيه رجع محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما.

وفيه انتقل الشريف غالب بعياله من بيت السيد محمد المحروقي إلى المنزل الذي أعدوه له، وهو بيت لطيف باشا بسويقة العزى بعدما أصلحوه وبيضوه وأسكنوه به وعليه اليسق والعسكر الملازمون لبابه.

وفيه أبرز كتخدا بك فرمانًا وصل إليه من الباشا يتضمن ضبط جميع الالتزام لطرف الباشا، ورفع أيدي الملتزمين عن التصرف، بل الملتزم يأخذ فايظه من الخزينة، فلما أشيع ذلك ضج الناس وكثر فيهم اللغط، واجتمعوا على المشايخ فطلعوا إلى كتخدا بك، وسألوه فقال: نعم، ورد أمر بذلك ولا يمكنني مخالفته، فقالوا له: كيف تقطعون معايش الناس وأرزاقهم، وفيهم أرامل وعواجز وللواحدة قيراط أو نصف قيراط يتعيشن من إيراده فينقطع عنهن؟ فقال: يأخذن الفايظ من الخزينة العامرة، فراددوه وناقشوه وهو يهون ويقرب ويبعد إلى أن قالوا له: نكتب للباشا عرضحالًا وننتظر الجواب؛ فأجابهم إلى ذلك من باب المسايرة وفك المجلس، وشرع الشيخ المهدي في ترصيف العرضحال فكتبوه وختموا عليه بعد امتناع البعض الذي ليس له التزام، وكثر اللغط فيهم بسبب ذلك.

وفي خامسه حضر جمع كثير من النسا الملتزمات إلى الجامع الأزهر، وصرخوا في وجوه الفقها وأبطلوا الدروس وبددوا محافظهم وأوراقهم، فتفرقوا وذهبوا إلى دورهم، وكان قد اجتمع معهم الكثير من العامة، واستمروا في هَرْج إلى بعد العصر، ثم جاهم من يقول لهم كلامًا كذبًا سكن به حدتهم فانفض الجمع، وذهب النسا وهن يقلن: نأتي في كل يوم على هذا المنوال حتى يفرجوا لنا عن حصصنا ومعايشنا وأرزاقنا، وفي ظن الناس وغفلتهم أن في الإناء بقية أو أنهم يدفعون الرزية، وما علموا أن البساط قد انطوى، وكلًّا قد ضل وأضل وغوى، ومال عن الصراط واتبع الهوى، وكلب الجور قد كشر أنيابه وعوى، ولم يجد له طاردًا ولا معارضًا ولا معاندًا، ولما وصل الخبر إلى كتخدا بك طلب بعض المشايخ، وقال له: ما خبر هذه الجمعية بالأزهر؟ فقال له: بسبب ما بلغهم عن قطع معاشهم، قال: ومن قطع معاشهم؟ وإنما أنتم الذين تسلطونهم على هذه الفعال لأغراضكم، ولا بد أني أستخبر على من أغراهم وأخرج من حقه، وطلبه علي أغا الوالي وقال له: أخبرني عن هولا النسا من أي البيوت؟ فقال: وما علمي ومن يميزهن وغالبهن وأكثرهن نسا العساكر، ولا قدرة لي على منعهن، وانفض المجلس وبردت همتهم، وانكمشوا وشرعوا في تنفيذ ما أمروا به وترتيبه وتنظيمه.

وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي، فأقاما أيامًا وسافرا في تالت عشره.

وفيه أحضروا حسن أغا محرم المعروف بنجاتي من إقليم المنوفية، وهو مريض وتُوُفِّيَ تاني يوم ودُفن.

وفي خامس عشره مر الأغا والوالي وأغات التبديل وهم يأمرون الناس بكنس الأسواق ورشها حالًا في ذلك الوقت من غير تأخير، فابتدر الناس ونزلوا من حوانيتهم وبأيديهم المكانس يكنسون بها تحت حوانيتهم ثم يرشونها.

وفي تاسع عشره حضر الشريف عبد الله ابن الشريف سرور، أرسله الباشا إلى مصر من ناحية القصير منفيًّا من أرض الحجاز، فأنزلوه بمنزل أحمد أغا أخي كتخدا بك محجورًا عليه، ولم يجتمع بعمه ولم يره.

وفيه كثر الطلب للريال الفرانسة بسبب احتياج دار الضرب وما يرسل إلى الباشا من ذلك، وألزموا التجار بإحضار جملة من ذلك ويأخذون بدلها قروشًا فوزعوا مقادير على أفرادهم بما يحتمله، وجمعوا ما قدروا عليه منها.

وفيه شُنق شخص يسمى صالح عند باب زويلة، واستمر معلقًا يومين؛ وسبب ذلك أنه يدعي الجذب والولاية، وتزوج بامرأة وأخذ متاعها ومالها، وحصل لها خلل في عقلها، فأنهوا أمره إلى كتخدا بك فأمر بحبسه واستخلصوا منه جانبًا مما أخذه من متاع المرأة، وكثر كلام الناس في حقه فأمر الكتخدا بشنقه.

وفي أواخره حضر إبراهيم بك ابن الباشا من الجهة القبلية، ونزل بالبيت الذي اشتراه بناحية الجمالية بدرب المسمط، وهو بيت أحمد بن محرم.

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربع (سنة ١٢٢٩)

وفي ليلة الاتنين سادسه حضر ميمش أغا من ناحية الحجاز مرسلًا من عند الباشا باستعجال حسن باشا للحضور إلى الحجاز، وكان قبل ذلك بأيام أرسل بطلب سبعة آلاف عسكري وسبعة آلاف كيس، فشرع كتخدا بك في استكتاب أشخاص من أخلاط العالم ما بين مغاربة وصعايدة وفلاحي القرى، فكان كل من ضاق به الحال في معاشه يذهب ويعرض نفسه فيكتبونه، وإن كان وجيهًا جعله أميرًا على ماية أو مايتين ويعطيه أكياسًا يفرقها في أنفاره، ويشتري فرسًا وسلاحًا ويتقلد بسيف وطبنجات وكذلك أنفاره، ويلبسون قناطيش ولباسًا مثل لبس العسكر، ويعلق له وزنة بارود تحت إبطه، ويأخذ على كتفه بندقية ويمشون أمام كبيرهم مثل الموكب، وفيهم أشخاص من الفعلة الذين يُستعملون في شيل التراب والطين في العماير وبرابرة.

وأرسل الكتخدا إلى الفيوم وغيرهم بطلب رجال من أمثال ذلك، وجمعوا الكثير من أرباب الصنايع مثل: الخبازين والفرانين والنجارين والحدادين والبياطرة، وغيرهم من أرباب الصنايع ويسحبونهم قهرًا، فأغلق الفرانون مخابزهم وتعطل خبيز خبز الناس أيامًا.

وفيه ورد الطلب لحسن باشا فشرع في تشهيل أحواله ولوازم سفره، ثم حضر ميمش أغا باستعجاله واستعجال المطلوبات من الأموال وغيرها …

وفيه قبضوا على اليهود الموردين الذين يوردون الدهب والفضة لدار الضرب بسبب إحضار الفرانسة، وقد قَلَّت بأيدي الناس جدًّا لكثرة أخْذها والطلب لها وانقطاع مجيها من بلادها، فحبسوهم وضربوهم ونزلوا في أسوا حال متحيرين؛ وذلك أن راتب الضربخانة سبعة آلاف في كل يوم عنها تلاتة وستين ألف درهم وقدرها تلات مرات من النحاس، يضربون ذلك قروشًا حتى بلغ سعر النحاس القراضة ماية وعشرين نصفًا فضة.

وفي تاسعه حضر محمود بك الدويدار والمعلم غالي من سرحتهما إلى مصر، وهما المتأمران على مباشرة قياس الأراضي وتشهيل المال المفروض، وسبب حضورهما أن إبراهيم باشا أرسل بطلبهما للحضور ليتشاور معهما في أمر فأقاما أربعة أيام وعادا راجعَين إلى شغلهما.

وفي منتصفه سافر إبراهيم باشا عايدًا إلى أسيوط، وذهب صحبته أخوه إسماعيل باشا والبيكات الصغار خوفًا وهروبًا من الطاعون.

وفيه كمل تعمير الجامع الذي عمره دبوس أوغلي الذي بقرب داره التي بغيظ العدة، وهو جامع جوهر العيني، وكان قد تخرب فهدمه جميعه، وأنشاه وزخرفه ونقل لعمارته أنقاضًا كثيرة وأخشابًا ورخامًا من بيت أبي الشوارب، وعمل به منبرًا بديع الصنعة، واستخلص جهة أوقافه أطيانًا وأماكن من واضعي اليد.

وفيه أرسلوا جملة أخشاب إلى الحجاز مطلوبة إلى الباشا.

وفيه أيضًا نادوا على سكان الجيزة بالخروج منها بعد عصر يوم السبت، ومن لا يريد الخروج فلا يخرج بعد ذلك، ومن خرج فلا يدخل، وأمهلوهم إلى الغروب فخرجوا بأمتعتهم وأطفالهم وأولادهم وأوانيهم إلى خارج البلدة، وبات الأكثر منهم تحت السما لضيق الوقت على الرحيل إلى بلدة أخرى، وخرج أيضًا الكثير من عساكرهم وأتباعهم ممن لا يريد المقام والحبس، فكانوا كلما وجدوا من حمل متاعه من أهل البلدة على حمار ليذهب إلى جهة يستقر بها رموا به إلى الأرض وأخذوا الحمار، وحصل لأهل الجيزة في تلك الليلة ما لا مزيد عليه من الكرب والجلا عن أوطانهم، وكل ذلك مجرد وهم مع قلة وجود الطعن إلا النزر اليسير.

وفي تالت عشرينه سافرت خزينة المال المطلوبة إلى الباشا إلى جهة السويس، وأصحبوا معها عدة كبيرة من عسكر الدلاة لخفارتها، وقدرها ألفان وخمسماية كيس جميعها قروش.

شهر جمادى الأولى (سنة ١٢٢٩)

استهل بيوم الجمعة، في ثالثه خرج حسن باشا بعساكره، ونزل بوطاقه وخيامه التي نُصبت له بالعادلية قبل خروجه بيومين.

وفي رابعه وصلت هجانة من ناحية الحجاز بطلب حسن بك دالي باشا وأخشاب واحتياجات وجمال، والذي أخبر به المخبرون عن الباشا وعساكره أن طوسون باشا وعابدين بك ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة، التي بها المرأة التي يقال لها «غالية»، فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين، ولم يظفروا بطايل، ولأن العربان نفرت طباعهم من الباشا لما حصل منه في حق الشريف من القبض عليه.

وهاجر الكثير من الأشراف وانضموا إلى الأخصام وتفرقوا في النواحي، ومنهم شخص يقال له الشريف راجح، فأتى من خلف العسكر وقت قيام الحرب، وحاربهم ونهب الذخيرة والأحمال وقطع عنهم المدد، وأخبروا أن الجمال قَلَّ وجودها عند الباشا ويشتريها من العربان المسالمين له بأغلى ثمن، وأخبروا أيضًا أنه واقع بالحرمين غلا شديد لقلة الجالب واحتكار الباشا للغلال الواصلة إليه من مصر، فيبيعه حتى على عسكره بأغلى تمن من التحجير على المسافرين والحجاج في استصحابهم شيًّا من الحَب والدقيق، فيفتشون متاعهم في السويس ويأخذون ما يجدونه معهم مما يتزودون به في سفرهم من القمح أو الدقيق وما يكون معهم من الفرانسة لنفقتهم وأعطوهم بدلها من القروش.

وفيه بلغ صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية تمانماية وعشرين نصفًا، عنها ثمانية قروش والمشخص عشرون قرشًا، وقلَّ وجود الفرانسة والمشخص، بل والمحبوب المصري بأيدي الناس جدًّا، ثم نودي على أن يُصرف الريال بسبعة قروش، والمشخص بستة عشر قرشًا، وشددوا في ذلك ونكلوا بمن يخالف ذلك، وعاقبوا من زاد على ذلك في قبض أثمان المبيعات، وأطلقوا في الناس جواسيس وعيونًا، فمن عثروا عليه في مبيع أو غيره أنه قبض بالزيادة أحاطوا به وأخذوا وعاقبوا بالحبس والضرب والتغريم.

وربما أرسلوا من طرفهم أشخاصًا متنكرين يأتي أحدهم للبايع فيساومه كأنه مشترٍ، ويدفع له في ضمن الثمن ريالًا أو مشخصًا ويحسبه بحسابه الأول، ويناكره في ذلك فربما تجاوز البايع خوفًا من بوار سلعته، وخصوصًا إذا كانت البيعة رابحة أو بيعة استفتاح على زعم الباعة، وقلة الزبون بسبب وقف حال الناس أو إفلاسهم، فما هو إلا أن يتباعد عنه يسيرًا فما يشعر إلا وهو بين يدي الأعوان ويلاقي وعده.

وفي منتصفه وصلت قافلة من السويس وفيها جملة من العسكر المتمرضين، ونحو العشرة من كبارهم نفاهم الباشا إلى مصر، وفيهم حجو أوغلي ودالي حسن وعلي أغا درمنلي وترجوا وحسن أغا أزرجنلي ومصطفى ميسو وأحمد أغا قنبور.

وفيه أيضًا خرج عسكر المغاربة ومَن معهم مِن الأجناس المختلفة إلى مصر العتيقة ليذهبوا من ناحية القصير إلى الحجاز، وأما محو بك فإنه لم يزل بقنا لقلة المراكب بالقصير التي تحملهم إلى الحجاز.

وفي سادس عشره وصلت قافلة وفيها أنفار من أهل مكة والمدينة وسُفَّار وبضايع تجارة بن وأقمشة وبياض شي كثير، وقد أتت إلى جدة من تجارات الشريف غالب، ولم يبلغهم خبر الشريف غالب وما حصل له، فلما حضروا وضع الباشا يده عليه جميعه وأرسله إلى مصر، فتولى ذلك السيد محمد المحروقي وفرقها على التجار بالثمن الذي قدره عليهم وألزمهم أن لا يدفعوه إلا فرانسة.

وفي هذا الشهر وصل الخبر بموت الشيخ مسعود كبير الوهابية، وتولى مكانه ابنه عبد الله.

وفيه خرج طايفة الكتبة والأقباط والروزنامجي والجاجرتية، وذهب الجميع إلى جزيرة شلقان ليحرروا دفاتر على الروك الذي راكوه من قياس الأراضي وزيادة الأطيان، وجفل الكثير من الفلاحين وأهالي الأرياف، وتركوا أوطانهم وزروعهم وهالهم هذا الواقع لكونهم لم يعتادوه ويألفوه، وباعوا مواشيهم ودفعوا أثمانها في الذي طلع عليهم في الزيادات الهايلة، وسيعودون مثل الكلاب ويعتادون سلخ الإهاب، وأما الملتزمون فبقوا حيارى باهتين، وارتفع أيدي تصرفهم في حصصهم ولا يدرون عاقبة أمرهم منتظرين رحمة ربهم، وآن وقت الحصاد وهم ممنوعون عن ضم زرع وساياهم إلى أن أذن لهم الكتخدا بذلك، وكتب لهم أوراقًا وتوجهوا بأنفسهم أو بمن ينوب عن مخدومه وأراد ضم زرعه، ولم يجد من يطيعه بهم، وتطاولوا عليهم بالألسنة، فيقول الحرفوش منهم إذا دُعي للشغل بأجرته: روح انظر غيري أنا مشغول في شغلي، «أنتم إيش بقالكم في البلاد؟ قد انقضت أيامكم، إحنا صرنا فلاحين الباشا».

وقد كانوا مع الملتزمين أذل من العبد المشترَى، فربما إن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهانه بالضرب، وأما الفلاح فلا يمكنه ولا يسهل به أن يترك وطنه وأولاده وعياله ويهرب، وإذا هرب إلى بلدة أخرى واستعلم أستاذه مكانه أحضره قهرًا وازداد ذلًّا ومقتًا وإهانة، وكان من طرايقهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتخضير طلب الملتزم أو قايم مقامه الفلاحين، فينادي عليهم الغفير أمس اليوم المطلوبين في صبحه بالتبكير إلى شغل الملتزم، فمن تخلف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه، وأشبعه سبًّا وشتمًا وضربًا، وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة، واعتادوا ذلك بل يرونه من اللازم الواجب.

هذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدة، خصوصًا عند قبض المال، فيغالطهم ويناكرهم، وهم له أطوع من أستاذهم وأمره نافذ فيهم، فيأمر قايمقام بحبس من شاء أو ضربه محتجًّا عليهم ببواقي لا يدفعها.

وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قايمة المصروف، وطلب من المعلم «وردة» وهي (ورقة الغلاق) وعده لوقت آخر حتى يحرر حسابه، فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفًا منه، فإذا سأله من بعد ذلك قال له: بقي عليك حبتان من فدان أو خروبتان أو نحو ذلك، ولا يعطيه ورقة الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة.

وغير ذلك أمور وأحكام خارجة عن إدراك البهيمية فضلًا عن البشرية كالشكاوى ونحوها.

كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم، وتمثل بين يديه قايلًا: أشكو إليه فلانًا بماية ريال مثلًا، فبمجرد قوله ذلك يأمر بكتابة ورقة خطابًا إلى قايمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكي واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلًا أو كثيرًا، أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر، ويرسل والورقة مع بعض أتباعه ويكتب بهامشها «كرا طريقة» قليلًا أو كثيرًا، ويسمونه حق الطريق فعند وصوله أول شي يطالب به الرجل حق الطريق المعين ثم الشكوى، فإن بادر ودفعها وإلا حُبس أو حضر به المعين إلى بيت أستاذه، فيودع الحبس ويعاقبه بالضرب حتى يوفي القدر الذي تلفظ به الشاكي.

وإن تأخر عن حضوره أو حضور المعين أردفه بآخر وحق طريق الآخر كذلك، ويسمونها «الاستعجالة» وغير ذلك أحكام وأمور غير معقولة المعنى قد رُبُّوا عليها واعتادوها لا يرون فيها بأسًا ولا عيبًا، وقد سلط الله على هولا الفلاحين بسوء أفعالهم وعدم ديانتهم وخيانتهم وإضرارهم لبعضهم البعض من لا يرحمهم ولا يعفو عنهم، كما قال فيهم البدر الحجازي.

وسبعة بالفلح قد أنزلت
لما حووه من قبيح الفعال
شيوخهم أستاذهم والمشد
والقتل فيما بينهم والقتال
مع النصارى كاشف الناحية
وزد عليها كدهم في اشتغال
وفقرهم ما بين عينيهم
مع اسوداد الوجه هذا النكال

وإذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه وماطلوه في الخراج وسموه بأسما النسا، وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمهم لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم، وكذلك أشياخهم، إذا لم يكن الملتزم ظالمًا يتمكنون هم أيضًا من ظلم فلاحيهم؛ لأنهم لم يحصل لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم، فيأخذون لأنفسهم في ضمنها ما أحبوا، وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين، وقد انخرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن، وما سيحدث بعد ذلك من الإحداثات التي تبدو قرايتها شيًّا بعد شي.

وفي تاني عشرينه أبرز حسن بك دالي باشا خيامه إلى خارج باب النصر، وخرج هو في تاني يوم في موكب ونزل بوطاقه ليتوجه إلى الحجاز على طريق البر.

وفي ليلة الأربع سابع عشرينه قبل الغروب بنحو نصف ساعة، وصل جراد كثير مثل الغمام، وصار يتساقط على الدور والأسطحة والأزقة مثل الغمام، وأفسد كثيرًا من الأشجار وانقطع أثره في ثاني يوم.

وفي يوم الاتنين عاشره (جماد ثانٍ) ارتحل حسن باشا من ناحية الشيخ قمر إلى بركة الحج.

وفي منتصفه حضر الروزنامجي والأفندية بعد أن استملى منهم القبط الدفاتر وأسما الملتزمين ومقادير حصصهم، ثم حضر محمود بك والمعلم غالي ومَن معهم مِن الكتبة الأقباط، وظهر للناس عند حضورهم نتيجة ما صنعوه ونظموه ورتبوه من قياس الأراضي وروك البلاد، وهو أن الأراضي زادت في القياس بالقصبة التي قاسوا بها، وحدودها مقدار الثلث أو الربع، حتى قاسوا الرزق الإحباسية بأسما أصحابها ومزارعيها وأطيان الوسايا على حدتها، حتى الأجران وما لا يصلح للزراعة وما يصلح من البور، الصالح وغير الصالح، فلما تم ذلك حسبوها بزياداتها بالأفدنة، ثم جعلوها ضرايب منها ضريبة خمسة عشر ريالًا وأربعة عشر واثني عشر وأحد عشر وعشرة مال الفدان بحسب جودة الإقليم والأرض، فبلغ ذلك مبلغًا عظيمًا، بحيث إن البلدة التي كانت يفرض عليها في مغارم الفرض التي كانوا فرضوها قبل ذلك في سنيهم الماضية، ويشتكي منها الفلاحون والملتزمون ويستغيثون، ويبقى منها بواقي ويعجزون عنها ألف ريال، طلع عليها في هذه اللفة عشرة آلاف ريال إلى ماية ألف وأقل وأكثر.

وأحضر الكتخدا إبراهيم أغا الرزاز والشيخ أحمد يوسف وخلع عليهما خلعتين، وجعلوا لهما ديوانًا خاصًّا لمن يلتزم بالقدر الذي تحرر على حصته التي في تصرفه فيعطونه ورقة تصرف، ويكتب على نفسه وثيقة بأجل معلوم يقوم بدفع ذلك ويتصرف في حصته بشرط أن لا يكون له إلا أطيان الأوسية، إن شاء زرعها وأخذ غلتها وإن شا أجرها لمن شا، وليس له من مال الخراج إلا المال الحر المعين بسند الديوان المعروف بالتقسيط، وما زاد في قياس الأرض من طين الفلاحة والأوسية فهو للميري قل أو كثر.

وأما الرزق الإحباسية المرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات، فإنهم مسحوها بقياسهم، فما وجدوه زايدًا عن الحد الأصلي جعلوه للديوان، وما يقي قيدوه وحرروه باسم واضع اليد عليها واسم واقفها وزارعها أو ما يمليه المزارع الحاضر وقت القياس وسؤال المباشرين، وقرروا عليها المال مثل ضريبة البلد، فإن أثبتها صاحبها وكان بيده سند جديد من أيام الوزير وشريف أفندي وما بعده على سبقه لوقت تاريخه، قيدوا له نصف مال تاجرها والنصف الثاني الباقي للديوان.

ورسموا لكاتب الرزق أن يعمل ديوانًا لذلك ومعه عدة من الكتبة، ويأتي إليه الناس بأوراق سنداتهم، فمن وجد بيده سندًا جديدًا كتب له صورة قيد الكشف بموجب ما هو بدفتره في ورقة، فيذهب بها إلى الديوان فيقيدون ذلك بعد البحث والتعنت من الطرفين، ويقع الاشتباه الكثير في أسما أربابها وأسما حيضانها وغيطانها، فيكلفون صاحب الحاجة بإثبات ما ادعاه ويكتب له أوراقًا لمشايخ الناحية وقاضيها بإثبات ما يدعيه ويعود مسافرًا، ويقاسي ما يقاسيه من مشقة السفر والمصرف ومعاكسة المشايخ وقاضي الناحية، ثم يعود إلى الديوان بالجواب، ثم يمكن الاحتجاج عليه بحجة أخرى.

وربما كان سعيه وتعبه على فدان واحد أو أقل أو أكثر، وازدحم الناس على بيت كاتب الرزق وانفتح به لذلك بابًا؛ لأنه لا يكتب كشفًا حتى يأخذ عليه دراهم تعينت على قدر الأفدنة، وأشاع الكثير من الناس ما تلقوه عن أسلافهم وما كانوا يرتزقون منه، وأهملوا تجديد السندات واتكلوا على ما بأيديهم من السندات القديمة لجهلهم، أو ظنهم انقضا الأمر وعدم دوام الحال وتغير الدولة وعود النسق الأول، أو لفقرهم وعدم قدرتهم على ما ابتدعوه من كثرة المصاريف التي تُصرف على تجديد السند، واشتغال مال الحماية التي قدرها شريف أفندي على أراضي الرزق عن كل فدان عشرة أنصاف أو خمسة، فكثير من الناس استعظم ذلك واعتمد على أوراقه القديمة فضاعت عليه رزقته وانحلت وأخذها الغير، والذي لم يرضَ بالتوت بل ولا حصل حطبه رضي بالولاش، وكان الشأن في أمر الرزق أن أراضيها تزيد عن موقع أراضي البلاد زيادة كثيرة، وخراجها أقل من خراج أراضي البلاد الذي يقال له المال الحر الأصلي، وليس عليها مصاريف ولا مغارم ولا تكاليف، فالمزارع من الفلاحين إذا كان تحت يده تاجر رزقة أو رزقتين، فإنه يكون مغبوطًا ومحسودًا في أهل بلده، ويدفع لصاحب الأصل القدر النزر، والمزارع يتلقى ذلك سلفًا عن خلف ولا يقدر صاحب الأصل أن يزيد عليه زيادة، وخصوصًا إذا كانت تحت يد بعض مشايخ البلاد، فلا يقدر أحد أن يتعدى عليه من الفلاحين ويستأجرها من صاحبها، وإن فعل لا يقدر على حمايتها، والكثير من الرزق واسعة القياس جدًّا ومالها قليل جدًّا، وخصوصًا في الأراضي القبلية؛ فإن غالبها رزق وشراوي ومتأخرات لم تمسح، ولم يعلم لها فدادين ولا مقادير.

وقد تزيد أيضًا بانحسار البحر عن سواحلها، وكذلك في البلاد البحرية ولكن دون ذلك، ومعظم أراضي الرزق القبلية مرصدة على جهات الأوقاف بمصر وغيرها، والواضعون أيديهم عليها لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتب ومقرر من الزمن الأول السابق وهو شي قليل.

وليتهم لو دفعوه، فإن في أوقاف السلاطين المتقدمة القطعة من الأراضي التي عبرتها أكثر من ألف فدان، وخراجها خمسون زكيبة، والزكيبة خمس ويبات، أو من الدراهم ألفين فضة وأقل وأكثر وهي تحت يد بعض كبرا البلاد، يزرعها ويأخذ منها الألوف من الأرادب من أجناس الغلال، ويضن ويبخل لدفع ذلك القدر اليسير لجهة وقفه، ويكسر السنة على السنة فإن كانت يد صاحب الأصل قوية، أو كان واضع اليد فيه خيرية — وقليل ما هم — دفع لأربابها ثمنها بعد أن يرد الخمسين إلى الأربعين بالتكسير والخلط، ثم يبخس الثمن جدًّا، فإن كان ثمن الأردب أربعماية حسبه بأربعين نصفًا أو أقل، فيعود ثمن الخمسين زكيبة إلى ثمن زكيبتين، وقس على ذلك.

والذي يكون تحت يده شي من أطيان هذه الأوقاف وورثها من بعده ذريته، فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من موروثهم، ولا يرون أن لأحد سواهم فيها حقًّا، ولا يهون بهم شي لأربابه ولو قل إلا قهرًا، وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم، ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم.

وكان معظم إدارات دواير عظما النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي كانت تحت أيديهم بغير استحقاق، إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك، وسلب عنهم ما كانوا فيه من النعمة، وتشتتوا في النواحي وتغربوا عن أوطانهم، وخربت دورهم ومضايفهم، وذهبت سيادتهم وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا.

وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونُسي أمره، وبقي تحت يد من هو تحت يده من غير شي أصلًا، وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين بن حمودة من مشايخ برْما بالمنوفية عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها، وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير، وخلاف المرصد على مساجد بلادهم التي لم يبقَ لها أثر، وكذلك الأسلبة وغيرها، وأطيانهم تحت أيديهم من غير شي، وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج؛ لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحاج، وقد انتسخ ذلك كله.

وفيه أخبر المخبرون أن مراكب الموسم وصلت في هذا العام إلى جدة، وكان لها مدة سنين ممتنعة عن الوصول خوفًا من جور الشريف وزواله، وتملك الدولة البلاد وظنهم فيهم العدل فاطمأنوا وعبوا متاجرهم، وحضروا إلى جدة فجمع الباشا مكوسهم، فبلغت أربعة عشرين لكًّا واللك الواحد ماية ألف فرانسة، فيكون أربعة وعشرين ماية ألف فرانسة، فقبضها منهم بضايع ونقودًا وحسب البضايع بأبخس الأثمان، ثم التفت إلى التجار الذين اشتروا البضايع وقال لهم: إني طلبت منكم مرارًا أن تقرضوني المال فادعيتم الإفلاس، ولما حضر الموسم بادرتم بأخذه وظهرت أموالكم التي كنتم تبخلون بها، فلا بد أن تقرضوني تلتماية ألف فرانسة، فصالحوه على مايتي ألف دفعوها له نقودًا، وبضايع مشترواتهم حسبها لهم العشرة ستة، ثم فرض على أهل المدينين تلاتين ألف فرانسة.

واستهل شهر رجب (سنة ١٢٢٩) بيوم الأحد

في خامسه الخميس ضربوا عدة مدافع وأخبروا بوصول بشارة وأن عساكرهم حاربوا قنفدة واستولوا عليها ولم يجدوا بها غير أهلها.

وفي سادسه سار حسين بك دالي باشا بعساكره الخيالة برًّا.

وفيه عزم على السفر والد محرم بك زوج ابنة الباشا إلى بلاده، وذلك بعد عوده من الحجاز، فأرسلوا إلى الأعيان تنابيه بالأمر لهم بمهاداته، ففعلوا وعبوا له بقجًا وبنًّا وأرزًا وأقمشة هندية ومحلاوية، كل أمير على قدر مقامه.

وفي ليلة الاتنين تاسعه حصلت في وقت أذان العشاء زلزلة نحو دقيقتين، وكان المؤذنون طلعوا على المنارات وشرعوا في الأذان، فلما اهتزت بهم ظن كل من كان على منارة سقوطها فأسرعوا بالنزول، فلما علموا أنها زلزلة طلعوا وأعادوا الأذان، وسقط من شرايف الجامع الأزهر شرافة، وتحركت الأرض أيضًا في خامس ساعة من الليل، ولكن دون الأولى، وكذلك وقت الشروق هزة لطيفة.

وفي حادي عشره هرب الشريف عبد الله ابن الشريف سرور في وقت الفجرية، ولم يشعروا بهروبه إلا بعد الظهر، فلما بلغ كتخدا بك الخبر فتكدر لذلك، وأرسل إلى مشايخ الحارات وغيرهم وبث العربان في الجهات، فلما كان ليلة السبت حضروا به في وقت الغروب، وقد حجزوه بحلوان وأتوا به إلى بيت السيد محمد المحروقي، فأخذه إلى كتخدا بك فأرسله إلى بيت أخيه أحمد أغا، ومن ذلك الوقت ضيقوا عليه ومنعوه من الخروج والدخول بعد أن كان مطلق السراح يخرج من بيت أحمد أغا ويذهب إلى بيت عمه الشريف غالب ويعود وحده، فعند ذلك ضيقوا عليه وعلى عمه أيضًا.

وفي يوم الخميس تاسع عشره حضر المشايخ عند كتخدا بك، وعاودوه في الخطاب فيما أحدثوه على الرزق، وعرَّفوه أنه يلزم من هذه الأحداث إبطال المساجد والشعاير، فتنصل من ذلك وقال: هذا شي لا علاقة لي فيه، وهذا شي أمر به أفندينا ومحمود بك والمعلم غالي، ثم كلموه أيضًا في صرف الجامكية المعروفة بالسايرة والدعاجوي للفقرا والعامة، فوعدهم بصرفها وقتما يتحصل المال؛ فإن الخزينة فارغة من المال.

وفي يوم السبت حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما، فذهب إليهما المشايخ في ثاني يوم ثم خاطبوهما بالكلام في شأن الرزق، فأجابهم المعلم غالي بقوله: يا أسيادنا هذا أمر مفروغ منه بأمر أفندينا من عام أول من قبل سفره، فلا تتعبوا خاطركم، وواجب عليكم مساعدته، خصوصًا في خلاص كعبتكم ونبيكم من أيدي الخوارج، فلم يردوا عليه جوابًا وانصرفوا …

وفي ويوم الأحد تاسع عشرينه حصل كسوف شمس، وكان ابتداه بعد الشروق ومقداره قريبًا من ثلثي الجرم، وتم انجلاه في تاني ساعة من النهار، وكانت الشمس ببرج السرطان أربعة وعشرين درجة في حادي عشر أبيب القبطي.

وفيه وصلت القافلة من ناحية السويس، وأخبر الواصلون عن واقعة قنفدة وما حصل بها بعد دخول العسكر إليها، وذلك أنهم لما ركبوا عليها برًّا وبحرًا وكبيرهم محمود بك وزعيم أوغلي وشريف أغا، فوجدوها خالية فطلعوا إليها وملكوها من غير ممانع ولا مدافع، وليس بها غير أهلها وهم أناس ضعاف، فقتلوهم وقطعوا آذانهم وأرسلوها إلى مصر ليرسلوها إلى إسلامبول، وعندما علم العربان بمجي الأتراك خلوا منها، ويقال لهم عرب العسير وترافعوا عنها، وكبيرهم يسمى طامي، فلما استقر بها الأتراك ومضى عليهم نحو تمانية أيام رجعوا عليهم، وأحاطوا بهم ومنعوهم الماء، فعند ذلك ركبوا عليهم وحاربوهم فانهزموا وقتل الكثير منهم، ونجا محمود بك بنفسه في سبعة أنفار، وكذلك زعيم أوغلي وشريف أغا، فنزلوا في سفينة وهربوا فغضب الباشا، وقد كان أرسل لهم نجدة من الشفاسية الخيالة، فحاربهم العرب ورجعوا منهزمين من ناحية البر وتواتر هذا الخبر.

واستهل شهر شعبان بيوم التلات (سنة ١٢٢٩)

في تانيه حضر ميمش أغا من الديار الحجازية وعلى يده فرمانات خطابًا لدبوس أوغلي، وآخرين يستدعيهم إلى الحضور بعساكرهم، وكان دبوس أوغلي في بلدة البرلس، فتوجه إليه الطلب، وكذلك شرع كتخدا بك في استكتاب عساكر أتراك ومغاربة وعربان وغير ذلك.

وفي رابعه سافر طايفة من العسكر، وأرسل كتخدا بك بمنع الحجاج الواردين من بلاد الروم وغيرهم من النزول إلى السفاين الكاينة بساحل السويس والقصير، وبأن يخلوها لأجل نزول العساكر المسافرين، وبتأخير الحجاج؛ وذلك أنه لما وصلت البشاير إلى الديار الرومية بفتح الحرمين وخلاص مكة وجدة والطايف والمدينة، ووصول ابن مضيان والمضايفي وغيرهم إلى دار السلطنة وهروب الوهابيين إلى بلادهم، فعملوا ولايم وأفراحًا وتهاني، وكتبت مراسيم سلطانية إلى بلاد الروملي والأنضول بالبشاير بالفتح والإذن والترخيص والإطلاق لمن يريد الحج إلى الحرمين بالأمن والأمان والرفاهية والراحة، فتحركت همم مريدي الحج؛ لأن لهم سنين وهم ممتنعون ومتخوفون عن ورود الحج، فعند ذلك أقبلوا أفواجًا بحريمهم وأولادهم ومتاعهم، حتى إن كثيرًا من المتصوفين منهم باع داره وتعلقاته، وعزم على الحج والمجاورة بالحرمين بأهله وعياله، ولم يبلغهم استمرار الحروب وما بالحرمين من الغلا والقحط إلا عند وصولهم إلى ثغر إسكندرية، ولم يتحققوها إلا بمصر، فوقعوا في حيرة ما بين مصدق ومكذب، فمنهم من عزم على السفر ولم يرجع عن عزمه وسلم الأمر لله، ومنهم من تأخر بمصر إلى أن ينكشف له الحال، وقرروا على كل شخص من المسافرين في مراكب السويس عشرين فرانسة، وذلك خلاف أجرة متاعه وما يتزود به في سفره، فإنهم يزنونه بالميزان، وعلى كل أقة قدر معلوم من الدراهم.

وأما من يسافر في بحر النيل على جهة القصير في مراكب الباشا، فيؤخذ على راس كل شخص من مصر القديمة إلى ساحل قنا تلاتون قرشًا، ثم عليه أجرة حمله من قنا إلى القصير، ثم أجرة بحر القلزم إن وجد سفينة حاضرة، وإلا تأخر إما بالقصير أو السويس، حتى يتيسر له النزول ويقاسي ما يقاسيه في مدة انتظاره، وخصوصًا في الماء وغلو ثمنه ورداءته.

ولا يسافر شخص ويتحرك من مصر إلا بإذن كتخدا بك ويعطيه مرسومًا بالإذن.

وبلغني أن الذين خرجوا من إسلامبول خاصة بقصد الحج نحو العشرة آلاف خلاف مَن وصل مِن بلاد الروملي والأنضول وغيرهما، وحضر الكثير من أعيانهم مثل إمام السلطان وغيره، فنزل البعض بمنزل عثمان أغا وكيل دار السعادة سابقًا، والبعض بمنزل السيد محمد المحروقي وبيت شيخ السادات، ومنهم من استأجر دورًا في الخانات والوكايل.

وفيه حضر قاصد من باب الدولة وعلى يده مرسوم، مضمونه الأمر باسترجاع ما أخذ من الشريف غالب من المال والذخاير إليه، وكان الباشا أرسل إلى الدولة بسبحتي لؤلؤ عظام من موجودات الشريف، فحضر بهما ذلك القبجي وردهما إلى الشريف غالب، ثم سافر ذلك القبجي بالأوامر إلى الباشا بالحجاز.

وفي سابعه وصلت هجانة باستعجال العساكر وتوالى حضور الهجانة لخصوص الاستعجال.

وفي يوم السبت تاسع عشره أنزلوا الشريف غالب إلى بولاق بحريمه وأولاده وعبيده، وكان قد وصل إلى مصر أغا معين بقصد سفر المذكور إلى سلانيك، فنزل صحبته إلى بولاق وصالحوه عما أخذ منه من المال وغيره بخمسماية كيس فأرادوا دفعها له قروشًا فامتنع قايلًا: إنهم أخذوا مالي ذهبًا مشخصًا وفرانسة فكيف آخذ بدل ذلك نحاسًا لا نفع بها في غير مصر، فأعطوه مايتي كيس ذهبًا وفرانسة، وتحول بالباقي وكيله مكي الخولاني، ثم زوَّدوه وأعطوه سكرًا وبنًّا وأرزًا وشرباتًا وغير ذلك.

ونزل مسافرًا إلى المركب صحبة المعين إلى الحجاز من ناحية القصير، وبرز ابن باشت طرابلس وصحبته عساكر أيضًا من ناحية العادلية وآخر يقال له قنجة بك ومعهم نحو الألف خيَّال من العرب والمغاربة على طريق البر إلى الحجاز.

وفي يوم الخميس رابع عشرينه الموافق لسادس شهر مسرى القبطي، أوفى النيل المبارك أذرعه فداروا بالرايات ونودي بالوفا، وكسروا السد في صبح يوم الجمعة بحضرة كتخدا بك والقاضي والجم الغفير من العساكر.

وفي أواخره وصلت الأخبار بأن الباشا توجه إلى الطايف وأبقى حسن باشا بمكة.

واستهل شهر رمضان بيوم الأربع (سنة ١٢٢٩)

في رابعه حضر موسى أغا تفكجي باشا من الديار الحجازية، وكان فيمن باشر حرابة قنفدة ومِن جملة مَن انهزم بها وهلكت جميع عساكره وخدمه ورجع إلى مصر وصحبته أربعة أنفار من الخدم.

وفي عاشره خرجت العساكر المجردة بسفر الحجاز إلى بركة الحج، وهم مغاربة وعربان، وارتحلوا يوم الأحد تاني عشره.

وفي الأربع خامس عشره برز دبوس أوغلي خارج باب الفتوح ليسافر بعساكره إلى الحجاز، وكذلك حسن أغا سرششمه، ونصبوا خيامهم واستمروا يخرجون من المدينة ويدخلون غدوًّا وعشيًّا، وهم يأكلون ويشربون جهارًا في نهار رمضان ويقولون: نحن مسافرون ومجاهدون.

ويمرون بالأسواق ويجلسون على المساطب وبأيديهم الأقصاب والشبكات التي يشربون فيها الدخان من غير احتشام ولا حيا، ويجوزون بحارات الحسينية على القهاوي في الضحوة فيجدونها مغلوقة، فيسألون عن القهوجي ويطلبونه ليفتح لهم القهوة ويوقد لهم النار ويغلي لهم القهوة ويسقيهم، فربما هرب القهوجي واختفى منهم فيكسرون الباب ويعبثون بآلاته وأوانيه، فما يسعه إلا المجيء وإيقاد النار.

وأشنع من ذلك أنه اجتمع بناحية عرضيهم وخيامهم الجم الكثير من النسا الخواطي والبغايا، ونصبوا لهم خيامًا وأخصاصًا، وانضم إليهم بياع البوظة والعرقي والحشاشون والغوازي والرقاصون وأمثال ذلك، وانحشر معهم الكثير من الفساق وأهل الأهواء والعُيَّاق من أولاد البلد، فكانوا جمعًا عظيمًا يأكلون الحشيش ويشربون المسكرات ويزنون ويلوطون، ويشربون الجوزة ويلعبون القمار جهارًا في نهار رمضان ولياليه، مختلطين مع العساكر كأنما سقط عن الجميع التكاليف، وخلصوا من الحساب.

وسمعت ممن شاهد بعينه محمود بك المهردار الذي هو أعظم أعيانهم، وهو المتولي على قياس الأراضي مع المعلم غالي، وهو جالس في ديوانهم المخصوص بالقرب من سويقة اللالا، وهو يشرب في النارجيلة التنباك ويأتون بالغداء جهارًا، ويقول: أنا مسافر الشرقية لعمل نظام الأراضي.

وفي غايته وصلت هجانة باستعجال العساكر.

واستهل شهر شوال بيوم الخميس (سنة ١٢٢٩)

في ليلته قلدوا عبد الله كاشف الدرندلي أميرًا على ركب الحجاج.

وفي يوم السبت تالته خرج دبوس أوغلي في موكب إلى مخيمه، وكذلك حسن أغا سرششمه ليسافر إلى الحجاز.

وفي يوم السبت حادي عشرة نزلوا بكسوة الكعبة بالطبول والزمور إلى المشهد الحسيني، واجتمع الناس على عادتهم للفرجة.

وفيه انتقل محمود بك والمعلم غالي إلى بيت حسن أغا نجاتي، وعملوا ديوانهم فيه وأتلقوا الجنينة التي به، وجلسوا تحت أشجارها وربط الأقباط حميرهم فيها، وشرع محمود بك في عمارة الجهة القبلية منه وانزوت صاحبة المنزل في ناحية منه.

وفي سابع عشره ارتحل دبوس أوغلي وحسن أغا سرششمه ومن معهم من العساكر من منزلهم متوجهين إلى الديار الحجازية.

وفي يوم الخميس تاني عشرينه رسم كتخدا بك بنفي طايفة من الفقها من ناحية طندتا إلى أبي قير؛ بسبب فتيا أفتوها في حادثة ببلدهم وقضى بها قاضيهم، وأُنهيت الدعوى إلى ديوان مصر فطُلبوا إلى إعادة الدعوى، فحضروا وترافعوا إلى قاضي العسكر، وأثبتوا عليهم الخطأ، فرسم بنفي الشاكي والمفتيَين والقاضي رابعهم.

وفي يوم السبت رابع عشرينه عملوا موكبًا لخروج المحمل، واستعد الناس للفرجة على عادتهم، فكان عبارة عن نحو ماية جمل تحمل روايا الماء والقِرب، وعدة من طايفة الدلاة على روسهم طراطير سود قلابق، وأمير الحاج على شكلهم وخلفه أرباب الأشاير ببيارقهم وشراميطهم وطبولهم وزمورهم وجوقاتهم وخلفهم المحمل، فكان مدة مرورهم مع تقطيعهم وعدم نظامهم نحو ساعتين، فأين ما كان يُعمل من المواكب بمصر التي يُضرب بحسنها وترتيبها ونظامها المثل في الدنيا، فسبحان مغير الشئون والأحوال!

وفيه خرجت زوجة الباشا الكبيرة — وهي أم أولاده — تريد الحج إلى خارج باب النصر في تلاتة تخوت، والمتسفر بها بونابارته الخازندار، وقد حضر لوداعها ولدها إبراهيم باشا من الصعيد، وخرج لتشييعها هو وأخوه إسماعيل باشا وصحبتهما محرم بك زوج ابنتها حاكم الجيزة، ومصطفى بك دالي باشا، ويقال إنه أخوها، وكذلك محمد بك الدفتردار زوج ابنتها أيضًا، وطاهر باشا وصالح بك السلحدار، وارتحلت ومن معها في سادس عشرينه إلى بندر السويس، وفي ذلك اليوم برزت عساكر المغاربة وغيرهم ممن تعسكر، وارتحل أمير الحج من الحصوة إلى البركة.

وفي يوم التلات خرجت عساكر كثيرة مجردين للسفر …

وفي يوم الخميس تاسع عشرينه ارتحل أمير الحج، ومن معه من البركة في تاسع ساعة من النهار، وفي ذلك اليوم هبت رياح غربية شمالية باردة، واشتد هبوبها أواخر النهار وأطبقت السما بالغيوم والقتام، وأبرق البرق برقًا متتابعًا وأرعدت رعدًا له دوي متصل، ولما قرب من سمت روسنا كان له صوت عظيم مزعج، ثم نزل مطر غزير استمر نحو نصف ساعة ثم سكن بعد أن تبحرت منه الأزقة والطرق، وكان ذلك اليوم رابع شهر بابة القبطي.

وفيه ورد الخبر من السويس أن امرأة الباشا لما وصلت إلى هناك وجدت عالَمًا كبيرًا من الحجاج المختلفي الأجناس ممنوعين من نزول المراكب، فصرخوا في وجهها وشكوا إليها تخلفهم، وأن أمير البندر مانعهم من النزول في المراكب، وبذلك المنع يفوتهم الحج الذي تجشموا الأسفار وصرفوا أيضًا الأموال من أجله، وهم في مشقة عظيمة من عدم الماء، ولا يمكنهم الرجوع لعدم من يحملهم، وأن أمير البندر يشتط عليهم في الأجرة، ويأخذ على كل رأس خمسة عشر فرانسة، فحلفت أنها لا تنزل من المركب حتى ينزل جميع من بالسويس من الحجاج المراكب، ولا يؤخذ منهم إلا القدر الذي جعلته على كل فرد منهم، فكان ما حكمت به هذه الحرمة صار لها به منقبة حميدة، وذكرًا حسنًا وفرجًا لهولا الخلايق بعد الشدة.

واستهل شهر ذي القعدة بيوم السبت (سنة ١٢٢٩)

وفي يوم الاتنين نادى المنادي بوقود قناديل سهاري على البيوت والوكايل، وكل أربع دكاكين قنديل.

وفي تامنه جرسوا شخصًا وأركبوه على حمار بالمقلوب وهو قابض بيده على ذَنَب الحمار، وعمموه بمصارين ذبيحة وعلى كتفه كرش، بعد أن حلقوا نصف لحيته وشواربه، قيل: إن سبب ذلك أنه زور حجة تقرير على أماكن تتعلق بامرأة أجنبية، وباع بعض الأماكن، وكانت تلك المرأة غايبة من مصر، فلما حضرت وجدت مكانها مسكونًا بالذي اشتراه فرفعت قصتها إلى كتخدا بك، ففعل به ذلك بعد وضوح القضية.

وفي تاني عشره سافر عبد الله بن الشريف سرور إلى الحجاز باستدعا من الباشا، فأعطوه أكياسًا، وقضى أشغاله وخرج مسافرًا.

وفيه وقعت حادثة بحارة الكعكيين بين شخصين من الدلاتية رمحا خلف غلام بدوي عمل نفسه عسكريًّا مع طايفة المغاربة، يدَّعي أحدهما أن له عنده دراهم، فهرب منهما إلى الخطة المذكورة فرمحا خلفه، وبيد كلٍّ منهما سيفه مسلولًا، فدخل الغلام إلى عطفة الحمام، وفزعت عليهما المغاربة المتعسكرون القاطنون بتلك الناحية وضربوا عليهما بنادق، فسقط حصان أحد الدلاة وأصيب راكبه، وهرب رفيقه إلى كتخدا بك فأخبره، فأمر بإحضار كبرا المغاربة وطالبهم بالضارب فلم يتبين أمره، وقبضوا على الغلام الهارب فحبسوه، وفي ذلك الوقت حصل في الناس فَزْعة وأَغلقت أهلُ سوق الغورية والشواين والفحامين حوانيتهم، وبقي ذلك الغلام محبوسًا، ومات الدلاتي المضروب في ليلة السبت خامس عشره، فأحضروا ذلك الغلام إلى باب زويلة، وقطعوا راسه ظلمًا ولم يكن هو الضارب.

وفي عشرينه سافر ابن باشت طرابلس، وسافر معه عسكر المغاربة الخيالة.

واستهل شهر ذي الحجة الحرام ختام سنة (١٢٢٩)

في أوله ورد نجاب من الحجاز وأخبر بموت طاهر أفندي، وهو أفندي ديوان الباشا، وكان موته في شهر شوال بالمدينة حتف أنفه، وورد الخبر أيضًا بصلح الشريف راجح مع الباشا وأنه قابله وأكرمه وأنعم عليه بمايتي كيس، وأخبر أيضًا بأنه ترك الباشا بناحية الكلخة وهو ما بين الطايف وتربة، وانقضت السنة بحوادثها في هذه السنة.

وأما من مات في هذه السنة

فمات العمدة الفاضل الفقيه النبيه الشيخ حسين المعروف بابن الكاشف الدمياطي، ويُعرف بالرشيدي، تعلَّق بالعلم وانخلع من الأمرية والجندية، وحضر أشياخ العصر ولازم حضور الشيخ عبد الله الشرقاوي، وانتقل من مذهب الحنفية إلى الشافعية لملازمته لهم في المعقول والمنقول، وتلقى عن السيد مرتضى أسانيد الحديث والمسلسلات، وحفظ القرآن في مبدا أمره برشيد وجوَّده على السيد صديق، وحفظ شيًّا من المتون قبل مجيه إلى مصر، وأكب على الاشتغال بالأزهر، وتزيا بزي الفقها، يلبس العمامة والفرجية، وتصدر ودرس في الفقه والمعقول وغيرهما، ولما وصل محمد باشا خسرو إلى ولاية مصر اجتمع عليه عند قلعة أبي قير، فجعله إمامًا يصلى خلفه الأوقات، وحضر معه إلى مصر، ولم يزل مواظبًا على وظيفته، وانتفع بنسبته إليه واقتنى حصصًا وإقطاعات وتقلد قضايا مناصب البلاد البنادر، ويأخذ ممن يتولاها الجعالات والهدايا، وأخذ أيضًا وقف أزبك وغيره، ولم يزل تحت نظره بعد انفصال محمد باشا خسرو، واستمر المذكور على القراية والإقرا حتى تُوُفِّيَ أواخر السنة.

ومات الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمل، وهو أخو الشيخ سليمان الجمل، تفقه على أخيه ولازم دروسه وحضر غيره من أشياخ العصر، ومشى على طريقة أخيه في التقشف والانجماع عن خلطة الناس، ولما مات أخوه وكان يملي الدروس بجامع المشهد الحسيني بين المغرب والعشا على جمع من مجاوري الأزهر والعامة، تصدر للإقرا في محله في ذلك الوقت، فقرا الشمايل والمواهب والجلالين، ولم يزل على حالته حتى تُوُفِّيَ تاني عشر ذي الحجة.

ومات الشيخ المفيد محمد الإسناوي الشهير بجاد المولى، ممن جاور بالأزهر وحضر دروس أشياخ الوقت من أهل عصره، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي في دروسه، وبه تخرج وواظب عليه في مجالس الذكر، وتلقى عنه طريقة الخلوتية وألبسه التاج، وتقدم في خطابة الجمعة والأعياد بالجامع الأزهر بدلًا عن الشيخ عبد الرحمن البكري عندما رفعوها عنه. وخطب بجامع عمرو بمصر العتيقة يوم الاستسقا عندما قصَّرت زيادة النيل في سنة تلات وعشرين وتأخر في الزيادة عن أوانه، ولما حضر محمد باشا خسرو إلى مصر وصلى صلاة الجمعة بالأزهر في سنة سبع عشرة خلع عليه بعد الصلاة فروة سمور، فكان يخرجها من الخزنة ويلبسها وقت خطبة الجمعة والأعياد، وواظب على قراءة الكتب للمبتديين كالشيخ خالد والأزهرية، ثم قرا شرح الأشموني على الخلاصة، واشتُهر ذكره ونما أمره في أقل زمن، وكان فصيحًا مفوَّهًا في التقرير والإلقاء لتفهيم الطلبة، ولم يزل على حالة حميدة في حسن السلوك والطريقة حتى تُوُفِّيَ في شهر ذي الحجة، وقد ناهز الأربعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤