سنة ثماني عشرة ومايتين وألف هجرية

شهر محرم الحرام (سنة ١٢١٨ﻫ / ١٨٠٣م)

استهل بِيوم السبت، في ذلك اليوم وقعت زعجة عظيمة في الناس، وحصلت كرشات في مصر وبولاق، وأغلق أهل الأسواق حوانيتهم، ورفعوا منها ما خف من متاعهم من الدكاكين، وبعضهم ترك حانوته وهرب، والبعض سقط متاعه من يده ولم يشعر من شدة ما لحقهم من الخوف والإرجاف، ولم يعلم سبب ذلك.

فيقال إن السبب في ذلك أن جماعة من كبار العسكر ذهبوا إلى الباشا، وطلبوا جماكيهم المنكسرة وخرجهم، فقال لهم: اذهبوا إلى الدفتردار. فذهبوا إلى الدفتردار، فقال لهم: جمكيتكم عند محمد علي سرششمه. فذهبوا إلى محمد علي، وكانوا أوعدوهم بقبض جامكيتهم في ذلك اليوم، فلما ذهبوا إلى محمد علي قال لهم: لم أقبض شيًّا فعملوا معه شراسة، ووقع بينهم مضاربة بالبنادق، وهاجت العسكر عند بيت محمد علي سرششمه، فحصلت هذه الزعجة في مصر وبولاق ثم سكن ذلك بعد أن أوعدوهم بعد ستة أيام.

وفيه وردت عدة نقاير وبها جبخانة وجملة من العسكر، وصحبتهم إبراهيم أغا الذي كان كاشف الشرقية عام أول، وكان توجه إلى إسلامبول فحضر وصحبته ذلك، فحملوا الجبخانة وطلعوها إلى القلعة فيقال: إنها متوجهة إلى جدة بسبب فتنة الحجاز وقيل غير ذلك.

وفي يوم الجمعة سابعه ثارت العسكر، وحضروا إلى بيت الدفتردار فاجتمعوا بالحوش وقفلوا باب القيطون، وطردوا القواسة، وطلع جمع منهم فوقفوا بفسحة المكان الجالس به الدفتردار، ودخل أربعة منهم عند الدفتردار، فكلموه في إنجاز الوعد، فقال لهم: عندي نحو الستين ألف قرش، فإما أن تأخذوها أو تصبروا كام يوم حتى يكمل لكم المطلوب. فقالوا: لا بد من التشهيل؛ فإن العسكر تقلقوا من طول المواعيد، ولازم التشهيل في هذا اليوم، ولا صبر بعد ذلك. فلما رأى منهم الجد، كتب ورقة وأرسلها إلى الباشا بأن يرسل إليه جانب دراهم تكملة للقدر الحاصل عنده في الخزينة، فرجع الرسول بالجواب من الباشا وهو يقول: لا أدفع ولا آذن بدفع شي، فإما أن يخرجوا ويسافروا من بلدي أو لا بد من قتلهم عن آخرهم. فعندما رجع بذلك الجواب قال له: ارجع إليه وأخبره أن البيت قد امتلا بالعساكر فوق وتحت، وإني محصور بينهم.

فعند وصول المرسال وقبل رجوعه أمر الباشا بأن يديروا المدافع ويضربوا على بيت الدفتردار وعلى العسكر، فما شعر الدفتردار إلا وجلَّة وقعت بين يديه، فقام من مجلسه إلى مجلس آخر، وتتابع الرمي واشتعلت النار في البيت وفي الكشك الذي أنشأه ببيت جده المجاور لبيته، وهو من الخشب والحجنة من غير بياض. فلم يكمل، فالتهب بالنار فنزل إلى أسفل والأرنؤد محيطة به، وبات تحت السلالم إلى الصباح ونهب العسكر الخزينة والبيت.

ولم يسلم إلا الدفتردار والأوراق وضعوها في صناديق وشالوها، وكان ابتدا رمي المدافع وقت صلاة الجمعة.

وأما أهل البلد فإنهم كانوا متخوفين ومتطيرين من قومه أو فزعة تحصل من العسكر قبل ذلك، فلما عاين الناس تجمعهم ببيت الدفتردار شاع ذلك في المدينة، ومر الوالي يقول للناس: ارفعوا متاعكم، واحفظوا أنفسكم، وخذوا حذركم وأسلحتكم. فأغلق الناس الدكاكين والدروب وهاجوا وماجوا، فلما سمعوا ضرب المدافع تطيروا وتخيلوا هجوم العسكر ونهب البلد، بل ودخول البيوت ولا راد يردهم ولا حاكم يمنعهم.

ونادى المنادي معاشر الناس وأولاد البلد: كل من كان عنده سلاح فليلبسه، واجتمعوا واذهبوا عند شيخ مشايخ الحارات يذهب بكم إلى بيت الباشا. وحضرت أوراق من الباشا لأهل الغورية ومغاربة الفحامين وتجار خان الخليلي وأهل طولون يطلبهم بأسلحتهم والحضور عنده والتحذير من التخلف.

فذهب بعض الناس عند بيت حريم الباشا وبيت ابن المحروقي المجاور له، وهو بيت البكري القديم فباتوا ليلتهم هناك.

وحضر حسن أغا نجاتي والي العمارة عشا تلك الليلة، وطاف على الناس يحرضهم على القيام ومعاونة الباشا، وتجمع بعض الأوباش بالعصي والمساوق، وتحزبوا أحزابًا وعملوا متاريس عند رأس الوراقين وجهة العقادين والمشهد الحسيني.

فلما دخل الليل بطل الرمي إلى الصباح، فشرعوا بالرمي بالمدافع والقنابر من الجهتين، وتترست العساكر بجامع أزبك وبيت الدفتردار وبيت محمد علي وكوم الشيخ سلامة، وداخل الناس خوف عظيم من هذه الحادثة، وأما القلعة الكبيرة فإن الباشا مطمين من جهتها؛ لأنها مقيد بها الخازندار ومعه عدة من الأرنؤد وغيرهم وقافل أبوابها.

ولما كان يوم الجمعة أمس تاريخه قبل حصول الواقعة، وحضر أغات الإنكشارية والوجاقلية لأجل السلام على عادتهم، ودخلوا عند كتخدا بك، فقال لهم: نبهوا على أهل البلد بغلق الدكاكين والأسواق والاستعداد، فإن العسكر حاصل عندهم قلة أدب.

فلما طلعوا عند الباشا أعلموه بمقالة كتخدا بك، فقال لهم: نعم. فقال له أغات الإنكشارية: يا سلطانم، ينبغي الاحتفاظ بالقلعة الكبيرة قبل كل شي. فقال: إن بها الخازندار، وأوصيته بالاحتفاظ وغلق الأبواب.

فقال له الأغا: لكن ينبغي أن نترك عند كل باب من خارج قدر خمسين إنكشاريًّا. فقال: وإيش فايدتهم؟ ما عليكم من هذا الكلام؟ تريدون تفريق عساكري؟! اذهبوا لما أمرتكم به؛ وذلك لأحل إنقاذ القضاء.

وحضر طاهر باشا أيضًا في ذلك الوقت وهو كالمحب، ومكمن العداوة فلم يقابله الباشا، وأمره بأن يذهب إلى داره ولا يقارش.

فلما كان في صبحها يوم السبت، رتب الباشا عساكره على طريقة الفرنسيس، وهو المسمى ﺑ «النظام الجديد»، فخرجوا بأسلحتهم وبنادقهم وخيولهم وهم طوابير، ومروا حوالي البركة، وانقسموا فرقتين: فرقة أتت على رصيف الخشاب، وفرقة على جهة باب الهوا؛ ليأخذوا الأرنؤدية بينهم ويحصروهم من الجهتين، فلما حضرت الفرقة التي من ناحية رصيف الخشاب قاتلوا الأرنؤدية، فعند ذلك أركبوا الدفتردار وأخذوه إلى بيت طاهر ومعه أتباعه، وانهزم الأرنؤدية من جهة الجامع وانحصروا جهة جامع أزبك، واشتغلوا بمحاربة الفرقة الأخرى وتحققوا الهزيمة والخذلان.

وعندما وصلت عساكر الباشا إلى بيت الدفتردار والمحروقي وبيت حريم الباشا، اشتغلوا بالنهب وإخراج الحريم وتركوا القتال وتفرقوا بالمنهوبات، وفترت همة الفرقة الأخرى، وجرى أكثرهم ليخطف شيًّا ويغنم مثلهم، وقالوا: نحن نقاتل ونموت لا على شي، وأصحابنا ينهبون ويغنمون. فهزموا أنفسهم لذلك، وتراجع الأرنؤدية واشتدت عزيمتهم ورجع البعض منهم على عساكر الباشا، فهزموا من بقي منهم وملكوا الجهة التي كانوا أجْلَوْهم عنها.

فعند ذلك ظهر طاهر باشا وركب إلى الرميلة، وتقدم إلى باب العزب، فوجده مغلوقًا، فعالج الطاقات الصغار التي في حايط باب العزب القريبة من الأرض، المعدة لرمي المدافع من أسفل، ففتح بعضها، ودخل منها بعض العسكر، فتلاقوا مع الأرنؤد المحافظين داخل الباب، فالتف بعضهم على بعض.

ثم طلعوا عند الخازندار، وكان عنده ابن أخت طاهر باشا متمرضًا قبل ذلك بأيام، وصحبته طائفة أيضًا، فالتفوا على بعضهم وصاروا عصبة وطلبوا مفاتيح القلعة من الخازندار فمانعهم، ولما رأى منهم العين الحمرا سلمهم المفاتيح، فنزلوا وفتحوا الأبواب لطاهر باشا وحبسوا الخازندار، وأنزلوا من القلعة مدافع وبنبات وجبخانة إلى الأزبكية لجماعتهم، وكذلك قيدوا بالقلعة طبجية وعساكر.

كل ذلك ومحمد باشا لا يدري بشي من ذلك، فلم يشعر إلا والضرب نازل عليه من القلعة، فسأل: ما هذا؟ فقيل له: إنهم ملكوا القلعة. فسقط في يده.

وعند ذلك نزل طاهر باشا من القلعة وشق من وسط المدينة، وهو يقول بنفسه مع المنادي: أمان واطمئنان، افتحوا دكاكينكم، وبيعوا واشتروا وما عليكم بأس. وطاف يزور الأضرحة والمشايخ والمجاذيب ويطلب منهم الدعا، ورفع الناس المتاريس من الطرق وانكفوا عن مقارشة العسكر، وكذلك لم يحصل أذية من العسكر لأحد من الرعية، وأمروا بفتح مخابز العيش والمآكل، وأخذوا واشتروا عن غير إجحاف ولا بخس، فلما علم الباعة منهم ذلك ذهبوا إليهم بالعيش والكعك والجبن والفطير والسميط وغير ذلك، ودخلوا فيهم يبيعون عليهم وهم يشترون منهم بالمصلحة.

وصار بعض أولاد البلد يذهب إلى الفرجة، ويدخل بينهم ويمر من وسطهم فلا يتعرضون لهم، ويقولون: نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا.

ووجدوا مع البعض سلاحًا ذهب به عندما أرسل الباشا، ونادى على الناس فردوهم بلطف، وكل ذلك على غير القياس.

وطاهر باشا لم يكن له شغل إلا الطواف بالمدينة والأسواق وخارج البلد، ويقول للفلاحين الذين يجلبون الحطب والجلة والسمن والجبن من الأرياف: كونوا على ما أنتم عليه، وهاتوا أسبابكم، وبيعوا واشتروا وليس عليكم بأس. وحضر إليه الوالي فأمره بالمرور والمناداة بالأمن للناس.

واستمر الحرب بين الفريقين نهار السبت، واشتد ليلة الأحد طول الليل، فما أصبح النهار حتى زحف عساكر الأرنؤد إلى جامع عثمان كتخدا وإلى حارة النصارى من الجهة الأخرى، وطلعوا إلى التلول التي بناحية بولاق، وملكوا بولاق وهجموا على مناخ الجمال الذي بالقرب من الشَّيخ فَرج، فقتلوا من به من عسكر التكرور، وهرب من بقي منهم عريانًا، وقبضوا على ميتش القبطان، وأخذوا قليونه، وعدوا به إلى بر إنبابة ونَهبوا ما فيه، وكان به مال القبطان وذخايره التي جمعها من مظالم المراكب والمسافرين والقادمين شيًّا كثيرًا، وكذلك ذهبت طايفة منهم إلى قصر العيني وقبضوا على من به من عبيد الباشا وعروهم، وأخذوهم أسرى ونهبوا بيت السيد أحمد المحروقي بالأزبكية وهو بيت البكري القديم، وقد كان أخلاه لنفسه وعمره وسكنه بحريمه، فنهبوا منه شيًّا كثيرًا يفوق الحصر، وأخرجوا منه النسا بعدما فتشوهن أو افتدين أنفسهن، وكذلك بيت حريم الباشا الملاصق له بعدما أرسل الباشا عساكره قبل بيوم، فنقل منه الحريم عنده بطولهن لا غير، ونهبوا بيت المعلم جرجس الجوهري، وأخذوا منه أشيا نفيسة كثيرة وفراوي مثمنة، وحريم بيت الباشا لم يتمكنوا منه إلا بعد انفضاض القضية بيومين؛ بسبب أن المحافظين عليه كانوا تمانية عشر فرنساويًّا، فحاصروا فيه هذه المدة حتى خرجوا منه بأمان.

وأما سكان تلك الخطة فكانوا يذهبون إلى طاهر باشا أو محمد علي، فيرسل معهم عسكرًا لخفارتهم، حتى ينقلوا أمتعتهم أو ما أمكنهم إلى جهات بعيدة عن ذلك المحل؛ ليأمنوا على أنفسهم من الحرب.

وهرب السيد أحمد المحروقي وابنه عند الباشا ولاحت لوايح الخذلان على الباشا، واستعد للفرار، فإنه لما بات تلك الليلة لم يجد عليقًا ولا خبزًا، فعلقوا على الخيل أرزًا وتعشى الباشا بالبقسماط، وأرسل إلى حارة النصارى فطلب منهم خبزًا، فأرسلوا إليه خبزًا، فخطفه الأرنؤد في الطريق ولم يصل إليه.

ثم إن عسكر الأرنؤد أحضروا له آلة بنية وضعوها بالبركة، وضربوا بها على بيت الباشا، فوقعت واحدة على الباذاهنج، فالتهب فيه النار، فأرادوا إطفاها فلم يجدوا سقايين تنقل الماء.

ويقال: إن الخازندار الذي كان بالقلعة لما قبضوا عليه التزم لهم بحرق بيت الباشا ويطلقوه، فأرسل بعض أتباعه إلى مكانه الذي ببيت الباشا، فأوقدوا فيه النار في ذلك الوقت، واشتعلت في الأخشاب والسقوف، وسرت إلى مساكن الباشا.

فعند ذلك نزل الباشا إلى أسفل، وأنزل الحريم وعددهن سبع عشرة امرأة، فأركبهن بغالًا وأمر الدلاة والهوارة أن يقدموهن، وركب صحبتهن المحروقي وابنه وترجمانه وصيرفيه وعبيده وفراشوه، وتأخر الباشا حتى أركب الحريم، ثم ركب في مماليكه ومن بقي من عسكره وأتباعه، وركب معه حسين أغا شنن وبعض أغوات وصحبته ثلاثة هجن وخرج إلى جزيرة بدران.

فعندما أشيع ركوبه هجمت عساكر الأرنؤد على البيت، واشتغلوا بالنهب، هذا والنار تشتعل فيه.

وكان ركوبه قبيل أذان العصر من يوم الأحد تاسع المحرم، وخرج خلفه عدة وافرة من عسكر الأرنؤد، فرجع عليهم وهزمهم مرتين، وقيل ثلاثًا.

وأما المحروقي ومن معه، فإنهم تشتتوا من بعضهم خلف الدلاة ولم يلحقوا، وانقطع حزام بغلته فنزل عنها فأدركه العساكر المتلاحقة بالباشا، فعروه وشلحوه هو وأتباعه وابنه، وأخذوا منهم نحو عشرين ألف دينار إسلامبولي نقدية، وقيل جواهر بنحو ذلك، فأدركهم عمر أغا بينباشي المقيم ببولاق، فوقعوا عليه فأمنهم وأخذهم معه إلى بولاق، وباتوا عنده إلى ثاني يوم، وأخذ لهم أمانًا وحضر إلى طاهر باشا وقابله، وكذلك المعلم جرجس الجوهري.

ونهب العسكر بيت الباشا وأخذوا منه شيًّا كثيرًا، وباتت النار تلتهب فيه والدخان صاعد إلى عنان السما، حتى لم يبق فيه إلا الجدران التحتانية الملاصقة للأرض، واحترقت وانهدمت تلك الأبنية العظيمة المشيدة والعالية، وما به من قصور والمجالس والمقاعد والرواشن والشَّبابيك والقمريات والمناظر والتنهات والخزاين والمخادع، وكان هذا البيت من أضخم المباني المكلفة، فإنه إذا حلف الحالف أنه صرف على عمارته من أول الزمان إلى أن احترق عشرة خزاين من المال أو أكثر لا يحنث! فإن الألفي لما أنشاه صرف عليه مبالغ كثيرة.

وكان أصل هذا المكان قصرًا عمَّره وأنشاه السيد إبراهيم ابن السيد سعودي إسكندر من فُقها الحنفية، وجعل في أسفله قناطر وبوايك من ناحية البركة، وجعلها برسم النزهة لعامة الناس، فكان يجتمع بها عالم من أجناس الناس وأولاد البلد شي كثير، وبها قهاوي وفكهانية ومغاني وغير ذلك، ويقف عندها مراكب وقوارب بها من تلك الأجناس، فكان يقع بها وبالجسر المقابل لها من عصر النهار إلى آخر الليل من الخط والنزاهة ما لا يوصف، ثم تداول ذلك القصر أيدي الملاك وظهر علي بك وقساوة حكمه فسدوا تلك البوايك، ومنعوا الناس عنها؛ لِما كان يقع بها في بعض الأحيان من اجتماع أهل الفسوق والحشاشين.

ثم اشترى ذلك القصر الأمير أحمد أغا شويكار وباعه بعد مدة، فاشتراه الأمير محمد بك الألفي سنة إحدى عشرة ومايتين وألف، وشرع في هدمه وتعميره، وأنشاه على الصورة التي كان عليها وكان غايبًا جهة الشرقية فرسم لكتخداه صورته في كاغد بكيفية وضعه، فحضر ذو الفقار كتخدا، وهدم ذلك القصر وحفر الجدران ووضع الأساس وأقام الدعائم ووضع سقوف الدور السفلي.

فحضر عند ذلك مخدومه فلم يجده على الرسم الذي حدده له، فهدمه ثانيًا وأقام دعائمه على مراده، واجتهد في عمارته وطلب له الصناع والمؤن من الأحجار والأخشاب المتنوعة، حتى شحت المؤن في ذلك الوقت، وأوقف أربعة من أمرايه على أربع جهاته، وعمل على ذمة العمارة طواحين للجبس وقمن الجير، وأحضر البلاط من الجبل قطعًا كبارًا ونشرها على قياس مطلوبه، وكذلك الرخام، وذلك خلاف أنقاش رخام المكان وأنقاض الأماكن التي اشتراها وهدمها، وأخذ أخشابها وأنقاضها ونقلها على الجمال وفي المراكب لأجل ذلك.

فمنها البيت الكبير الذي أنشاه حسن كتخدا الشعراوي على بركة الرطلي، وكان به شي كثير من الأخشاب والأنقاض والشبابيك والرواشن، نقلت جميعها إلى العمارة، فصار كل من الأمرا المشيدين يبني وينقل ويبيع ويفرق على من أحب، حتى بنوا دورًا من جانب تلك العمارة، والطلب مستمر حتى آتوه في مدة يسيرة، وركب على جميع الشبابيك شرايح الزجاج أعلى وأسفل وهو شي كثير جدًّا، وفي المخادع المختصة به ألواح الزجاج البلور الكبار التي يساوي الواحد منها خمسماية درهم وهو كثير أيضًا، ثم فرشه جميعه بالبسط الرومي والفرش الفاخر، وعلقوا به الستاير والوسايد المزركشة وطوالات المراتب كلها مقصبات، وبنى به حمامين: علويًّا وسفليًّا، إلى غير ذلك، فما هو إلا أن تم ذلك فأقام به نحو عشرين يومًا، ثم خرج إلى الشرقية فأقام هناك، وحضر الفرنسيس فسكنه ساري عسكر بونابارته، فعمر فيه أيضًا عمارة، ولما سافر وأقام مكانه كليبر عمر فيه أيضًا، فلما قتل كليبر وتولى عوضه عبد الله منو، ولم يزل مجتهدًا في عمارته وغير معاليمه، وأدخل فيه المسجد وبنى الباب على الوضع الذي كان عليه وعقد فوقه القبة المحكمة، وأقام في أركانها الأعمدة بوضع محكم متقن، وعمل السلالم العراض التي يصعد منها إلى الدور العلوي والسفلي من على يمين الداخل، وجعل مساكنه كلها تنفذ إلى بعضها البعض على طريقة وضع مساكنهم، واستمر يبني فيه ويعمر مدة إقامته إلى أن خرج من مصر.

فلما حضر العثمانية وتولى على مصر محمد باشا المذكور، رغب في سكنى هذا المكان، وشرع في تعميره هذه العمارة العظيمة، حتى إنه رتب لحرق الجير فقط اثني عشر قمينًا تشتغل على الدوام، والجمال التي تنقل الحجر من الجبل تلات قطارات، كل قطار سبعون جملًا، وقس على ذلك بقية اللوازم.

ورموا جميع الأتربة في البركة الرطلي حتى رَدموا منها جانبًا كبيرًا ردمًا غير معتدل، حتى شوهوا البركة، وصارت كلها كيمانًا وأتربة.

والعجب أن منتهى الرغبة في سكن هذه البركة وأمثالها، إنما هو تسريح النظر وانبساط النفس باتساعها وإطلاقها، وخصوصًا أيام النيل حين تمتلئ بالماء فتصير لجة ماء دايرة بركاوية مملوة بالزورق والقنج والشطيات المعدة للنزهة تسرح فيها ليلًا ونهارًا، وعند دخول المسا يوقدون القناديل بدايرها في جميع قواطين البيوت، فيصير لذلك منظر بهيج، لا سيما في الليالي المقمرة، فيختلط ضحك الماء في وجه البدور والقناديل وانعكاس خيالها كأنها أسفل الماء أيضًا، وصدى أصوات القيان والأغاني في ليال لا تعد من الأعمار.

إذ الناسُ ناسٌ والزمان زمان.

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إلى أن كان ما كان ووقعت هذه الحوادث، فتضاعف المسخ والتشويه، والعجب أنه لما وقعت الحرابة بين الفرنساوية والعثمانية وأهل مصر وقامت الحرب ستة وثلاثين يومًا، وهم يضربون على ذلك البيت بالمدافع والقنابر لم يصبه شي، ولم ينهدم منه حجر واحد.

ولما وقعت هذه الحرابة بين الباشا وعسكره، احترق وانهدم في ليلة واحدة، وكذلك احترق بيت الدفتردار وهو بيت «تلاتة وليه»، الذي كان أنشاه رضوان كتخدا الجلفي، وكان بيتًا عظيمًا، ليس له نظير في عمارته وزخرفته وكلفته، وسقوفه من أغرب ما صنعته أيدي بني آدم في الدقة والصنعة، وكله منقوش بالذهب واللازورد والأصباغ، وعلى مجالسه العليا قباب مُصنعة، وأرضه كلها بالرخام الملون، فاحترق جميعه ولم يبق به شي إلا بعض الجدران اللاطية بالأرض.

وسكنت الفتنة، وشق الوالي علي أغا الشعراوي وذو الفقار المحتسب وأغات الإنكشارية، ونادوا بالأمان والبيع والشرا، فكانت مدة ولاية هذا الباشا على مصر سنة وثلاثة أشهر وأحدًا وعشرين يومًا، وكان سيئ التدبير ولا يحسن التصرف، ويحب سفك الدماء ولا يتروى في ذلك، ولا يضع شيًّا في محله ويتكرم على من لا يستحق ويبخل على من يستحق.

وفي آخر مدته داخله الغرور وطاوع قُرَنَا السو المحدقين به، والتفت إلى المظالم والفرد على الناس وأهل القرى، حتى إنهم كانوا حرروا دفاتر فردة عامة على الدور الأماكن بأجرة تلات سنوات، وقيل أشنع من ذلك.

فأنقذ الله منه عباده وسلط عليه جنده وعساكره، وخرج مرغومًا مقهورًا على هذه الصورة، ولم يزل في سيره إلى أن نزل بقليوب بعد الغروب، فعشاه الشواربي شيخ قليوب، ثم سار ليلًا إلى دجوة، فأنزل الحريم والأثقال في تلات مراكب، وسار هو إلى جهة بنها وغالب جماعته تخلفوا عنه بمصر، وكذلك الكتخدا وديوان أفندي والخازندار الذي كان بالقلعة والسلحدار وخليل أفندي خزنة كاتب.

وفي يوم الاتنين عاشِره نودي بالأمان أيضًا، وأن العساكر لا يتعرضون لأحد بأذية، وكل من تعرض له عسكري بأذية ولو قليلة فليشتكه إلى القلق الكاين بخطته، ويحضره إلى طاهر باشا فينتقم له منه.

وفي يوم الخميس وقت العصر حضر الأغا والوجاقلي إلى بيت القاضي، وأعلموه باجتماعهم في غد عند طاهر باشا، ويتفقون على تلبيسه قايمقام، ويكتبون عرض محضر بحاصل ما وقع.

وفي ذلك اليوم حضر جعفر كاشف تابع إبراهيم بك، وبيده مراسلة خطابًا للعلما والمشايخ وقيل إنه كان بمصر من مدة أيام، وكان يجتمع بطاهر باشا كل وقت بالشيخونية.

فلما أصبح يوم الجمعة رابع عشره اجتمع المشايخ عند القاضي، وركبوا صحبته وذهبوا عند طاهر باشا، وعملوا ديوانًا وأحضر القاضي فروة سمور ألبسها لطاهر باشا؛ ليكون قايمقام حتى تحضر له الولاية، أو يأتي وال، وكلموه على رفع الحوادث والمظالم، وظنوا فيه الخيرية واتفقوا على كتابة عرضحال بصورة ما وقع.

وقروا المكتوب الذي حضر من عند الأُمرا القبالي وهو مشتمل على آيات وأحاديث وكلام طويل، ومحصله أنهم طايعون وممتثلون، ولم يحصل منهم تعدٍ ولا محاربة، وإنما إذا حضروا إلى جهة أو بلدة، وطلبوا المرور عليها أو قضا حاجة من بندر؛ منعهم الحاكم والعساكر التي بها ونابذوهم بالمحاربة والطرد، ومع ذلك إذا وقعت بيننا محاربة لا يثبتون لنا وينهزمون ويفرون، وقد تكرر ذلك المرة بعد المرة، ولا يخفى ما يترتب على ذلك من النهب والسلب وهتك الحراير، وقد وقع أننا لما حضرنا بالمنية فحصل ما حصل، بدءونا بالطرد والإبعاد، وحصل ما حصل مما ذكر وعوقب من لا جنى، وذنب الرعية والعباد في رقابكم.

وقد التمسنا من ساداتنا المشايخ أن يتشفعوا لنا عند حضرة الوزير، ويعطينا ما يقوم بمونتنا ومعايشنا، فأبى حضرة الوزير إلا إخراجنا من القطر المصري كليًّا، وبعثتم تحذرونا مخالفة الدولة العلية مستدلين علينا بقوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، ولم تذكروا لنا آية تدل على أننا نخرج من تحت السما، ولا آية تدل على أننا نلقي بأيدينا إلى التهلكة.

وذكرتم لنا أن حريمنا وأولادنا بمصر، وربما ترتب على المخالفة وقوع الضرر بهم، وقد تعجبنا من ذلك؛ فإننا إنما تركنا حريمنا ثقة بأنهم في كفالتكم وعرضكم، على أن المروءة تأبى صرف الهمة إلى امتداد الأيدي للحريم، والرجال للرجال، على أن الفلك دوار، والله يقلب الليل والنهار، والملك بيد الله يوتيه من يشا قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الآية. فلما قري ذلك بتفاصيله تعجب السامعون له، فكأنما كانوا ينظرون من خلف حجاب الغيب، وأخذ ذلك المكتوبَ طاهر باشا وأودعه في جيبه.

ثم قال الحاضرون: فما يكون الجواب؟ قال: حتى نتروى في ذلك. ثم كتب لهم جوابًا يخبرهم فيه بما وقع، ويأمرهم بأنهم يحضرون بالقرب من مصر؛ لربما اقتضى الحال إلى المعاونة.

وفي يوم الاتنين سابع عشره كتبوا العرض المحضر بصورة ما وقع، وختم عليه المشايخ والوجاقلية وأرسلوه إلى إسلامبول.

وأما محمد باشا المهزوم فإنه لم يزل في سيره حتى وصل إلى المنصورة، وفرد على أهلها تسعين ألف ريال، وكذلك فرد على ما أمكنه من بلاد الدقهلية والغربية فردًا ومظالم وكلفًا، وصادف في طريقه بعض المعينين حاضرين بمبالغ الفردة السابقة، فأخذها منهم.

وفي ليلة التلات بعد المغرب تامن عشره أرسل طاهر باشا عدة من العسكر، فقبضوا على جماعة من بيوتهم، وهم: أغات الإنكشارية، ومصطفى كتخدا الرزاز، ومصطفى أغا الوكيل، وأيوب كتخدا الفلاح، وأحمد كتخدا علي، والسيد أحمد المحروقي، وخليل أفندي كاتب خزنة محمد باشا، وأطلعوهم إلى القلعة وأصبح الناس يتحدثون بذلك، ثم إن جماعة الفقها سعوا إلى السيد أحمد المحروقي فأنزلوه إلى بيته في تاني يوم، وعملوا عليه ستماية كيس، ولزم العسكر بيته وكذلك بقية الجماعة منهم من عمل عليه مايتا كيس وأقل وأكثر، وأقاموا في الترسيم.

وفي يوم الجمعة حادي عشرينه ركب طاهر باشا بالموكب والملازمين، وصلى الجمعة بجامع الحسين، وفيه وردت الأخبار بأن الأمرا المصرية رجعوا إلى قبلي، ووصلوا إلى قرب بني سويف.

وفيه تشفع شيخ السادات في مصطفى أغا الوكيل، وأخذه إلى بيته وعملوا عليه مايتين وعشرين كيسًا.

فلما كان يوم الأحد أرسل طاهر باشا يطلب مصطفى أغا الوكيل من عند شيخ السادات، فركب معه شيخ السادات وسعيد أغا وكيل دار السعادة، وذهبا صحبته إلى بيت طاهر باشا.

فلما طلعوا إلى أعلى الدرج خرج عليهم جماعة من العسكر، وجذبوا مصطفى أغا من بينهم وقبضوا عليه وأنزلوه إلى أسفل، وأخذوه إلى القلعة ماشيًا على أقدامه فحنق الشيخ السادات، ودخل على طاهر باشا، وتشاجر معه، فأطلعه على مكتوب مرسل من محمد باشا إليه، فقال: هذا لا يؤاخذ به، وإنما يؤاخذ إذا كان المكتوب منه إلى محمد باشا. ثم انحط الأمر على أنه لا يقتله ولا يطلقه، ثم إن طاهر باشا ركب ليلًا، وذهب إلى شيخ السادات، وأخذ خاطره بعدما فزع من حضوره إليه في ذلك الوقت.

وفي تالت عشرينه أطلعوا يوسف كتخدا الباشا إلى القلعة، وألزموه بمال وكذلك خزنة كاتب.

وفيه خرج أمير الألزم لملاقاة الحجاج، فنصب وطاقه بقبة النصر وأقام هناك.

وفيه حضر هجان على يده مكاتيب مؤرَّخة في عشرين شهر الحجة، مضمونها أن الوهابيين أحاطوا بالديار الحجازية، وأن شريف مكة غالب تداخل مع شريف باشا وأمير الحاج المصري والشامي، وأرشاهم على أن يتعوقوا معه أيامًا حتى ينقل ماله ومتاعه إلى جدة، وذلك بعد اختلاف كبير وحل وربط، وكونهم يجتمعون على حربه، ثم يرجعون على ذلك إلى أن اتفق رأيهم على الرحيل، فأقاموا مع الشريف اثني عشر يومًا، ثم رحلوا، ورحل الشريف بعد أن أحرق داره، ورحل شريف باشا أيضًا إلى جده.

وفيه قبضوا على أنفار من الوجاقلية أيضًا المستورين، وطلبوا منهم دراهم، وعملوا على طايفة القبط الكتبة خمسماية كيس بالتوزيع.

وفي خامس عشرينه قبضوا على جماعة منهم وحبسوهم، وكذلك عملوا على طايفة اليهود ماية كيس.

وفيه حضر أحمد أغا شويكار إلى مصر بمراسلة من الأمرا القبالي.

وفي يوم الأربع سادس عشرينه سافرت التجريدة المعينة لمحمد باشا وكبيرها حسن بك أخو طاهر باشا، فنزلوا في مراكب وفي البر أيضًا.

وفي يوم الخميس قبضوا على المعلم ملطي القبطي من أعيان كتبة القبط، وهو الذي كان قاضيًا أيام الفرنسيس، فرموا رقبته عند باب زويلة، وكذلك قطعوا رأس المعلم حنا الصبحاني أخي يوسف الصبحاني من تجار الشوام، عند باب الخرق في ذلك اليوم، وأقاما مرميين إلى تاني يوم.

وفي يوم السبت غايته رجع أحمد أغا شويكار بجواب من الباشا إلى رفقاه، وأشيع وصول إبراهيم بك ومن معه إلى زاوية المصلوب، ووصلت مقدماتهم إلى بر الجيزة يقبضون الكلف من البلاد.

وفيه أفرجوا عن يوسف كتخدا الباشا، بعد أن دفع ثمانين كيسًا ونزل من القلعة إلى داره.

وفيه أرسل طاهر باشا إلى مصطفى أفندي رامز الكاتب وإبراهيم أفندي الروزنامجي وسليمان أفندي، فأخذوهم عند عبد الله أفندي رامز الروزنامجي الرومي.

شهر صفر (سنة ١٢١٨)

استهل بيوم الأحد، في تانيه حضر الأمراء القبالي إلى الشيخ الشيمي.

وفي ليلة الأربع رابعه خنقوا أحمد كتخدا علي باش اختيار الإنكشارية ومصطفى كتخدا الرزاز كتخدا العزب، وكانا محبوسين بالقلعة، وضربوا وقت خنقهما مدفعين في الساعة الثالثة من الليل ورموهما إلى خارج.

وفي صبحها يوم الأربع حضر جواب من العسكر الذين ذهبوا لمحاربة محمد باشا، مضمونه أنه انتقل من مكانه وذهب إلى جهة دمياط، وأنه تخلف عنه جماعة من العسكر الذين معه، وأرسلوا يطلبون منهم الأمان، فلم يجاوبوهم حتى يستأذنوا في ذلك، فأجابهم طاهر باشا بأن يعطوهم أمانًا ويضمُّوهم إليهم.

وفي ذلك اليوم أشيع أن طاهر باشا قاصد التعدية إلى البر الغربي؛ ليسلم على الأمرا المصرلية، وفي ذلك الوقت أمر بإحضار حسن أغا محرم، فارتاع من ذلك، وأيقن بالموت، فلما حضر بين يديه خلع عليه فروة، وجعله معمارجي باشا، وأعطاه ألفي فرانسا، وأمره أن يتقيد بتعمير القلعة، وما صدق أنه خرج من بين يديه وسكن روعه.

وفي ذلك الوقت حضر إليه طايفة من الإنكشارية، وهم الذين كانوا حضروا في أول المحرم في النقاير مع الجبخانة؛ ليتوجهوا إلى الديار الحجازية وأنزلوهم بجامع الظاهر خارج الحسينية.

وحصلت كاينة محمد باشا وهم مقيمون على ما هم عليه، ولما خرج محمد باشا وظهر عليه طايفة الأرنؤد، شمخوا على الإنكشارية وصاروا ينظرون إليهم بعين الاحتقار، مع تكبر الإنكشارية ونظرهم في أنفسهم أنهم فخذُ السلطنة وأن الأرنؤد خدمهم وعسكرهم وأتباعهم.

ولما فَرَدْ الفِرَد طاهر باشا وصادر الناس، صار يدفع إلى طايفة الأرنؤد جماكِيهم المنكسرة، أو يحولهم بأوراق على المصادرين، وكلما طلب الإنكشارية شيًّا من جماكيهم، قال لهم: ليس لكم عندي شي، ولا أعطيكم إلا من وقت ولايتي، فإن كان لكم شي فاذهبوا وخذوه من محمد باشا. فضاق خناقهم وأوغر صدورهم، وبيتوا أمرهم مع أحمد باشا والي المدينة.

فلما كان في هذا اليوم ركب الجماعة المذكورون من جامع الظاهر، وهم نحو المايتين وخمسين نفرًا بعددهم وأسلحتهم كما هي عادتهم، وخلفهم كبراوهم، وهم: إسماعيل أغا، ومعه آخر يقال له موسى أغا، وآخر، فذهبوا على طاهر باشا وسألوه في جماكيهم، فقال لهم: ليس لكم عندي إلا من وقت ولايتي، وإن كان لكم شي مكسور فهو مطلوب لكم من باشتكم محمد باشا، فألحوا عليه، فنتر فيهم، فعاجلوه بالحسام، وضربه أحدهم فطيَّر رأسه ورماها من الشباك إلى الحوش، وسحبت طوايفهم الأسلحة وهاجوا في أتباعه، فوقع الحريق والنهب في الدار، ووقع في الناس كرشات، وخرجت العساكر الإنكشارية وبأيديهم السيوف المسلولة ومعهم ما خطفوه من النهب، فانزعجت الناس وأغلقوا الأسواق والدكاكين، وهربوا إلى الدور وأغلقوا الأبواب، وهم لا يعلمون ما الخبر.

وبعد ساعة شاع الخبر وشق الوالي والأغا ينادون بالأمن والأمان حسب ما رسم أحمد باشا، وكرروا المناداة بذلك.

ثم نادوا باجتماع الإنكشارية البلدية، وخلافهم عند أحمد باشا على طايفة الأرنؤد، وقتلهم وإخراجهم من المدينة، فتحزبوا أحزابًا ومشوا طوايف طوايف، وتجمع الأرنؤد جهة الأزبكية وفي بيوتهم الساكنين فيها وصار الإنكشارية إذا ظفروا بأحد من الأرنؤد أخذوا سلاحه، وربما قتلوه وكذلك الأرنؤد يفعلون معهم مثل ذلك.

هذا والنهب والحريق عمال في بيت طاهر باشا، وفرج الله عن المعتقلين والمحبوسين على المغارم والمصادرات، وبقيت جثة طاهر باشا مرمية لم يلتفت إليها أحد، ولم يجسر أحد من أتباعه على الدخول إلى البيت وإخراجها ودفنها، وزالت دولته وانقضت سلطته في لحظة، فكانت مدة غلبته ستة وعشرين يومًا، ولو طال عمره زِيادة لَأهلَك الحرث والنسل، وكان صفته أسمر اللون نحيف البدن أسود اللحية قليل الكلام بالتركي فضلًا عن العربي، ويغلب عليه لغة الأرنؤدية، وفيه هوس وانسلاب وميل للمسلوبين والمجاذيب والدراويش، وعمل له خلوة بالشيخونية، وكان يبيت فيها كثيرًا، ويصعد مع الشيخ عبد الله الكردي إلى السطح في الليل ويذكر معه، ثم سكن هناك بحريمه، وقد كان تزوج بامرأة من نسا الأمرا وكان يجتمع عنده أشكال مختلفة الصور، فيذكر معهم ويجالسهم ويظهر الاعتقاد فيهم، ولما رأوا منه ذلك خرج الكثير من الأوباش وتزيَّا بما سولت له نفسه وشيطانه، ولبس له طرطورًا طويلًا ومرقعة ودلقًا، وعلق له جلاجل وبهرجان وعصا مصبوغة، وفيها شخاشيخ وشراريب، وطبلة يدق عليها، ويصرخ ويزعق ويتكلم بكلمات مستهجنة وألفاظ موهمة بأنه من أرباب الأحوال ونحو ذلك.

ولما قتل أقام مرميًّا إلى تاني يوم لم يدفن، ثم دفنوه من غير رأس بقبة عند بركة الفيل وأخذ بعض الينكجرية رأسه وذهبوا بها ليوصلوها إلى محمد باشا ويأخذوا منه البقشيش، فلحقهم جماعة من الأرنؤد فقتلوهم وأخذوا الرأس منهم، ورجعوا بها ودفنوها مع جثته.

وكتب أحمد باشا مكتوبًا إلى محمد باشا يعلمه بصورة الواقعة ويستعجله للحضور، وكذلك المحروقي وسعيد أغا أرسل كل واحد مكتوبًا بمعنى ذلك وظنوا إتمام المنصف.

ولما نهبوا بيته نهبوا ما جاوره من دور الناس من الحبانية إلى ضلع السمكة إلى درب الجماميز.

ثم إن أحمد باشا أحضر المشايخ وأعلمهم بما وقع، وأمرهم بالذهاب إلى محمد علي ويخاطبوه بأن يذعن إلى الطاعة، فلما ذهبوا إليه وخاطبوه في ذلك، أجاب بأن أحمد باشا لم يكن واليًا على مصر، بل إنما هو والي المدينة المنورة — على ساكنها أفضل الصلاة والسلام — وليس له علاقة بمصر، وأنا كنت الذي وليت طاهر باشا لكونه محافظ الديار المصرية من طرف الدولة، وله شبهة في الجملة، وأما أحمد باشا فليس له جرة ولا شبهة، فهو يخرج خارج البلد، ويأخذ معه الإنكشارية ونجهزه ويسافر إلى ولايته.

فقاموا من عنده على ذلك، واستمر الإنكشارية على ما هم عليه من النهب وتتبع الأرنؤد، وتحزبوا وتسلحوا، وعملوا متاريس على جهاتهم ونواحيهم إلى آخر النهار، فنادوا على الناس بالسهر والتحفظ، والدكاكين تفتح والقناديل تعلق وبات الناس على تخوف.

ولما أصبح نهار الخميس مر الوالي والأغا ينادون بالأمان برسم حكم أحمد باشا، ثم إن أحمد باشا أرسل أوراقًا إلى المشايخ بالحضور، فذهبوا إليه، فقال لهم: أريد منكم أن تجمعوا الناس والرعية وتأمروهم بالخروج على الأرنؤد وقتلهم. فقالوا: سمعًا وطاعة. وأخذوا في القيام فقال لهم: لا تذهبوا وكونوا عندي وأرسلوا للناس كما أمرتكم. فقالوا له: إن عادتنا أن يكون جلوسنا في المهمات بالجامع الأزهر، ونجتمع به ونرسل إلى الرعية، فإنهم عند ذلك لا يخالفون. وكان مصطفى أغا الوكيل حاضرًا، فراددهم في ذلك، وعرف منهم الانفكاك، فلم يزالوا حتى تخلصوا وخرجوا.

وكان أحمد باشا أرسل أحضر الدفتردار ويوسف كتخدا الباشا وعبد الله أفندي رامز الروزنامجي وغالب أكابر العثمانية، ومصطفى أغا الوكيل كان مرهونًا عند شيخ السادات كما تقدم، فعندما سمع بقتل طاهر باشا ركب بجماعته وأبهته، وأخذ معه عدة من الإنكشارية وذهب إلى عند أحمد باشا ووقف بين يديه يعاضده ويقويه، وأما محمد علي والأرنؤد فإنهم مالكون القلعة الكبيرة، ويجمعون أمرهم ويراسلون الأمرا.

فلما أصبح ذلك اليوم عدَّى الكثير من المماليك والكشاف إلى بر مصر، ومروا في الأسواق، وعدى أيضًا محمد علي، وقابلهم في بر الجيزة ورجع، وعدى الكثير منهم من ناحية إنبابة، ومعهم عربان كثيرة، وساروا إلى جهة خارج، باب النصر وباب الفتوح، وأقاموا هناك.

وأرسل إبراهيم بك ورقة إلى أحمد باشا يقول فيها: إنه بلغنا موت المرحوم طاهر باشا — عليه الرحمة والرضوان — فأنتم تكونون مع أتباعكم الأرنؤد حالًا واحدًا، ولا تتداخلوا مع الإنكشارية. فلما كان ضحوة النهار ذهب جماعة من الإنكشارية إلى جهة الرميلة، فضربوا عليهم من القلعة مدافع، فولوا وذهبوا، ثم بعد حصة ضربوا أيضًا عدة مدافع متراسلة على جهة بيت أحمد باشا، وكان ساكنًا في بيت علي بك الكبير بالداودية، فعند ذلك أخذ أمره في الانحلال، وتفرق عنه غالب الإنكشارية البلدية، ووافق أن المشايخ لما خرجوا من عنده وركبوا لم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا جامع الغورية، فنزلوا به وجلسوا وهم في حيرة متفكرين فيما يصنعون، فعندما سمعوا صوت المدافع قاموا وتفرقوا إلى بيوتهم.

ثم إن إبراهيم بك أرسل ورقة إلى أحمد باشا قبيل العصر يأمره فيها بتسليم الذين قتلوا طاهر باشا، ويخرج إلى خارج البلد، ومعه مهلة إلى حادي عشر ساعة من النهار، ولا يقيم إلى الليل، وإن خالف فلا يلومن إلا نفسه، فلما رأى حال نفسه مضمحلًّا لم يجد بدًّا من الامتثال، إلا أنه يجد جمالًا يحمل عليها أثقالهن فقال للرسول: سلِّم عليه وقل له يرسل لي جمالًا وأنا أخرج، وأما تسليم القاتلين فلا يمكن. فقال له: أما حضور الجمال فغير متيسر في هذا الوقت؛ لبعد المسافة. فقال له: وكيف يكون العمل؟ فقال: يركب حضرتكم ويخرج، ووقت ما حضرت الجمال الليلة أو غدًا حملت الأثقال ولحقتكم خارج البلد. فعند ذلك قام وركب وقت العصر، وتفرق من كان معه من أعيان العثمانية مثل: الدفتردار وكتخدا بك والروزنامجي، وذهبوا إلى محمد علي والتجئوا إليه، فأظهر لهم البشر والقبول.

وخرج أحمد باشا في حالة شنيعة وأتباعه مشاة بين يديه، وهم يعدون في مشيهم وعلى أكتافهم وسايد وأمتعة خفيفة، فعندما خرج من البيت دخل الأرنؤد ونهبوا جميع ما فيه، ولم يزل سايرًا حتى خرج من المدينة من باب الفتوح، فوجد العسكر والعربان وبعض كشاف ومماليك مصرية محدقة بالطرق، فدخل مع الإنكشارية إلى قلعة الظاهر وأغلقوها عليهم، وخرج خلفهم عدة وافرة من الأرنؤد والكشاف المصرلية والعرب والغز، وأحاطوا بهم وأقاموا على ذلك تلك الليلة.

وبعد العشا مر الوالي وأمامه المناداة بالأمان، حسب ما رسم إبراهيم بك حاكم الولاية وأفندينا محمد علي، فكانت مدة الولاية لأحمد باشا يومًا وليلة لا غير.

وفي ذلك اليوم نهبوا بيت يوسف كتخدا بك، وأخرجوا منه أشيا كثيرة، أخذ ذلك جميعه الأرنؤد، وأصبح يوم الجمعة فركب المشايخ والأعيان وعدوا إلى الجِيزة وسلموا على إبراهيم بك والأمرا.

وفيه استأذن الدفتردار وكتخدا بك محمد علي في الإقامة عنده أو الذهاب، فأذن لهما بالتوجه إلى بيوتهما، فركبا قبيل الظهر وسارا إلى بيت الدفتردار وهو بيت البارودي، فدخل كتخدا بك مع الدفتردار لعلمه بنهب بيته، فنزلا وجلسا مقدار ساعة، وإذا بجماعة من كبار الأرنؤد ومعهم عدة من العسكر وصلوا إليهما، وعند دخولهم طلبوا المشاعلي من بيت علي أغا الشعراوي، وهو تجاه بيت البارودي فلم يجدوه، فذهب معهم رفيق له وليس معه سلاح، فدخلوا الدار وأغلقوا الباب.

وعلم أهل الخطة مرادهم، فاجتمع الكثير من الأوباش والجعيدية والعسكر خارج الدار يريدون النهب، ولما دخلوا عليهما قبضوا أولًا على الدفتردار وشلحوه من ثيابه، وهو يقول: «عيبتر»، وأصابه بعضهم بضربة على يده اليمنى، وأخرجوه إلى فسحة المكان، وقطعوا رأسه بعدة ضربات وهو يصيح مع كل ضربة؛ لكون المشاعلي لا يحسن الضرب، ولم يكن معه سلاح بل ضربه بسلاح بعض العسكر الحاضرين.

ثم فعلوا ذلك بيوسف كتخدا بك وهو ساكت لم يتكلم، وأخذوا الرأسين وتركوهما مرميين، وخرجوا بعدما نهبوا ما وجدوه من الثياب والأمتعة بالمكان، وكذلك ثياب أتباعهم، وخرج أتباعهم في أسوأ حال يطلبون النجاة بأرواحهم، ومنهم من هرب وطلع إلى حريم البارودي الساكنات في البيت، وصرخ النسا وانزعجن.

وكانت الست نفيسة المرادية في ذلك المنزل أيضًا في تلك الأيام، فعندما رأت وصول الجماعة، أرسلت إلى سليم كاشف المحرمجي، فحضر في ذلك الوقت، فكلمته في أن يتلافى الأمر، فوجده قد تم، فخرج بعد خروجهم بالرأسين، فظن الناس أنها فعلته، ثم حضر محمد علي في أثر ذلك وطرد الناس المجتمعين للنهب، وختم على المكان وركب إلى داره، ثم إن علي أغا الشعراوي استأذن محمد علي في دفنهما، فأذن له، فأعطى شخصًا ستماية نصف فضة لتجهيزهما وتكفينهما، فأخذها وأعطى منها لآخر مائتي نصف لا غير، فأخذها وذهب فوضعهما في تابوت واحد من غير رءوس، وكانوا ذهبوا برءوسهما إلى الأمرا بالجيزة، ولم يردوهما ولم يدفنا معهما، ثم رفعهما بالتابوت إلى ميضاة جامع السلطان شاه المجاور للمكان، وهو مكان قذر، فغسلهما وكفنهما في كفن حقير، ودفنهما في حفرة تحت حايط بتربة الأزبكية من غير روس، فهذا ما كان من أمرهما.

وأما الذين في قلعة الظاهر فإنهم انحصروا وأحاط بهم الأرنؤد والغز والعربان، وليس عندهم ما يأكلون ولا ما يشربون، فصاروا يرمون عليهم من السور بالقرابين والبارود، وهم كذلك يرمون عليهم من أسفل وجمعوا أتربة وعملوها كيمانًا عالية، وصاروا يرمون عليهم منها كذلك بقية نهار الجمعة، وليلة السبت اشتد الحرب بينهم بطول الليل.

وفي الصباح أنزلوا من القلعة مدافع كبارًا وبنبه وجبخانة، وأصعدوها على التلول، وضربوا عليهم إلى قبيل العصر، فعند ذلك طلبوا الأمان، وفتحوا باب القلعة، وخرج أحمد باشا وصحبته شخصان، وهما اللذان قتلا طاهر باشا، فأخذوهم وعدوا بهم إلى الجيزة، وبطل الحرب والرمي، وبقي طايفة الإنكشارية داخل القلعة وحولهم العساكر.

فلما ذهبوا بهم إلى الجيزة أرسلوا أحمد باشا إلى قصر العيني، وأبقوا الاتنين وهم إسماعيل أغا وموسى أغا بالقصر الذي بالجيزة، ونودي بالأمان للرعية حسب ما رسم إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي ومحمد علي.

وفي يوم السبت حضر أحمد بك أخو محمد علي إلى جهة خان الخليلي؛ لإجراء التفتيش على منهوبات الأرنؤد التي نهبها الإنكشارية وأودعوه عند أصحابهم الأتراك، ففتحوا عدة حوانيت وقهاوي وأماكن، وأخذوا ما فيها وأجلسوا طوايف من عسكر الأرنؤد على الخانات والوكايل والأماكن، وشلحوا أناسًا كثيرة من ثيابهم، وربما قتلوا من عصى عليهم، فتخوف أهل خان الخليلي ومن جاورهم، واستمر الأرنؤد كلما مرت منهم طايفة ووجدوا شخصًا في أي جهة فيه شبه ما بالأتراك، قبضوا عليه وأخذوا ثيابه، وخصوصًا إن وجدوا شيًّا معه من السلاح أو سكينًا، فتوقى أكثر الناس وانكفوا عن المرور في أسواق المدينة فضلًا عن الجهات البرانية.

وفيه كثر مرور الغز والكشاف المصرلية، وترددوا إلى المدينة، وعلى أكتافهم البنادق والقرابين وخلفهم المماليك والعربان فيذهبون إلى بيوتهم، ويبيتون بها ويدخلون الحمامات ويغيرون ثيابهم ويعودون إلى بر الجيزة، وبعضهم أمامه المناداة بالأمان عند مروره بوسط المدينة.

وفيه كتبت أوراق بطلب دراهم فردة على البلاد المنوفية والغربية، كل بلد ألف ريال، وذلك خلاف مضايف العرب وكلفهم.

وفي يوم الاتنين قتلوا شخصًا بباب الخرق، يقال إنه كان من أكبر المتحزبين على الأرنؤد وجمع منهوبات كثيرة.

وفيه أيضًا قتلوا إسماعيل أغا وموسى أغا، وهما اللذان كان قتلا طاهر باشا، وتقدم أنهم كانوا أخذوهما بالأمان صحبة أحمد باشا، وأرسلوا أحمد باشا إلى قصر العيني، وبقي الاثنان بقصر الجيزة، فأخذوهما وعدوا بهما إلى البر الآخر، وقطعوا رأسيهما عند الناصرية وأخذوا الرأسين وذهبوا بهما إلى زوجة طاهر باشا بالشيخونية، ثم طلعوهما إلى أخي طاهر باشا بالقلعة.

وفيه تقلد سليم أغا أغات مستحفظان سابقًا الأغاوية كما كان، وركب وشق المدينة بأعوانه وأمامه جماعة من العسكر الأرنؤد.

وليسوا أيضًا حسين أغا أمين خزنة مراد بك وقلدوه والي الشرطة، ولبسوا محمدًا المعروف بالبرديسي كتخدا قائدًا أغا، وجعلوه محتسبًا، وشق كل منهم بالمدينة وأمامهم المناداة بالأمن والأمان والبيع والشرا.

وفيه أخرجوا الإنكشارية الذين بقلعة الظاهر، وسفروهم إلى جهة الصالحية، وصحبتهم كاشفان وطايفة من العرب بعدما أخذوا سلاحهم ومتاعهم، بل وشلحوهم ثيابهم، والذي بقي لهم بعد ذلك أخذته العرب، وذهبوا في أسوأ حال وأنحس بال، وهم نحو الخمسماية إنسان ومنهم من التجأ إلى بعض المماليك والغز، فستر عليه وغير هيئته وجعله من أتباعه، وكذلك الإنكشارية الذين كانوا مخفيين التجئوا إلى المماليك وانتموا إليهم وخدموهم، فسبحان مقلب الأحوال!

وحضر سليم كاشف المحرمجي وسكن بقلعة الظاهر، وكتب إلى إقليم القليوبية أوراقًا، وقرر على كل بلد ألف ريال، ومن كل صنف من الأصناف سبعين، مثل: سبعين خروفًا، وسبعين رطلًا، سمنًا، وسبعين رطلًا بنًّا، وسبعين فرخةً، وهكذا. وحق طريق المعين لقبض ذلك خمسة وعشرون ألف فضة من كل بلد.

وفي يوم الأربع حادي عشره حضر محمد علي وعبد الله أفندي رامز الروزنامجي ورضوان كتخدا إبراهيم بك إلى بيت الدفتردار المقتول، وضبطوا تركته فوجد عنده نقودًا تلاتماية كيس، وقيمة عروض وجواهر وغيرها نحو ألف كيس.

وفيه أرسل إبراهيم بك فجمع الأعيان والوجاقلية، وأبرز لهم فرمانات وجدوها عند الدفتردار المقتول، مضمونها تقريرات مظالم، منها أن المماليك المصرلية كانوا أحدثوا على الغلال التي تباع إلى «بحر برا» عن كل أردب محبوب، فيقرر ذلك بحيث يتحصل من ذلك للخزينة العامرة عشرة آلاف كيس في السنة، فإن نقصت عن ذلك القدر أضر ذلك بالخزينة.

ومنها تقرير المليون، الذي كان قرره الفرنسيس على أهالي مصر في آخر مدتهم، ويوزع ذلك على الرووس والدور والعقار والأملاك، ومنها أن الحلوان عن المحلول تلات سنوات، ومنها أنه يحسب المضاف والبراني إلى ميري البلاد وغير ذلك.

وفي يوم الخميس ثاني عشره عمل عثمان بك البرديسي عزومة بقصر العيني، وحضر إبراهيم بك والأمراء ومحمد علي سرششمه ورفاقه، وبعد انقضا العزومة ألبسوا محمد علي ورفاقه خلعًا، وقدموا لهم تقادم.

وفي يوم الجمعة كذلك عملوا عزومة لابن أخي طاهر باشا المقيم بالقلعة وصحبته عايدي بك ورفقاهم بقصر العيني، وخلعوا عليهم وقدموا لهم تقادم أيضًا.

وفي يوم الأحد خامس عشره نزل ابن أخي طاهر باشا من القلعة ومن معه من أكابر الأرنؤد وأعيانهم وعساكرهم بعزالهم ومتاعهم، وما جمعوه من المنهوبات، وهو شي كثير جدًّا، وسلموا القلعة إلى الأمرا المصرلية، وطلع أحمد بك الكلارجي إلى باب الإنكشارية وأقام به، وعبد الرحمن بك إبراهيم إلى باب العزب، وسليم أغا مستحفظان إلى القصر، فعند ذلك اطمأن الناس بنزولهم من القلعة، فإنهم كانوا على تخوف من إقامتهم بها، وكثر فيهم اللغط بسبب ذلك، فلم يزل الأمرا يدبرون أمرهم حتى أنزلوهم منها، وبقي بها طايفة من الأرنؤد، وعليهم كبير يقال له حسين قبطان.

وفيه ورد الخبر أن محمد باشا لما قربت منه العساكر التي كان أرسلها له طاهر باشا ارتحل إلى دمياط كما تقدم.

وفي يوم الاتنين وردت مكاتبات من الديار الحجازية مؤرخة في منتصف محرم، وفيها الأخبار باستيلا الوهابيين على مكة في يوم عاشورا، وأن الشريف غالب أحرق داره وارتحل إلى جدة، وأن الحجاج أقاموا بمكة ثمانية أيام زيادة عن المعتاد؛ بسبب الارتباط قبل حصول الوهابيين بمكة ومراعاةً للشريف، حتى نقل متاعه إلى جدة، ثم ارتحل الحجاج وخرجوا من مكة طالبين زيارة المدينة، فدخل الوهابيون بعد ارتحال الحج بيومين.

وفي يوم الأربع ثامن عشره أخرجوا باقي الإنكشارية والدلاة والسجمان، وكانوا مجتمعين بمصر القديمة، فتضرر منهم المارة وأهل تلك الجهة بسبب قبايحهم وخطفهم أمتعة الناس بل وقتلهم، وكان تجمعهم على أن يذهبوا إلى جهة الصعيد، ويلتفون على حسن باشا بجرجا وينضمون إليه وإلى من بناحية الصعيد من أجناسهم، فذهب منهم من أخبر الأمرا المصرلية بذلك، فضبطوا عليهم الطرق، واتفق أن جماعة منهم وقفوا لبعض الفلاحين المارين بالبطيخ والخضار فحجزوهم، وطلبوا منهم دراهم فمر بهم بعض مماليك من أتباع البرديسي، فاستجار بهم الفلاحون، فكلموهم فتشاحنوا معهم، وسحبوا على بعضهم السلاح، فقتل مملوك منهم فذهبوا إلى سيدهم وأعلموه، فأرسل إلى إبراهيم بك فركب إلى العرضي ناحية بولاق التكرور، وترك مكانه بقصر الجيزة محمد بك بشتك وكيل الألفي، وشركوا عليهم الطرق وأمروهم بالركوب والخروج من مصر إلى جهة الشام واللحوق بجماعتهم، فركبوا من هناك ومروا على ناحية الجبل من خلف القلعة إلى جهة العادلية وأمامهم وخلفهم بعض الأمرا المصرلية، ومعهم مدفعان وهم نحو ألف وخمسماية وأزيد، فلما خرجوا وتوسطوا البرية عروا الكثير منهم ومن المتخلفين والمتأخرين عنهم، وأخذوا أسلحتهم وقتلوا كثيرًا منهم ورجع المماليك ومعهم الكثير من بنادقهم وسلاحهم يحملونه معهم ومع خدامهم، فلما رجع المماليك بهذه الصورة ووقف العسكر الأرنؤدية على أبواب المدينة انزعج الناس كعادتهم في كرشاتهم، وأغلقوا الدكاكين وعين للسفر معهم حسين كاشف الألفي يذهب معهم إلى القنطرة، ونودي في عصريته بالأمان وخروج من تخلف من الإنكشارية، وكل من وجد منهم بعد تلاتة أيام فدمه وماله هدر.

وفي يوم الخميس مر الوالي والمناداة أمامه على الأتراك والإنكشارية والبشتاق والسجمان بالخروج من مصر، والتحذير لمن آواهم أو تاواهم، وكلما صادف في طريقه شخصًا من الأتراك قبض عليه، وسأله عن تخلفه فيقول: أنا من المتسببين والمتأهلين من زمان بمصر. فيطلب منه بينة على ذلك ويستلمه عسكر الأرنؤد، فيُودِعونه في مكان مع أمثاله حتى يتحققوا أمره.

وفيه مر بعض المماليك بجهة الميدان ناحية باب الشعرية، فصادفوا جماعة من العسكر المذكورين يحملون متاعًا لهم، فاشتَكلوا بهم، وأرادوا أخذ سلاحهم ومتاعهم، فمانعوهم وتضاربوا معهم، فقتل بينهم شخصان من الإنكشارية وشخصان من المماليك، أحدهما فرنساوي.

وفيه حضر أيضًا تلاتة من المماليك إلى وكالة الصاغة إلى رجل رومي ططري، وسألوه عن جوارٍ سود عنده لمحمد باشا، وأنهم يطلبونهن لعثمان بك البرديسي، فأنكر ذلك، وشهد جيرانه أنهن ملكه واشتراهن ليتَّجر فيهن، فلم يزالوا حتى أخذوا منه تلاتة على سوم الشرا، وذهب معهن، فلما بعدوا عن الجهة فزعوا عليه وطردوه، وذهبوا بالجواري، فذهب ذلك الططري إلى محمد علي، فأرسل إلى البرديسي ورقة بطلب الجواري أو ثمنهن، ففحص عنهن حتى ردهن إلى صاحبهن.

وفيه حضر أيضًا جماعة من المماليك إلى بيت عثمان أفندي بجوار ضريح الشيخ الشعراني، وهو من كتبة ديوان محمد باشا، فأخذوا خيله وسلاحه ومتاعه التي بأسفل الدار.

وفي يوم الجمعة نهبوا أيضًا دار أحمد أفندي الذي كان شهر حوالة وكاشف الشرقية في العام الماضي، فأخذوا جميع ما عنده حتى ثيابه التي على بدنه، وقتلوا خادمه على باب داره قتله الوالي زاعمًا أنه هو الذي دل عليه.

وفي يوم السبت مر سليم أغا وأمامه المناداة على الأغراب الشوام والحلبية والرومية، يجتمعون بالجمالية يوم تاريخه فلم يجتمع منهم أحد.

وفي يوم الأحد حضر الشريف عبد الله بن سرور، وصحبته بعض أقاربه من شرفا مكة وأتباعهم نحو ستين نفرًا، وأخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحجاج، وأن عبد العزيز بن مسعود الوهابي دخل إلى مكة من غير حرب، وولى الشريف عبد المعين أميرًا على مكة، والشيخ عقيل قاضيًا، وأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي أعلى من الكعبة، وذلك بعد أن عقد مجلسًا بالحرم وباحثهم على ما الناس عليه من البدع والمحرمات المخالفة للكتاب والسنة، وأخبروا أن الشريف غالب وشريف باشا ذهبا إلى جدة وتحصنا بها، وأنهم فارقوا الحجاج في الجديدة.

وفيه كتبوا عرضحالين أحدهما بصورة ما وقع لمحمد باشا مع العساكر، ثم قيام الإنكشارية وقتلهم لطاهر باشا، ثم كرَّة الأرنؤد على الإنكشارية لما أثاروا الفتنة مع أحمد باشا حتى اختلت أحوال المدينة، وكاد يعمها الخراب لولا قرب الأمرا المصرلية وحضورهم، فسكنوا الفتنة، وكفوا أيدي المتعدين، والثاني يتضمن رفع الإحداثات التي في ضمن الأوامر التي كانت مع الدفتردار التي تقدمت الإشارة إليها.

وفيه عزم الأمرا على التوجه إلى جهة بحري، فقصد البرديسي وصحبته محمد بك تابع محمد بك المنفوخ جهة دمياط، ومعهم محمد علي وعلي بك أيوب وغيرهم وصحبتهم الجم الكثير من العساكر والعربان، ولم يتخلف إلا إبراهيم بك وأتباعه والحكام وسافر سليمان كاشف البواب إلى جهة رشيد وصحبته عساكر أيضًا.

وفي يوم التلات عدى الكثير إلى البر الشرقي.

وفي يوم الأربع خامس عشرينه قدم جاويش الحجاج بمكاتيب العقبة، وأخبروا بموت الكثير من الناس بالحمى والإسهال، وحصل لهم تعب شديد من الغلا أيضًا ذهابًا وإيابًا، ومات الشيخ أحمد العريشي الحنفي، ودُفن بنبط، ومات أيضًا محمد أفندي باش جاجرت ودُفن بالينبع، والشيخ علي الخياط الشافعي.

وفيه عدى إبراهيم بك إلى قصر العيني، وركب مع البرديسي إلى جهة الحلي، وودعه ورجع إلى قصر العيني فأقام به، وجلس ابنه مرزوق بك في مضرب النشاب واستمر وكيل الألفي مقيمًا بقصر الجيزة.

وفيه وردت الأخبار بأن محمد باشا لما ارتحل من المنصورة إلى دمياط، أبقى بفارسكور إبراهيم باشا ومملوكه سليم كاشف المنوفية بعدة من العسكر فتحصنوا بها، فلما حضر إليهم حسن بك أخو طاهر باشا بالعساكر تحاربوا معهم، وملكوا منهم فارسكور؛ فنهبوها وأحرقوها وفسقوا بنساها وفعلوا ما لا خير فيه، وقُتل سليم كاشف المنوفية المذكور أيضًا، ثم إن بعض أكابر العسكر المنهزمين أرسل إلى حسن بك يطلب منه أمانًا، وكان ذلك خديعة منهم فأرسل لهم أمانًا فحضروا إليه، وانضموا لعسكره وسهلوا له أمر محمد باشا، وأنه في قلة وضعف، وهم مع ذلك يراسلون أصحابهم، ويشيرون عليهم بالعود والتثبت إلى أن عادوا وتأهبوا للحرب ثانيًا، وخرج إليهم حسن بك بعساكره وخلفه المنضافون إليه من أوليك، فلما أن نشبت الحرب بينهم أخذوهم مواسطة فأثخنوهم، ووقعت فيهم مقتلة عظيمة، وانهزموا إلى فارسكور فتلقاهم أهل البلدة وكملوا قتلهم، ونزلوا عليهم بالنبابيت والمساوق والحجارة جزا لما فعلوه معهم حتى اشتفوا منهم، ولم ينجُ منهم إلا من كان في عزوة أو هرب إلى جهة أخرى، وحضر الكثير منهم إلى مصر في أسوأ حال.

وفي يوم الجمعة والسبت حضر الكثير من حجاج المغاربة، وصحبتهم مصاروة وفلاحون كثيرة.

وفيه حضرت مكاتبة من الديار الرومية على يد شخص يُسمَّى صالح أفندي إلى إسكندرية، فأرسل خورشيد أفندي حاكم إسكندرية يستأذن في حضوره بمكاتبة على يد «راشته» قنصل النيمسا، فذهب «راشته» إلى إبراهيم بك، وأخبره وأطلعه على المكتوب الذي حضر له، فبعد ساعة وصل الخبر بوصول صالح أفندي المذكور إلى بولاق، فأرسل إبراهيم بك رضوان كتخدا وأحمد بك الأرنؤدي، وأمرهما بأن يأخذا ما معه من الأوراق ويأمراه بالرجوع بغير مهلة ولا يدعاه يطلع إلى البر؛ ففعلا ذلك.

ومضمون ما في تلك الأوراق خطاب لطاهر باشا، وأنه بلغنا ما حصل من محمد باشا من الجور والظلم وقطع علوفات العسكر، وأنهم قاموا عليه وأخرجوه، وهذه عادة العساكر إذا انقطعت علوفاتهم، وأننا وجهنا له ولاية سنانيك، وأن طاهر باشا يستمر على المحافظة، وأحمد باشا قايمقام إلى أن يأتي المتولي، وخطاب لمحمد باشا بمعنى ذلك.

والسر في تقليد أحمد باشا قايمقام دون طاهر باشا أن طاهر باشا أرنؤدي، وليس له إلا طوخان، ومن قواعدهم القديمة أنهم لا يقلدون الأرنؤدي تلاتة أطواخ أبدًا.

وفي يوم السبت المذكور دخل الكثير من الحجاج آخر النهار وفي الليل.

وفي يوم الأحد دخل الجم الغفير من الحجاج، ومات الكثير من الداخلين في ذلك اليوم، وكثير مرضى وحصل لهم مشقة عظيمة وشوب وغلا، وخصوصًا بعد مجاوزتهم العقبة، وبلغت الشربة الماء دينارًا، والبطيخة دينارين، وكان حجاج كثير وأكثرهم أوباش الناس من الفلاحين والنسا وغير ذلك.

وخرج سليم أغا مستحفظان وصحبته جماعة من الإنكشارية والكشاف والأجناد والعسكر، فاستلموا المحمل من أمير الحاج وأمروه أن لا يدخل المدينة، بل يقيم بالبركة حتى يحاسبوه، ويسافر بمن معه من العسكر إلى جهة الشام.

ثم رجعوا بالمحمل ودخلوا به المدينة وقت الظهر على خلاف العادة، وحضر صحبة الحجاج كثير من أهل مكة هروبًا من الوهابي.

ولغط الناس في خبر الوهابي واختلفوا فيه؛ فمنهم من يجعله خارجيًّا وكافرًا وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم، ومنهم من يقول بخلاف ذلك لخلو غرضه، وأرسل إلى شيخ الركب المغربي كتابًا ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته وصورتها:

بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يُطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصِ الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه ولن يضر اللهَ شيًّا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد؛ فقد قال الله تعالى: قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا، وقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فأخبر — سبحانه — أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله وأمرنا بلزوم ما أُنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف، وقال تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ، وقال تعالى: وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

والرسول قد أخبرنا بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟»

وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. إذا عُرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعدا، وقضا الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات.

وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدايد وجلب الفوايد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله، وصرف شي من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها؛ لأنه — سبحانه وتعالى — أغنى الأغنيا عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا كما قال تعالى: فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ.

فأخبر — سبحانه — أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملايكة والأنبيا والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار.

وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسايط سألهم الشفاعة، فقد عبدهم وأشرك بهم؛ وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وقال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ، وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا.

وهو — سبحانه وتعالى — لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، فالشفاعة حق، ولا تُطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا، وقال تعالى: وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ، فإذا كان الرسول — وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله — لا يشفع ابتداءً، بل يأتي فيخر لله ساجدًا فيحمده بمحامد يُعلمه إياها، ثم يُقال: ارفع رأسك وسلْ تُعطَ واشفع تُشفَّع؛ ثم يحد له حدًّا فيدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبيا والأوليا.

وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علما المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين، والأيمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهاجهم.

وأما ما حدث من سوال الأنبيا والأوليا من الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببنا القباب عليها، وإسراجها والصلاة عندها، واتخاذها أعيادًا وجعْل السدنة والنذور لها — فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي أمته وحذر منها، كما في الحديث عنه أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان.»

وهو حمى جناب التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك؛ فنهى أن يجصص القبر وأن يُبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضًا أنه بعث عليَّ بن أبي طالب — رضي الله عنه — وأمره لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه، ولا تمثالًا إلا طمسه.

ولهذا قال غير واحد من العلما: يجب هدم القباب المبنية على القبور؛ لأنها أُسست على معصية الرسول ، فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفَّرونا وقاتلونا واستحلوا دمانا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأمة، ممتثلين لقوله — سبحانه وتعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ.

فمن لم يُجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.

وندعو الناس إلى إقامة الصلوات في الجماعات على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به؛ فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا، ونعتقد أيضًا أن أمة محمد المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طايفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. أقول: إن كان كذلك فهذا ما ندين الله به نحن أيضًا، وهو خلاصة لباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين.

وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان، والحافظ المقريزي في تجريد التوحيد والإمام اليوسي في شرح الكبرى، وشرح الحكم لابن عباد، وكتاب جمع الفضايل وقمع الرذايل، وكتاب مصايد الشيطان وغير ذلك. انتهى.

وفي ذلك اليوم نُودي على المتخلفين من الإنكشارية بالسفر صحبة أمير الحاج، وقبضوا على أنفار منهم وأخرجوهم، ومنعوا أيضًا حجاج المغاربة من الدخول إلى المدينة، ومن دخل منهم لأجل حاجة فليدخل من غير سلاح، فذهبوا إلى بولاق وأقاموا هناك.

وفي يوم الاتنين مر الوالي بناحية الجمالية، فوجد إنسانًا من أكابر غزة يُسمَّى علي أغا شعبان حضر إلى مصر من جملة من حضر مع العرضي، وكان مهندسًا في عمارة الباشا، ثم عُين لسد ترعة الفرعونية لمعرفته بأمور الهندسة، فوجده جالسًا على دكان يتنزه حصة وفرسه وخدمه وقوف أمامه، فطلبه وأمره بالركوب معه فركب وذهب صحبته، فكان آخر العهد به، وكان في جيبه ألف دينار ذهبًا بإخبار أخيه خلاف الورق، فأخذ ثيابه وفرسه وما معه وخنقه وأخفى أمره وأنكره وكان رجلًا لا بأس به.

شهر ربيع الأول (سنة ١٢١٨)

استهل بيوم التلات، وفي يوم السبت خامسه سافر أحمد باشا والعساكر الإنكشارية الذين جمعوهم من المدينة، وسافر صحبتهم من العساكر الذين كانوا صحبة أمير الحاج، والجميع كانوا نحو ألفين وخمسماية، وأما أمير الحاج فإنهم عفوا عنه من السفر ودخل المدينة بخاصته.

وفي هذا اليوم حضر علي كتخدا من جهة قبلي، وهو كتخدا حسن باشا والي جرجا ومعه مكاتبة إلى الأمرا المصرلية، وإنه وصل إلى أسيوط فكتبوا له أمانًا بالحضور إلى مصر بمن معه من العسكر، ورجع علي كتخدا بذلك في ثاني يومه فقط.

وفيه ورد الخبر بوصول أنجد بك إلى ثغر دمياط بالريالة إلى محمد باشا.

وفي يوم الأربع تاسعه سافر الشريف عبد الله بن سرور إلى إسكندرية متوجهًا إلى إسلامبول، وأنعم عليه إبراهيم بك بخمسين ألف فضة.

وفي يوم الجمعة كان المولد النبوي، ونادوا بفتح الدكاكين ووقود القناديل؛ فأوقدت الأسواق تلك الليلة والليلة التي قبلها، ولكن دون ذلك، وأما الأزبكية فلم يعمل بها وقدة إلا قبالة بيت البكري لاستيلا الخراب عليها.

وفي تاني عشره سفروا جبخانة وجللًا وبارودًا إلى جهة بحري، وأُشيع بأن كثيرًا من العسكر المصحوبين بالتجريدة ذهبوا إلى محمد باشا، وكذلك طايفة من الإنكشارية المطرودين الذين خلصوا إلى طريق دمياط.

وفي يوم الأربع سادس عشره وردت مكاتبات من عثمان بك البرديسي بالخبر بوقوع الحرب بينهم وبين محمد باشا وعساكره.

وفي يوم الاتنين رابع عشره وقع بين الفريقين مقتلة عظيمة، وكانوا ملكوا منه متاريس القنطرة البيضا قبل ذلك، ثم هجم المصريون في ذلك اليوم عليهم هجمة عظيمة وكبسوا على دمياط بمخامرة بعض رؤسا عساكر الباشا، وفتكوا في عسكر الباشا بالقتل، وقُتلت خواصه وأتباعه، وقُتل حسين كتخدا شنن، ومصطفى أغات التبديل، ونهبوا دمياط وأسروا النسا، وافتضوا الأبكار وأخذوهم أسرى، وصاروا يبيعونهم على بعضهم، وفعلوا أفعالًا شنيعة من الفسق والفجور، وأخذوا حتى ما على أجساد الناس من الثياب، ونهبوا الخانات والبيوت والوكايل وجميع أسباب التجار التي بها من أصناف البضايع الشامية والرومية والمصرية، وكان شيًّا كثيرًا يفوق الحصر، وما بالمراكب حتى بيع الفرد الأرز الذي هو نصف أردب بثلاثة عشر نصفًا وقيمته ألف نصف، والكيس الحرير الذي قيمته خمسماية ريال بريالين إلى غير ذلك، والأمر لله وحده.

والتجأ الباشا إلى القرية وتترس بها، فأحاطوا به من كل جهة؛ فطلب الأمان فأمنوه فنزل من القرية وحضر إلى البرديسي وخطف عمامته بعض العسكر، ولما رآه البرديسي ترجل عن مركوبه إليه وتمنَّى بالسلام عليه، وألبسه عمامة وأنزله في خيمة بجانب خيمته متحفظًا به.

ولما وصل الخبر بذلك إلى مصر ضربوا مدافع كثيرة من قصر العيني والقلعة والجيزة ومصر العتيقة، واستمر ذلك ثلاثة أيام بلياليها في كل وقت.

وفي عصريتها حضر جوخدار البرديسي وهو الذي قتل حسين أغا شنن، وحكى بصورة الحال فألبسه إبراهيم بك فروة، وأنعم عليه ببلاد المقتول وبيته وزوجته وأملاكه، وجعله كاشف الغربية، وذهب إلى وكيل الألفي أيضًا فخلع عليه فروة سمور، وصار يبدر الذهب في حال ركوبه.

وفي يوم الجمعة ذهب المذكور إلى مقام الإمام الشافعي، وأرخى لحيته على عادتهم التي سنها السدنة ليعفيها بعد ذلك من الحلق.

وفي ذلك اليوم عمل إبراهيم بك ديوانًا ببيت ابنته بدرب الجماميز، وحضر القاضي والمشايخ ولبس خلعة وتولى قايمقام مصر، وضربت في بيته النوبة التركية.

وفي عشرينه ورد الخبر بوصول علي باشا الطرابلسي إلى إسكندرية واليًا على مصر عوضًا عن محمد باشا، وحضر منه فرمان خطابًا للأمرا يُعلِمهم بوصوله، ويذكر لهم أنه متولًّى على الأقطار المصرية عوضًا عن محمد باشا من إسكندرية إلى أسوان (ولم يبلغ الدولة موت طاهر باشا ولا دخولكم إلى مصر) ومعنا أوامر لطاهر باشا وأحمد باشا أنهم يتوجهون بالعساكر إلى الحجاز؛ بسبب الوهابيين. فلما وصلنا إلى إسكندرية بلغنا موت طاهر باشا وحضوركم إلى المدينة بمعاونة الأرنؤدية، وقتْل رجال الدولة والإنكشارية وقتْل من معهم، وإخراج من بقي على غير صورة إلى غير ذلك، وهذا غير مناسب ولا نرضى لكم بهذا على هذا الوجه؛ فإننا نحب لكم الخير، ولنا معكم عِشرة سابقة ومحبة أكيدة، ونطلب راحتكم في أوطانكم ونسعى لكم فيها على وجه جميل، وكان المناسب أن لا تدخلوا المدينة إلا بإذن الدولة؛ فإن تظاهركم بالخلاف والعصيان مما يوجب لكم عدم الراحة؛ فإن سيف السلطنة طويل، فربما استعان السلطان عليكم ببعض المخالفين الذين لا طاقة لكم بهم.

ثم قال لهم في ضمن ذلك: إن لنا معكم بعض كلام لا يحتمله الكتاب، وعن قريب يأتيكم اثنان من طرفنا عاقلان تعملون معهما مشاورة.

فكتبوا له جوابًا حاصله أن محمد باشا لما كان متوليًا لم نزلْ نترجى مراحمه، وهو لا يزداد معنا إلا قسوة ولا يسمح لنا بالإقامة بالقطر المصري جملة، وجرد علينا التجاريد والعساكر من كل جهة، وينصرنا الله عليه في كل مرة إلى أن حصل بينه وبين عساكره وحشة بسبب جماكيهم وعلوفاتهم؛ فقاموا عليه وحاربوه وأخرجوه من مصر بمعونة طاهر باشا، ثم قامت الإنكشارية على طاهر باشا وقتلوه ظلمًا، وقامت العساكر على بعضهم البعض.

وكنا حضرنا إلى جهة الجيزة باستدعاء طاهر باشا، فلما قُتل طاهر باشا بقيت المدينة رعية من غير راعٍ، وخافت الرعية من جور العساكر وتعديهم، فحضر إلينا المشايخ والعلما واختيارية الوجاقلية واستغاثوا بنا، فأرسلنا من عندنا من ضبط العساكر وأمن المدينة والرعية، وأما محمد باشا فإنه نزل إلى دمياط وظلم البلاد والعباد، وفرد عليها الفرد الشاقة وحرقها؛ فتوجه عثمان بك البرديسي لتأمين أهالي القرى إلى أن وصل إلى ظاهر دمياط، فأقام بمن معه خارج المدينة فما يشعر إلا ومحمد باشا صدمهم ليلًا وحاربهم فحاربوه، فنصرهم الله عليه وانهزمت عساكره وقبض عليه، وهو الآن عندنا في الإعزاز والإكرام، ونحن الآن على ذلك حتى يأتينا العفو.

وأما قولكم: إننا نخرج من مصر، فهذا لا يمكن ولا تطاوعنا جماعتنا وعساكرنا على الخروج من أوطانهم بعد استقرارهم فيها، وأما قولكم: إن حضرة السلطان يستعين علينا ببعض المخالفين، فإننا لا نستعين إلا بالله، وإننا أرسلنا عرضحال نطلب العفو ونترجى الرضا، ومنتظرون الجواب.

وفي تاني عشرينه حضر واحد أغا ومعه آخر؛ فضربوا له مدافع وعملوا ديوانًا، وتكلم معهم وتكلم المشايخ الحاضرون في ظلم العثمانيين وما أحدثوه من مظالم والمكوس، واتفقوا على كتابة عرضحال إلى الباشا؛ فكتبوا ذلك وأمضوا عليه، ونادوا في الأسواق برفع ما أحدثه الفرنساوية والعثمانية من المظالم وزيادة المكوس، ودفعوا إلى الأغا الواصل ألف ريال حق طريقه وسافر.

وفيه وصل الخبر بأن سليمان كاشف لما وصل إلى رشيد وبها جماعة من العثمانية وحاكمها إبراهيم أفندي، فلما بلغه وصول سليمان كاشف أخلى له البلد وتحصَّن في برج مغيزل، فعبر سليمان كاشف إلى البلد.

وخرج يحاصر إبراهيم أفندي، فهم على ذلك وإذا بالسيد علي باشا القبطان وصل إلى رشيد، وأرسل إلى سليمان كاشف يُعلِمه بحضوره وحضور علي باشا القبطان وَالي مصر، ويقول: ما هذا الحصار؟ فقال له: نحن نقاتل كل من كان من طرف حسين قبطان باشا، وأما ما كان من طرف الوزير يوسف باشا فلا نقاتله، وارتحل من رشيد إلى الرحمانية، ودخل السيد علي القبطان إلى رشيد.

وفي تالت عشرينه سافر جوخدار البرديسي إلى ولاية الغربية، وكان شاهين كاشف المرادي هناك يجمع الفردة، وتوجه إلى طنتدا وعمل على أولاد الخادم تمانين ألف ريال، فحضروا إلى مصر ومعهم مفاتيح مقام سيدي أحمد البدوي هاربين، وتشكَّوا وتظلَّموا وقالوا لإبراهيم بك: لم يبقَ عندنا شي؛ فإن الفرنساوية نهبونا وأخذوا أموالنا، ثم إن محمد باشا أرسل المحروقي فحفر دارنا، وأخذ منا نحو تلتماية ألف ريال، ولم يبقَ عندنا شي جملة كافية.

وفي يوم الاتنين تاسع عشرينه وصل محمد باشا إلى ساحل بولاق وصحبته المحافظون عليه، وهم جماعة من عسكر الأرنؤد الذين كانوا سابقًا في خدمته وجماعة من الأجناد المصرلية، ولم يكن معه من أتباعه إلا ستة مماليك فقط، فإن مماليكه المختصين به اختار منهم البرديسي من اختاره، واقتسم باقيهم الأرنؤد، ومنهم من يخدم الأرنؤد المحافظين عليه.

ووافق أن ذلك اليوم كان جمع سيدي أحمد البدوي ببولاق على العادة، فنصبوا له خيمة لطيفة بساحل البحر وطلع إليها فرأى جمع الناس، فظن أنهم اجتمعوا للفرجة عليه فقال: ما هذا؟ فأخبروه بصورة الحال.

وكان إبراهيم بك في ذلك اليوم حضر إلى بولاق، ودخل إلى بيت السيد عمر نقيب الأشراف باستدعا، فجلس عنده ساعة، ثم ركب إلى ديوان بولاق فنزل هناك ساعة أيضًا، ثم ركب إلى بيته بحارة عابدين، فلما وصل الباشا كما ذكر حضر إليه سليم كاشف المحرمجي وأركبه حصانًا، وركب مماليكه حميرًا وذهبوا به إلى بيت إبراهيم بك بحارة عابدين، فوجدوا إبراهيم بك طلع إلى الحريم، فلم ينزل إليه ولم يقابله؛ فرجع به سليم كاشف إلى بيت حسن كاشف جركس — وهو بيت البرديسي — فبات به.

فلما كان في الصباح، ركب إبراهيم بك إلى قصر العيني، فركب المحرمجي، وأخذ معه الباشا وذهب به إلى قصر العيني، فقابل إبراهيم بك هناك وسلَّم عليه، وحضر الألفي وباقي الأمرا بجموعهم وخيولهم، فترامحوا تحت القصر وتسابقوا ولعبوا بالجريد.

ثم طلع أكابرهم إلى أعلى القصر، فصاروا يُقبِّلون يد إبراهيم بك والباشا جالس، حتى تحلقوا حواليهما، ثم إن إبراهيم بك قدم له حصانًا وقام وركب مع المحرمجي إلى بيت حسن كاشف بالناصرية؛ فسبحان المعز المذل القهار!

وفي تاني يوم غايته ركب إبراهيم بك والألفي وذهبا إلى الباشا وسلَّما عليه في بيت البرديسي، وهادياه بثياب وأمتعة، وبعد أن كانوا يترجون عفوه ويتمنون الرضا منه ويكونوا تحت حكمه، صار هو يترجى عفوهم ويؤمل وفدهم وإحسانهم، وبقي تحت حكمهم؛ فالعياذ بالله من زوال النعم وقهر الرجال.

شهر ربيع الثاني (سنة ١٢١٨)

استهل بيوم الأربع، في تانيه ضربت مدافع كثيرة بسبب إقامة بنديرة الإنكليز بمصر.

وفيه عدى البرديسي من المنصورة إلى البر الغربي متوجهًا إلى جهة رشيد.

وفي يوم السبت رابعه وردت هجانة من ناحية الينبع، وأخبروا أن الوهابيين جلوا عن جدة ومكة؛ بسبب أنهم جاتهم أخبار بأن العجم زحفوا على بلادهم الدرعية وملكوا بعضها، والأوراق فيها خطاب من شريف باشا وشريف مكة لطاهر باشا على ظن حياته.

وفي يوم الاتنين نادى الأغا والوالي بالأسواق على العثمانية والأتراك والأغراب من الشوام والحلبية بالسفر والخروج من مصر، فكل من وُجد بعد تلاتة أيام فدمه هدر، وأمروا عثمان بك أمير الحاج بالسفر على جهة الشام من البر، ويسافر المنادلي عليهم صحبته، وكذلك إبراهيم باشا.

وفي يوم الأربع خرج عثمان بك إلى جهة العادلية، وخرج الكثير من أعيان العثمانية معه، وتتابع خروجهم في كل يوم، وصاروا يبيعون متاعهم وثيابهم وهم خزايا حيارى في أسوأ حال، وأكثرهم متأهل ومتزوج، ومنهم من نُهب وسُلب وصار لا يملك شيًّا، فلما تكامل خروجهم وسافروا في عاشره وهم زيادة عن ألفين وبقي منهم أناس، التجوا إلى بعض المصرلية والإنكليز وانتموا إليهم.

وفيه وصلت الأخبار بأن البرديسي وصل إلى رشيد، وأن السيد علي باشا ريس القبطانية تحصن ببرج مغيزل، وغالب أهلها جلا عنها خوفًا من مثل حادثة دمياط، ولما دخل عثمان بك البرديسي إلى رشيد فرد على أهلها مبلغ دراهم، يقال: ثمانين ألف ريال.

وفي تالت عشره حضر قنصل الفرنسيس فعملوا له شنكًا ومدافع، وأركبوه من بولاق بموكب جليل، وقدامه أغات الإنكشارية والوالي وأكابر الكشاف وحسين كاشف المعروف بالإفرنجي، وعساكره الذين مثل عسكر الفرنسيس، وهيئته لم يتقدم مثلها بين المسلمين، ونصب بنديرته في بركة الأزبكية من ناحية قنطرة الدكة على صاري طويل مرتفع في الهوا، واجتمع إليه كثير من النصارى الشوام والأقباط، وعملوا جمعيات وولايم وازدحموا على بابه، وحضر صحبته كثير من الذين هربوا عند دخول المسلمين مع الوزير، وكان المحتفل بذلك حسين كاشف الإفرنجي.

وفي ثامن عشره وصلت مكاتبة من البرديسي إلى إبراهيم بك يخبر فيها أنه لما وصل إلى رشيد وتحصن السيد علي باشا بالبرج، أَرسل إليه فبَعث له حسن بك قرابة علي باشا الطرابلسي الوالي، فتكلم معه وقال: ما المراد؟ إن كان حضرة الباشا واليًا على مصر فليأتِ على الشرط والقانون القديم، ويقيم معنا على الرحب والسعة، وإن كان خلاف ذلك فأخبرونا به إلى أن انتهى الكلام بيننا وبينه على مهلة تلاتة أيام، ورجع وانتظرنا بعد مُضِيِّ الميعاد بساعتين فلم يأتِنا منهم جواب؛ فضربنا عليهم في يوم واحد ماية وخمسين قنطارًا من البارود، وأنكم ترسلون لنا أعظم ما يكون عندكم من البنب والمدافع والبارود، فشهلوا المطلوب وأرسلوه في ثاني يوم صحبة حسين الإفرنجي، وتراسل الطلب خلفه ولحقوا به عدة أيام.

وفي عشرينه وصل حسن باشا الذي كان والي جرجا إلى مصر العتيقة، فركب إبراهيم بك للسلام عليه، وحضر الطبجية إلى جبخانته، فأخذوها وطلعوا بها إلى القلعة، وكذلك الجِمال أخذها الجَمَّالة والعسكر وذهبوا إلى رفقاهم الذين بمصر، وطولب بالمال واستمر بمصر العتيقة مستحفظًا به من كل ناحية.

وفي يوم السبت خامس عشرينه وقعت نادرة، وهي أن محمد باشا طلب من سليم كاشف المحرمجي أن يأذن له في أن يركب إلى خارج الناصرية بقصد التفسح، فأرسل سليم كاشف يستأذن إبراهيم بك في ذلك؛ فأذن له بأن يركب ويعمل رماحة، ثم يأتي إليه بقصر العيني فيتغدى عنده ثم يعود، وأوصى على ذبح أغنام، ويعملون له كبابًا وشوا، فأركبه سليم كاشف بمماليكه وعدة من مماليك المحرمجي وصحبته إبراهيم باشا، فلما ركب وخرج إلى خارج الناصرية أرسل جواده ورمحه، وتبعه مماليكه من خلفه؛ فظن المماليك المصرلية أنهم يعملون رماحة ومسابقة.

فلما غابوا عن أعينهم ساقوا خلفهم ولم يزالوا سايقين إلى الأزبكية وهو شاهر سيفه، وكذلك بقية الطاردين والمطرودين، فدخل إلى أحمد بك الأرنؤدي، وضرب بعض المماليك فرسه ببارودة فسقط، وذلك عند وصوله إلى بيت أحمد بك المذكور، ووصل الخبر إلى سليم كاشف، فركب على مثل ذلك بباقي أتباعه وهم شاهرون السيوف ورامحون الخيول، واتصل الخبر بإبراهيم بك فأمر الكشاف بالركوب، وأرسل إلى البواقي بالطلوع إلى القلعة، وحفظ أطارف البلد؛ فركب الجميع وتفرقوا رامحين وبأيديهم السيوف والبنادق، فانزعجت الناس وترامحوا وأغلقوا الحوانيت، واختلفت رواياتهم، وظنوا وقوع الشقاق بين الأرنؤد والمصرلية، وكذلك المماليك المصرلية أيقنوا ذلك، وطلع الكثير منهم إلى القلعة.

ولما دخل محمد باشا عند أحمد بك ومن معه من أكابر الأرنؤد، قاموا في وجهه ووبخوه بالكلام، وقبضوا عليه وعلى مماليكه، وأخذوا ما وجدوه معهم من الدراهم، وكان في جيب الباشا خاصة ألف وخمسماية دينار، وحضر سليم كاشف المحرمجي عند ذلك فسلموه له، فأركبه الباشا أكديشًا؛ لأن فرسه أصيب ببارودة من بعض المماليك اللاحقين به، وذلك عند وصوله إلى بيت أحمد بك، وركب معه أحمد بك أيضًا، وأخذوه إلى عند إبراهيم بك بقصر العيني، فخلع إبراهيم بك على أحمد بك فروة سمور، وقدم له حصانًا بسرجه، وسكنت الفتنة، ونعوذ بالله من الخذلان ومعاداة الزمان.

وفي يوم الأحد سادس عشرينه وردت الأخبار ومكاتبة من البرديسي بنصرتهم على العثمانية، واستيلاهم على برج رشيد بعد أن حاربوا عليه نيفًا وعشرين يومًا، وأسروا السيد علي القبطان وآخرين معه وعدة كثيرة من العسكر، وأرسلوهم إلى جهة الشرقية ليذهبوا على ناحية الشام بعد أن قُتل منهم من قُتل، فعند ذلك عملوا شنكًا وضربوا مدافع كثيرة، وكذلك في تاني يوم وتالت يوم.

وفي يوم الأربع تاسع عشرينه كسفت الشمس وقت الضحوة، وكان المنكسف تسعة أصابع وهو نحو التلتين، وأظلم الجو وابتداه الساعة واحدة وتمان دقايق ونصف، وتمام الانجلا في تالت ساعة وست عشرة دقيقة، وكان ذلك في أيام زيادة النيل. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

شهر جمادى الأولى (سنة ١٢١٨)

استهل بيوم الجمعة، في ثانيه الموافق الخامس عشر مسرى القبطي، وفا النيل سبعة عشر ذراعًا وكسر سد الخليج صبحها، بحضرة إبراهيم بك قايمقام والقاضي، وجرى الماء في الخليج على العادة، وفيه وردت الأخبار بأن علي باشا كسر السد الذي ناحية أبي قير الحاجز على البحر المالح.

وهذا السد من قديم الزمان من السدود العظام المتينة السلطانية، وتتفقده الدول على ممر الأيام بالمرمة والعمارة إذا حصل به أدنى خلل، فلما اختلت الأحوال وأُهمل غالب الأمور وأسباب العمارات انشرم منه شرم؛ فسالت المياه المالحة على الأراضي والقرى التي بين رشيد وإسكندرية، وذلك من نحو ستة عشر عامًا، فلم يُتَدارَك أمره واستمر حاله يزيد وخرقه يتسع حتى انقطعت الطرق.

واستمر ذلك إلى واقعة الفرنسيس، فلما حضرت الإنكليز والعثمانية شرموه أيضًا من الناحية البحرية لأجل قطع الطرق على الفرنسيس؛ فسالت المياه المالحة على الأراضي إلى قريب دمنهور، واختلطت بخليج الأشرفية، وشرقت الأراضي وخربت القرى والبلاد، وتلفت المزارع، وانقطعت الطرق حول إسكندرية من البر.

وامتنع وصول ماء النيل إلى أهل إسكندرية، فلم يصل إليهم إلا ما يصلهم من جهة البحر في النقاير، أو ما خزنوه من مياه الأمطار بالصهاريج وبعض العيون المستعذبة، فلما استقر العثمانيون بمصر حضر شخص من طرف الدولة، ويسمى صالح أفندي معين لخصوص السد، وأحضر معه عدة مراكب بها أخشاب وآلات، وبذل الهمة والاجتهاد في سد الجسر.

فأقام العمل في ذلك نحو سنة ونصف حتى قارب الإتمام، وفرح الناس بذلك غاية الفرح، واستبشر أهل القرى والنواحي، فما هو إلا وقد حصلت هذه الحوادث وحضر علي باشا إلى الثغر، وخرج الأجناد المصرلية وحاربوا السيد علي باشا القبطان على برج رشيد؛ فخاف حضورهم إلى إسكندرية، ففتحه ثانيًا، ورجع التلف كما كان وذهب ما صنعه صالح أفندي المذكور في الفارغ، بعدما صرف عليه أموالًا عظيمة.

وأما أهل إسكندرية فإنهم جلوا عنها ونزل البعض في المراكب وسافر إلى أزمير، وبعضهم إلى قبرص ورودس والأضات وبعضهم اكترى بيوتًا بالأيام، وأقاموا بها على الثغر، ولم يبقَ بالبلدة إلا الفقرا والعواجز، والذين لا يجدون ما ينفقونه على الرحلة، وهم أيضًا مُستوفزون، وعمَّ بها الغلا لعدم الوارد وانقطاع الطرق، وقيل: إن علي باشا المذكور فرد عليهم مالًا وقبض على ستة أنفار من أغنيا المغاربة، واتهمهم أنهم كتبوا كتابًا للبرديسي يعدونه أنه إذا حضر يَدُلُّونه على جهة يملك منها البلد بمعونة عسكر المغاربة، فأخذ منهم ماية وخمسين كيسًا بشفاعة القبطان الذي في البيليك بالثغر.

واجتهد في حفر خندق حول البلد واستعملهم في ذلك الحفر، وفي عزمه أن يطلق فيه ماء البحر المالح، فإن فعل ذلك حصل به ضرر عظيم؛ فقد أخبر من له معرفة ودراية بالأمور أنه ربما خرب إقليم البحيرة بسبب ذلك، واجتهدوا أيضًا في تحصين المدينة زيادة عن فعل الفرنسيس والإنكليز.

وفي يوم السبت تاسعه وصل السيد علي القبطان إلى مصر، وطلع إلى قصر العيني، وقابل إبراهيم بك فخلع عليه فروة سمور، وقدم له حصانًا معددًا وأكرمه وعظمه، وأنزلوه عند علي بك أيوب، وأعطوه سرية بيضا وجارية حبشية وجاريتين سوداوين للخدمة، ورتبوا له ما يليق به وهو رجل جليل من عظما الناس وعقلائهم، وأخبر القادمون البرديسي والأجناد المصريين ارتحلوا من رشيد إلى دمنهور قاصدين الذهاب إلى إسكندرية، وأرسلوا بطلب ذخيرة وجبخانة ومماليك وعساكر.

وفيه أرادوا عمل فردة وأشيع بين الناس ذلك؛ فانزعجوا منه، واستمر الرجاء والخوف أيامًا ثم انحط الرأي على قبض مال الجهات ورفع المظالم والتحرير من البلاد والميري عن سنة تاريخه من الملتزمين، ويؤخذ من القبط ألف وأربعماية كيس، هذا مع توالي وتتابع الفرد والكلف على البلاد، حتى خرب الكثير من القرى والبلاد، وجلا أهلها عنها خصوصًا إقليم البحيرة، فإنه خرب عن آخره، ثم إن البرديسي استقر بدمنهور بعدما أبقى برشيد مملوكه يحيى بك ومعه جملة من العساكر، وكذلك بناحية البغاز وهم كانوا من وقت محاصرة البرج، حتى منعوا عنه الإمداد الذي أتاه من البحر، وكان ما كان، وشحن البرديسي برج مغيزل بالذخيرة والجبخانة، وأنزلوا، برشيد عدة فرد ومغارم، وفتحوا بيوت الراحلين عنها، ونهبوها وأخذوا أموالهم من الشوادر والحواصل والأخشاب والأحطاب والبن والأرز.

وقلَّت الأقوات فيهم والعليق؛ فعلفوا الدواب بشعير الأرز، بل والأرز المبيض وغير ذلك مما لا تضبطه الأقلام ولا تحيط به الأوهام.

وفي منتصف هذا الشهر في أيام النسيء نقص النيل نقصًا فاحشًا وانحدر من على الأراضي؛ فانزعج الناس وازدحموا على مشترى الغلال، وزاد سعرها ثم استمر يزيد قيراطًا وينقص قيراطين إلى أيام الصليب، وانْكبت الخلايق على شِرا الغلال، ومُنع الغني من شرا ما زاد على الأردب ونصف أردب، والفقير لا يأخذ إلا ويبة فأقل، ويمنعون الكيل بعد ساعتين، فتذهب الناس إلى ساحل بولاق ومصر القديمة، ويرجعون من غير شي، واستمر سليم أغا مستحفظان ينزل إلى بولاق في كل يوم.

وصار الأُمرا يأخذون الغلال القادمة بمراكبها قهرًا عن أصحابها، ويخزنوها لأنفسهم حتى قلت الغلة وعز وجودها في العرصات والسواحل، وقل الخبز من الأسواق والطوابين، وداخل الناس وَهْمٌ عظيم، وخصوصًا مع خراب البلاد بتوالي الفرد والمغارم، وعز وجود الشعير والتين، وبيعت الدواب والبهايم بالسعر الرخيص؛ بسبب قلة العلف، واجتمع بعض المشايخ وتشاوروا في الخروج إلى الاستسقا فلم يمكنهم ذلك لفقد شروطها، وذهبوا إلى إبراهيم بك وتكلموا معه في ذلك، فقال لهم: وأنا أحب ذلك، فقالوا له: وأين الشروط التي من جملتها رفع المظالم وردُّها والتوبة والإقلاع عن الذنوب وغير ذلك؟ فقال لهم: هذا أمر لا يمكن ولا يُتصوَّر ولا أقدر عليه ولا أحكم إلا على نفسي، فقالوا: إذًا نهاجر من مصر، فقال: وأنا معكم، ثم قاموا وذهبوا.

وفي أواخره وردت الأخبار برجوع البرديسي ومن معه من العساكر، وقد كان أشيع أنهم متوجهون إلى إسكندرية ثم ثنى عزمه عن ذلك لأمور:
  • الأول: وجود القحط فيهم وعدم الذخيرة والعلف.
  • والتاني: إلحاح العسكر بطلب جماكيهم المنكسرة، وما يأخذونه من المنهوبات لا يدخل في حساب جماكيهم.
  • والتالت: العجز عن أخذ إسكندرية لوعر الطريق وانقطاع الطرق بالمياه المالحة؛ فلو وصلوها وطال عليهم الحصار، لا يجدون ما يأكلون ولا ما يشربون.

واستهل شهر جمادى الثانية (سنة ١٢١٨) بيوم الأحد

في أوايله نقص ماء النيل، ووقف ماء الخليج، وازدحم السقايون على نقل الماء إلى الصهاريج والأسبلة ليلًا ونهارًا من الخليج، وقد تغير ماؤه بما يُصب فيه من الخرارات والمراحيض، ولم ينزل بالأراضي التي بين بولاق والقاهرة قطرة ماء، وزاد ضجيج الناس وارتفعت الغلات من السواحل والعرصات بالكلية؛ فكانت الفقرا من الرجال والنساء يذهبون بغلقانهم إلى السواحل، ويرجعون بلا شي وهم يبكون ويولولون.

وفي سادسه وصل البرديسي ومن معه من العساكر إلى بر الجيزة، وخرج الأُمرا وغيرهم وعدوا لملاقاتهم.

فلما أصبح يوم السبت عدى محمد علي والعساكر الأرنؤدية إلى بر مصر، وكذلك البرديسي، فخرجت إليهم الفقرا بمقاطفهم وغلقانهم، وعيَّطوا في وجوههم فوعدهم بخير، وأصبح البرديسي مجتهدًا في ذلك، وأرسل محمد علي وخازنداره ففتحوا الحواصل التي ببولاق ومصر العتيقة، وأخرجوا منها الغلال إلى السواحل، واجتمع العالم الكثير من الرجال والنسا، فأذنوا لكل شخص من الفقرا بوبية غلة لا غير؛ فكان الذي يريد الشرا يذهب إلى خازندار البرديسي، ويأخذ منه ورقة بعد المشقة والمزاحمة، ويذهب بها فيكيلون له، ويدفع ثمنها لصاحب الغلة، وما رتبوه عليها؛ فحصل للناس اطمينان.

واشترى الخبازون أيضًا وفتحوا الطوابين والمخابز، وخبزوا وباعوا فكثر الخبز والكعك بالأسواق، وجعلوا سعر القمح ستة ريال الأردب والفول خمسة ريال، وكذلك الشعير إن وجد.

وكان السعر لا ضابط له، منهم من كان يشتريه بثمانية وتسعة وسبعة خفية ممن توجد عنده الغلة في مصر أو الأرياف؛ فعند ذلك سكن روع الناس، واطمأنت نفوسهم وشبعت عيونهم، ودعوا لعثمان بك البرديسي.

وفي هذا الشهر تحقق الخبر بجلا الوهابي عن جدة ومكة ورجوعه إلى بلاده، وذلك بعد أن حاصر جدة وحاربها تسعة أيام وقطع عنها الماء، ثم رحل عنها وعن مكة ورجع الشريف غالب إلى مكة وصحبته شريف باشا، ورجع كل شي إلى حاله الأول ورد المكوس والمظالم.

وفي يوم الأحد (٨ جماد ثان) وصل البرديسي إلى بيته بالناصرية، وهو بيت حسن كاشف جركس وبيت قاسم بك، وقد فرشا له ونقلوا محمد باشا من بيت جركس إلى دار صغيرة بجواره وعليه الحرس.

وفي يوم الاتنين (٩ جماد ثان) عملوا ديوانًا عند إبراهيم بك، فاجتمع فيه هو والبرديسي والألفي وتشاوروا في أمر جامكية العسكر، فوزعوا على أنفسهم قدرًا وكذلك على باقي الأُمرا، والكشاف والأجناد كل منهم على قدر حاله في الإيراد والمراعاة، فمنهم من وُزِّع عليه عشرون كيسًا، ومنهم عشرة وخمسة واثنان وواحد ونصف واحد، وطلبوا من جمرك البهار قدرًا كبيرًا، فعملوا على كل فرقين ماية ريال، وفتحوا الحواصل وأخرجوا منها متاع الناس وباعوه بالبخس على ذلك الحساب وأصحابه ينظرون، وأخذوا ابن الحضارمة والينبعاوية، بحيث وقف الفرق البن بستة ريال على صاحبه، وأخذوا من ذلك الأصل ألف فرق بن، وأُخرجت من الحواصل وحُملت.

وفي يوم السبت رابع عشره أنزلوا فردة أيضًا على أهل البلد، ووزعوها على التجار وأرباب الحرف كل طايفة قدرًا من الأكياس خمسين فما دونها إلى عشرة وخمسة، وبثت الأعوان للمطالبة، فضج الناس وأغلقوا حوانيتهم، وطلبوا التخفيف بالشفاعات والرشوات للوسايط والنصارى؛ فخفف عن البعض.

وبعد منتصف الشهر انقلب الوضع المشروع في الغلة، وانعكس الحال إلى أمر شنيع، وهو أنهم سعروها كل أردب بستة ريال بظاهر الحال، ولا يبيع صاحب الغلة غلته إلا بإذن من القيِّم بعدما يأخذ منه نصف الغلة أو التلت أو الربع على حسب ضعفه وقوته من غير ثمن، وإذا أراد ذو الجاه الشرا ذهب أولًا سرًّا وقدم المصلحة والهدية إلى بيت القيِّم؛ فعند ذلك يؤذن له في مطلوبه، فيكيلون له الغلة ليلًا.

وصار يتأخر في حضوره إلى الساحل إلى قريب الظهر، فيذهب الناس والفقرا فينتظرونه، وإذا حضر ازدحموا عليه وتقدم أرباب المصانعات والوسايط فيؤذن لهم، ويؤخذ منهم عن كل أردب ريال يأخذها القيِّم لنفسه زيادة عن الثمن وعن الكلفة، وهي نحو الخمسين فضة خلاف الأجرة ويرجع الفقرا من غير شي.

وأطلقوا للمحتسب أن يأخذ كل يوم أربعماية أردب، منها مايتان للخبازين ومايتان توضع بالعرصات داخل البلد، فكان يأخذ ذلك إلى داره، ولا يضعون بالعرصات شيًّا، ويعطي للخبازين من المائتين خمسين أردبًّا أو ستين، ويبيع الباقي بأغراضه بما أحب من الثمن ليلًا، فضج الناس وشح الخبز من الأسواق، وخاطب بعض الناس الأُمرا الكبار في شأن ذلك، واستمر الحال على ذلك إلى آخر الشهر والأمر في شدة، وتسلط العسكر والمماليك على خطف ما يصادفونه من الغلة أو التبن أو السمن، فلا يقدر من يشتري شيًّا من ذلك أن يمر به ولو قَلَّ، حتى يكتري واحدًا عسكريًّا أو مملوكًا يحرسه حتى يوصله إلى داره، وإن حضرت مركب بها غلال وسمن وغنم من قبلي أو بحري أخذوها ونهبوا ما فيها جملة، فكان ذلك من أعظم أسباب القحط والبلا.

وفي عشرينه مات محمد بك الشرقاوي، وهو الذي كان عوض سيده عثمان بك الشرقاوي.

شهر رجب الفرد (سنة ١٢١٨) استهل بيوم التلات

فيه رفعوا خازندار البرديسي من الساحل، وقلدوا محمد كاشف تابع سليمان بك الأغا أمين البحرين والساحل، ورفق بالأمر واستقر سعر الغلة بألف ومايتي نصف فضة الأردب؛ فتواجدت بالرقع والساحل وقل الخطف، وأما السمن فقلَّ وجوده جدًّا حتى بِيعَ الرطل بستة وتلاتين نصف، فيكون القنطار بأربعين ريالًا، وأما التبن فصار يُباع بالقدح إن وُجد، وسرب الناس بهايمهم من عدم العلف.

وفيه حضر واحد إنكليزي وصحبته مملوك الألفي وبعض من الفرنسيس، فعملوا لهم شنكًا ومدافع، وأشيع حضور الألفي إلى إسكندرية، ثم تبين أن هذا الإنكليزي أتى بمكاتبات، فلما مر على ملطة وجد ذلك المملوك، وكان قد تخلف عن سيده لمرض اعتراه، فحضر صحبته إلى مصر فأشيع في الناس أن الألفي حضر إلى إسكندرية، وأن هذا خازنداره سبقه بالحضور إلى غير ذلك.

وفيه حضر أيضًا بعض الفرنسيس بمكاتبة إلى القنصل بمصر، وفيها الطلب بباقي الفردة التي بذمة الوجاقلية، فخاطب القنصل الأُمرا في ذلك، فعملوا جمعية وحضر المشايخ وتكلموا في شان ذلك، ثم قالوا: إن الوجاقلية الذين كانت طرفهم تلك الفردة مات بعضهم، وهو يوسف باشجاويش ومصطفى كتخدا الرزاز، وهم عظماوهم، ومن بقي منهم لا يملك شيًّا؛ فلم يقبلوا هذا القول، ثم اتفق الأمر على تأخير هذه القضية إلى حضور الباشا ويرى رأيه في ذلك.

وحضر أيضًا صحبة أولئك الفرنسيس الخبر بموت يعقوب القبطي، فطلب أخوه الاستيلاء على مخلفاته فدافعته زوجته، وأرادت أخذ ذلك على مقتضى شريعة الفرنسيس، فقال أخوه: إنها ليست زوجته حقيقة بل هي معشوقته ولم يتزوج بها على ملة القبط، ولم يعمل لها الإكليل الذي هو عبارة عن عقد النكاح؛ فأنكرت ذلك، فأرسل الفرنسيس يستخبرون من قبط مصر عن حقيقة ذلك، فكتبوا لهم جوابًا بأنها لم تكن زوجته على مقتضى شرعهم وملتهم، ولم يُعمل بينهم الإكليل؛ فيكون الحق في تركته لأخيه لا لها.

وفيه ورد الخبر بوقوع حادثة بإسكندرية بين عساكر العثمانية وأجناس الإفرنج المقيمين بها، واختلفت الرواة في ذلك، وبعد أيام وصل من أخبر بحقيقة الواقعة، وهي أن علي باشا رتب عنده طايفة من عسكره على طريقة الإفرنج، فكان يخرج بهم في كل يوم إلى جهة المنشية، ويصطفون ويعملون مرش واردبوش ثم يعودون، وذلك مع انحراف طبيعتهم عن الوضع في كل شي، فخرجوا في بعض الأيام ثم عادوا فمروا بمساكن الإفرنج ووكالة القنصل، فأخرج الإفرنج روسهم من الطيقان نسا ورجالًا ينظرون ركبهم، ويتفرجون عليهم كما جرت به العادة، فضربوا عليهم من أسفل بالبنادق فضرب الإفرنج عليهم أيضًا، فلم يكن إلا أن هجموا عليهم ودخلوا يحاربونهم في أماكنهم، والإفرنج في قلة، فخرج القناصل الستة ومن تبعهم، ونزلوا إلى البحر وطلعوا غليون الريالة، وكتبوا كتابًا بصورة الواقعة أرسلوه إلى إسلامبول وإلى بلادهم، وأما العسكر أتباع الباشا فإنه لما خرج الإفرنج وتركوا أماكنهم دخلوا إليها ونهبوا متاعهم وما أمكنهم، وأرسل إلى القناصل خورشيد باشا فصالحهم، وأخذ بخواطرهم واعتذر إليهم وضمن لهم ما أخذ منهم، فرجعوا بعد علاج كبير.

وجمع الباشا عُلما البلدة وأعيانها وطلب منهم كتابة عرض محضر على ما يمليه على غير صورة الحال، فامتنعوا من الكتابة إلا بصورة الواقع، وكان المتصدر للرد الشيخ محمد المسيري المالكي، فمقته ووبخه؛ ومن ذلك الوقت صار يتكلم في حقه ويزدريه إذا حضر مجلسه وسكنت على ذلك.

وفي يوم الجمعة رابعه اجتمع المشايخ، وذهبوا إلى إبراهيم بك وكلموه بسبب ما أخذوه من حصة الالتزام بالحلوان أيام العثمانيين، ثم استولى على ذلك جماعتهم وأُمراوهم فطمنهم بالكلام اللين على عادته، وكلموه أيضًا على خبز الجراية المرتبة لفقرا الأزهر، فأطلق لهم دراهم تُعطَى للخباز يعمل بها خبزًا.

وفي ثامنه كتبوا مراسلة على لسان المشايخ، وأرسلوها إلى علي باشا بإسكندرية، مضمونها طلبه لمنصبه والحضور إلى مصر ليحصل الاطمينان والسكون وتأمين الطرقات، ويبطل أمر الاهتمام بالعساكر والتجاريد، ولأجل الأخذ في تشهيل أمور الحج وإن تأخر عن الحضور ربما تعطل الحج في هذه السنة، ويكون هو السبب في ذلك إلى غير ذلك من الكلام.

وفي عاشره سافر جعفر كاشف الإبراهيمي رسولًا إلى أحمد باشا الجزار بعكا لغرض باطني لم يظهر.

وفي هذه الأيام كثرت الغلال بالساحل والعرصات، ووصلت مراكب كثيرة، وكثر الخبز بالأسواق وشبعت عيون الناس، ونزل السعر إلى ثمانية ريال وسبعة وانكفوا عن الخطف إلا في التبن.

وفي منتصفه فتحوا طلب مال الميري ومال الجهات، ورفع المظالم عن سنة تاريخه، وعين لطلبها من البلاد أمراء كبار، ووجهت الغربية والمنوفية لعسكر الأرنؤد؛ فزاد على ذلك حق الطرق للمعينين للطلب والاستعجالات، وتكثير المغارم والمعينين وكلفهم على من يتوانى في الدفع.

هذا وطلب الفردة مستمر حتى على أعيان الملتزمين، ومن تأخر عن الدفع ضبطوا حصته وأخذوها وأعطوها لمن يدفع ما عليها من مياسير المماليك، فربما صالح صاحبها بعد ذلك عليها، واستخلصها من واضع اليد إن أمكنه ذلك.

وفي أواخره نبهوا على تعمير الدور التي أخربها الفرنسيس، فشرع الناس في ذلك وفردوا كلفها على الدور والحوانيت والرباع والوكايل، وأحدثوا على الشوارع السالكة دروبًا كثيرة لم تكن قبل ذلك، وزاد الحال وقلد أهل الأخطاط بعضهم كما هو طبيعة أهل مصر في التقليد في كل شي، حتى عملوا في الخطة الواحدة دربين وثلاثة، واهتموا لذلك اهتمامًا عظيمًا، وظنوا ظنونًا بعيدة، وأَنشَئوا بدنات وأكتافًا من أحجار منحوتة وبوابات عظيمة، ولزم لبعضها هدم حوانيت اشتروها من أصحابها، وفردوا أثمانها على أهل الخطة.

وفي أواخره أيضًا نجزت عمارة عثمان بك البرديسي في الأبراج والبوابات التي أنشاها بالناصرية، فإنه أنشا بوابتين عظيمتين بالرحبة المستطيلة خارج بيته الذي هو بيت حسن كاشف جركس، إحداهما عند قناطر السباع، والأخرى عند المزار المعروف بكعب الأحبار، وبنى حولهما أبراجًا عظيمة، وبها طيقان بداخلها مدافع أفواهها بارزة تضرب إلى خارج، ونقل إليها مدافع الباشا التي كانت بالأزبكية، فسبحان مقلب الأحوال!

وفيه نزل إبراهيم بك والبرديسي وحسين بك اليهودي إلى بولاق، وأخذوا ما وجدوه بساحل الغلة وأرسلوا إلى بحري فارتج الناس من ذلك، وعزت الغلال وزاد سعرها بعد الانحلال.

شهر شعبان (سنة ١٢١٨)

أوله يوم الأربع، وفيه وصل كاتب ديوان علي باشا الذي يقال له ديوان أفندي، وعلى يديه مكاتبة، وهي صورة خط شريف وصل من الدولة، مضمونه: الرضا عن الأُمرا المصرلية بشفاعة صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف باشا، وشفاعة علي باشا والي مصر، وأن يقيموا بأرض مصر، ولكل أمير فايظ خمسة عشر كيسًا لا غير، وحلوان المحلول ثمان سنوات، وأن الأوسية والمضاف والبراني يُضم إلى الميري، وأن الكلام في الميري والأحكام والثغور إلى الباشا والروزنامجي الذي يأتي صحبة الباشا، والجمارك والمقاطعات على النظام الجديد للدفتردار الذي يحضر أيضًا، فلما قُري ذلك بحضرة الجمع من الأُمرا والمشايخ أظهروا البشر وضربوا مدافع.

ثم اتفق الرأي على إرسال جواب ذلك الفرمان، فكتبوا جوابًا مضمونه مختصرًا أنه وصل إلينا صورة الخط الشريف، وحصل لنا بوروده السرور بالعفو والرضا، وتمام السرور حضوركم لتنتظم الأحوال وأعظمها تشهيل الحج الشريف، وأرسلوه ليلة الاتنين ثانيه صحبة رضوان كتخدا إبراهيم بك ومحمود باشجاويش الإنكشارية، وصحبتهما من الفُقها السيد محمد بن الدواخلي من طرف الشيخ الشرقاوي.

وفي هذه الأيام كثر عبث العسكر وعربدتهم في الناس، فخطفوا عمايم وثيابًا وقبضوا على بعض أفراد، وأخذوا ثيابهم وما في جيوبهم من الدراهم.

وفيه وصل قاضي عسكر مصر وكان معوقًا بإسكندرية من جملة المحجوز عليهم.

في يوم الجمعة عاشره وقف جماعة من العسكر في خط الجامع الأزهر في طلوع النهار، وشلحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمايمهم فانزعج الناس، ووقعت فيهم كرشة وصلت إلى بولاق ومصر العتيقة، وأغلقوا الدكاكين، واجتمع الناس وذهبوا إلى الشيخ الشرقاوي والسيد عمر النقيب والشيخ الأمير، فركبوا إلى الأُمرا وعملوا جمعية وأحضروا كبار العساكر وتكلموا معهم، ثم ركب الأغا والوالي وأمامه عدة كبيرة من عسكر الأرنؤد وخلافهم، والمنادي ينادي بالأمن والأمان للرعية، وإن وقع من العسكر أو المماليك خطف شي يضربوه وإن لم يقدروا، عليه فليأخذوه إلى حاكمه، ومثل هذا الكلام الفارغ وبعد مرور الحكام بالمناداة خطفوا عمايم ونسا.

وفي ليلة الأربع تامنه حضر الوالي إلى قصر الشوك، ونزل عند رجل من تجار خان الخليلي يُسمَّى عثمان كجك، فتعشَّى عنده ثم قبض عليه وختم على بيته، وأخذه صحبته وخنقه تلك الليلة، ورماه في بير فاستمر بها أيامًا حتى انتفخ، فأخرجوه وأخذته زوجته فدفنته، وسببه أنه كان يجتمع بالعثمانيين ويغريهم بنسا الأُمرا، وإن بعضهم اشترى أواني نحاسًا ولم يدفع له الثمن، فطالب حريمه في أيام محمد باشا فلم تدفع له فعين عليها جماعة من عسكر محمد باشا، ودخل بهم إلى دارها وطالبها، فقالت: ليس عندي شي، فطلع إلى داخل الحريم وصحبته العسكر، ودخل إلى المطبخ وأخذ قدور الطعام من فوق الكوانين، وقلب ما فيها من الطعام وأخذها وخرج.

وفي يوم الأحد ثاني عشره نبه القاضي الجديد على أن نصف شعبان ليلة التلات، وأخبر أن أتباعه شاهدوا الهلال ليلة التلات وهم عند البغاز على أن الهلال كان ليلة الأربع عسر الرؤية جدًّا، فكان هذا أول أحكامه الفاسدة.

وفي يوم الأربع أشيع أن الأُمرا قاصدون عمل ديوان ببيت إبراهيم بك، ليلبسوا ستة من الكشاف ويقلدوهم صناجق عوضًا عمن هلك منهم، وهم: سليمان كاشف مملوك إبراهيم بك الوالي، الذي تزوج عديلة بنت إبراهيم بك الكبير عوضًا عن سيده.

وعبد الرحمن كاشف مملوك إبراهيم عثمان بك المرادي، الذي قُتل بأبي قير، الذي تزوج امرأة سيده أيضًا.

وعمر كاشف مملوك عثمان بك الأشقر الذي تزوج امرأة سيده أيضًا.

ومحمد كاشف مملوك المنفوخ ورستم كاشف مملوك عثمان بك الشرقاوي.

ومحمد كاشف مملوك سليمان بك الأغا وتزوج ابنته أيضًا.

فلما وقع الاتفاق على ذلك تجمع الكشاف الكبار ومماليك مراد بك وآخرون من طبقتهم، وخرجوا غضابًا نواحي الآثار.

ثم اصطلحوا على تلبيس خمسة عشر صنجقًا، فلما كان يوم الأحد تاسع عشره عملوا ديوانًا بالقلعة وألبسوا فيه خمسة عشر صنجقًا، وهم خمسة من طرف إبراهيم بك الكبير، وهم: صهراه سليمان زوج عديلة هانم ابنة الأمير إبراهيم بك الكبير عوضًا عن سيده، وإسماعيل كاشف مملوك رشوان بك الذي تزوج بزوجة سيده زينب هانم ابنة الأمير إبراهيم بك أيضًا، ومحمد كاشف الغربية، وعمر تابع عثمان كاشف الأشقر الذي تزوج بامرأته، وخليل أغا كتخدا إبراهيم بك.

ومن طرف البرديسي حسين أغا الوالي، وسليمان خازندار مراد بك، وشاهين كاشف مراد، ومحمد تابع محمد بك المنفوخ المرادي، ورستم تابع عثمان بك الشرقاوي، وعبد الرحمن كاشف تابع عثمان بك الطنبرجي الذي تزوج بامرأته.

ومن طرف الألفي عثمان أغا الخازندار، وحسين كاشف المعروف بالوشاش، وصالح كاشف، وعباس كاشف تابع سليمان بك الأغا، ولبسوا حسن أغا مراد والي عوضًا عن حسين المذكور.

وفيه ورد الخبر بوصول طايفة من الإنكليز إلى القصير وهم يزيدون على الألفين.

وفي عشرينه حضر مكتوب من رضوان كتخدا إبراهيم بك من إسكندرية يخبر فيه أنه وصل إلى إسكندرية، وقابل الباشا (علي) ووعد بالحضور إلى مصر، وأنه يأمر بتشهيل أدوات الحج ولوازمه، وأطلق أربعة وأربعين نقيرة حضرت إلى رشيد ببضايع للتجار.

وفيه حضر جعفر كاشف الإبراهيمي من الديار الشامية، وقد قابل أحمد باشا الجزار وأكرمه ورجع بجواب الرسالة، وسافر ثانيًا بعد أيام.

وفيه قلدوا سليمان بك الخازندار ولاية جرجا، وخرج بعسكره إلى مصر القديمة، وجلس هناك بقصر المحرمجي، فاتفق أن جماعة من عسكره الأتراك الذين انضموا إليهم من العثمانية تشاجروا مع العساكر البحرية جماعة حسين بك اليهودي؛ بسبب امرأة رقاصة في قهوة، فقُتل من الأتراك تلاتة ومن البحرية أربعة، وانجرح منهم كذلك جماعة، فخندق حسين بك وتترس بالمقياس وبالمراكب، ووجَّه المدافع إلى القصر وضرب بها عليه.

وكان سليمان بك غايبًا عن القصر، فدخلت جُلة داخل القصر من الشباك بين جماعة من الأُمرا كانوا جالسين هناك ينتظرون رب المكان، ففزعوا وخرجوا من المجلس.

وبلغ سليمان بك الخبر فذهب إلى البرديسي وأعلمه؛ فأرسل البرديسي يطلب حسين بك، فامتنع من الحضور والتجا إلى الألفي، فأرسل البرديسي خبرًا إلى الألفي بعزل حسين بك عن قبطانية البحر وتولية خلافه، فلم يرضَ الألفي بعزله وقال: لا يذهب ولا يُعزل وترددت بينهم الرسل وكادت تكون فتنة، ثم انحط الأمر على أن حسين بك يطلع إلى القلعة، يقيم بها يومين أو تلاتة تطييبًا لخاطر سليمان بك، وإخمادًا للفتنة؛ فكان كذلك واستمر على ما هو عليه.

وفي يوم الأحد سادس عشرينه ألبس إبراهيم بك عثمان كاشف تابع علي أغا كتخدا جاويشان، واستقروا به كتخدا جاويشان عوضًا عن سيده، وكان شاغرًا من مدة حلول الفرنساوية.

وفي يوم التلات ثامن عشرينه ركب حسن بك أخو طاهر باشا في عدة وافرة، وحضر إلى بيت عثمان بك البرديسي بعد العصر على حين غفلة — وكان عند الحريم — فانزعج من ذلك ولم يكن عنده في تلك الساعة إلا أناس قليلة، فأرسل إلى مماليكه فلبسوا أسلحتهم، وأرسلوا إلى الأُمرا والكشاف والأجناد بالحضور، وتوانى في النزول حتى اجتمع الكثير منهم، وصعد بعض الأُمرا إلى القلعة وحصل بعض قلقة، ثم نزل إلى التنهة (قاعة الاستقبال) وأذن لأخي طاهر باشا بالدخول إليه في قلة من أتباعه، وسأله عن سبب حضوره على هذه الصورة، فقال: نطلب العلوفة ووقع بينهما بعض كلام، وقام وركب ولم يتمكَّن من غرضه، وأرسل البرديسي إلى محمد علي فحضر إليه وفاوضه في ذلك ثم ركب من عنده بعد المغرب.

وفي تلك الليلة نادوا بعمل الرؤية، فاجتمع المشايخ عند القاضي وكلموه في ذلك؛ فرجع عما كان عزم عليه، ونادوا بها ليلة الخميس فعملت الرؤية تلك الليلة، وركب المحتسب بموكبه على العادة إلى بيت القاضي، فلم يثبت الهلال تلك الليلة ونُودي بأنه من شعبان وأصبح الناس مفطرين.

فلما كان في صبحها حضر بعض المغاربة وشهدوا برؤيته، فنُودي بالإمساك وقت الضحى، وترقَّب الناس الهلال ليلة الجمعة، فلم يرَه إلا القليل من الناس بغاية العسر وهو في غاية الدقة والخفا.

شهر رمضان المعظم (سنة ١٢١٨)

استهل بيوم الجمعة، في تانيه قرروا فردة على البلاد برسم نفقة العسكر أعلى وأوسط وأدنى ستين ألفًا وعشرين ألفًا وعشرة، مع ما الناس فيه من الشراقي والغلا والكلف والتعايين وعبث العسكر، وخصوصًا بالأرياف.

وفيه نزلت الكشاف إلى الأقاليم، وسافر سليمان بك الخازندار إلى جرجا واليًا على الصعيد وصالح بك الألفي إلى الشرقية.

وفي تامنه وصل إلى ساحل بولاق عدة مراكب بها بضايع رومية ويميش، وهي التي كان أطلقها الباشا وفيها حجاج وفرمان.

وفيه حضر ساعٍ من إسكندرية وعلى يده مكتوب من رضوان كتخدا ومن بصحبته يخبرون بأن الباشا كان وعدهم بالسفر يوم الاتنين، وبرز خيامه وخازنداره إلى خارج البلد، فورد عليه مكاتبة من أُمرا مصر يأمرونه بأن يحضر من طريق البر على دمنهور ولا يذهب إلى رشيد، فانحرف مزاجه من ذلك وأحضر الرسل الذين هم رضوان كتخدا ومن معه، وأطلعهم على المكاتبة، وقال لهم: كيف تقولون: إني حاكمكم وواليكم ثم يرسلون يتحكمون عليَّ؟ إني لا أذهب إلى مصر على هذا الوجه؛ فأرسلوا بخبر ذلك.

وفي يوم الأربع تالت عشره غيمت السماء غيمًا مطبقًا، وأمطرت مطرًا عظيمًا متتابعًا من آخر ليلة الأربع إلى سادس ساعة من ليلة الخميس، وسقط بسببها عدة أماكن قديمة في عدة جهات، وبعضها على سكانها، وماتوا تحت الردم، وزاد منها بحر النيل، وتغير لونه حتى صار لونه أصفر مما سال فيه من جبل الطَّفل، وبقي على ذلك التغير أيامًا إلا أنه حصل بها النفع في الأراضي والمزارع.

وفي منتصفه ورد الخبر بخروج الباشا من إسكندرية وتوجهه إلى الحضور إلى مصر على طريق البر، وشرعوا في عمل المراكب التي تُسمَّى بالعقبة لخصوص ركوب الباشا، وهي عبارة عن مركب كبيرة قشاشي، يأخذونها من أربابها قهرًا وينقشونها بأنواع الأصباغ والزينة والألوان، ويركبون عليها مقعدًا مصنوعًا من الخشب المصنع، وله شبابيك وطيقان من الخرط، وعليه بيارق ملونة وشراريب مزينة، وهو مصفح بالنحاس الأصفر ومزين بأنواع الزينة والستاير، والمتكفل بذلك أغات الرسالة، فلما خرج الباشا من إسكندرية أرسل محمود جاويش والسيد محمد الدواخلي إلى يحيى بك يقولان له: إن حضرة الباشا يريد الحضور إلى رشيد في قلة.

وأما العساكر فلا يدخل أحد منهم إلى البلد، بل يتركهم خارجها، فلما وصلوا إلى يحيى بك وأرادوا يقولون له ذلك، وجدوه جالسًا مع عمر بك كبير الأرنؤد الذي عنده، وهم يقرون جوابًا أرسله الباشا إلى عمر بك المذكور يطلبه لمساعدته والخروج معه، مسكه بعض أتباع يحيى بك مع الساعي، فلما سمعوا ذلك قالوا لبعضهم: أي شي هذا؟ وتركوا ما معهم من الكلام وحضروا إلى مصر صحبة رضوان كتخدا.

وفي يوم الجمعة سادس عشره ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وغيرها، لورود الخبر بموت حسين قبطان باشا وتولية خلافه.

وفي عشرينه أشيع سفر الألفي لملاقاة الباشا وصحبته أربعة من الصناجق، وأبرز الخيام من الجيزة إلى جهة إنبابة، وأخذوا في تشهيل ذخيرة وبقسماط وجبخانة وغير ذلك.

وفي رابع عشرينه عدى الألفي ومن معه إلى البر الشرقي، وأشيع تعدية الباشا إلى بر المنوفية، فلما عدوا إلى البر الشرقي انتقلوا بعرضيهم وخيامهم إلى جهة شبرا، وشرعوا في عمل مخابز العيش في شلقان.

وفيه حضر واحد بيان أغا يُسمَّى صالح أفندي وعلى يده فرمان، فأنزلوه ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك ولا يجتمع به أحد.

وفي غايته وصل الباشا إلى ناحية منوف، وفردوا له فردًا على البلاد، وأكلوا الزروعات وما أنبتته الأرض.

وانقضى هذا الشهر وما حصل به من عربدة الأرنؤد وخطفهم عمايم الناس وخصوصًا بالليل، حتى كان الإنسان إذا مشى يربط عمامته خوفًا عليها، وإذا تمكنوا من أحد شلحوا ثيابه وأخذوا ما معه من الدراهم، ويترصدون لمن يذهب إلى الأسواق مثل سوق إنبابة في يوم السبت لشرا الجبن والزبدة والأغنام والأبقار، فيأخذون ما معهم من الدراهم ثم يذهبون إلى السوق، وينهبون ما يجلبه الفلاحون من ذلك للبيع؛ فامتنع الفلاحون عن ذلك إلا في النادر خفية وقل وجوده، وغلا السمن حتى وصل إلى تلتماية وخمسين نصف فضة العشرة أرطال قباني، وأما التبن فصار أعز من التبر، وبِيع قنطاره بألف نصف فضة إن وُجد، وعز وجود الحطب الرومي حتى بلغ سعر الحملة تلتماية فضة، وكذا غلا سعر باقي الأحطاب وباقي الأمور المعدة للوقود، مثل: البقمة وجلة البهايم وحطب الذرة، ووقفت الأرنؤد لخطف ذلك من الفلاحين؛ فكانوا يأتون بذلك في آخر الليل وقت الغفلة ويبيعونه بأغلى الأثمان، وعلم الأرنؤد ذلك فرصدوهم وخطفوهم، ووقع منهم القتل في كثير من الناس حتى في بعضهم البعض، وغالبهم لم يَصُم رمضان، ولم يُعرَف لهم دين يتدينون به، ولا مذهب ولا طريقة يمشون عليها إباحية، أسهل ما عليهم قتل النفس وأخذ مال الغير وعدم الطاعة لكبيرهم وأميرهم، وهم أخبث منهم فقطع الله دابر الجميع.

وأما ما فعله كشاف الأقاليم في القرى القبلية والبحرية من المظالم والمغارم وأنواع الفرد والتساويف، فشي لا تدركه الأفهام ولا تحيط به الأقلام، وخصوصًا سليمان كاشف البواب بالمنوفية، فنسأل الله العفو والعافية وحسن العاقبة في الدين والدنيا والآخرة.

استهل شهر شوال بيوم السبت (سنة ١٢١٨)

في تانيه تبع رجلًا تاجرًا من وكالة التفاح تلاتة من العسكر، فهرب منهم إلى حمام الطنبدي، فدخلوا خلفه وقتلوه داخل الحمام وأخذوا ما في جيبه من الدراهم وغيرها، وذهبوا وحضر أهله وأخذوه في تابوت ودفنوه ولم ينتطح فيه شاتان.

وقتل في ذلك اليوم أيضًا رجل عند حمام القيسرلي وغير ذلك.

وفيه وصل الباشا إلى ناحية شلقان، وصحبته عساكر كثيرة إنكشارية وغيرهم، وأكثرهم من الذين خرجوا مطرودين من مصر، وصحبته نحو ستين مركبًا في البحر بها أثقاله ومتاعه وعساكر أيضًا.

وفيه ركب الألفي والأُمرا ما عدا إبراهيم بك والبرديسي، فإنهما لم يخرجا من بيوتهما وذهبوا إلى مخيمهم بشبرا، وخرج أيضًا محمد علي وأحمد بك وأتباعهم، وأبقوا عند بيوتهم طوايف منهم.

وفيه وقعت مشاجرة بين الأرنؤدية جهة بيوت سواري العسكر بسبب امرأة، قُتل فيها نحو خمسة أنفار بالأزبكية.

وفي تالته أوقفوا على أبواب المدينة جماعة من العسكر بأسلحتهم، فانزعج الناس وارتاعوا من ذلك وأغلقوا الدروب والبوابات، ونقلوا أمتعتهم وبضايعهم من الدكاكين وأكثروا من اللغط، وصار العسكر الواقفون بالأبواب يأخذون من الداخل والخارج دراهم، ويفتشون جيوبهم ويقولون لهم معكم أوراق؛ فيأخذون بحجة ذلك ما في جيوبهم.

وفي رابعه غيروا العسكر بأجناد من الغز المصرلية، فجلس على كل باب كاشف ومعه جماعة من العسكر، فكان الكاشف الذي على باب الفتوح يأخذ ممن يمر به دراهم، فإن كان بزي الفلاحين بأن كان لابس جبة صوف أو زعبوط أخذ منه ما في جيبه أو عشرة أنصاف إن كان فقيرًا، وإن كان من أولاد البلد ومجمل الصورة أو لابس جوخة ولو قديمة طالبه بألف نصف فضة أو حبسه حتى يسعى عليه أهله، ويدفعوها عنه ويطلقه، وسدوا باب الوزير وباب المحروقي، وقفلوا باب البرقية المعروف بالغريب بعد أن كانوا عزموا على سده بالبنا، ثم تركوه بسبب خروج الأموات.

وفيه نُودي بوقود القناديل ليلًا على البيوت والوكايل وكل تلاتة دكاكين قنديل، وفي صبحها خامسه شق الوالي وسمر عدة حوانيت بسبب القناديل وشدد في ذلك.

وفيه انتقل الألفي ومن معه من الأُمرا إلى ناحية شلقان، ونصبوا خيامهم قبال عرضي الباشا، فحضر إليه بعض أتباع الباشا، وكلموه عن نزوله في ذلك المكان ونصب الخيام في داخل الخيام ودوسهم لهم، فقال لهم: هذه منزلتنا ومحطتنا فلم يسَعِ الباشا وأتباعه إلا قلعهم الخيام والتأخر، فهذه كانت أول حقارة فعلها المصرلية في العثمانية.

ونصب محمد علي وأحمد بك وعساكرهم جهة البحر، ثم إن خدم الألفي أخذوا جِمالًا ليحملوا عليها البرسيم، فنزلوا بها إلى بعض الغيطان، فحضر أميراخور الباشا بالجِمال لأخذ البرسيم أيضًا، فوجدوا جِمال الألفي وأتباعه فنهروهم وطردوهم، فرجعوا إلى سيدهم وأخبروه، فأمر بعض كشافه بالركوب إليهم، فركب رامحًا إلى الغيط، وأحضر أميراخور الباشا وقطع رأسه قبالة صيوان الباشا، ورجع إلى سيده بالجِمال ورأس أميراخور، فذهب أتباع الباشا وأخبروه بقتل أميراخور وأخْذ الجِمال فحنق وأحضر رضوان كتخدا إبراهيم بك وتكلم معه.

ومن جملة كلامه: أنا فعلت معكم ما فعلت، وصالحت عليكم الدولة ولم تزل تضحك على ذقني، وأنا أطاوعك وأصدق تمويهاتك إلى أن سرت إلى ههنا، فأخذتم تفعلون معي هذه الفعال وتقتلون أتباعي وترذلوني وتأخذون حملتي وجِمالي، فلاطفه رضوان كتخدا في الجواب واعتذر إليه، وقال له: هولا صغار العقول ولا يتدبرون في الأمور، وحضرة أفندي شأنه العفو والمسامحة، ثم خرج من بين يديه وأرسل إلى أتباع الألفي، فأحضر منهم الجِمال وردَّها إلى وطاق الباشا، وحضر إليه عثمان بك يوسف المعروف بالخازندار، وأحمد أغا شويكار، فقابلاه وأخذا بخاطره ولم يخرج إليه أحد من الأُمرا سواهما.

وفي خامسه نادوا بخروج العساكر الأرنؤدية إلى العرضي، وكل من بقي منهم ولم يكن معه ورقة من كبيره فدمه هدر، وصار الوالي بعد ذلك كلما صادف شخصًا عسكريًّا من غير ورقة قبض عليه وغيَّبه، واستمر يفتش عليهم ويتجسس على أماكنهم ليلًا ونهارًا ويقبض على من يجده متخلفًا.

والقصد من ذلك تمييز الأرنؤدية من غيرهم المتداخلين فيهم، وكذلك كل من مر على المتقيدين بأبواب المدينة، وذلك باتفاق بين المصرلية والأرنؤدية لأجل تميزهم من بعضهم وخروج غيرهم.

وفيه أطلعوا السيد علي القبطان أخا علي باشا إلى القلعة.

وفي سادسه خرج البرديسي إلى جهة شلقان، ولم يخرج إبراهيم بك ولم ينتقل من بيته فنصب خيامه على موازاة خيام الألفي، وباقي الأُمرا كذلك إلى الجبل، والأرنؤدية جهة البحر، وقد كان الباشا أرسل إلى محمد علي وكبار الأرنؤدية وغيرهم من قبايل العربان ومشايخ البلاد المشهورين مكاتبات قبل خروجه من الإسكندرية، يستميلهم إليه ويعدهم ويمنيهم إن قاموا بنصرته، ويحذرهم ويخوفهم إن استمروا على الخلاف وموافقة العصاة المتغلبين.

فنقل الأرنؤدية ذلك إلى المصرلية وأطلعوهم على المكاتبات سرًّا فيما بينهم، واتفقوا على رد جواب المراسلة من الأرنؤدية بالموافقة على القيام معه إذا حضر إلى مصر، وخرج الأُمرا لملاقاته والسلام عليه، فيكون هو وعساكره من أمامهم والأرنؤدية المصرية من خلفهم؛ فيأخذونهم مواسطة فيستأصلونهم، والموعد بشلقان، وسهلوا له أمر الأُمرا المصرلية، وأنهم في قلة لا يبلغون ألفًا، ولو بلغوا ذلك فمن المنضمين إليهم من خلاف قبيلتهم، وهم أيضًا معنا في الباطن، ودبروا له تدبيرًا ومناسجات تروج على الأباليس، منها أن يختار من عسكره قدر كذا من الموصوفين بالشجاعة والمعرفة بالسباحة والقتال في البحر، ويجعلهم في السفن قبالته في البحر، وأن يعدوا بالعساكر البرية إلى البر الشرقي من مكان كذا، ويجعل الخيَّالة والرَّجَّالة معه على صفة ذكروها لهم.

ولما وصل إلى الرحمانية أرسل له الأرنؤد مكاتبة سرًّا بأن يعدي إلى البر الشرقي، وبينوا له صواب ذلك، وهو يعتقد نصحهم فعدى إلى البر الشرقي.

فلما حضر إلى شلقان رتب عساكره وجعلهم طوابير، وجعل كل بينباشا في طابور، وعملوا متاريس ونصبوا المدافع، وأوقفوا المراكب بما فيها من العساكر والمدافع بالبحر على موازاة العرضي، فخرج الألفي كما ذكر بمن معه من الأُمرا المصرلية والعساكر الأرنؤدية، وأرسل إلى الباشا بالانتقال والتأخر فلم يجد بدًّا من ذلك فتأخر إلى زفيتة ونزل ونصب هناك وطاقه ومتاريسه، وفي وقت تلك الحركة تسلل حسين بك الإفرنجي ومن معه من العساكر بالغلايين والمراكب، واستعلوا على مراكب الباشا واحتاطوا بها، وضربوا عليهم بالبنادق والمدافع وساقوهم إلى جهة مصر، وأخذوهم أسرى وذهبوا بهم إلى الجيزة بعدما قتلوا من كان فيهم من العساكر المحاربين، وكبيرهم يُسمَّى مصطفى باشا أخذوه أسيرًا أيضًا.

وكان بالمراكب أناس كثيرة من التجار وصحبتهم بضايع وأسباب رومية، كان الباشا عوقهم بإسكندرية؛ فنزلوا في المراكب ليصلوا ببضايعهم، وطمعًا في عدم دفعهم الجمرك، فوقعوا أيضًا في الشَّرَك وارتبكوا فيمن ارتبك.

ولما تأخر الباشا عن منزلته واستقر بأراضي زفيتة، أحاطت به المصريون والعربان وتحلَّقوا حوله ووقفوا العرضية بالرصد؛ فكل من خرج من الدايرة خطفوه ومن الحياة أعدموه، وأرسل إليه الألفي علي كاشف الكبير، فقال له: حضرة ولدكم الألفي يسلم عليكم ويسأل عن هذه العساكر المصحوبين بركابكم، وما الموجب لكثرتها وهذه هيئة المنابذين لا المسالمين، والعادة القديمة أن الولاة لا يأتون إلا بأتباعهم وخدمهم المختصين بخدمتهم، وقد ذكروا لكم ذلك وأنتم بإسكندرية؟ فقال: نعم وإنما هذه العساكر متوجهة إلى الحجاز تقوية لشريف باشا علي الخارجي، وعندما نستقر بالقلعة نعطيهم جماكيهم ونشهلهم ونرسلهم، فقال: إنهم أعدوا لكم قصر العيني تقيمون به، فإن القلعة خربها الفرنسيس وغيَّروا أوضاعها؛ فلا تصلح لسكناكم كما لا يخفاكم ذلك، وأما العسكر فلا يدخلون معكم بل ينفصلون عنكم ويذهبون إلى بركة الحاج، فيمكثون هناك حتى نشهل لهم احتياجاتهم ونرسلهم، ولسنا نقول ذلك خوفًا منهم، وإنما البلدة في قحط وغلا والعساكر العثمانية منحرفو الطباع ولا يستقيم حالهم مع الأرنؤدية، ويقع بينهم ما يوجب الفشل والتعب لنا ولكم، فقال: إذًا أرحل وأرجع إلى إسكندرية حيثما كنت، فقال له: هذا لا يكون، وإن فعلتم ذلك حصل لكم الضرر، فقال: إن العساكر لهم عندي أربعماية وثمانون كيسًا أحضروها من حسابي معكم ندفعها لهم وينتقلون إلى البركة كما قلتم.

ورجع علي كاشف إلى الأُمرا بذلك الجواب، وحضر عابدي بك من طرف الباشا إلى الأُمرا وهو كبير العساكر الإنكشارية، فكلموه وكلمهم وميلوه وخدعوه، وذهب إلى الباشا وعاد إليهم فكان آخر كلامهم له: إن بيننا وبينه في غد، إما أن الباشا يحضر عندنا في جماعته المختصين به وينزل بمخيمنا، وإما الحرب بيننا وبينه، وانتظروا عابدي بك فلم يرجع لهم بجواب؛ وهي العلامة بينهم وبينه واشتغل هو تلك الليلة مع أصحابه وثبطهم وحل عزايمهم.

فلما أصبح الصباح ركب الأُمرا المصرلية بعساكرهم وجعلوها طوابير، وزحفوا إلى عرضي الباشا من كل جهة، فأمر عساكره بالركوب والمحاربة فلم يتحركوا، وقالوا: لِمَ تأمر بالمحاربة وليس معك فرمان بذلك، وإخواننا البحريون أخذوا عن آخرهم، ولم تعطِنا جامكية ولا نفقة، ولا طاقة لنا بحرب المصريين على هذا الوجه.

فلما تحقق خذلانهم له في ذلك الوقت الضيق، ركب في خاصته، وذهب إلى الأُمرا، وترك خيامه وأثقاله، فاستقبلوه وأرسلوه صحبة عثمان بك الخازندار، ورضوان كتخدا البرديسى، وأحمد أغا شويكار، إلى خيام أعدوها له عند خيام البرديسي، وحضر إليه كتخدا الجاويشية وكاتب حوالة والوالي وباقي أرباب خدم الديوان.

وذهب بعض خدمه وفراشينه إلى قصر العيني ليفرشوه ويرتبوه وينظموه، وأحضروا مصطفى باشا الذي كان في المراكب، وما كان بصحبته من لوازم الباشا إلى القصر المذكور، وأُشيع صلح الأُمرا مع الباشا.

ثم إن الألفي أرسل إلى كبار عسكر الباشا، فطلبهم ليعطيهم جماكيهم، فلما حضروا عنده — وعدتهم سبعة — عرف منهم ستة من المطرودين في الفتن السابقة، داروا ورجعوا إلى إسكندرية لما سمعوا بعلي باشا؛ فوبخهم ولعنهم وقال لهم: أطلقناكم وعتقناكم وعفونا عنكم وسفرناكم، وكأنكم عدتم لتأخذوا بثأركم، ثم أمر بضرب أعناقهم ففعل بهم ذلك، ورُموا في البحر ما عدا سابعهم، فإنه لم يكن من الذين حضروا إلى مصر.

وتعارف محمد علي معه فشفع فيه وتركوه مع الأرنؤد، وأحضروا متاع الباشا وحملته وطبلخانته من عرضيه إلى عرضي الأُمرا، وأمروا أوليك العساكر بالرحيل، فرحلوا مع حسين بك الوشاش الألفي، وصالح بك الألفي، وقد كان نزل إلى الشرقية، وحضر عند وصول الباشا وصحبته جملة من العربان، ثم رجع مع خشداشينه مع العسكر إلى شرقية بلبيس ليوصلوهم إلى الصالحية؛ والله أعلم ماذا فعل بهم، وعدتهم ألفان وخمسماية.

وانتقل الأمرا والباشا إلى منية السيرج في ثامنه، وأُشيع ركوب الباشا بالموكب إلى قصر العيني على طريق بولاق يوم الاتنين عاشره، وجمع المحتسب خيول الطواحين وخرج كثير من الناس في ذلك اليوم إلى جهة بولاق لأجل الفرجة، وانتظروا ذلك فلم يحصل، وقيل: إنهم أخروه إلى يوم الأربع ثاني عشره، فلما كان يوم الأربع المذكور وصل في صبحها التنابيه لاختيارية الوجاقات بالحضور والركوب مع الباشا.

فلما كان وقت الضحوة الكبرى، تواترت الأخبار أنهم أركبوا الباشا وسفروه إلى جهة بلبيس والصالحية، وكان من خبره أنه لما حضر إلى مخيم الأُمرا، أرسل إليه عثمان بك البرديسي كتخداه رضوان كاشف — المعروف بالغرباوي — بهدية وألف نصفية ذهب، وبلغه السلام ولاطفه.

وقال الباشا له ولمن حضر من الأُمرا: أنا عندما قلدوني ولاية مصر قلت للدولة: إن أول حوايجي العفو والرضا عن الأُمرا المصرلية؛ لأن لهم في عنقي جميلًا عندما حضرت إليهم هاربًا من طرابلس، فآووني وأكرموني، وأقمت معهم مدة طويلة في غاية الحظ والإكرام ولا أنسى معروفهم؛ فأجابوه بأنهم أيضًا يراعون له ذلك، ولا ينسون عشرتهم معه وخصوصًا صداقته لسيدهم مراد بك؛ فإنه كان معه كالأخوين، ولا يأتنس إلا بمجالسته وركوبه معه إلى الصيد وغيره، ولو وقع منه ما وقع بمكاتبة الأرنؤد والعربان وغيرهم؛ فقال: هذا شي قد كان، ونحن أولاد اليوم. وأقام تلاتة أيام بالخيام التي أجلسوه بها في عرضي البرديسي، ورتب له طعامًا في الغدا والعشا من طعامه، ولم يجتمع به أحد من الأمرا الكبار سوى عثمان بك يوسف المعروف بالخازندار، وأحمد أغا شويكار، وأرباب الخدم.

وأما الذنب الذي نقموه عليه، فهو أنهم ذكروا أن في الليلة التي بات بها في عرضي البرديسي كان خرج من خيامه فارس على فرس يعدو بسرعة فصهلت الخيول وانزعج العرضي، وجروا خلفه فلم يلحقوه، فسألوا الباشا عن ذلك، فقال: لعله حرامي أراد أن يسرق شيًّا وخرج هاربًا.

فلما حصل ذلك، أجلسوا حوله عدة من المماليك المسلحين، فسأل عنهم، فقيل له: إنهم جلوس بقصد المحافظة من السراق، ثم إنهم قبضوا على هجَّان بناحية البساتين مسافر إلى قبلي، زعموا أنهم وجدوا معه مكاتبات من الباشا خطابًا إلى عثمان بك حسن بقنا يطلبه الحضور إلى مصر ليكون معينًا له، ويعده بإمارة مصر ونحو ذلك.

فلما كان يوم الأربع المذكور، حضر إليه الجماعة فسلموا عليه، وأذن لهم بالجلوس فجلسوا وهم سكوت ينظرون إلى بعضهم، فنظر لهم الباشا وقال: خيرًا؛ فتكلم رضوان كتخدا البرديسي وقال: ألسنا اصطلحنا مع حضرة أفندينا وصَفَا خاطره معنا؟ قال: نعم، قال له: هل وقع من حضرتكم لأحد مكاتبة قبل ذلك؟ قال: لا، قال: لعلكم أرسلتم مكاتبة إلى قبلي، قال: لم يكن ذلك أبدًا؛ فأخرج له مكتوبًا وناوله إياه، فلما رآه قال: نعم، هذا مما كنا كتبناه بإسكندرية؛ فقالوا له: إنا وجدناه أمسِ مع الهجان المسافر به جهة البساتين، قبض عليه المحافظون بتلك الجهة في ساعته وتاريخه قريب (البساتين)؛ فسكت متفكرًا فقاموا على أقدامهم وقالوا: «بيرون» يعني «تفضلوا»، فقال: إلى أين؟ فقالوا: إلى غزة فإنه لا أمان لنا معك بعد ذلك، ولم يمهلوه لكلام يقوله ولا عذر يبديه، حتى أنهم لم يمهلوه لمجي مركوبه المختص، به بل قدَّموا له فرسًا لبعض المماليك وأركبوه له، وفي حال ركوبه رأى الأُمرا المستعدِّين للذهاب معه وقوفًا في انتظاره، فقال لهم: إن صحبني أحد منكم فقولوا لهم يكونون متباعدين عني في الحط والترحال، فأجابوه إلى ذلك وسار معه محمد بك المنفوخ، وسليمان بك صهر إبراهيم بك على الشرط.

وركب أتباعه خيول الطواحين التي كانوا أعدُّوها للركوب، وكان الطحانون ينتظرون متى ينقضي الركوب ويأخذون خيولهم، فلما تحقق سفرهم طارت عقول الطحانين، وذهبوا إلى صيوان البرديسي يشكون إليه عطل مطاحن البلد، فقال لهم: دونكم، هاهي أمامكم، اذهبوا فخذوها؛ فجَرَوا خلفهم ومسك كل طحان في فرسه أو أفراسه، وأنزل عنها راكبها وأخذوها ورجعوا مسرورين بخيولهم، ولم يقدروا على منعهم؛ لأنهم صاروا أذلَّا مقهورين وركبوا بدلها جِمالًا.

وحجز البرديسي طبلخانة الباشا ومهاترته وطقمه وغالب متاعه، وأُشيع ركوبه وذهابه، وأصبح يوم الخميس ثالث عشره، فدخل الأُمرا والعساكر الأرنؤدية وأكابرهم وهم فرحون مسرورون وخلفهم الطبول والزمور، وركب حسين بك الإفرنجي (شفت) المعروف باليهودي، وأمامه العسكر المختصون به بطبلهم مثل طبل الفرنسيس، وعلى روسهم (برانيط) من نحاس أصفر، وهم نصارى وأروام وتكرور، وخلف البرديسي نوبة الباشا ومهاترته معهم يطبلون ويزمرون، ولم يدخل الألفي معهم بل ركب من عرضيه بأُمرايه وكشافه، فذهب إلى عرب بلي بالجزيرة، فطرقهم على حين غفلة وقتل منهم أناسًا ونهب مواشيهم ونجعهم وضرب أيضًا زفيتة وأجهور ونحو عشرين بلدًا، وحرقوا أكثرهم وأخذوا زرعهم ومتاعهم؛ بسبب أنه لما كان الباشا كاتب مشايخ البلاد والعربان اغتروا به، وعندما حلَّ بالقرب منهم قبحوا في حق المصرلية وأتباعهم وطردوهم وأسمعوهم أفحش الكلام، وقامت عربان الشرقية وتعصبوا على صالح بك الألفي، فأوجب تحامل المصرلية عليهم حتى جازوهم به عندما فرغوا من أمر الباشا.

وفي تلك ليلة — أعني ليلة الجمعة رابع عشره — حصل خسوف للقمر جزئي بعد رابع ساعة من الليل، ومقدار المنخسف أربع أصابع وثلث، وانجلى في سابع ساعة إلا شيًّا يسيرًا.

وفي ذلك اليوم أرسل البرديسي إلى شيخ السادات تذكرة صحبة واحد كاشف من أتباعه يطلب عشرين ألف ريال سلفة، فلاطفه وردَّه بلطف فرجع إلى مخدومه وأبقى ببيت الشيخ جماعة من العسكر، فوبخه على الرجوع من غير قضا حاجتة وأمره بالعود ثانية، فعاد إليه في خامس ساعة من الليل وصحبته جماعة أخرى من العسكر، فأزعجوا أهل البيت وأرسلت عديلة هانم ابنة إبراهيم بك إلى المعينين تأمرهم أن لا يعملوا قلة أدب، وأرسلت إلى أبيها؛ لأن منزله بجواره، فاهتم لذلك وأرسل خليل بك إلى البرديسي، فكفه عن ذلك بعد علاج وسعي ورفع المعينين.

وفي ليلة الخميس عشرينه، وصلت أخبار ومكاتبات من الأُمرا الذين ذهبوا بصحبة الباشا يخبرون فيها بموت الباشا بالقرين، فضربوا مدافع كثيرة بعد العشا ونصف الليل، ومضمون ما ذكروه في المراسلة أن الباشا أراد أن يكبسهم بمن معه ليلًا، وكان معهم سايس يُعرف بالتركي، فحضر إليهم وأخبرهم فتحذروا منهم، فلما كبسوهم وقعت بينهم محاربة وقتل منهم عدة من المماليك وخازندار محمد بك المنفوخ، وانجرح المنفوخ أيضًا جرحًا بليغًا، وأصيب الباشا وصاحبه من غير قصد، والليل ليس له صاحب فقُضي عليه.

وكان ذلك مقدورًا، وفي الكتاب مسطورًا، وإنكم ترسلون لنا أمانًا بالحضور إلى مصر، وإلا ذهبنا إلى الصعيد؛ هذا ما قالوه، والواقع أنهم لما سافروا معه كان بصحبته خمسة وأربعون نفسًا لا غير، والعساكر التي كانت سافرت قبله نجعت إلى الصالحية وذهبت حيث شاء الله، وكان أمامه عسكر المغاربة وخلفه الأُمرا المصرلية.

فلما وصلوا إلى أراضي القرين ونزلوا هناك عمل المغاربة مع الخدم مشاجرة، وجسموها إلى أن تضاربوا بالسلاح، فقامت الأجناد المصرلية من خلفهم، فصار الباشا ومن معه في الوسط والتحموا عليهم بالقتال، ففر من أتباعه أربعة عشر نفسًا إلى الوادي وتلاتة عشر رَمَوْا بأنفسهم في ساقية قريبة منهم من حلاوة الروح، وضرب الباشا بعضُ المماليك منهم بقرابينة فأصابته، وقُتل معه ابن أخته حسن بك وكتخداه وباقي الثمانية عشر، فلما سقط الباشا وبه رمق رأى أحد الأميرين فقال له: في عرضك يا فلان، إن معي كفنًا بداخل الخرج فكفِّنِّي فيه وادفِنِّي ولا تتركني مرميًّا، فلما انقضى ذلك أعطى ذلك الأمير لبعض العرب دنانير وأعطاه الكفن الذي أوصاه عليه وقال له: اذهب إلى قتلاهم وخذ الباشا فكفنه وادفنه في تربة، فقال: أنا لا أعرفه، فقال: هو الذي لحيته عظيمة من دونهم، ففعل كما أمره وحفروا لباقيهم حفرًا وارَوْهم فيها وانقضى أمرهم.

هذه أخبار بعض أهل تلك البلاد المشاهدين للواقعة، وكل ذلك وبال فعله وسو سريرته وخبث ضميره، فلقد بلغنا أنه قال لعسكره: إن بلغت مرادي من الأُمرا المصريين وظفرت بهم وبالأرنؤد، أبحت لكم المدينة والرعية تلاتة أيام تفعلون بها ما شيتم، والدليل على ذلك ما فعله بالإسكندرية مدة إقامته بها من الجور والظلم ومصادرات الناس في أموالهم وبضايعهم، وتسلط عساكره عليهم بالجور والخطف والفسق، وترذيله لأهل العلم وإهانته لهم، حتى أنه كان يُسمِّي الشيخ محمد المسيري الذي هو أَجَلُّ مذكور في الثغر بالمزوِّر، وإذا دخل عليه مع أمثاله وكان جالسًا اتَّكا ومد رجليه قصدًا لإهانتهم.

وخبر علي باشا المترجم المذكور ومختصر أنه كان أصله من الجزاير مملوك محمد باشا حاكم الجزاير، فلما مات محمد باشا وتولى مكانه صهره أرسله بمراسلة إلى حسين قبطان باشا، وكان أخوه المعروف بالسيد علي مملوكًا للدولة ومذكورًا عند قبطان باشا، ومتولي الريالة، فنَوَّه بذكره فقلده قبطان باشا ولاية طرابلس وأعطاه فرمانات ويرقا، فذهب إليها وجيَّش له جيوشًا ومراكب وأغار على متوليها وهو أخو حمودة باشا صاحب تونس، وحاربه عدة شهور حتى ملكها بمخامرة أهلها لعلمهم أنه متوليها من طرف الدولة، وهرب أخو حمودة باشا عند أخيه بتونس، فلما استولى علي باشا المذكور على طرابلس أباحها لعسكره؛ ففعلوا بها أشنع وأقبح من التمرلنكية من النهب وهتك النسا والفسق والفجور، وسبي حريم متوليها وأخذهن أسرى وفضحهن بين عسكره، ثم طالبهم بالأموال، وأخذ أموال التجار وفرد على أهل البلد وأخذ أموالهم، ثم إن المنفصل حشد وجمع جموعًا ورجع إلى طرابلس وحاصره أشد المحاصرة، وقام معه المغرضون له من أهل البلدة والمقروصون من علي باشا، فلما رأى الغلبة على نفسه نزل إلى المراكب بما جمعه من الأموال والذخاير، وأخذ معه غلامين جميلين من أولاد الأعيان شبه الرهاين، وهرب إلى إسكندرية وحضر إلى مصر والْتَجَا إلى مراد بك فأكرمه وأنزله منزلًا حسنًا عنده بالجيزة، وصار خصيصًا به.

وسبب مجيه إلى مصر ولم يرجع إلى القبطان عِلمُه أنه صار ممقوتًا في الدولة؛ لأن من قواعد دولة العثمانيين أنهم إذا أمَّروا أميرًا في ولاية ولم يفلح، مقتوه وسلبوه وربما قتلوه، وخصوصًا إذا كان ذا مال.

ثم حج المترجم في سنة سبع ومايتين وألف من القلزم، وأودع ذخايره عند رشوان كاشف المعروف بكاشف الفيوم لقرابة بينهما من بلادهما، ولما كان بالحجاز ووصل الحجاج الطرابلسية ورأوه وصحبته الغلامان، ذهبوا إلى أمير الحاج الشامي وعرَّفوه عنه وعن الغلامين وأنه يفعل بهما الفاحشة، فأرسل معهم جماعة من أتباعه في حصة مهملة وكبسوا عليه على حين غفلة، فوجدوه راقدًا ومعه أحد الغلامين، فسبه الطرابلسية ولعنوه وقطعوا لحيته وضربوه بالسلاح، وجرحوه جرحًا بالغًا وأهانوه، وأخذوا منه الغلامين وكادوا يقتلونه لولا جماعة من جماعة أمير الحاج، ثم رجع إلى مصر من البحر أيضًا، وأقام في منزلته عند مراد بك زيادة عن ست سنوات إلى أن حضر الفرنسيس إلى الديار المصرية، فقاتل مع الأُمرا وتغرَّب معهم في قبلي وغيره، ثم انفصل معهم وذهب من خلف الجبل وسار إلى الشام، فأرسله الوزير يوسف باشا بعد الكسرة بمكاتبات إلى الدولة، فلم يزل حتى وقعت هذه الحوادث وقامت العسكر على محمد باشا وأخرجوه.

ووصل الخبر إلى إسلامبول، فطلب ولاية مصر على ظن بقاء حبل الدولة العثمانية وأوامرها بمصر، وليس بها إلا طاهر باشا والأرنؤد، وجعل على نفسه قدرًا عظيمًا من المال، ووصل إلى إسكندرية وبلغه انعكاس الأمر وموت طاهر باشا، وطرد الينكجرية وانضمام طايفة الأرنؤد للمصرلية وتمكُّنهم من البلدة، فأراد أن يدبر أمرًا ويصطاد العقاب بالغراب؛ فيحوز بذلك سلطنة مجددة ومنقبة مؤيدة، فلم تنفعه التدابير ولم تسعفه المقادير، فكان كالباحث على حتفه بظلفه، والجادع بيده مارن أنفه، ولم يعلم أنها القاهرة كما قهرت جبابرة وكادت فراعنة.

إذا لم يكنْ عونٌ من اللهِ للفتى
فأولُ ما يَجني عليه اجتهادُه

وكان صفته أبيض اللون عظيم اللحية والشوارب أشقرهما، قليل الكلام بالعربي يحب اللهو والخلاعة.

ولما انقضى أمره وأرسل سليمان بك ومحمد بك مكاتبات إلى شاهين بك ونُظَرَاهُ بما ذُكر، وأن يأخذوا له أمانًا من إبراهيم بك والبرديسي، فكتبوا لهم أمانًا بعد امتناع منهما وإظهار التغير والغضب والتأسف على التفريط منهما في قتله.

وفي يوم الخميس المذكور عملوا ديوانًا، وأحضروا صالح أغا قابجي باشا الذي حضر أولًا ونزل ببيت رضوان كتخدا إبراهيم بك وَقَرُوا الفرمان الذي معه، وهو يتضمن ولاية علي باشا والأوامر المعتادة لا غير، وليس فيها ما كان ذكره علي باشا من الجمارك والالتزام وغيره، وتكلم الشيخ الأمير في ذلك المجلس، وذكر بعض كلمات ونصايح في اتباع العدل وترك الظلم وما يترتب عليه من الدمار والخراب، وشكا الأُمرا المتأمرون من أفعال بعضهم البعض، وتعدِّي الكشاف النازلين في الأقاليم وجورهم على البلاد، وأنه لا يتحصل لهم من التزامهم وحصصهم ما يقوم بنفقاتهم، فاتفق الحال على إرسال مكاتبات للكشاف بالحضور والكف عن البلاد؛ وأما مصطفى باشا فإنهم أنزلوه في مركب مع أتباع الباشا الذين كانوا بقصر العيني وسفروهم إلى حيث شاء الله.

وفيه وصل الألفي من سرحته إلى مصر القديمة، فأقام في قصره الذي عمره هناك — وهو قصر البارودي — يومين ثم عدى إلى الجيزة، ودخل أتباعه بالمنهوبات من الجِمال والأبقار والأغنام، ومعهم الجِمال محملة بالقمح الأخضر والفول والشعير لعدم البرسيم؛ فإنهم رعوا ما وجدوه في حال ذهابهم، وفي رجوعهم لم يجدوا خلاف الغلة، فرعوها وحملوا باقيها على الجِمال، ولو شا ربك ما فعلوه.

وفي تاني عشرينه وقعت معركة بين الأرنؤدية وعسكر التكرور بالقرب من الناصرية بسبب حمل برسيم، وضربوا على بعضهم بنادق رصاص وقُتل بينهم أنفار، واستمروا على مضاربة بعضهم البعض نحو سبعة أيام، وهم يترصدون لبعضهم في الطرقات.

وفي خامس عشرينه عملوا ديوانًا وقَرُوا فرمانًا وصل من الدولة مع الططر خطابًا لعلي باشا والأُمرا بتشهيل أربعة آلاف عسكري، وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وإرسال تلاتين ألف أردب غلال إلى الحرمين، وأنهم وجهوا أربع باشات من جهة بغداد بعساكر، وكذلك أحمد باشا الجزار أرسلوا له فرمانًا بالاستعداد والتوجه لذلك، فإن ذلك من أعظم ما تتوجه إليه الهمم الإسلامية وأمثال ذلك من الكلام والترفق، وفيه بعض القول بالحسب والمروة لتنجيز المطلوب من الغلال، وإن لم تكن متيسرة عندكم تبذلوا الهمة في تحصيلها من النواحي والجهات بأثمانها على طرف الميري بالسعر الواقع.

وفيه تقيد لضبط مخلفات علي باشا صالح أفندي، ورضوان كتخدا، ونايب القاضي، وباشكاتب.

وفيه حضر الأُمرا الذين توجهوا بصحبة الباشا إلى الشرقية، وفي هذا اليوم حضر عثمان كاشف البواب الذي كان بالمنوفية وترك خيامه وأثقاله وأعوانه على ما هم عليه، وحضر في قلة من أتباعه.

وفيه نقلوا عسكر التكرور من ناحية قناطر السباع إلى جهة أخرى، وأخرجوا سكانًا كثيرة من دورهم جهة الناصرية، وأزعجوهم من مواطنهم وأسكنوا بها عساكر وطبجية.

وفيه أنزلوا السيد علي القبطان من القلعة إلى بيت علي بك أيوب كما كان، وهذا السيد علي هو أخو علي باشا المقتول — كما ذكر — وأصله مملوك وليس بشريف كما يتبادر إلى الفهم من لفظة سيد أنها وصف خاص للشريف، بل هي منقولة من لغة المغاربة، فإنهم يعبرون عن الأمير بالسيد بمعنى المالك وصاحب السيادة.

وفي سادس عشرينه أنزلوا محمل الحاج من القلعة مطويًّا من غير هيئة، وأُشيع في الناس دورانه إلى بيت إبراهيم بك صحبة أحد الكشاف وطايفة من المماليك، واتفق الرأي على سفره من طريق بحر القلزم صحبة محمود جاويش مستحفظان، ومعه الكسوة والصرة، وكان حضر الكثير من حجاج الجهة القبلية بجِمالهم ودوابِّهم ومتاعهم، فلما تحققوا عدم السفر حكم المعتاد، باعوا جِمالهم ودوابَّهم بالرميلة بأبخس الأثمان لعدم العلف بعدما كلفوها بطول السنة، وما قاسَوْه أيضًا في الأيام التي أقاموها بمصر في الانتظار والتوهم.

شهر ذي القعدة (سنة ١٢١٨)

استهل بيوم الاتنين، فيه أنزلوا حسين قبطان ومن معه من عسكر الأرنؤد من القلعة، وكانوا نحو الأربعماية فذهبوا إلى بولاق وسكنوا بها بعدما أخرجوا السكان من دورهم بالقهر عنهم، ولم يبقَ بالقلعة من أجناسهم سوى الطبجية المتقيدين بخدمة المصرلية.

وفيه ألبس إبراهيم بك كتخداه رضوان خلعة، وأُشيع أنه قلَّده دفتردارية مصر وذهب إلى البرديسي فخلع عليه أيضًا، وكذلك الألفي؛ وذلك إكرامًا له وتنويهًا بذكره جزا فعله ومجيه بالباشا وتحيله عليه.

وفي ليلة الجمعة خامسه وصلت مكاتبات من يحيى بك البرديسي حاكم رشيد يخبر فيها بوصول محمد بك الألفي الكبير إلى ثغور رشيد يوم الأربع تالته، وقد طلع على أبي قير وحضر إلى إدكو ثم إلى رشيد في يوم الأربع المذكور، وقصده الإقامة برشيد ستة أيام.

فلما وصلت تلك الأخبار عملوا شنكًا، وضربوا مدافع كثيرة بعد الغروب، وكذلك بعد العشا وفي طلوع النهار من جميع الجهات: من الجيزة ومصر القديمة وبيت البرديسي والقلعة، وأظهروا البشر والفرح، وشرعوا في تشهيل الهدايا والتقادم، وأضمروا في نفوسهم السُّو له ولجماعته المتآمرين حسدًا لرياسته عليهم وخمولهم بحضوره، فهاجت حفايظهم وكتموا حقدهم وتناجوا فيما بينهم وبيَّتوا أمرهم مع كبار العسكر، وأرسل البرديسي كتابًا إلى مملوكه يحيى بك تابعه حاكم رشيد يأمره فيه بقتل الألفي هناك، وركب هو إلى المنيل، وعدى شاهين بك ومحمد بك المنفوخ وإسماعيل بك صهر إبراهيم بك وعمر بك الإبراهيمي إلى بر الجيزة ليلة الأحد، ونصبوا خيامهم ليستعدوا إلى السفر من آخر الليل صحبة الألفي الصغير، وعدى أيضًا قبلهم حسين بك الوشاش الألفي ونصب خيامه بحري منهم، فلما كان في خامس ساعة من الليل أرسلوا إلى حسين بك يطلبونه إليهم، فحضر مع مماليكه وقد رتبوا جماعة منهم تأتي بخيول ومشاعل من جهة القصر، فقالوا له: أين الخيول؟ فإننا راكبون في هذا الوقت للملاقاة، وهاهو أخوك الألفي قد ركب وهو مقبل، فنظر فرأى المشاعل والخيول فلم يَشُكَّ في صحة ذلك ولم يخطر بباله خيانتهم له، فأمر مماليكه أن يذهبوا إلى خيولهم ويركبوا ويأتوه بفرسه، فأسرعوا إلى ذلك، وبقي هو وحده ينتظر فرسه، فعاجلوه وغدروه وقتلوه بينهم وأرسلوا إلى البرديسي بالخبر.

وكان محمد علي وأحمد بك والأرنؤدية عدوا قبلي الجيزة ليلًا، وكمنوا بمكان ينتظرون الإشارة ويتحققون وقوع الدم بينهم، فلما علموا ذلك حضروا إلى القصر وأحاطوا به، وكان طبجي الألفي مخامرًا أيضًا فعطل توالي المدافع.

واستمروا في ترتيب الأُمرا على القصر إلى آخر الليل، فحضر إلى الألفي من أيقظه وأعلمه بقتل حسين بك وإحاطتهم بالقصر، فأراد الاستعداد للحرب وطلب الطبجي فلم يجده وأعلموه بما فعل بالمدافع، فأمر بالتحميل وركب في جماعته الحاضرين وخرج من الباب الغربي وسار مقبلًا، فركب خلفه الأُمرا المذكورون وساروا مقدار ملقتين حتى تعبت خيولهم، ولم يكن معهم خيول كثيرة؛ لأنهم لم يكونوا يظنون خروجه من القصر.

واشتغل أكثر أتباعهم بالنهب؛ لأنه عندما ركب الألفي وخرج من القصر دخله العسكر والأجناد، ونهبوا ما فيه من الأثقال والأمتعة والفرش وغيرها.

وكان كاتبه المعلم غالي ساكنًا بالجيزة، وكذلك كثير من أتباعه ومقدميه، فذهبوا إلى دورهم فنهبوها وأخذوا ما عند كاتبه المذكور من الأموال، ثم نهبوا دور الجيزة عن آخرها، ولم يتركوا بها جليلًا ولا حقيرًا حتى عروا ثياب النسا، وفعلوا مثل ما فعلوا بدمياط.

وأصبح الناس بالمدينة يوم الأحد لا يعلمون شيًّا من ذلك، إلا أنهم سمعوا الصراخ ببيت حسين بك جهة التبانة وقيل: إنه قُتل ببر الجيزة، فصار الناس في تعجب وحيرة، واختلفت رواياتهم ولم يفتحوا دكاكينهم ونقلوا أسبابهم منها، وظلوا غالب اليوم لم يعلموا سر قتل حسين بك إلا من صراخ أهل بيته.

وكل ذلك وقع وإبراهيم بك جالس في بيته، ويسأل من يدخل إليه عن الخبر، وأحضر محمود جاويش المعين للسفر بالمحمل وصيرفي الصرة والكتبة، واشتغل معهم ذلك اليوم في عدِّ مال الصرة وحسابها ولوازم ذلك.

وبعد العصر أُشيع المرور بالمحمل فاجتمع الناس للفرجة، فمروا به من الجمالية إلى قراميدان قبل الغروب، وأصبح يوم الاتنين تامنه ركب إبراهيم بك وأُمراه إلى قراميدان وسلم المحمل، واجتمع الناس للفرجة على العادة، فمروا به من الشارع الأعظم إلى العادلية وأمامه الكسوة في أناس قليلة، وطبل وأشاير، وعينوا للذهاب معه أربعماية مغربي من الحجاج رتبوا لهم جامكية وتلاتين نفرًا من عسكر الأرنؤد.

هذا ما كان من هؤلاء، وأما ما كان من أمر الألفي الكبير، فإنه لما حضر إلى رشيد يوم الأربع تالته — كما تقدم — قابله يحيى بك وعمل له شنكًا وطعامًا وما يليق به، وسأله عن مدة إقامته برشيد، فقال له: أريد الإقامة ستة أيام حتى نستريح، ونزل ببيت مصطفى عبد الله التاجر، ولم يكن معه إلا خاصة مماليكه وجوخداره تتمة ستة عشر، فاستأذنه يحيى بك في إرسال الخبر إلى مصر ليأتي الأُمرا إلى ملاقاته، فلم يرضَ بذلك.

ثم إنه لم يقم برشيد إلا ليلة واحدة وأنزل أمتعته في أربع مراكب من الرواحل، وانتقل آخر الليل إلى بيت «البطروشي» القنصل، وأمر بتنقيل المتاع إلى مراكب النيل، وأهدى له البطروشي غرابًا من صناعة الإنكليز مليح الشكل، نزل هو به وسار إلى مصر، وكان قصده الحضور بغتة، فعندما يصلهم الخبر يصبحون يجدونه في الجيزة، ويأبى الله إلا ما يريد فلم يسعفه الريح، وكان تأخيره سببًا لنجاته، ولما وصل الخبر بحضوره وعملوا الشنك جهز له الألفي الصغير بحض الاحتياجات، وأرسلها في الذهبية والقنجة صحبة الخواجا محمود حسن وخلافه، فنزلوا من بولاق وانحدروا بعد الظهر من يوم السبت، فاجتمعوا به عند نادر نصف الليل، فلما أصبح حضر إليه سليمان كاشف البواب وقابله، ورجع معه إلى منوف العلى.

فأقام هناك يوم الأحد، وبات هناك ودخل الحمام، وسار منها بعد طلوع النهار وهم يسحبون المراكب باللبان لمخالفة الريح، فلم يزل سايرًا إلى الظهيرة فلاقاه عدة من عسكر الأرنؤد الموجهة إليه في أربعة مراكب في مضيق الترعة، فسلم عليهم فردوا عليه السلام، فسألهم بعض أتباعه بالتركي، وقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد الألفي، فقال لهم: ها هو الألفي؛ فسكتوا ثم تلاغى الملاحون مع بعضهم فأعلموهم الخبر، فنقلوه إلى الألفي فكذب ذلك وقال: هذا شيء لا يكون، ولا يصح أن إخواننا يفعلون ذلك معي، وأنا سافرت وتغربت سنة لأجل راحتنا، ولعلها حادثة بينهم وبين العسكر.

ثم إن طايفة منهم أدركت الغراب الذي قدمه له البطروشي، وكان متأخرًا عن المراكب فصعدوا إليه، وأخذوا ما فيه من المتاع، فأخبروه بذلك ونظر فرآهم يفعلون ذلك، فأرسل إليهم بعض من معه من الأتراك ليستخبر عن شأنهم وأمرهم، ولم ينتظر رجوعه بالجواب ولكنه أخذ بالحزم ونزل في الحال إلى القنجة مع المماليك وصحبته الخواجا محمود حسن، وأمرهم أن يمسكوا المقاذيف ففعلوا ذلك، وهو يستحثهم حتى خرجوا من الترعة إلى البحر، فلاقاهم طايفة أخرى في سفينتين وفيهم سراج باشا تابع البرديسي، وكان بعيدًا عنهم فأعماهم الله عنه وكأنهم لم يظنوه إياه.

ولم يزل يَجِدُّ في السير حتى وصل إلى شبرا الشهابية، فنظر إلى رجل ساعٍ وأعلمه أنه مرسَل من بيت سليمان كاشف البواب يخبر الواقع، فعند ذلك تحقق الخبر وطلع إلى البر وأمر بتفريق القنجة، ومشى مع المماليك على أقدامهم وتخلف عنه الخواجا محمود حسن بشبرا، فلم يزالوا يَجِدُّون السير حتى وصلوا إلى ناحية قرنفيل، ودخل إلى نجع عرب الحويطات والْتَجَا إلى امرأة منهم فأجارته ولبَّت دعوته، وأركبته فرسًا وأصحبت معه شخصين هجانين، وركب معهما وسار إلى قرب الخانكة ليلًا والمماليك معه مشاة، فقابلهم جماعة من عرب بلي، وكبيرهم يقال له سعد إبراهيم، فاحتاطوا به فاشتغل المماليك بحربهم فتركهم وسار مع الهجانة إلى ناحية الجبل، ومضى فسمع الأجناد القريبون منهم — وفيهم البرديسي — صوت البنادق بين العرب والمماليك، فأسرعوا إليهم وسألوهم عن سيدهم فقالوا: إنه كان معنا وفارقنا الساعة، فأمر البرديسي مَن معه من المماليك والأجناد أن يسرعوا خلفه ويتفرقوا في الطرق، وكل من أدركه فليقتله في الحال، فذهبوا خلفه فلم يعثر به أحد منهم.

وخرم عليه سعد إبراهيم بجماعة قليلة من طريق يعرفها، فرمى لهم ما معه من الذهب والجوهر والكرك الذي على ظهره، فاشتغلوا به وتركهم وسار وغاب أمره.

وفي حال جلوسه عند العرب مر عليهم طايفة من الأجناد سايرين؛ لأنهم لما فعلوا فعلتهم في الجيزة لم يبقَ لهم شغل إلا هو، وأخذوا في الاحتياط عليه ما أمكن، فأرسلوا عسكرًا في المراكب وانبنت طوايفهم في الجهات البحرية شرقًا وغربًا، فذهبت طايفة منهم إلى الشرقية وطايفة إلى القليوبية، وكذلك المنوفية والغربية والبحيرة، وسلكوا طريق الجبل الموصلة إلى قبلي، وذهب حسين بك ورستم بك إلى صالح بك الألفي الذي بالشرقية، وذهب شاهين بك إلى سليمان كاشف البواب من البر الغربي ليقطع عليه الطريق، وذهب علي بك أيوب ومحمد علي جهة القليوبية ليلحقه بمنوف، فلما وصل إلى دجوة تعوق بسبب قلة المعادي، فلما وصل إلى منوف فوجده عدى إلى الجهة الأخرى، فأخذوا متروكاته التي تركها، وهي بعض خيول وجِمال وخمسين زلعة سمن مسلي، وعملوا على أهل البلد أربعة آلاف ريال قبضوها منهم ورجعوا، وكان عندما بلغه الخبر الإجمالي لم يكذب المخبر، وذلك بعد مفارقة الألفي له بنحو تلات ساعات، فعدى في الحال إلى الجهة الغربية بأثقاله وعساكره، فوجد أمامه شاهين بك فأرسل يطلب منه أمانًا، فأجابه إلى ذلك وأرسل إلى مصر من يأتي بالأمان، واطمأن شاهين بك فارتحل سليمان كاشف ليلًا.

فلما أصبح شاهين بك وجده قد ارتحل فرجع بخفي حنين، وعدى إلى القليوبية فبلغه خبر الألفي وما وقع له مع العرب، فطلبهم فأخبروه أنه غاب عنهم في الجبل من الطريق الفلاني، فقبض عليهم وأحضرهم صحبته مشنوقين في عمايمهم، ووجد المماليك فقبض عليهم وأرسلهم إلى البرديسي.

وأما مراكبه فإنه عندما نزل إلى القنجة وفارقها، أدركها العسكر الذين قابلوه في المراكب ونهبوا ما فيها، وكان بها شي كثير من الأموال وظرايف الإنكليز والأمتعة والجوخ والأسلحة والجواهر.

فإنه لما وصل إلى القرالي أكرمه إكرامًا كثيرًا، وأهدى إليه تحفًا غريبة، وكذلك أكابرهم، وأعطاه جملة كبيرة من المال على سبيل الأمانة يرسل له بها غلالًا وأشيا من مصر، واشترى هو لنفسه أشيا بأربعة آلاف كيس يدفعها إلى القنصل بمصر، وأرسل له بها القرالي بوليصة، وأهدى له صورة نفسه وكثير من جوهر ونظارات وآلات وغير ذلك، وأما الألفي الصغير فإنه ذهب إلى جهة قبلي وفرد الفرد والكلف على البلاد، ومن عصى عليه أو توانى في دفع المطلوب نهبهم وحرقهم، وأما صالح بك الألفي فإنه لما وصل إليه الخبر وقدوم الموجهين إليه ركب في الحال من زنكلون، وترك حملته وأثقاله فلم يدركوه أيضًا.

وفي يوم التلات أحضروا مماليك الألفي الكبير وجوخداره إلى بيت البرديسي، وأرسل إبراهيم بك والبرديسي مكاتبات إلى الأُمرا بقبلي، وهم: سليمان بك الخازندار حاكم جرجا، وعثمان بك حسن بقنا، ومحمد بك المعروف بالغربية الإبراهيمي، يوصونهم ويحذرونهم من التفريط في الألفي الصغير والكبير إن وردا عليهما، وأما شاهين بك فإنه عدى إلى الشرقية واجتهد في التفتيش، ثم رجع يوم التلات المذكور وأمامه العرب المتهمون بأنهم يعرفون طريقه، وأنهم أدركوه فأعطاهم جوهرًا كثيرًا وتركوه، وأحضروا صحبتهم حقًّا من خشب وجدوه مرميًّا في بعض الطرق، فأحضر البرديسي مماليك الألفي وأراهم ذلك الحق، فقالوا: نعم، كانوا مع أستاذنا وفي داخله جوهر ثمين، وأرسلوا عدة من المماليك والهجانة إلى الطريق التي ذكرها العرب، وأحضر البرديسي ابن شديد وسأله فأخبره أنه لم يكن حاضرًا في نجعه، وأن أمه أو خالته هي التي أعطته الفرس والهجانة، فوبخه ولامه فقال له: هذه عادة العرب من قديم الزمان، يجبرون طيبهم ولا يخفرون ذمتهم؛ فحبسه أيامًا ثم أطلقه، وقيل: إنه مر عليه علي بك أيوب ومحمد علي ومن معهم من العسكر، وهو في خيش العرب وهو يراهم وأعماهم الله عن تفتيش النجع وعن السوال أيضًا.

وفي ذلك اليوم خرج عثمان بك يوسف وحسين بك الوالي وأحمد أغا شويكار إلى جهة الشرقية ومرزوق بك إلى القليوبية، يفتشون على الألفي.

وفيه شرعوا في تشهيل تجريدة إلى الألفي الصغير وأميرها شاهين بك، وصحبته محمد بك المنفوخ وعمر بك وإبراهيم كاشف.

وفي يوم الجمعة ثاني عشره سافرت قافلة الحاج بالمحمل إلى السويس.

وفي يوم السبت حضر علي بك أيوب ومحمد علي من سرحتهما على غير طايل.

وفيه سافر قنصل الإنكليز من مصر بسبب هذه الحادثة، فإنه لما وقع ذلك اجتمع إبراهيم بك والبرديسي وتكلم معهما ولامهما على هذه الفعلة، وكلمهما كلامًا كثيرًا منه أنه قال لهما: هذا الذي فعلتماه لأجل نهب مال القرالي ومطلوب مني أربعة آلاف كيس، وهي البوليصة الموجهة على الألفي وغير ذلك، فلاطفاه وأرادا منعه من السفر، فقال: لا يمكن أني أقيم ببلدةٍ هذا شانها، وطريقتنا لا نقيم إلا في البلدة المستقيمة الحال، ثم نزل مغضبًا، وسافر وأراد أيضًا قنصل الفرنسيس السفر فمنعاه.

وفي يوم السبت طلب العسكر جماكيهم من الأُمرا وشددوا في الطلب، واستقلوا الأُمرا في أعينهم، وتكلموا مع محمد علي وأحمد بك وصادق أغا كلامًا كثيرًا، فسعوا في الكلام مع الأُمرا المصرلية فوعدوهم إلى يوم التلات.

ومات بقطر المحاسب كاتب البرديسي يوم الأحد.

فلما كان يوم التلات، اجتمع العسكر ببيت محمد علي، وحصل بعض قلقة، فحولهم على القبط بمايتاي ألف ريال، منها خمسون على غالي كاتب الألفي وثلاثون على تركة بقطر المحاسب والماية والعشرون موزعة عليهم، فسكن الاضطراب قليلًا.

وفي يوم التلات المذكور رجع مرزوق بك من القليوبية.

وفي يوم الأربع سابع عشره تُوُفِّيَ إبراهيم أفندي الرونامجي، وفيه حصل رجات وقلقات بسبب العسكر وجماكيهم وأرادوا أخذ القلعة فلم يتمكنوا من ذلك، وقفل الناس دكاكينهم، وقتلوا رجلًا نصرانيًّا عند حارة الروم، وخطفوا بعض النسا وأمتعة وغير ذلك، وركب محمد علي ونادى بالأمان.

وفي يوم السبت عشرينه حضر سليمان كاشف البواب بالأمان ودخل إلى مصر.

وفي يوم الأحد أفرجوا عن كشاف الألفي المحبوسين.

وفيه حضر عثمان بك يوسف من ناحية الشرقية، واستمر هناك حسين بك الوالي ورستم، وذهب المنفوخ وإسماعيل بك إلى ناحية شرق أطفيح؛ لأنه أُشيع أن الألفي ذهب عند عرب المعازة فقبضوا على جماعة منهم وحبسوهم، وأرسلوا ماية هجان إلى جميع النواحي وأعطوهم دراهم يفتشون على الألفي.

وفيه شرعوا في عمل فردة على أهل البلد، وتصدى لذلك المحروقي وشرعوا في كتابة قوايم لذلك، ووزعوها على العقار والأملاك أجرة سنة يقوم بدفع نصفها المستأجر، والنصف الثاني يدفعه صاحب الملك.

وفي يوم الأربع رابع عشرينه سرح كتاب الفردة والمهندسون، ومع كل جماعة شخص من الأجناد، وطافوا بالأخطاط يكتبون قوايم الأملاك، ويصقعون الأجر؛ فنزل بالناس ما لا يوصف من الكدر مع ما هم فيه من الغلا ووقف الحال، وذلك خلاف ما قرروه على قرى الأرياف، فلما كان في عصر ذلك اليوم نطق أفواه الناس بقولهم: الفردة بطالة وباتوا على ذلك وهم ما بين مصدق ومكذب.

وفي يوم الخميس خامس عشرينه أُشيع إبطال الفردة مع سعي الكتبة والمهندسين في التصقيع والكتابة، وذهبوا إلى نواحي باب الشعرية.

ودخلوا درب مصطفى فضج الفقرا والعامة والنسا، وخرجوا طوايف يصرخون وبأيديهم دفوف يضربون عليها ويندبن وينعين، ويقلن كلامًا على الأُمرا مثل قولهن: «إيش تاخذ من تفليسي يا برديسي»، وصبغن أيديهن بالنيلة وغير ذلك فاقتدى بهن خلافهن، وخرجوا أيضًا ومعهم طبول وبيارق وأغلقوا الدكاكين.

وحضر الجمع الكثير إلى الجامع الأزهر، وذهبوا إلى المشايخ فركبوا معهم إلى الأُمرا، ورجعوا ينادون بإبطالها، وسُرَّ الناس بذلك وسكن اضطرابهم.

وفي وقت قيام العامة كان كثير من العسكر منتشرين في الأسواق، فداخلهم الخوف وصاروا يقولون لهم: نحن معكم سوا سوا أنتم رعية ونحن عسكر ولم نرضَ بهذه الفردة وعلوفاتنا على الميري ليست عليكم، أنتم أناس فقرا فلم يتعرض لهم أحد.

وحضر كتخدا محمد علي مرسولًا من جهته إلى الجامع الأزهر وقال مثل ذلك، ونادى به في الأسواق ففرح الناس وانحرفت طباعهم عن الأُمرا ومالوا إلى العسكر.

وكانت هذه الفعلة من جملة الدسايس الشيطانية؛ فإن محمد علي لما حرش العساكر على محمد باشا خسرو وأزال دولته وأوقع به ما تقدم ذكره بمعونة طاهر باشا والأرنؤد ثم بالأتراك عليه حتى أوقع به أيضًا، وظهر أمر أحمد باشا وعرف أنه إن تم له الأمر ونما أمر الأتراك لا يبقون عليه؛ فعاجله وأزاله بمعونة الأُمرا المصرلية، واستقر معهم حتى أوقع باشتراكهم قتل الدفتردار والكتخدا، ثم محاربة محمد باشا بدمياط حتى أخذوه أسيرًا، ثم التحيل على علي باشا الطرابلسي حتى أوقعوه في فخهم وقتلوه ونهبوه.

كل ذلك وهو يُظهر المصافاة والمصادقة للمصريين، وخصوصًا البرديسي؛ فإنه تآخى معه وجرح كلٌّ منهما نفسه ولحس من دم الآخر.

واغتر به البرديسي وراج سوقه عليه وصدقه وتعضد به واصطفاه دون خشداشينه، وتحصن بعساكره وأقامهم حوله في الأبراج، وفعل بمعونتهم ما فعله بالألفي وأتباعه وشردهم وقص جناحه بيده، وشتت البواقي وفرقهم بالنواحي في طلبهم؛ فعند ذلك استقلوهم في أعينهم وزالت هيبتهم من قلوبهم وعلموا خيانتهم، وسفهوا رأيهم واستخفوا جانبهم، وشمخوا عليهم وفتحوا باب الشر بطلب العلوفة مع الإحجام؛ خوفًا من قيام أهل البلد معهم، ولعلمهم بميلهم الباطني إليهم، فاضطروهم إلى عمل هذه الفردة ونُسب فعلها للبرديسي، فثارت العامة وحصل ما حصل.

وعند ذلك تبرأ محمد علي والعسكر من ذلك، وساعدوهم في رفعها عنهم؛ فمالت قلوبهم إليهم، ونسوا قبايحهم وابتهلوا إلى الله في إزالة الأُمرا، وكرهوهم وجهروا بالدعا عليهم، وتحقق العسكر منهم ذلك.

وانحرف الأُمرا على الرعية باطنًا، بل أظهر البرديسي الغيظ والانحراف من أهل مصر، وخرج من بيته مغضبًا إلى جهة مصر القديمة وهو يلعن أهل مصر، ويقول: لا بد من تقريرها عليهم ثلاث سنوات، وأفعل بهم وأفعل حيث لم يمتثلوا لأوامرنا.

ثم أخذوا يدبرون على العسكر وأرسلوا إلى جماعتهم المتعمقين في الجهات القبلية والبحرية يطلبونهم للحضور؛ فأرسلوا إلى حسين بك الوالي ورستم بك من الشرقية، وإسماعيل بك صهر إبراهيم بك، ومحمد بك المنفوخ ليأتيا من شرق أطفيح، والفريقان كانوا لرصد الألفي وانتظاره، وأرسلوا إلى سليمان بك حاكم الصعيد بالحضور من أسيوط بمن حوله من الكشاف والأُمرا، وإلى يحيى بك حاكم رشيد وأحمد بك حاكم دمياط، وأصعدوا محمد باشا المحبوس إلى القلعة.

وعلم الأرنؤدية منهم ذلك؛ فبادروا واجتمعوا بالأزبكية في يوم الأحد تامن عشرينه، فارتاع الناس وأغلقوا الحوانيت والدروب.

وذهب جمع من العسكر إلى إبراهيم بك واحتاطوا بمهمات بيته بالداودية، وكذلك بيت البرديسي بالناصرية، وتفرقوا على بيوت باقي الأُمرا والكشاف والأجناد، وكان ذلك وقت العصر، والبرديسي عنده عدة كبيرة من العسكر المختصين به ينفق عليهم، ويدر عليهم الأرزاق والجماكي والعلوفات، ومنهم الطبجية وغيرهم.

وعمر قلعة الفرنسيس في تل العقارب بالناصرية، وجددها بعد تخريبها ووسعها وأنشا بها أماكن وشحنها بآلات الحرب والذخيرة والجبخانة، وقيد بها طبجية وعساكر من الأرنؤدية، وذلك خلاف المتقيدين بالأبراج والبوابات التي أنشأها قبالة بيته بالناصرية جهة قناطر السباع، والجهة الأخرى كما سبق ذكر ذلك، فلما علم بوصول العساكر حول دايرته وكان جالسًا صحبة عثمان بك يوسف، فقام وقال له: كن أنت في مكاني هنا حتى أخرج وأرتب الأمر وأرجع إليك، وتركه وركب إلى خارج، فضربوا عليه الرصاص فخرج على وجهه بخاصته وهجنه ولوازمه الخفيفة، وذهب إلى ناحية مصر القديمة، وذلك في وقت الغروب.

وكان العسكر نقبوا نقبًا من الجنينة التي خلف داره، ودخلوا منه وحصلوا بالدار فوجدوه قد خرج بمن معه من المماليك والأجناد، فقاتلوا من وجدوه وأوقعوا النهب في الدار وانضم إليهم أجناسهم المتقيدون بالدار، وقبضوا على عثمان بك يوسف ومماليكه وشلحوهم ثيابهم وسحبوهم بينهم عرايا مكشوفي الروس، وتسلمهم طايفة منهم على تلك الصورة، وذهبوا بهم إلى جهة الصليبة فأودعوهم بدار هناك.

وفي سابع ساعة من الليل أرسل محمد علي جماعة من العسكر، ومعهم فرمان وصل من أحمد باشا خورشيد حاكم إسكندرية بولايته على مصر، فذهبوا به إلى القاضي وأطلعوه عليه وأمروه أن يجمع المشايخ في الصباح، ويقراه عليهم ليحيط علم الناس بذلك.

فلما أصبح أرسل إليهم فقالوا: لا تصح الجمعية في مثل هذا اليوم مع قيام الفتنة، فأرسله إليهم وأُطلِعوا عليه، وأُشيع ذلك بين الناس.

وأما إبراهيم بك، فإنه استمر مقيمًا ببيته بالداودية وأمر مماليكه وأتباعه بأن يجلسوا بروس الطرق الموصلة إليه، فجلس منهم جماعة وفيهم عمر بك تابعه بسبيل الدهيشة المقابل لباب زويلة، وكذلك ناحية تحت الربع والقربية وجهة سويقة لاجين والداودية، وصار العسكر يضربون عليهم وهم كذلك ودخل عليهم الليل، فلم يزالوا على ذلك إلى الصباح، واضمحل حالهم.

وقُتل الكثير من المماليك والأجناد ووصل إليهم خبر خروج البرديسي، فعند ذلك طلبوا الفرار والنجاة بأرواحهم.

وعلم إبراهيم بك بخروج البرديسي، وأنه إن استمر على حاله أُخِذ؛ فركب في جماعته في ثاني ساعة من النهار، وخرجوا على وجوههم والرصاص يأخذهم من كل ناحية، فلم يزل سايرًا حتى خرج إلى الرميلة وهدم في طريقه أربعة متاريس، وأصيب بعض مماليك وخيول وخدامين.

وأصيب رضوان كتخداه وطَلَعتْ روحه عند الرميلة، فأنزلوه عند باب العزب وأخذوا ما معه من جيوبه، ثم شالوه إلى داره ودفنوه وقبضوا على عمر بك تابع الأشقر الإبراهيمي من سبيل الدهيشة هو ومماليكه، وأما الذين بالقلعة من الأُمرا فإنهم أصبحوا يضربون بالمدافع والقنابر على بيوت الأرنؤد بالأزبكية إلى الضحوة الكبرى.

فلما تحققوا خروج إبراهيم بك والبرديسي ومن أمكنه الهروب، لم يسعهم إلا أنهم أبطلوا الرمي، وتهيوا للفرار ونزلوا من باب الجبل ولحقوا بإبراهيم بك، وعند نزولهم أرادوا أخذ محمد باشا وعلي باشا القبطان وإبراهيم باشا، فقام عليهم عسكر المغاربة ومنعوهم من أخذهم، ونهب المغاربة الضربخانة وما فيها من الذهب والفضة والسبايك، حتى العدد والمطارق.

وتسلم العسكر القلعة من غير مانع، ولم تثبت المصرلية للحرب نصف يوم في القلعة، ولم ينفع اهتمامهم بها طول السنة من التعمير والاستعداد وما شحنوه بها من الذخيرة والجبخانة وآلات الحرب، وملوا ما بها من الصهاريج بالماء الحلو، وقام أحمد بك الكلارجي وعبد الرحمن بك الإبراهيمي وسليم أغا مستحفظان من وقت مجيهم إلى مصر متقيدين ومرتبطين بها ليلًا ونهارًا لا ينزلون إلى بيوتهم إلا ليلة في الجمعة بالنوبة إذا نزل أحدهم أقام الآخران.

وطلع محمد علي إليها ونزل وبجانبه محمد باشا خسرو ورفقاه، وأمامهم المنادي ينادي بالأمان حكم ما رسم محمد باشا ومحمد علي، وأُشيع في الناس رجوع محمد باشا إلى ولاية مصر، فبادر المحروقي إلى المشايخ فركبوا إلى بيت محمد علي يهنون الباشا بالسلامة والولاية، وقدم له المحروقي هدية وأقام على ذلك بقية يوم الاتنين ويوم التلات فكان مدة حبسه ثمانية أشهر كاملة، فإنه حضر إلى مصر بعد كسرته بدمياط في آخر ربيع الأول، وهو آخر يوم منه وأطلق في آخر يوم من ذي القعدة.

وخرج الأُمرا على أسوا حال من مصر، ولم يأخذوا شيًّا مما جمعوه وكنزوه من المال وغيره إلا ما كان في جيوبهم، أو كان منهم خارج البلد مثل سليم كاشف أبي دياب؛ فإنه كان مقيمًا بقصر العيني، أو الغايبين منهم جهة قبلي وبحري.

وأما من كان داخل البلد فإنه لم يخلص له سوى ما كان في جيبه فقط، ونهب العسكر أموالهم وبيوتهم وذخايرهم وأمتعتهم وفرشهم، وسَبَوا حريمهم وسراريهم وجواريهم وسحبوهن بينهم من شعورهن، وتسلطوا على بعض بيوت الأعيان من الناس المجاورين لهم، ومن لهم بهم أدنى نسبة أو شبهة، بل وبعض الرعية إلا من تداركه الله برحمته أو الْتَجَا إلى بعضٍ منهم أو صالَح على بيته بدراهم يدفعها لمن الْتَجَا إليه منهم.

ووقع في تلك الليلة واليومين بعدها ما لا يوصف من تلك الأمور، وخربوا أكثر البيوت وأخذوا أخشابها ونهبوا ما كان بحواصلهم من الغلال والسمن والأدهان، وكان شيًّا كثيرًا، وصاروا يبيعونه على من يشتريه من الناس، ولولا اشتغالهم بذلك لما نجا من الأُمرا المصرلية الذين كانوا بالبلدة أحد، ولو رجع الأُمرا عليهم وهم مشتغلون بالنهب لتمكنوا منهم، ولكن غلب عليهم الخوف والحرص على الحياة والجبن، وخابت فيهم الظنون.

وذهبت نفختهم في الفارغ وجازاهم الله ببغيهم وظلمهم وغرورهم، وخصوصًا ما فعلوه مع علي باشا من الحيل حتى وقع في أيديهم، ثم رذلوه وأهانوه وقتلوا عسكره ونهبوا أمواله ثم طردوه وقتلوه، فإنه وإن كان خبيثًا لم يعمل معهم ما يستحق ذلك كله.

وأعظم منه ما فعلوه مع أخيهم الألفي الكبير بعدما سافر لحاجتهم وراحتهم، وصالَح عليهم ورتب لهم ما فيه راحتهم وراحة الدولة معهم بواسطة الإنكليز، وغاب في البحر المحيط سنة وقاسى هول الأسفار والفراتين في البحر، فجزوه بالتشريد والتشتيت والنهب وقتْل أتباعه وحبسهم وبلصهم، واتخذوهم أعدا وأخصامًا من غير جرم ولا سابقة عداوة معهم إلا الحسد والحقد وحذرًا من رآسته عليهم.

وكانت هذه الفعلة سببًا لنفور قلوب العسكر منهم، واعتقادهم خيانتهم وقلتهم في أعينهم، فإن الألفي وأتباعه كانوا مقدار النصف منهم، ونصف النصف متفرق في الأقاليم مغمورون في غفلتهم، ومشتغلون بما هم فيه من مغارم الفلاحين وطلب الكُلف، فلما أرسلوا لهم بالحضور لم يسهل بهم ترك ذلك، ولم يستعجلوا الحركة، حتى يستوفوا مطلوباتهم من القرى إلى أن حصل ما حصل ونزل بهم ما نزل، ولم يقع لهم منذ ظهورهم أشنع من هذه الحادثة، وخصوصًا كونها على يد هولا، وكانوا يرون في أنفسهم أن الشخص منهم يدوس برجله الجماعة من العسكر، وأحسنوا ظنهم فيهم واعتقدوا أنهم صاروا أتباعهم وجندهم، مع أنهم كانوا قادرين على إزالتهم من الإقليم، وخصوصًا عندما خرجوا من المدينة لملاقاة علي باشا.

وأخرجوا جميع العسكر وحازوهم إلى جهة البحر، وحصنوا أبواب البلد بمن يثقون به من أجنادهم، ورسموا لهم رسومًا امتثلوها، فلو أرسلوا لهم بعد إيقاعهم بعلي باشا أقل أتباعهم وأمروهم بالرحلة لما وسعتهم المخالفة، حتى ظن كثير ممن له أدنى فطنة حصول ذلك، فكان الأمر بخلاف ذلك.

ودخلوا بعد ذلك وهم بصحبتهم ضاحكين من غفلة القوم مستبشرين برجوعهم ودخولهم إلى المدينة ثانيًا.

وعند ذلك تحقق لذوي الفطن سو رأيهم وعدم فلاحهم، وزادوا في الطنبور نغمة بما صنعوه مع الألفي، وكان العسكر يهابون جانبه ويخافون أتباعه ويخشونهم، وخصوصًا لما سمعوا بوصوله على الهية المجهولة لهم داخلهم من ذلك أمر عظيم استمر في أخلاطهم يومًا وليلة، إلى أن جلاه البرديسي ومن معه بشوم رأيهم وفساد تدبيرهم، وفرقوا جمعهم في النواحي حرصًا على قتل الألفي وأتباعه، فعند ذلك زالت هيبتهم من قلوب العسكر، وأوقعوا بهم ما أوقعوه، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

شهر ذي الحجة الحرام، استهل بيوم التلات (سنة ١٢١٨)

فيه قلدوا علي أغا الشعراوي واليًا على مصر.

وفيه نهبوا بيت محمد أغا المحتسب، وقبضوا عليه وحبسوه.

وفي ليلة الأربع أنزلوا محمد باشا خسرو وإبراهيم باشا إلى بولاق، وسفروهما إلى بحري ومعهما جماعة من العسكر، وكانت ولايته هذه الولاية الكذابة شبيهة بولاية أحمد باشا الذي تولى بعد قتل طاهر باشا يومًا ونصفًا، وكان قد اعتقد في نفسه رجوعه لولاية مصر، حتى أنه لما نزل من القلعة إلى بيت محمد علي نظر إلى بيته من الشباك مهدومًا متخربًا، فطلب في ذلك الوقت المهندسين، وأمرهم بالبنا؛ وذلك من وساوسه ويقال: إن السبب في سفره إخوة طاهر باشا؛ فإنهم داخلهم غيظ شديد، ورأى محمد علي نفرتهم وانقباضهم من ذلك، وعلم أنه لا يستقيم حاله معهم وربما تولد بذلك شر؛ فعجل بسفره وذهابه.

ومن الاتفاقات العجيبة أيضًا أن طاهر باشا لما غدر بمحمد باشا أقام بعده اتنين وعشرين يومًا، وكذلك لما غدر المصرلية بالألفي لم يقيموا بعد ذلك إلا مثل ذلك.

وفيه صعد عابدي بك أخو طاهر باشا بالقلعة وأقام بها.

وفي ليلة الخميس تالته أطلقوا عثمان بك يوسف، وسافر إلى جماعته جهة قبلي، يقال: إنه افتدى نفسه منهم بمال، وأطلقوه ومعه خمسة مماليك وأعطوه خمسة جِمال وأربعة هجن وخيلًا.

وفيه أفرجوا عن محمد أغا المحتسب، وأبقوه في الحسبة على مصلحة عملوها عليه، وقام بدفعها وركب وشق في المدينة وعمل تسعيرة، ونادى بها في الشوارع والأسواق، وأما الأُمرا فإنهم باتوا أول ليلة جهة البساتين، وفي ثاني يوم ذهبوا إلى حلوان، وحضر إليهم حسين بك الوالي ورستم بك من الشرقية، ومروا من تحت القلعة وانفصلوا من العسكر الذين كانوا معهم في المطرية، وتركوا لهم الحملة.

ووصل إليهم أيضًا يحيى بك من ناحية رشيد وأحمد بك من دمياط وذهبوا إليهم، ووصل يحيى بك من ناحية الجيزة وأحضر معه عربانًا كثيرة من الهنادي وبني علي وغيرهم، ونزلوا بإقليم الجيزة ونهبوا البلاد وأكلوا الزروعات، واستمروا على ذلك وانتشروا إلى أن صارت أوايلهم بزاوية المصلوب وأواخرهم بالجيزة.

وفيه كتبوا مكاتبات من نسا الأُمرا المصرلية بأنهم لا يتعرضون لأحد من العساكر الكاينة بقبلي، وإن قُتل منهم أحد اقتصوا من حريمهم وأولادهم بمصر.

وفي يوم الجمعة حضر محمد بك المبدول بأمان ودخل إلى مصر.

وفي يوم الأحد سادسه أصعدوا عمر بك وبقية الكشاف، وبعض الأجناد المصرية إلى القلعة.

وفيه عدى كثير من العسكر إلى بر الجيزة، ووقع بينهم وبين العرب بعض مناوشات وقُتل أناس كثيرة من الفريقين.

وفي سابعه ظهر محمد بك الألفي الكبير من اختِفاه، وكان متواريًا بشرقية بلبيس برأس الوادي عند شخص من العربان يُسمَّى عشيبة، فأقام عنده مدة هذه الأيام، وخلص إليه صالح تابعه بما معه من المال، وكان البرديسي استدل على مكانه وأحضر أناسًا من العرب، وجعل لهم مالًا كثيرًا عليه وأخذوا في التحيل عليه، فحصلت هذه الحوادث وجوزي البرديسي بنيته، وخرج من مصر كما ذُكر.

وكانوا في تلك المدة يشيعون عليه إشاعات، مرة بموته ومرة بالقبض عليه وغير ذلك، فلما حصل ما حصل وانجلت الطرق من المراصدين اطمأن حينئذٍ، وركب في عدة من الهجانة وصحبته صالح بك تابعه، ومروا من خلف الجبل وذهب إلى شرق أطفيح، ونزل عند عرب المعازة وتواتر الخبر بذلك.

وفي تاسعه وصل أحمد باشا خورشيد إلى منوف، فتقيد السيد أحمد المحروقي وجرجس الجوهري بتصليح بيت إبراهيم بك بالداودية وفرشه.

وفي ليلة الاتنين رابع عشره وصل الباشا إلى ثغر بولاق فضربوا شنكًا ومدافع، وخرج العساكر في صبحها والوجاقلية وركب ودخل من باب النصر وأمامه كبار العساكر بزينتهم، ولم يلبس الشعار القديم، بل ركب بالتخفيفة وعليه قبوط مجرور وخلفه النوبة التركية، ودخل إلى الدار التي أعدت له بالداودية، وقدموا له التقادم وعملوا بها تلك الليلة شنكًا وسواريخ.

وفي يوم التلات خامس عشره مر الوالي وأمامه المنادي، وبيده فرمان من الباشا ينادي به على الرعية بالأمن والأمان والبيع والشرا.

وفي منتصفه حضر عبد الرحمن بك الإبراهيمي — وكان في بشبيش بناحية بحري — فطلب أمانًا وحضر إلى مصر.

وفي يوم الجمعة تحوَّل الباشا من الداودية إلى الأزبكية، وسكن ببيت البكري حيث كان حريم محمد باشا فركب قبل الظهر في موكب، وذهب إلى المشهد الحسيني، وصلى الجمعة هناك ورجع إلى الأزبكية.

وفيه فتحوا طلب مال الميري من السنة القابلة لضرورة النفقة، فاغتمَّ الملتزمون لذلك لضيق الحال وتعطل الأسباب وعدم الأمن، وتوالى طلب الفرد من البلاد، فلو فضل للملتزم شي لا يصل إليه إلا بغاية المشقة وركوب الضرر، لوثوب الخلايق من العربان والفلاحين والأجناد والعساكر على بعضهم البعض، من جميع النواحي القبلية والبحرية.

ثم إن الوجاقلية وبعض المشايخ راجعوا في ذلك، فانحط الأمر بعد ذلك على طلب نصف مال الميري من سنة تسعة عشر، وبواقي سنة سبعة عشر وثمانية عشر، وكذلك باقي الحلوان الذي تأخر على المفلسين، وكتبوا التنابيه بذلك وقالوا: من لم يقدر على الدفع فليعرض تقسيطه على المزاد.

هذا والأجناد والعرب محيطة ببر الجيزة والعسكر من داخل الأسوار لا يجسرون على الخروج إليهم، وحجزوا المراكب الواردة بالغلال وغيرها حتى لم يبقَ بالسواحل شي من تلك الغلة أبدًا، ووصل سعر الأردب القمح إن وُجد خمسة عشر ريالًا.

وفي يوم الأحد عشرينه وصل العسكر الذين كانوا صحبة سليمان بك حاكم الصعيد، فدخلوا إلى البلدة وأزعجوا كثيرًا من الناس وسكنوا البيوت بمصر القديمة، بعدما أخرجوهم منها وأخذوا فرشهم ومتاعهم، وكذلك فعلوا ببولاق ومصر عندما حضر الذين كانوا ببحري.

وفيه قلدوا الحسبة لشخص عثمانلي من طرف الباشا، وعزلوا محمد أغا المحتسب وكذلك عزلوا علي أغا الشعراوي، وقلدوا الزعامة لشخص آخر من أتباع الباشا، وقلدوا آخر أغات مستحفظان.

وفي ليلة التلات تاني عشرينه خرجت عساكر كثيرة، وعدت إلى البر الغربي ووقعت في صبحها حروب بينهم وبين المصرلية والعربان، وكذلك في تاني يوم، ودخلت عساكر جرحى كثيرة، وعملوا متاريس عند ترسة والمعتمدية وتترسوا بها، والمصرلية والعربان يرمحون من خارج، وهم لا يخرجون إليهم من المتاريس، واستمروا على ذلك إلى يوم الأحد سابع عشرينه.

وفي ذلك اليوم ضربوا مدافع ورجع محمد علي والكثير من العساكر، وأُشيع ترفع المصرلية إلى فوق ووقع بين العربان اختلاف، وأشاعوا نصرتهم على المصرلية، وأنهم قتلوا منهم أُمرا وكشافًا ومماليك وغير ذلك.

وفي ذلك اليوم شنقوا شخصًا بباب زويلة وآخَر بالحبانية، وهما من الفلاحين ولم يكن لهما ذنب، قيل: إنه وُجد معهما بارود اشترياه لمنع الصايلين عليهم من العرب، فقالوا: إنكم تأخذونه إلى المحاربين لنا وكان شيًّا قليلًا.

وفيه نزل جماعة من العسكر جهة قبة الغوري، ومعهم نحو ثلاثين نفرًا بجِمالهم فقرطوا القمح المزروع، وكان قد بدا صلاحه فطارت عقول الفلاحين، واجتمعوا وتكاثروا عليهم وقبضوا على ثلاثة أشخاص منهم، وهرب الباقون فدخلوا بهم المدينة، ومعهم الأحمال وصحبتهم طبل وأطفال ونسا، وذهبوا تحت بيت الباشا، فأمر بقتل شخص منهم؛ لأنه شامي وليس بأرنؤدي ولا إنكشاري فقتلوه بالأزبكية، فوجدوا على وسطه ستماية بندق ذهب وتلتماية محبوب ذهب والله أعلم، وانقضت السنة وما حصل بها من الحوادث.

وأما من مات فيها ممن له ذكر

(فمات) الفقيه العلامة والنحرير الفهامة الشيخ أحمد اللحام اليونسي المعروف بالعريشي الحنفي، حضر من بلدته خان يونس في سنة تمان وسبعين وماية وألف، وحضر أشياخ الوقت وأكب على حضور الدروس، وأخذ المعقول على مثل الشيخ أحمد البيلي والشيخ محمد الجناحي والصبان والفرماوي وغيرهم، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن العريشي ولازمه وبه تخرج، وحضر على الشيخ الوالد في «الدر المختار» من أول كتاب البيوع إلى كتاب الإجارة بقراءته، وذلك سنة اتنين وتمانين وماية وألف.

ولم يزل ملازمًا للشيخ عبد الرحمن ملازمة كلية، وسافر صحبته إلى إسلامبول في سنة تسعين لبعض المقتضيات، وقرأ هناك الشفاء والحكم بقراءة المترجم، وعاد صحبته إلى مصر ولم يزل ملازمًا له حتى حصل للعريشي ما حصل ودنت وفاته، فأوصى إليه بجميع كتبه.

واستقر عوضه في مشيخة رواق الشوام وقرا الدروس في محله، وكان فصيحًا مستحضرًا متضلعًا من المعقولات والمنقولات، وقصدته الناس في الإفتا واعتمدوا أجوبته، وتداخل في القضايا والدعاوى.

واشتهر ذكره، واشترى دارًا واسعة بسوق الزلط بحارة المقس خارج باب الشعرية، وتجمل بالملابس وركب البغال، وصار له أتباع وخدم وهُرعت الناس والعامة والخاصة في دعاويهم وقضاياهم وشكاويهم إليه، وتقلد نيابة القضا لبعض قضاة العساكر أشهرًا.

ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر وهرب القاضي الرومي بصحبة كتخدا الباشا — كما تقدم — تعين المترجم للقضا بالمحكمة الكبيرة، وألبسه كليبر ساري عسكر الفرنساوية خلعة مثمنة، وركب بصحبة قايمقام في موكب إلى المحكمة، وفوضوا إليه أمر النواب بالأقاليم، ولما قُتِل كليبر انحرف عليه الفرنساوية؛ لكون القاتل ظهر من رواق الشوام، وعزلوه ثم تبينت براءته من ذلك، إلى أن رتبوا الديوان في آخر مدتهم، ورسم عبد الله جاك منو باختيار قاضٍ بالقرعة، فلم تقم إلا على المترجم فتولاه أيضًا، وخلعوا عليه وركب مثل الأول إلى المحكمة واستمر بها إلى أن حضرت العثمانيون وقاضيهم، فانفصل عن ذلك ولازم بيته مع مخالطة فصل الخصومات والحكومات والإفتا، ثم قصد الحج في هذه السنة فخرج مع الركب وتمرض في حال رجوعه وتُوُفِّيَ ودُفن بنبط — رحمه الله.

(ومات) الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح المحقق الشيخ علي المعروف بالخياط الشافعي، حضر أشياخ الوقت وتفقه على الشيخ عيسى البراوي، ولازم دروسه وبه تخرج، واشتهر بالعلم والصلاح، وأقرأ الدروس الفقهية والمعقولية وانتفع به الطلبة، وانقطع للعلم والإفادة ولما وردت ولاية جدة لمحمد باشا توسون طلب إنسانًا معروفًا بالعلم والصلاح، فذُكر له الشيخ المترجم؛ فدعاه إليه وأكرمه وواساه وأحبه، وأخذه صحبته إلى الحجاز وتُوُفِّيَ هناك — رحمه الله.

(ومات) الريس المبجل المهذب صاحبنا محمد أفندي باش جاجرت الروزنامة، وأصله تربية محمد أفندي كاتب كبير الينكجرية، وتمهن في صناعة الكتابة وقوانين الروزنامة، وكان لطيف الطبع سليم الصدر، محبوبًا للناس مشهورًا بالذوق وحسن الأخلاق، مهذبًا في نفسه متواضعًا، يسعى في حوايج إخوانه وقضا مصالحهم المتعلقة بدفاترهم، قانعًا بحاله مترفهًا في مأكله وملبسه، واقتنى كتبًا نفيسة ومصاحف، وتجتمع ببيته الأحباب، ويدير عليهم سُلاف أنسه المستطاب، مع الحشمة والوقار وعدم الملل والنفار.

ولما اختلفت الأحوال وترادفت الفتن ضاق صدره من ذلك، واستوحش من مصر وأحوالها، فقصد الهجرة بأهله وعياله إلى الحرمين وعزم على الإقامة هناك، فلما حصل هناك رأى فيها الاختلاف والخلل كذلك؛ بسبب ظلم الشريف غالب وأتباعه، وإغارة الوهابيين على الحرمين، وفتن العربان؛ فلم يستحسن الإقامة هناك واشتاق لوطنه، فعزم على العود إلى مصر فمرض بالطريق، وتُوُفِّيَ ودُفن بالينبع — رحمه الله.

(ومات) الأمير حسين بك الذي عُرف بالوشاش، وهو من مماليك محمد بك الألفي، وكان يُعرف أولًا بكاشف الشرقية؛ لأنه كان تولى كشوفيتها، وكان صعب المراس شديد البأس قوي الجنان، قلبه — مع نحافة جسمه — أعظم من جبل لبنان، لا يَهاب كثرة الجنود، وتَخشى سطوتَه الأسود.

ولما أجمعوا على خيانة الألفي وأتباعه قال لهم إبراهيم بك الكبير: على ما بلغنا لا يتم مرامكم بدون البداة بالمترجم، فإن أمكنكم ذلك وإلا فلا تفعلوا شيًّا، فلم يزالوا يدبرون عليه ويتملقون له ويُظهرون له خلاف ما يبطنون، حتى تمكنوا من غدره على الصورة المتقدمة.

وسبب تلقُّبه بالوشاش أنه كان طلع لملاقاة الحجاج بمنزلة الوش في سنة ورود الفرنساوية، فلما لاقى الحجاج وأمير الحاج صالح بك رجع صحبتهم إلى الشام، وحصل منه بعد ذلك المواقف الهايلة مع الفرنساوية مع أستاذه ومنفردًا في الجهات القبلية والشامية، ولما انجلت الحوادث وارتحلت الفرنساوية من الديار المصرية واستقرت المصريون بعد حوادث العثمانية، تأمر المترجم في ستة عشر صُنجقًا المتأمرين، وظهر شأنه واشتهر ذكره فيما بينهم، ونفذت أوامره فيهم ونغص عليهم وناكدهم وعاندهم، وأغار على ما بأيديهم حتى ثقلت وطأته عليهم، فلم يزالوا يحتالون عليه حتى أوقعوه في حبال صيدهم، وهو لا يخطر بباله خيانتهم وغدروه بينهم كما ذكر.

(ومات) الأمير رضوان كتخدا إبراهيم بك وهو أغنى مماليكه، ربَّاه وأعتقه وجعله جوخداره، وكان يُعرف أولًا برضوان الجوخدار، واستمر في الجوخدارية مدة طويلة، ولما رجع مع أستاذه — في أواخر سنة خمس ومايتين وألف بعد موت إسماعيل بك — وأتباعه إلى مصر أرخى لحيته، وتقلد كتخداية أستاذه وتزوج ببعض سراريه، وسكن دار عبدي بك بناحية سويقة العزى، ثم انتقل منها إلى دار ملكه على بركة الفيل تجاه بيت شكر بره، وعمرها وصارت له وجاهة بين الأُمرا، وباشر فصل الخصومات والدعاوى، وازدحم الناس ببيته واشتُهر ذكره وعظم شأنه، وقصدته أرباب الحاجات، وأخذ الرشوات والجعالات.

وكان يقرأ ويكتب ويناقش ويحاجج ويعاشر الفُقها ويباحثهم، ويميل بطبعه إليهم ويحب مجالستهم ولا يمل منهم، وعنده حلم وسعة صدر وتؤدة وتأنٍّ في الأمور، وإذا ظهر له الحق لا يعدل عنه، وعنده دهقنة ومداهنة وقوة حزم.

ولما حضر علي باشا الطرابلسي على الصورة المتقدمة، كان المترجم هو المتعين في الإرسال إليه، فلم يزل يتحيل عليه حتى انخدع له وأدخل رأسه الجراب، وصدق تمويهاته وحضر به إلى مصر، وأوردوه بعدُ الموارد، وحاز بذلك منقبة بين أقرانه ونوه بعدُ بشأنه، وخلعوا عليه الخلع وعرضوا عليه الإمارة فأباها.

واستمر على حالته معدودًا في أرباب الرياسة وتأتي الأُمرا إلى داره، ولم يزل حتى ثارت العسكر على من بالبلدة من الأُمرا، وحصروا إبراهيم بك ببيته وخرج في تاني يوم هاربًا والمترجم خلفه والرصاص يأخذهم من كل ناحية فأصيب في دماغه؛ فمال عن جواده واستند على الخدم — وذلك جهة الدرب الأحمر — فلم يزل في غشوته حتى خرجت روحه بالرميلة، فأنزلوه عند باب العزب واحتاط به المتقيدون بالباب وأخذوا ما في جيوبه، ثم أحضروا له تابوتًا وحملوه فيه إلى داره فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه بالقرافة — سامحه الله — فإنه كان من خيار جنسه لولا طمع فيه، ولقد بلوته سفرًا وحضرًا يافعًا وكهلًا، فلم أرَ ما يشينه في دينه، عفوفًا طاهر الذيل وقورًا محتشمًا، فصيح اللسان حسن الرأي قليل الفضول بعيد النظر.

(ومات) الأجل العمدة الشريف السيد إبراهيم أفندي الروزنامجي، وهو ابن أخي السيد محمد الكماحي الروزنامجي المُتَوَفَّى سنة سبع ومايتين وألف، وأصلهم رُومِيُّو الجنس، وكان في الأصل جريجيًّا ثم عمل كاتب كشيدة، وكان يسكن دارًا صغيرة بجوار دار عمه.

واستمر على ذلك خامل الذكر، فلما تُوُفِّيَ عمه السيد محمد انتبذ عثمان أفندي العباسي المنفصل عن الروزنامة سابقًا، يريد العود إليها عن شوق وتطلع لها وظنه شغور المنصب عن المتأهل إليه سواه، فلم تساعده الأقدار لشدة مراسه، وسأل إبراهيم بك عن شخص من أهل بيت المُتَوَفَّى، فذكر له السيد إبراهيم المرقوم وخموله وعدم تحمله لأعبا ذلك المنصب، فقال: لا بد من ذلك قطعًا لطمع المتطلعين، والتزم بمراعاته ومساعدته، وطلبه ونقله من حضيض الخمول إلى أوج السعادة والقَبول؛ فتقلد ذلك وساس الأمور بالرفق والسير الحسن، واشترى دارًا عظيمة بدرب الأغوات وسكنها، واستمر على ذلك إلى أن ورد الفرنساوية إلى مصر؛ فخرج مع من خرج هاربًا إلى الشام، ثم رجع مع من رجع ولم يزل حتى تمرض، وتُوُفِّيَ في يوم الأربعا سادس عشر القعدة من السنة — رحمه الله تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤