سنة إحدى وعشرين ومايتين وألف (١٨٠٦م)

استهل شهر المحرم بيوم الخميس حسابًا ويوم السبت هلالًا، ووافق ذلك انتقال الشمس لبرج الحمل؛ فاتحدت السنة القمرية والشمسية، وهو يوم النوروز السلطاني، وأول سنة الفرس، وهو التاريخ الجلالي اليزدجردي، وتاريخهم في هذه السنة ألف وماية وستة وسبعون، وكان طالع التحويل الواقع في يوم الجمعة في خامس ساعة ونصف من النهار سبع درجات ونصفًا من برج السرطان، وصاحبه في حيز العاشر منصرف عن تربيع المشتري، ومقارنة عطارد والمشتري في السابع، والمريخ مع الزهرة في العاشر، وهي راجعة، وكيوان في الرابع، وهو دليل على ثبات دولة القايم وتعب الرعية، والحكم لله العلي الكبير.

وفي ثالثه ليلة الثلاث وصل إلى بولاق قبوجي وعلى يده تقرير لمحمد علي باشا بولايته بمصر وصحبة التقرير خلعة، وهي فروة سمور، فلما أصبح النهار عمل محمد علي باشا ديوانًا بمنزله بالأزبكية، وحضر السيد عمر النقيب والمشايخ والأعيان، وحضر ذلك الأغا من بولاق في موكب ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة، وأمامه الأغا والوالي والمحتسب والأغاوات والجاويشية وخلفه النوبة التركية، فلما وصلوا إلى باب الخرق عطفوا على جهة الأزبكية، فلما قُري التقليد ضربوا مدافع كثيرة من الأزبكية والقلعة، وعملوا تلك الليلة شنكًا وحراقات ونفوط وسواريخ كثيرة وطبول وزمور بالأزبكية.

وفي سابعه وصلت الأخبار بوقوع حروب بين العساكر والعربان والأُمرا المصرية بناحية جرزة الهوا، وقُتل شخص من كبار العسكر يسمَّى كور يوسف وغيره، ووصل إلى مصر عدة جرحى وهرب من العسكر طايفة وانضموا إلى الأُمرا المصريين، وأرسل حسن باشا يستنجد الباشا بإرسال عساكر إليه.

وفي ذلك اليوم نادوا في الأسواق بعدم المشي في الأسواق من أذان العشا، وخرج كتخدا بك إلى بولاق في أخريات النهار ونصب وطاقه ببر إنبابة، وخرج سليمان أغا بجملة من العسكر وذهب إلى ناحية طرا.

وفي تامنه عدى كتخدا بك إلى البر الغربي، وانتقل طاهر باشا إلى الجيزة وأقام بها محافظًا.

وفيه أمر الباشا بجمع الأجناد المصرية والوجاقلية وأمرهم بالتعدية إلى البر الغربي، وكأنه تخوَّف من إقامتهم بالمدينة، وقال لهم: من أراد منكم الذهاب إلى الأخصام فليذهب وإلا يستمر معنا.

وفي هذه الأيام كان مولد سيدي أحمد البدوي، والجمع بطندتا المعروف بمولد الشرنبابلية، وهرع غالب البلد بالذهاب إليه، وأكتروا الجِمال والحمير بأغلى الأجرة؛ لأن ذلك صار عند أهل الإقليم موسمًا وعيدًا لا يتخلفون عنه إما للزيارة أو للتجارة أو للنزاهة أو للفسوق، ويجتمع به العالم الأكبر وأهالي الإقليم البحري والقبلي.

وخرج أكثر أهالي البلد بحمولهم فكان الواقفون على الأبواب يفتشون الأحمال، فوجدوا مع بعضهم أشيا من أسباب الأجناد المصرية وملابسهم ونحو ذلك، فوقع بسبب ذلك إيذا لمن وجدوا معه شيًّا من ذلك ولباقي الناس ضرر بنبش متاعهم، فكان من الناس من يأخذ معه أشخاصًا من العسكر من طرف الأغا يسلكونهم للخروج من غير تفتيش، ويمنعون المتقيدين بالأبواب عن التعرض لهم ونبش متاعهم وأحمالهم.

وفي تاسعه وصل الخبر بأن عابدين بك لما بلغه خروج الألفي من الفيوم، ذهب إليها صحبة الدلاة فلم يجد بها أحدًا، فدخلها وأرسل المبشرين إلى مصر بأنه ملك الفيوم، فضربوا مدافع لذلك وانبث المبشرون يطوفون على بيوت الأعيان يبشرونهم بذلك، ويأخذون على ذلك الدراهم والبقاشيش.

ثم لما بلغ عابدين بك ما حصل لأخيه حسن باشا من الهزيمة رجع إليه، وأقام معه ناحية الرقق.

وفي عاشره وصل الألفي إلى ناحية كرادسة، وانتشرت عساكره وعربانه بإقليم الجيزة، فلم يخرج لهم أحد مع كونهم بمرأ منهم ويسمعون نقاقيرهم وطبولهم ووطء حوافر خيولهم.

وفيه أرسل الألفي خطابًا مكتوبًا إلى السيد عمر أفندي مكرم النقيب والمشايخ، مضمونه:

نخبركم أن سبب حضورنا إلى هذه الجهة إنما هو لطلب القُوت والمعاش، فإن الجهة التي كنا بها لم يبقَ فيها شي يكفينا ويكفي مَن معنا مِن الجيش والأجناد، ونرجو من مراحم أفندينا بشفاعتكم أن يُنعم علينا بما نتعيَّش به كما رجونا منه في السابق.

فلما كان في صبحها يوم الاتنين حادي عشره ركب السيد عمر إلى الباشا، وأخبره بذلك وأطلعه على المراسلة، فقال: ومن أتى به؟ قال له: تابع مصطفى كاشف المورلي وقد ترك متبوعه بالبر الآخر، فقال له: اكتب له بالحضور حتى نتروَّى معه مشافهة.

وفي ذلك الوقت حضر إلى الباشا من أخبره بأن طايفة من المصريين وجيوشهم وصلوا إلى بر إنبابة، فخرج إليهم طايفة من العسكر المرابطين هناك وتحاربوا معهم بسوق الغنم، ووقع بينهم بعض قتلى وجرحى، فركب من فوره وذهب إلى بولاق فنزل بالساحل وجلس هناك ساعة، ثم ركب عايدًا إلى داره بعد أن مُنع من تعدية المراكب إلى بر إنبابة، ثم أمرهم بالتعدية لربما احتاجوهم، وكان كذلك فإنهم رجعوا مهزومين فلو لم يجدوا المعادي لحصل لهم هول كبير.

وفي يوم التلات حضر مصطفى كاشف المورلي المرسول من طرف الألفي، وصحبته علي جربجي بن موسى الجيزاوي إلى بيت السيد عمر، فركب صحبته إلى الباشا وكتبوا له جوابًا ورجع من ليلته.

ثم حضر في يوم الخميس رابع عشره بجواب آخر، ومضمونه: إننا أرسلنا لكم نرجو منكم أن تسعوا بيننا بما فيه الراحة لنا ولكم وللفقرا والمساكين وأهالي القُرى، فأجبتمونا بأننا نتعدى على القرى ونطلب منهم المغارم ونرعى زرعهم وننهب مواشيهم، والحال أنه واللهِ العظيم ونبيِّه الكريم أن هذا الأمر لم يكن على قصدنا ومرادنا مطلقًا، وإنما الموجب لحضورنا إلى هذا الطرف ضيق الحال والمقتضى للجمعية التي نصحبها من العربان وغيرهم، وإرسال التجاريد والعساكر علينا، فلازم لنا أن نجمع إلينا من يساعدنا في المدافعة عن أنفسنا، فهم يجمعون أصناف العساكر من الأقطار الرومية والمصرية لمحاربتنا وقتالنا، وهم كذلك ينهبون البلاد والعباد للإنفاق عليهم.

ونحن كذلك نجمع إلينا من يساعدنا في المنع، ونفعل كفعلهم لننفق على مَن حولنا مِن المساعدين لنا، وكل ذلك يؤدي إلى الخراب والدمار وظلم الفُقرا، والقصد منكم بل الواجب عليكم السعي في راحة الفريقين، وهو أن يكفوا الحرب ويفرزوا لنا جهة نرتاح فيها، فإن أرض الله واسعة تسعنا وتسعهم، ويعطونا عهدًا بكفالة بعض من نعتمد عليه من عندنا وعندهم، ويُكتب بذلك محضر لصاحب الدولة، وننتظر رجوع الجواب، وعند وصوله يكون العمل بمقتضاه.

فعند ذلك اقتضى الرأي أن يقطعوه إقليم الجيزة، وكتبوا له جوابًا بذلك من غير عقد ولا عهد ولا كفالة كما أشار، وسلموا الجواب لمصطفى كاشف ورجع به.

وفي أثناء ذلك طلب أجناد الألفي كلفًا من بلد برطس وأم دينار وميت عقبة، فامتنعوا عليهم فضربوهم وحاربوهم ونهبوهم؛ وسبب ذلك أن العساكر الأتراك أغروهم وأرسلوا يقولون لهم: إذا طلبوا منكم كلفة أو دراهم لا تدفعوا لهم واطردوهم وحاربوهم وانهبوهم، وإذا سمعنا حربكم معهم أتيناكم وساعدناكم، فاغتروا بذلك وصدقوهم فلما حصل لهم ما حصل لم يسعفوهم، ولم يخرجوا من أوكارهم حتى جرى عليهم المقدور.

وفي يوم السبت تالت عشرينه كتب الباشا مراسيم، وأرسلها إلى كشاف الأقاليم والكاينين بالبلاد من الأجناد المصرية بأن يجتمعوا بأسرهم، ويذهبوا إلى ساحل السبكية للمحافظة عليها من وصول الأخصام إليها، ولمنعهم من تعدية البحر إليها؛ لأنهم إذا حصلوا بها تعدى شَرُّهم إلى بلاد المنوفية بأسرها، وأُشيع عزم الباشا على الركوب بنفسه وذهابه إلى تلك الجهة، ويكون سيره على طريق القليوبية ويلحق بهم، وكتخدا بك وطاهر باشا يسيران على الساحل الغربي تجاههم، ثم بطل ذلك وأرسل إلى حسن باشا سرششمه بأن يحضر بمن معه من العسكر من عند حسن باشا طاهر من ناحية بني سويف، وكذلك عساكر كور يوسف الذي قُتل في المعركة كما ذُكر.

وفي ذلك اليوم وصل رسول أيضًا من عند الألفي بمكاتبات واجتمع بالسيد عمر النقيب، والمكاتبات خطاب له ولبقية المشايخ وللباشا ولسعيد أغا دار السعادة وصالح بك القابجي بمعنى ما تقدم صحبة أحمد أبي دهب العطار، فكتبوا له جوابًا بالمعنى الأول، وأعادوا الرسول وأصحبوه ببعض المتعممين، وهو السيد أحمد الشتيوي ناظر جامع الباسطية، وكل ذلك أمور صورية وملاعبات من الطرفين لا حقيقة لها.

وفي يوم التلات وصل الجماعة المذكورون الذين استدعاهم الباشا بعساكرهم، وخلع الباشا على أحد كبارهم عوضًا عن كور يوسف المقتول.

وفيه وصل الخبر بأن طايفة من الأجناد المصرية ومن يصحبهم من العربان عدوا إلى بر السبكية، ولم يمنعهم المحافظون بل هربوا من وجوههم، فأمر الباشا بسفر العساكر وطلب دراهم سلفة من الأعيان لأجل نفقة العساكر، وفرضوا على البلاد ثلاثة آلاف كيس، ويكون على العال منها مائة ألف فضة، وفيها الأوسط والدون.

وفي يوم الخميس نُودي في الأسواق بخروج العساكر.

وفي يوم السبت سافر طاهر باشا إلى منوف على جرايد الخيل، وسافر بعده كتخداه بالحملة، واحتاجوا إلى جِمال فأخذوا جِمال الساقين والشواغرية.

وفيه حضر عمر بك الأرنؤدي من ناحية بني سويف، وأخبر الواردون من الناحية القبلية أن رجب أغا وطايفة من العسكر خامروا عليه وانضموا إلى الأُمرا القبليين، وهم نحو الستماية، فعند ذلك حضر عمر بك المذكور في تطريدة ليُبري نفسه من ذلك، وحضر أيضًا محو كبير العسكر المحاصرين بالمنيه بطلب علوفة للعسكر.

وفيه أراد كتخدا بك وهو المعروف بدبوس أوغلي أن يركب من إنبابة، وحمل أحماله ليسير إلى جهة بحري، فثارت عليه العسكر وطالبوه بعلايفهم وسفهوا عليه ومنعوه من الركوب، فأراد التعدية إلى بر بولاق فمنعوه أيضًا، وجذبوا لحيته فأقام يومه وليلته، ثم قال لهم: وما الفايدة في مكثي معكم دعوني أذهب إلى الباشا، وأسعى في مطلوبكم؟ ولم يزل حتى تخلص منهم وعدى إلى مصر ولم يرجع إليهم.

وفي يوم السبت غايته وصلت عساكر الدلاة الذين كانوا بناحية بني سويف والفيوم إلى بر إنبابة، وضربوا لهم مدافع لوصولهم.

وفيه أرسل كبار العسكر الذين بناحية منوف مكاتبة إلى الباشا، يذكرون أن العساكر يطلبون مرتبات لحم وأرز وسمن؛ فإنهم لا يحاربون ولا يقاتلون بالجوع.

وفي هذه الأيام وصل الكثير من العساكر القبلية ودخلوا البلدة وكثروا بها.

وفي هذه الأيام أيضًا وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين؛ وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية، حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمسماية ريال، والأردب البُر ثلثماية وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك، فلم يسَع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة، وأمر بمنع المنكرات والتجاهر بها وشرب الأراجيل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة، وبالملازمة على الصلوات في الجماعة ودفع الزكاة، وترك لبس الحرير والمقصبات وإبطال المكوس والمظالم.

وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسة وعشرة بحسب حاله، وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل حتى يأتيه الإذن.

وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البايع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم، فيكون الشخص من ساير الناس جالسًا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه إلا والأعوان يأمرونه بإخلا الدار وخروجه منها، ويقولون: إن «سيد الجميع» محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر.

فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول — عليه الصلاة والسلام — وما كان عليه الخُلفا الراشدين والصحابة والتابعين والأيمة المجتهدين إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجا لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدايد والمهمات، وما أحدثوه من بنا القباب والتصاوير والزخارف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلايق واختلاط النسا بالرجال، وباقي الأشيا التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بُعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها، ليكون الدين كله لله.

فعاهده على منع ذلك كله وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة؛ لأنها من الأمور المحدثة التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية، وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك.

فعند ذلك أمنت السبل وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطايف، وانحلت الأسعار وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربعة ريال.

واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هولا مشركون وأنا آخذ من المشركين لا من الموحدين.

شهر صفر الخير (سنة ١٢٢١)

استهل بيوم الأحد، فيه سافر «محو» بك إلى جهة المنية، وفيه ورد من إسلامبول شخص قابجي وعلى يديه مرسومات بالجمارك وغيرها، ومنها ضبط تِرَك الموتى المقتولين والمقبورين، وكذلك تركة السيد أحمد المحروقي، وآخر يسمَّى الشريف محمد البرلي، والقصد تحصيل الدراهم بأي حجة كانت، ووصل أيضًا آخر متعين لجمرك إسكندرية وآخر لدمياط ولرشيد أيضًا.

وفيه عزم الباشا على السفر لمحاربة الألفي وأُشيع عنه ذلك، وأنزلوا مدافع من القلعة وجبخانة وآلات حربية.

فيه قوي عزمه على ذلك وأُشيع أنه مسافر يوم السبت، وأشار على السيد عمر أفندي النقيب بأن ينوب عنه ويكون قايمًا مقامه في الأحكام مدة غيابه، فلم يقبل السيد عمر وامتنع، ثم فترت همَّته عن ذلك وتبيَّن أنها إيهامات لا أصل لها.

وفي يوم الخميس أرسل الباشا إلى الخانات والوكايل أعوانًا، فختموا على حواصل التجار بما في داخلها من البن والبهار، وذلك بعد أن أمَّنهم وقبض منهم عشورها ومكوسها بالسويس، فلما وصلت القافلة واستقرت البضايع بالحواصل فعل بهم ذلك ثم صالحوا وأفرج عنهم.

وفيه ورد الخبر بأن الألفي ارتحل من ناحية الجسر الأسود والطرانة وقصد جهة البحيرة.

وفي يوم السبت ركب صالح أغا قابجي باشا، ونزل إلى بولاق ليسافر إلى الديار الرومية، فركب لوداعه الباشا وسعيد أغا والسيد عمر النقيب، فشيعوه إلى بولاق حتى نزل إلى المراكب، وخلع عليه الباشا فروة سمور مثمنة بعد أن وفاه خدمته وهاداه بهدايا، وأصحب معه هدايا للدولة وأربابها، وعرَّفه بقضايا وأغراض يتممها له هناك، وودعوه ورجعوا إلى بيوتهم بعد الغروب.

وفي يوم التلات عاشره سافر صالح أغا السلحدار إلى جهة بحري على طريق المنوفية وصحبته عساكر، وقرروا له مقادير من الأكياس على كل بلد من البلاد الرايجة عشرون كيسًا فما فوقها وما دونها من كل صنف مقادير أيضًا.

وفيه فرضوا أيضًا على البلاد غلال قمح وفول وشعير، كل بلد عشرون أردبًّا فما فوقها، وما دونها، وهذه تالت فرضة ابتدعت من الغلال على البلاد في هذه الدولة.

وفيه ورد الخبر بأن الألفي توجه إلى ناحية دمنهور البحيرة يوم الأربع رابعه، وأنهم امتنعوا عليه فحاصرهم؛ لأنهم استعدوا لذلك والبلد منضافة إلى السيد عمر النقيب، فكان يرسل إليهم ويحذرهم منه ويرسل إليهم ويمدهم بآلات الحرب والبارود، ويحرضهم على الاستعداد للحرب فحصنوا البلدة وبنوا سورها وجعلوا فيها أبراجًا وبدنات، وركبوا عليها المدافع الكثيرة وعبوا لديهم ما يحتاجون إليه من الذخيرة والجبخانة وما يكفيهم سنة، وحفروا حولها خنادق وهي في موقعها مرتفعة.

وفيه عزل الباشا محمد أغا كتخدا بك من كتخدايته؛ بسبب أمور نقمها عليه وحبسه وطلب منه ألف كيس وقلد في الكتخداية خازنداره، وهو المعروف بدبوس أوغلي.

وفي ليلة الأحد تامنه عدى صاري عسكر إلى بر إنبابة بوطاقه وهو دبوس أوغلي الكتخدا المذكور، وذلك في أواخر النهار، وضربوا مدافع كثيرة لتعديته، وأخذ العسكر في تشهيل أمورهم ولوازمهم وأنفق عليهم الباشا نفقة.

هذا والطلب والتوزيع بالأكياس مستمر لا ينقطع عن أعيان الناس والتجار والأفندية الكتبة وجماعة الضربخانة والملتزمين بالجمارك، وكل من كان له أدنى علاقة أو خدمة أو تجارة أو صنعة ظاهرة أو فايظ، أو له شهرة قديمة أو من مساتير الناس، وغالب الأحيان المحصل لذلك والقاضي فيه السيد عمر أفندي النقيب، وقد حكمت عليه الصورة التي ظهر فيها وانعكس الحال والوضع وساءت الظنون، والأمر لله وحده.

وفي يوم الخميس تاسع عشره ارتحل عرضي التجريدة من إنبابة، وذهبوا إلى جهة الوراريق.

وفي هذه الأيام كان بين مشايخ العلم منافسات ومنافرات ومحاسدات، وذلك من أوايل شهر رمضان، وتعصبات بسبب مشيخة الجامع ونظر أوقافه وأوقاف عبد الرحمن كتخدا، فاتفق أن الشيخ عبد الرحمن السجيني ابن الشيخ عبد الرءوف عمل وليمة ودعاهم إليها، فاجتمعوا في ذلك اليوم وتصالحوا في الظاهر.

وفي يوم الاثنين هبت رياح جنوبية حارة وأثارت غبارًا وزوابع ولوافح، ثم غيمت السما غيمًا متقطعًا وأرعدت وأمطرت؛ فكان الغبار والزوابع والشمس طالعة والمطر نازل، وذلك بعد العصر، وحصل مثل ذلك أيضًا في يوم الأربع ولكن بعد الظهر.

وفي تلك الليلة بعد الغروب أخرج الباشا محمد أفندي المنفصل عن الكتخداية منفيًّا إلى جهة دمياط، وأصحب معه عدة من العسكر ذهبوا به من طريق البر.

وفي أواخره رجعت عساكر من الأرنؤد وكانوا كثيرين، ونزلوا ببولاق ومصر القديمة، وغالبهم الذين كانوا بصحبة حسن باشا طاهر وأخيه عابدين بك؛ وسبب رجوعهم أنهم طلبوا علايفهم من حسن باشا وكان قد ظهر له فيهم المخامرة عليه وميلهم إلى الأخصام، فامتنع من دفع علايفهم وقال لهم: اذهبوا إلى مصر واطلبوا علايفكم من الباشا، وأرسل إليه يعرِّفه فعالهم ونفاقهم.

فما تراسلوا في الحضور منعهم الباشا من الدخول إلى البلد، ووعدهم بإيصال علايفهم إليهم وهم خارج المدينة، وبعد أن يقبضوا مالهم يعودون إلى مرابطهم كما كانوا، فأقاموا بناحية بولاق وأرسل الباشا فجمع عربان الحويطات والعايد وغيرهم، فأقاموا بناحية شبرا ومنية السيرج، وهم جملة كبيرة استمروا في تجمعهم أربعة أيام.

وأرسل إلى الأجناد والجربجية وأمثالهم المقيمين بمصر، وأمر بأن يتهيئوا ويقضوا أشغالهم ويخرجوا صحبة حسن أغا الشماشرجي، فمن كان منهم ذا مقدرة وعنده حصان يركبه أو جَمل يحمل عليه متاعه خرج بنفسه، وإلا أخرج بدلًا عنه وأعطاه مصروفه واحتياجاته ولوازمه، وبرزوا إلى خارج.

ثم أرسل إلى العساكر المذكورين يأمر كبارهم بالسفر إلى بلادهم، فامتنعوا وقالوا: لا نسافر حتى نقبض المنكسر لنا من علايفنا، فعند ذلك دس إلى أصاغرهم من خدعهم واستمالهم حتى تفرقوا في خدمة المستوطنين، ولم يبقَ مع كبارهم المعاندين إلا القليل، فلم يسَعهم بعد ذلك إلا الامتثال، وارتحلوا في غايته من بولاق وسافر معهم الشماشرجي المذكور، ومن بصحبته من المصريين وحولهم العربان، وساروا على طريق دمياط وهم اثنان وخمسون شخصًا من كبار طايفة الأرنؤد، وحصل من العرب في مدة تجمعهم ما لا خير فيه — وكذلك في مدة إقامتهم — من الخطف والتعرية وقطع الطريق على المسافرين.

شهر ربيع الأول (سنة ١٢٢١)

استهل بيوم التلات، وفي ليلة الأحد سادسه حصل رعد كثير وبرق بين المغرب والعشا بدون مطر، والغيم قليل متقطع، وذلك سابع عشر بشنس وثاني عشر أيَّار، والشمس في تالت درجة من برج الجوزا، وذلك من النوادر في مثل هذا الوقت.

وفي يوم الأحد المذكور ضربوا مدافع من القلعة لبشارة وردت من الجهة القبلية؛ وذلك أن رجب أغا وياسين بك اللذَين انضمَّا إلى الأُمرا المصرية القبليين عملا متاريس بحري المنية؛ ليمنعا من يصل إليها من مراكب الذخيرة، فلما سافر محو بك بمراكب الذخيرة ووصل إلى حسن باشا طاهر ببني سويف، أصحب معه عابدين بك وعدة من العسكر في عدة مراكب، فلما وصلوا إلى محل المتاريس تراموا بالمدافع والرصاص، واقتحموا المرور وساعدهم الريح فخلصوا إلى المنية، وطلعوا إليها ودخلها عابدين بك وقُتل فيما بينهم أشخاص، وأرسلوا بذلك المبشرين فأخبروا بذلك وبالغوا في الأخبار، وأن ياسين بك قُتل هو وخلافه، وراسه واصلة مع روس كثيرة، فعملوا لذلك شنكًا وضربت مدافع كثيرة، ولم يكن لقتل ياسين بك صحة.

ثم وصل محو بك وابن وافي، وقد نزلا في شكترية لها عدة مقاديف، ودفعوا في قوة التيار حتى وصلوا إلى مصر، ولم يصل معهم روس كما أخبر المبشرون.

وفيه قرر فرضة على البلاد وهي دراهم وغلال، وعينوا لذلك كاشفًا، فسافر ومعه عدة من العسكر وصحبتهم نقاقير، وسافر أيضًا خازندار الباشا وصحبته علي جلبي، وهو ابن أحمد كتخدا علي قلده الباشا كشوفية شرقية بلبيس، وأخذ صحبته أكثر رفقاه وأصحابه من أولاد البلد، فسافر على حين غفلة إلى ناحية الدقهلية.

وفي عاشره وصلت الأخبار بأن الألفي ارتحل من البحيرة، ورجع إلى ناحية وردان، وعدى من جيشه وعربانه طايفة إلى جزيرة السبكية، وهرب من كان مرابطًا فيها من الأجناد المصرية وغيرهم، وطلبوا من أهالي السبكية دراهم وغلالًا وفر غالب أهلها منها وجلوا عنها، وتفرقوا في بلاد المنوفية.

وفي تاني عشره يوم الجمعة عمل المولد النبوي ونصبوا بالأزبكية صواري تجاه بيت الباشا والشيخ محمد سعيد البكري، وقد سكن بدار مطلة على البركة داخل درب عبد الحق، وأقام هناك ليالي المولد إظهارًا لبعض الرسوم.

وفيه علقوا تسعة روس على السبيل المواجه لباب زويلة ذكروا أنها من قتلى دمنهور، وهي روس مجهولة، ووضعوا بجانبهم بيرقين ملطخين بالدما.

وفيه طلب الباشا دراهم سلفة من الملتزمين والتجار وغيرهم، بموجب دفتر أحمد باشا خورشيد الذي كان قبضها في عام أول قبل القومة والحرابة، فعينوا مقاديرها وعينوا بطلبها المعينين بالطلب الحثيث من غير مهلة، ومن لم يجدوه بأن كان غايبًا أو متغيبًا دخلوا داره وطالبوا أهله أو جاره أو شريكه، فضاق ذرع الناس وذهبوا أفواجًا إلى السيد عمر أفندي النقيب، فيتضجر ويتأسف ويتقلق ويهوِّن عليهم الأمر، وربما سعى في التخفيف عن البعض بقدر الإمكان وقد تورط في الدعوة.

وفيه سافر السيد محمد المحروقي إلى سد ترعة الفرعونية؛ وذلك أن الترعة المذكورة لما اجتهد في سدها المصريون في سنة اثنتي عشرة ومايتين وألف كما تقدم، فانفتحت من محل آخر ينفذ إلى ناحية الترعة المسمَّاة بالفيض، وكان ذلك بإشارة أيوب بك الصغير لعدم انقطاع الماء عن ري بلاده، فتهورت أيضًا هذه الناحية واتسعت وقوي اندفاع الماء إليها في مدة هذه السنين حتى جف البحر الغربي والشرقي.

وتغير ماء النيل في الناحية الشرقية، وظهرت فيه الملوحة من حدود المنصورة، وتعطلت مزارع الأرز، وشرقت بلاد البحر الشرقي وشربوا الأُجاج ومياه الآبار والسواقي، وكثر تَشَكِّي أهالي البلاد فحصل العزم على سدها في العام، وتقيد بذلك السيد محمد المحروقي وذو الفقار كتخدا، وطلبوا المراكب لنقل الأحجار من الجبل.

وذهب ذو الفقار إلى جهة السد وجمع العمال والفلاحين، وسبقت إليه المراكب المملوة بالأحجار من أول شهر صفر إلى وقت تاريخه، وجبوا الأموال من البلاد لأجل النفقة على ذلك.

ثم سافر السيد المحروقي أيضًا وبذل جهده، ورموا بها من الأحجار ما يضيق به الفضا من الكترة.

وتعطل بسبب ذلك المسافرون لقلة المراكب وجفاف البحر الغربي، والخوف من السلوك فيه من قطاع الطرق والعربان، فكانت المراكب المعاشات التي تأتي بالسفار وبضايع التجار يأتون بشحناتهم إلى حد السد ومحل العمل والشغل، فيرسون هناك ثم ينقلون ما بها من الشحنة والبضايع إلى البر، وينقلونها إلى السفن والقوارب التي تنقل الأحجار، ويأتون بها إلى ساحل بولاق فيُخرجون ما فيها إلى البر، وتذهب تلك السفن والقوارب إلى أشغالها في نقل الحجر، ولا يخفى ما يحصل في البضايع من الإتلاف والضياع والسرقة وزيادة الكلف والأجر وغير ذلك، وطال أمد هذا الأمر.

وفي أواخره نزل الباشا للكشف على الترعة، فغاب يومين وليلتين ثم عاد إلى مصر.

شهر ربيع الثاني (سنة ١٢٢١)

فيه ورد سعاة من إسكندرية وأخبروا بورود أربع مراكب وفيها عساكر من النظام الجديد، وصحبتهم ططريات وبعض أشخاص من الإنكليز، ومعهم مكاتبة خطابًا إلى الألفي وبشارة بالرِّضَى والعفو للأُمرا المصرية من الدولة بشفاعة الإنكليز، فلما وصلوا إليه بناحية حوش ابن عيسى بالبحيرة سُرَّ بقدومهم، وعمل لهم شنكًا وضرب لهم مدافع كثيرة، ثم شهَّلهم وأرسلهم إلى الأُمرا القبليين وصحبتهم أحد صناجقه، وهو أمين بك ومحمد كاشف تابع إبراهيم بك الكبير.

ثم إنه أرسل عدة مكاتبات بذلك الخبر إلى المشايخ وغيرهم بمصر، وكذلك إلى مشايخ العربان مثل الحويطات والعايد وشيخ الجزيرة وباقي المشاهير، فأحضر ابن شديد وابن شعير الأوراق التي أتتهم من الألفي إلى الباشا، وفيها: ونُعلمكم أن محمد علي باشا ربما ارتحل إلى ناحية السويس فلا تحملوا أثقاله، وإن فعلتم ذلك فلا نقبل لكم عذرًا، ولما سمع الباشا ذلك قال: إنه مجنون وكذاب.

وفيه فتح الباشا الطلب بفايظ البلاد والحصص من الملتزمين والفلاحين، وأمر الروزنامجي وطايفته بتحرير ذلك عن السنة القابلة فضج الملتزمون، وترددوا إلى السيد عمر النقيب والمشايخ، فخاطبوا الباشا فاعتذر إليهم باحتياج الحال والمصاريف، ثم استقر الحال على قبض ثلاثة أرباعه، النصف على الملتزمين والربع على الفلاحين، وأن يحسب الريال في القبض منهم بتلاتة وثمانين نصفًا، ويقبضه باتنين وتسعين، وعلى كل ماية ريال خمسة أنصاف حق طريق سوا كان القبض من الملتزمين عن حصته في المصر، أو بيد المعينين من طرف الكاشف في الناحية، وإذا كان التوجيه بالطلب من كاشف الناحية، كانت أشنع في التغريم والكلف لترادف الإرسال وتكرار حق الطريق.

وفي سادسه حضر أحمد كاشف سليم من الجهة القبلية، وسبب حضوره أن الباشا لما بلغته هذه الأخبار أرسل الأُمرا القبليين يستدعي منهم بعض عقلاهم، مثل: أحمد أغا شويكار وسليم أغا مستحفظان ليتشاور معهم في الأمر، فلم يُجب واحد منهم إلى الحضور.

ثم اتفقوا على إرسال أحمد كاشف لكونه ليس معدودًا من أفرادهم، وبينه وبين الباشا نسب؛ لأن ربيبته تحت حسن الشماشيرجي فحضر واختلى به الباشا مرارًا.

ثم أمره بالعود فسافر في يوم التلات رابع عشره، وأصحب معه هدية إلى إبراهيم بك والبرديسي وعثمان بك حسن وغيرهم من الأُمرا، وهي عدد خيول وقلاعيات وثياب وأمتعة وغير ذلك.

وفي سادسه أيضًا قبض الباشا على إبراهيم أغا الوالي وحبسه مع أرباب الجرايم؛ وسبب ذلك أن البصاصين شاهدوا حمولًا فيها ثياب من ملابس الأجناد، أعدها بعض تجار النصارى ليرسلها إلى جهة قبلي لتُباع على أجناد الأُمرا المصريين ومماليكهم ويربح فيها.

وسيل الحاملون لها فأخبروا أن أربابها فعلوا ذلك باطلاع الوالي المذكور على مصلحة أخذها منهم، ووصل خبر ذلك إلى الباشا فأحضره وقبض عليه وحبسه، ثم أطلقه بعد أيام على مصلحة تقررت عليه بشفاعة امرأة من القهارمة المتقربين، وعاد إلى منصبه وأُخذت البضاعة وضاعت على أصحابها وغرموهم زيادة على ذلك غرامة، وكذلك اتُّهم الذي حجزها بأنه اختلس منها أشيا وحُبس وأُخذت منه مصلحة، فتحصل من هذه القضية جملة من المال مع أنها في خلال المراسلة والمهاداة.

ونودي بعد ذلك بأن من أراد أن يرسل شيًّا أو متجرًا ولو إلى السويس، فليستأذن على ذلك ويأخذ به ورقة من باب الباشا، فإن لم يفعل وضاع عليه فاللوم عليه.

وفي يوم التلات رابع عشره ورد ساعٍ وصحبته مكتوب من حاكم إسكندرية خطابًا إلى الدفتردار يخبره بوصول قبطان باشا إلى الثغر، وفي أثره وصل باشا متولًّى على مصر، واسمه موسى باشا، وصحبتهم مراكب بها عساكر من الصنف الذي يسمَّى النظام الجديد، وكان ورود القبطان إلى الثغر ليلة الجمعة عاشره، وطلعوا إلى البر بإسكندرية في يوم السبت حادي عشره، فلما قرا الدفتردار الورقة أرسل إلى السيد عمر النقيب، فحضر إليه وركب صحبته للباشا واختليا معه ساعة، ثم فارقاه.

ولما بلغ الألفي ورود هذه الدونانمة وحضرت إليه المبشرون وهو بالبحيرة امتلأ فرحًا، وأرسل عدة مكاتبات إلى مصر صحبة السعاة فقبضوا على السعاة، وحضروا بهم إلى الباشا فأخفاها ووصل غيرها إلى أربابها على غير يد السعاة، وصورتها الأخبار بحضور الدونانمة صحبة قبطان باشا والنظام الجديد، وولاية موسى باشا على مصر وانفصال محمد علي باشا عن الولاية، وأن مولانا السلطان عفا عن الأُمرا المصريين، وأن يكونوا كعادتهم في إمارة مصر وأحكامها والباشا المتولَّى يستقر بالقلعة كعادته، وأن محمد علي باشا يخرج من مصر ويتوجه إلى ولايته التي تقلدها وهي ولاية سلانيك، وأن حضرة قبطان باشا أرسل يستدعي إخواننا الأُمرا من ناحية قبلي، فالله يسهل بحضورهم فتكونوا مطمينين الخاطر، وأعلموا إخوانكم من الألداشات والرعية بأن يضبطوا أنفسهم ويكونوا مع العلما في الطاعة وما بعد ذلك إلا الراحة والخير والسلام.

وفي يوم الجمعة سابع عشره ورد قاصد من طرف قبودان باشا إلى بولاق، فأرسل إليه الباشا مَن قابَله وأركبه وحضر به إلى بيت الباشا، وأراد أن ينزل بمنزل الدفتردار فاستعفى الدفتردار من نزوله عنده، فأنزلوه ببيت الروزنامجي، وأقام يومين: السبت والأحد، ولم يظهر ما دار بينهما.

ثم سافر في يوم الاثنين وذهب صحبته سليم المعروف بقبي لركسخي، وشرع الباشا في عمل آلات حرب وجلل ومدافع، وجمعوا الحدادين بالقلعة وأصعدوا بنبات كثيرة واحتياجات ومهمات إلى القلعة، وظهر منه علامات العصيان وعدم الامتثال، وجمع إليه كبار العسكر وشاورهم وتناجى معهم فوافقوه على ذلك؛ لأن ما من أحد منهم إلا وصار له عدة بيوت وزوجات والتزام بلاد وسيادة لم يتخيلها، ولم تخطر بذهنه ولا بفكره، ولا يسهل به الانسلاخ عنها والخروج منها ولو خرجت روحه.

وأخبر المخبرون أن الألفي أرسل هدية إلى قبودان باشا، وفيها ثلاثون حصانًا منها عشرة برخوتها، ومن الغنم أربعة آلاف رأس، وجملة أبقار وجواميس وماية جَمَل محمَّلة بالذخيرة، وغير ذلك من النقود والثياب والأقمشة برسمه ورسم كبار أتباعه.

ثم إن الباشا أحضر السيد عمر والخاصة، وعرَّفهم بصورة الأمر الوارد بعزله وولاية موسى باشا، وأن الأُمرا المصريين أعرضوا للسلطنة في طلب العفو وعودهم إلى أمرياتهم، وخروج العساكر التي أفسدت الإقليم عن أرض مصر، وشرطوا على أنفسهم القيام بخدمة الدولة والحرمين الشريفين، وإرسال غلالها ودفع الخزينة وتأمين البلاد، فحصل عنهم الرِّضَى وأجيبوا إلى سؤالهم على هذه الشروط، وأن المشايخ والعُلما يتكلفون بهم ويضمنون عهدهم بذلك، فأعملوا فكركم ورأيكم في ذلك، ثم انفصلوا من مجلسه.

وفيه أرسل الباشا فجمع الأخشاب التي وجدها ببولاق في الشوادر والحواصل والوكايل، وطلَّعوا جميع ذلك إلى القلعة لعمل العربات والعجل برسم المدافع والقنابر.

وفي يوم التلات حادي عشرينه كان مولد المشهد الحسيني المعتاد، وحضر الباشا لزيارة المشهد ودعاه شيخ السادات، وهو الناظر على المشهد والمتقيد لعمل ذلك، فدخل إليه وتغدى عنده، ثم ركب وعاد إلى داره وأكثر من الركوب والطواف بشوارع المدينة والطلوع إلى القلعة والنزول منها، والذهاب إلى بولاق وهو لابس برنسًا.

وفي يوم الخميس تالت عشرينه حضر ديوان أفندي وعبد الله أغا بكتاش الترجمان عند السيد عمر، ومعهما صورة عرض يكتب عن لسان المشايخ إلى الدولة في شأن هذه الحادثة، فتناجوا مع بعضهم حصة من النهار، ثم ركبا وحضرا في ثاني يوم عند الشيخ عبد الله الشرقاوي، وأمروا المشايخ بتنظيم العرضحال وترصيعه، ووضع أسماهم وختومهم عليه ليرسله الباشا إلى الدولة، فلم تسعهم المخالفة، ونظموا صورته ثم بيضوه في كاغد كبير. وصورته بالحرف:

بسم الله الرحمن الرحيم الروف الحليم، الحمد لله ذي الجلال على جميع الشئون والأحوال، نرفع إليك أكُفًّا من بحر جودك مغترفة، ونتوجه إلى كعبة فضلك بقلوب بخالص الوحدانية معترفة، أن تديم بهجة الزمان ورونق عنوان اليمن واليمان بدوام وزير تخضع لمهابته الرقاب، وتدنو لهمة سطوته المهمات الصعاب، منتهى آمال المقاصد والوسايل، ومحط رحال المطالب من كل سايل، حضرة صدر الصدور ومدبر مهمات الأمور الصدر الأعظم أدام الله دعايم العز بقيامه، وفسح للأنام في أيامه، محفوفًا بعناية الرب الكريم، محفوظًا بآيات القرآن العظيم آمين.

أما بعد رفع القصد والرجا، ومد سواعد الخضوع والالتجا، فإننا نُنهي لمسامعكم العلية، وشيم أخلاقكم المرضية، بأنه قد قدم حضرة الدستور المكرم، والمشير المفخم، مدير مهمات الاسكلات البحرية، خادم الدولة العلية، الوزير قبودان باشا إلى ثغر إسكندرية، فأرسل كتخدا البوابين سعيد أغا وصحبته الأمر الشريف، الواجب القبول والتشريف، المعنون بالرسم الهمايوني العالي، دامت مسراته على ممر الدهور والأعوام والأيام والليالي.

فأوضح مكنونه، وأفصح مضمونه بأنه قد تطاولت العداوة بين الوزير محمد علي باشا وبين المصريين؛ فتعطلت مهمات الحرمين الشريفين من غلال ومرتبات وتنظيم أمير الحاج على حكم سوابق العادات، والحال أنه ينبغي تقديم ذلك على ساير المطلوبات، وأن هذا التأخير سببه كثرة العساكر والعلوفات؛ وترتب على ذلك لكامل الرعية بالأقاليم المصرية الدمار والاضمحلال، وأنهت الأُمرا المصرية هذه الكيفية لحضرة السدة السنية، وأنهم يتعهدون بالتزام جميع مرتبات الحرمين الشريفين من غلال وعوايد ومهمات، وإخراج أمير حاج على حكم أسلوب المتقدمين، مع الامتثال لكامل ما يرد من الأوامر الشريفة إلى ولاة الأمور بالديار المصرية، وأنهم يقومون في كل سنة بدفع الأموال الميرية إلى خزينة الدولة العلية إن حصل لهم العفو عن جرايمهم الماضية، والرضى بدخولهم مصر المحمية، والتمسوا من حضرة الدولة العلية قبول ذلك منهم وبلوغهم مأمولهم.

فأصدرتم لهم الأمر الهمايوني الشريف المطاع المنيف، بعزل الوزير المشار إليه، لتقرير العداوة معه، ووجهتم له ولاية سلانيك، ووجهتم ولاية مصر إلى الوزير موسى باشا، وقبلتم توبتهم، وإن العُلما الوجاقلية والريسا والوُجها بالديار المصرية، الداعين لحضرة مولانا الخنكار السعيد ببلوغ المأمولات المرضية أن تعهدوا بهم، وكلفوهم يحصل لهم المساعدة الكلية حكم التماسهم من أعتاب حضرة الدولة العلية، فأمركم مطاع، وواجب القبول والاتباع.

غير أننا نلتمس من شيم الأخلاق المرضية، والمراحم العلية، العفو عن تعهدنا وكفالتنا لهم؛ فإن شرط الكفيل قدرته على المكفول، ونحن لا قدرة لنا على ذلك لما تقدم من الأفعال الشهيرة، والأحوال والتطورات الكثيرة، التي منها خيانة المرحوم السيد علي باشا — والي مصر سابقًا — بعد واقعة ميرميران طاهر باشا، وقتل الحجاج القادمين من البلاد الرومية، وسلب الأموال بغير أوجه شرعية، والصغير لا يسمع كلام الكبير، والكبير لا يستطيع تنفيذ الأمر على الصغير، وغير ذلك مما هو معلومنا وبمشاهدتنا، خصوصًا ما وقع في العام الماضي من إقدامهم على مصر المحمية، وهجومهم عليها في وقت الفجرية، فجلاهم عنها حضرة المشار إليه، وقتل منهم جملة كثيرة، فكانت واقعة شهيرة، فهذا شي لا ينكر، فحينئذٍ لا يمكننا التكفل والتعهد؛ لأننا لا نطلع على ما في السراير، وما هو مستكن في الضماير، فنرجو عدم المواخذة في الأمور التي لا قدرة لنا عليها؛ لأننا لا نقدر على دفع المفسدين والطغاة والمتمردين الذين أهلكوا الرعايا ودمروهم، فأنتم خلفا الله على خليفته، وأمناه على بريته، ونحن ممتثلون لولاة أموركم في جميع ما هو موافق للشريعة المحمدية، على حكم الأمر من رب البرية — سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، فلا تسعنا المخالفة فيما يرضي الله ورسوله.

فإن حصل منهم خلاف ذلك، نَكِلُ الأمر فيهم إلى مالك الممالك؛ لأن أهل مصر قوم ضعاف، وقال عليه الصلاة والسلام: «أهل مصر الجند الضعيف، فما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته»، وقال أيضًا: «وكل راعٍ مسول عن رعيته يوم القيامة.»

ونفيد أيضًا حضرة المسامع العلية، من خصوص القُرض والسُّلف التي حصل منها الثقلة للأهالي من حضرة محسوبكم الوزير محمد علي باشا، فإنه اضطُر إليها لأجل إغرا العساكر وتقويتهم على دفع الأشقيا والمفسدين، والطغاة المتمردين امتثالًا لأوامر الدولة العلية في دفعهم، والخروج من حقهم، واجتهد في ذلك غاية الاجتهاد، رغية في حلول أنظار الدولة العلية.

فالأمر مفوَّض إليكم، والملك أمانة الله تحت أيديكم، نسأل الله الكريم المنان أن يديم العز والامتنان لسدة السلطان، مع رفعة ترشح بها في النفوس عظمته، وسطوة تسري في القلوب مهابته وأن يبقي دولته على الأنام، وأن يحسن البدء والختام بجاه سيدنا محمد خير البرية، وآلة وصحبة ذوي المناقب الوفيه. انتهى.

وكتبوا من ذلك نسختين، إحداهما إلى القبطان وأخرى إلى السلطان، وكتبوا عليهما الإمضا والختوم وأرسلوهما.

وفي ليلة الاتنين سابع عشرينه وصل شاكر أغا سلحدار الوزير إلى بولاق، فتلقوه وأركبوه إلى بيت الباشا، فلما أصبح النهار أرسلوا أوراقًا وصلت صحبة السلحدار المذكور، إحداها خطابًا للمشايخ، وأخرى إلى شيخ السادات، وتالته إلى السيد عمر النقيب، وكلها على نسق واحد وهي من قبودان باشا وعليها الختم الكبير، وهي بالعربي وفرمان رابع باللغة التركية خطابًا للجميع، ومضمون الكل الأخبار بعزل محمد علي باشا عن ولاية مصر وولاية سلانيك وولاية السيد موسى باشا المنفصل عنها مصر، وأن يكون الجميع تحت الطاعة والامتثال للأوامر والاجتهاد في المعاونة، وتشهيل محمد علي باشا فيما يحتاج إليه من السفن ولوازم السفر ليتوجه هو وحسن باشا والي جرجا من طريق دمياط بالإعزاز والإكرام، وصحبتهما جميع العساكر من غير تأخير حسب الأوامر السلطانية.

ثم إنهم اجتمعوا في عصر ذلك اليوم بمنزل السيد عمر، وركبوا إلى الباشا، فلما استقروا بالمجلس قال لهم: وصلت إليكم المراسلات الواردة صحبة السلحدار. قالوا: نعم. قال: وما رأيكم في ذلك؟ قال الشيخ الشرقاوي: ليس لنا رأي، والرأي ما تراه، ونحن الجميع على رأيك. فقال لهم: في غد أبعث إليكم صورة تكتبونها في رد الجواب.

وأرسل إليهم من الغد صورة مضمونها أن الأوامر الشريفة وصلت إلينا وتلقيناها بالطاعة والامتثال، إلا أن أهل مصر ورعيتها قوم ضعاف وربما عصت العساكر عن الخروج؛ فيحصل لأهل البلدة الضرر وخراب الدور وهتك الحرمات، وأنتم أهل الشفقة والرحمة والتلطف، ونحو ذلك من التزويقات والتمويهات وأصدروها إليه.

وفي أثنا ذلك كان محمد علي باشا آخذ في الاهتمام والتشهيل، وإظهار الحركة والخروج لمحاربة الألفي، وبرزت العساكر إلى ناحية بولاق وخارج البلدة وعدوا بالخيام إلى البر الغربي.

وتقدم إلى مشايخ الحارات بالتعريف على كل من كان متصفًا بالجندية، ويكتبوا أسماهم ومحل سكنهم ففعلوا ذلك ثم كتبت لهم أوراق بالأمر بالخروج وعليها ختم الباشا ومسطور في ورقة الأمر بأن المأمور يصحب معه شخصين أو تلاتة، على أن أكثرهم لا يملك حمارًا يركبه ولا ما يحمل عليه متاعه، ولا ما يصرفه على نفسه فضلًا عن غيره، وكذلك أمر الوجاقلية جليلهم وحقيرهم بالخروج للمحاربة.

وفيه شرع الباشا في تقرير فرضه على البلاد البحرية، وهي القليوبية والمنوفية والغربية والدقهلية والمزاحمتين إلى آخر مجرى النيل، ورتبوها أعلى وأدنى وأوسط، وهي غلال، الأعلى تلاتون أردبًّا وتلاتون راسًا من الغنم وأردب أرز وثلاثون رطلًا من الجبن ومن السمن كذلك، وغير هذه الأصناف كالتبن والجلة وغير ذلك، والأوسط عشرون أردبًّا وما يتبعها مما ذُكر والأدنى اثنا عشر.

ومع ذلك القبض والطلب مستمر في فايظ الملتزمين بعضه من ذواتهم وبعضه من فلاحيهم، مع ما يتبع ذلك من حق الطرق والخدم وتوالي الاستعجالات.

وفي ليلة التلات تامن عشرينه سافر شاكر أغا السلحدار بالأجوبة.

شهر جمادى الأولى (سنة ١٢٢١)

استهل بيوم الخميس، في تانيه احترق معمل البارود بناحية المدابغ؛ فحصل منه رجة عظيمة وصوت هايل مثل المدفع العظيم سمعه القريب والبعيد، ومات به عدة أشخاص، ويقال: إنهم رموا بنبة من القلعة بقصد التجربة على جهة بولاق، فسقطت في المعمل المذكور وحصل ما ذُكر.

وفي تالته يوم السبت وقت الزوال ركب الباشا من داره يريد السفر لمحاربة الألفي، ونزل إلى بولاق، وعدى إلى بر إنبابة لتجهيز العرضي، وأرسل أوراقًا لتجمع العربان، وعيَّن لذلك حسن أغا محرم وعلي كاشف الشرقية.

وفي ليلة الاتنين خامسه حضر سليم أغا قابجي كتخدا الذي تقدم سفره صحبة سعيد أغا كتخدا البوابين، مرسولًا إلى قبودان باشا من طرف محمد علي باشا، فرجع بجواب الرسالة، ومحصلها: أن القبودان لم يقبل هذه الأعذار ولا ما نمقوه من التمويهات التي لا أصل لها، ولا بد من تنفيذ الأوامر وسفر الباشا ونزوله هو وحسن باشا وعساكرهما وخروجهم من مصر، وذهابهم إلى ناحية دمياط وسفرهم إلى الجهة المأمورين بالذهاب إليها، ولا شي غير ذلك أبدًا.

وفي ليلة الخميس تامنه حضر علي كاشف الشرقية، وذلك أنه تقنطر من فوق جواده وكُسرت رجله وأحضروه محمولًا.

وفي يوم الخميس المذكور وصل الكثير من طوايف عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق، وضربوا لحضورهم مدافع.

وفيه ركب طوايف الدلاتية وتقدموا إلى جهة بحري، وأشيع ركوب محمد علي باشا ذلك اليوم فلم يركب.

وفي تاني عشره ورد الخبر بوصول موسى باشا إلى ثغر إسكندرية يوم الأحد حادي عشره، والمذكور أرسل من طرفه قاصدًا وعلى يده مرسوم خطابًا لأحمد أفندي الدفتردار بأن يكون قايمًا مقامه، ويأمره بضبط الإيراد والمصرف، فلم يقبل الدفتردار ذلك، وقال: لم يكن بيدي قبض ولا صرف ولا علاقة لي بذلك.

وفي يوم الأحد طافت جماعة قواسة على بيوت الأعيان يبشرونهم بأن العساكر الكاينين بناحية الرحمانية ركبوا على عرضي الألفي ووقعت بينهم مقتلة كبيرة، وقتلوا منه جملة فيهم أربعة صناجق، ونهبوا منه زيادة عن تمانماية جمل بأحمالها وعدة هجن محملة بالأموال، ورجعت العساكر ومعهم نحو التمانين رأسًا وماية أسير وغير ذلك، وأن الألفي هرب بمفرده إلى ناحية الجبل وقيل إلى إسكندرية، فكانوا يطوفون على الأعيان بهذا الكلام ويأخذون منهم البقاشيش.

ثم ظهر أن هذا الكلام لا أصل له وتبيَّن أن طايفة من العرب يقال لهم: الجوابيص وهم طايفة مرابطون ليس يقع منهم أذية ولا ضرر لأحد مطلقًا، نزلوا بالجبل بتلك الناحية فدهمهم العسكر، وخطفوا منهم إبلًا وأغنامًا وقتل فيما بينهم أنفار من الفريقين لمدافعتهم عن أنفسهم.

وفي ذلك اليوم أيضًا ركب حسن أغا الشماشرجي إلى المنصورية قرية بالجيزة ومعه طايفة من العسكر، وهي بالقرب من الأهرام فضربوا القرية ونهبوا منها أغنامًا ومواشي وأحضروها إلى العرضي بإنبابة، وحضر خلفهم أصحاب الأغنام وفيهم نسا يصرخن ويصحن، وصادف ذلك أن السيد عمر النقيب عدى إلى العرضي فشاهدهم على هذه الحالة، فكلم الباشا في شأنهم فأمر برد الأغنام التي للنسا والفقرا الصارخين، وذهبوا بالباقي للمطابخ.

وفي تاني عشره وردت الأخبار بأن العساكر الكاينين بالرحمانية ومرقص رجعوا إلى النجيلة، ونصبوا عرضيهم هناك، وحضر الألفي تجاههم فركبوا لمحاربته، وكانوا جمعًا عظيمًا فركب الألفي بجيوشه وحاربهم ووقع بينه وبينهم وقعة عظيمة انجلت عن نصرته عليهم وانهزام العسكر، وقتل من الدلاة وغيرهم مقتلة عظيمة، ولم يزالوا في هزيمتهم إلى البحر وألقوا بأنفسهم فيه وامتلا البحر من طراطير الدلاتية، وهرب كتخدا بك وطاهر باشا إلى بر المنوفية، وعدوا في المراكب، واستولى الألفي وجيوشه على خيولهم وخيامهم وحملاتهم وجبخانتهم، وأرسل بروس القتلى والأسرى إلى القبودان.

وأشيع خبر هذه الواقعة في الناس وتحدثوا بها، وانزعج الباشا والعسكر انزعاجًا عظيمًا وعدى إلى بر بولاق، وطاف الوالي وأصحاب الدرك ينادون على العساكر بالخروج إلى العرضي، ويكتبون أسماهم وحضر الباشا إلى داره.

وأكثر من الركوب والذهاب والمجي والطواف حول المدينة والشوارع، ويذهب إلى بولاق ومصر القديمة ويرجع ليلًا ونهارًا وهو راكب رهوانًا تارة أو فرسًا أو بغلة، ومرتديًا برنسًا أبيض مثل المغاربة والعسكر أمامه وخلفه، ووصل مجاريح كثيرة وأخبروا بالواقعة المذكورة، ومات من جماعة الألفي أحمد بك الهنداوي فقط، وانجرح أمين بك وغيره جرح سلامة.

وفي يوم الأربع حادي عشرينه وصلت العساكر المهزومة وكبراهم إلى بولاق، وفيهم مجاريح كثيرة وهم في أسوأ حال، فمنعهم الباشا من طلوع البر وردهم بمراكبهم إلى بر إنبابة، واستمروا هناك إلى آخر النهار وهم عدد كثير، وقد انضاف إليهم من كان ببر المنوفية، ولم يحضر المعركة لما داخلهم من الخوف.

ثم إنهم طلعوا إلى بولاق، وانتشروا في النواحي، وذهب منهم الكتير إلى مصر القديمة، وحضر كتير منهم، ودخلوا المدينة ودخلوا البيوت وأزعجوا كتير من الناس الساكنين بناحية قناطر السباع، وسويقة اللالا والناصرية وغير ذلك من النواحي، وأخرجوهم من دورهم، وقد كانت الناس استراحت منهم مدة غيابهم.

وفي يوم الأربع تامن عشرينه الموافق لتامن مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه، وركب الباشا في صبيحة يوم الخميس إلى قنطرة السد، وحضر القاضي والسيد عمر النقيب، وكسر الجسر بحضرتهم وجرى الماء في الخليج جريانًا ضعيفًا؛ بسبب علو أرضه وعدم تنظيفه من الأتربة المتراكمة فيه، ويقال: إنهم فتحوه قبل الوفاء لاشتغال بال الباشا وتطيره وخوفه من حادثة تحدث في مثل يوم هذا الجمع، وخصوصًا وقد وصل إلى بر الجيزة الكثير من أجناد الألفي.

شهر جمادى الآخرة (سنة ١٢٢١)

استهل بيوم السبت، في سادسه حضر طاهر باشا إلى بر إنبابة، ونصب خيامه هناك وعدى هو في قلة إلى بر بولاق، وذهب إلى داره بالأزبكية، وكان من أمره أنه لما حصلت له الهزيمة فذهب إلى المنوفية، وقد اغتاظ عليه الباشا وأرسل يقول له: لا تريني وجهك بعد الذي حصل، وترددت بينهما الرسل ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى رشيد، فذهب إلى فوة، ثم حضر شاهين بك الألفي إلى الرحمانية فأرسل الباشا إلى طاهر باشا يأمره بالذهاب إلى شاهين بك ويطرده من الرحمانية، فذهب إليه في المراكب فضرب عليه شاهين بك بالمدافع، فكسر بعض مراكبه، فرجع على أثره وركب من البر حتى تعدى بحر الرحمانية، ثم حضر إلى مصر، ووصل بعده الكثير من العسكر فأمرهم الباشا بالعود، فعاد الكثير منهم في المراكب، وحضر أيضًا إسماعيل أغا الطوبجي كاشف المنوفية، وقد داخل الجميع الخوف من الألفي.

وأما الألفي فإنه بعد انفصال الحرب من النجيلة رجع إلى حصار دمنهور، وذلك بعد أن ذهب أعيانها إلى قبودان باشا وقابلوه وأمَّنهم، ورجعوا على أمانه فافترقوا فرقتين: فرقة منهم اطمأنت ورضيت بالأمان، والأخرى لم تطمين بذلك، وأرسلوا إلى السيد عمر والباشا، فرجع إليهم الجواب يأمرونهم باستمرارهم على الممانعة ومحاربة من يأتي لحربهم، فامتثلوا ذلك وتبعتهم الفرقة الأخرى وأرسل إليهم القبودان يدعوهم إلى الطاعة ويضمن لهم عدم تعدي الألفي عليهم، فلم يرضوا بذلك، فعند ذلك استقصى العلما في جواز حربهم حتى يذعنوا للطاعة فأفتوه بذلك، فعند ذلك أرسل إلى الألفي يأمره بحربهم فحاصرهم وحاربهم واستمر ذلك.

وفي يوم الجمعة سابعه ورد الخبر بموت الكاشف الذي بدمنهور.

وفي يوم الخميس تالت عشره وصلت قافلة من السويس وصحبتها المحمل، فأدخلوه وشقوا به من المدينة وخلفه طبل وزمر، وأمامه أكابر العسكر وأولاد الباشا، ومصطفى جاويش المتسفر عليه، ولقد أخبرني مصطفى جاويش المذكور أنه لما ذهب إلى مكة، وكان الوهابي حضر إلى الحج واجتمع به فقال له الوهابي: ما هذه العويدات التي تأتون بها وتعظمونها بينكم؟ يشير بذلك القول إلى المحمل، فقال له: جرت العادة من قديم الزمان بها يجعلونها علامة وإشارة لاجتماع الحجاج، فقال: لا تفعلوا ذلك ولا تأتوا به بعد هذه المرة، وإن أتيتم به مرة أخرى فإني أكسره.

وفي ليلة الأربع حضر الأفندي المكتوبجي من طرف القبودان إلى بولاق، فأرسل إليه الباشا حصانًا فركبه وحضر إلى بيت الباشا بالأزبكية في صبح يوم الأربع المذكور، فأحضر الباشا الدفتردار وسعيد أغا واختلوا مع بعضهم ولم يُعلم ما دار بينهم.

في يوم الخميس عشرينه ارتحل مَن بالجيزة مِن الأمرا المصريين، وعدتهم ستة من المتأمِّرين الجدد الذين أمَّرهم الألفي، فذهبوا عند أستاذهم بناحية دمنهور ونزلوا بالقرب منه.

وفي خامس عشرينه مر سليمان أغا صالح من ناحية الجيزة راجعًا من عند الأمرا القبالي وصحبته هدايا من طرفهم إلى القبودان، وفيها خيول وعبيد وطواشية وسكر، ولم يجيبوا إلى الحضور لممانعة عثمان بك البرديسي وحقده الكامن للألفي، ولكون هذه الحركة، وهي مجي القبودان وموسى باشا، باجتهاده وسفارته وتدبيره كما سيتلى عليك فيما بعد.

وفيه ظهرت فحوى النتيجة القياسية وانعكاس القضية، وهو أن القبودان لما لم يجد في المصرلية الإسعاف، وتحقق ما هم عليه من التنافر والخلاف، وتكررت ما بينه وبين الفريقين المراسلات والمكاتبات، فعند ذلك استأنف مع محمد علي باشا المصادقة، وعلم أن الأروج له معه الموافقة، فأرسل إليه المكتوبجي واستوثق منه، والتزم له بأضعاف ما وعد به من الكذابين معجلًا ومؤجلًا على ممر السنين، والالتزام بجميع المأمورات والعدول عن المخالفات.

فوقع الاتفاق على قدر معلوم، وأرسل إلى محمد علي باشا يأمره بكتابة عرضحال خلاف الأولين ويرسله صحبة ولده على يد القبودان، فعند ذلك لخصوا عرضحال، وختم عليه الأشياخ والاختيارية والوجاقلية، وأرسله صحبة ابنه إبراهيم بك وأصحب معه هدية حافلة وخيولًا وأقمشة هندية وغير ذلك، وتلفت طبخه الألفي والتدابير ولم تسعفه المقادير.

ومضمون العرضحال وملخصه أن محمد علي باشا كافل الإقليم وحافظ ثغوره، ومؤمِّن سلبه وقامع المعتدين، وأن الكافة من الخاصة والعامة والرعية راضية بولايته وأحكامه وعدله، والشريعة مقامة في أيامه ولا يرتضون خلافه لما رأوا فيه من عدم الظلم والرفق بالضعفا وأهل القرى والأرياف، وعمارها بأهلها ورجوع الشاردين منها في أيام المماليك المصرية المعتدين الذين كانوا يتعدون عليهم ويسلبون أموالهم ومزارعهم، ويكلفونهم بأخذ الفرض والكلف الخارجة عن الحد.

وأما الآن فجميع أهل القطر المصري آمنوا مطمينين بولاية هذا الوزير، ويرجون من مراحم الدولة العلية أن يبقيه واليًا عليهم، ولا يعزله عنهم لما تحققوه فيه من العدل وإنصاف المظلومين، وإيصال الحقوق لأربابها وقمع المفسدين من العربان الذين كانوا يقطعون الطرقات على المسافرين، ويتعدون على أهل القرى، ويأخذون مواشيهم وزوعهم، ويقتلون من يعصى عليهم منهم، وأما الآن فلم يكن شي من ذلك، وجميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن برًّا وبحرًا بحسن سياسته وعدله، وامتثاله للأحكام الشرعية ومحبته للعماء وأهل الفضايل والإذعان لقولهم ونصحهم، ونحو ذلك من الكلمات التي عنها يُسألون ولا يؤذن لهم فيعتذرون.

ولما كتبوا ذلك لم يطَّلع عليه إلا بعض الأفراد المتصدرين، ويكتب كاتبه جميع الأسماء تحته بخطه. ولا يمكِّنون البواقي الذين يضعون إمضاهم وأسماهم من قراته، بل يطلب منهم الخاتم فيختمون به تحت اسمه؛ إذ لا يمكنه الشذوذ والمخالفة لحرصه على دوام ناموسه، وقبوله عند سلطانه، ودايرة أهل دولته، وإن كان متورعًا وليس له كبير صورة فيهم ولا صدارة مثلهم، وأبى أن يسلم خاتمه ليفعل به كغيره ختموه بخاتم موافق لاسمه تحت إمضايه، وهذا هو السبب في عدم نقلي هذه الصورة، بل فهمت المضمون فقط، والله ولي التوفيق.

وفي هذه الأيام تخاصم عرب الحويطات والعيايدة، وتجمع الفريقان حول المدينة وتحاربوا مع بعضهم مرارًا وانقطعت السبل بسبب ذلك، وانتصر الباشا للحويطات وخرج بسببهم إلى العادلية، ثم رجع، ثم إنهم اجتمعوا عند السيد عمر النقيب وأصلح بينهم.

شهر رجب (سنة ١٢٢١)

استهل بيوم الأحد، فيه وصل القاضي الجديد، ويسمى عارف أفندي، وهو ابن الوزير خليل باشا المقتول، وانفصل محمد أفندي سعيد خفيد علي باشا المعروف بحكيم أوغلي، وكان إنسانًا لا بأس به مهذبًا في نفسه، وسافر إلى قضا المدينة المنورة من القلزم بصحبة القافلة.

وفي يوم الجمعة سادسه سافر إبراهيم بك ابن الباشا بالهدية، وسافر صحبته محمد أغا لاظ الذي كان سلحدار محمد باشا خسرو.

وفي يوم السبت أرسل الباشا إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي ترجمانه يأمره بلزوم داره، وأنه لا يخرج منها ولا إلى صلاة الجمعة؛ وسبب ذلك أمور وضغاين ومنافسات بينه وبين إخوانه كالسيد محمد الدواخلي والسيد سعيد الشامي، وكذلك السيد عمر النقيب فأغروا به الباشا ففعل به ما ذُكر، فامتثل الأمر ولم يجد ناصرًا وأُهمل أمره.

وفيه تواترت الأخبار بوقوع معركة عظيمة بين العسكر والألفي؛ وذلك أن الألفي لم يزل محاصرًا دمنهور، وهم ممتنعون عليه إلى الآن، وسد خليج الأشرفية ومنع الماء عن البحيرة وإسكندرية لضرورة مرور الماء من ناحية دمنهور ليعطل عليهم المراد من الحصار، فأرسل الباشا بونابرته الخازندار وصحبته عثمان أغا ومعهما عدة كثيرة من العساكر في المراكب، فوصلوا إلى خليج الأشرفية من ناحية الرحمانية، وعليه جماعة من الألفية فحاربوهم حتى أجلوهم عنها.

وفتحوا فم الخليج فجرى فيه الماء، ودخلوا فيه بمراكبهم فسدَّ الألفية الخليج من أعلى عليهم، وحضر شاهين بك فسدَّ مع الألفية فم الخليج بأعدال القطن والمشاق، ثم فتحوه من أسفل فسال الماء في السبخ، ونضب الماء من الخليج، ووقفت السفن على الأرض ووصلتهم الألفية، فأوقعوا معهم وقعة عظيمة، وذلك عند قرية يقال لها: منية القران، فانهزموا إلى سنهور وتحصنوا بها، فأحاطوا بهم واستمروا على محاربتهم حتى افترق الفريقان فيما بعد.

وفيه أيضًا وصلت الأخبار بأن ياسين بك لم يزل يحارب من بمدينة الفيوم حتى ملكها وقتل من بها، ولم ينجُ منهم إلا القليل، وكانوا أرسلوا يستنجدون بإرسال العسكر فلم يلحقوهم.

وفيه وردت الأخبار من الجهة القبلية بأن الأُمرا المصريين أخلوا منفلوط وملوي، وترفعوا إلى أسيوط وجزيرة منقباط وتحصنوا بهما، وذلك لما أخذ النيل في الزيادة، وخشوا من ورود العساكر عليهم بتلك النواحي، فلا يمكنهم التحصن فيها فترفعوا إلى أسيوط.

فلما فعلوا ذلك أشاعوا هروبهم وذكروا أن عابدين بك وحسن بك حارباهم وطرداهم إلى أن هربوا إلى أسيوط، ولما خلت تلك النواحي منهم رجع كاشف منفلوط وملوي وخلافهما الذين كانوا طردوهم في العام الماضي وفروا من مقاتلتهم.

وفيه شرع الباشا في تجهيز عساكر وتسفيرهم إلى جهة بحري وقبلي، وحجزوا المراكب للعسكر فانقطعت سبل المسافرين، وذلك عندما اطمأن خاطره من قضية القبودان والعزل.

وفيه شرع أيضًا في تقريره فرضة عظيمة على البلاد والقرى والتجار ونصارى الأروام والأقباط والشوام، ومساتير الناس ونسا الأعيان والملتزمين وغيرهم، وقدرها ستة آلاف كيس، وذلك برسم مصلحة القبودان وذكروا أنها سلفة لمدة ستة أيام تُرد إلى أربابها ولا صحة لذلك.

وفي ليلة الاتنين وصل كتخدا القبودان إلى ساحل بولاق، فضربوا لقدومه مدافع وعملوا شنكًا وأرسل له في صبحها خيولًا صحبة ابنه طوسون، ومعهم أكابر الدولة والأغا والوالي والأغوات، فركب في موكب عظيم، ودخلوا به من باب النصر وشق من وسط المدينة، وعمل الباشا الديوان واجتمع عنده السيد عمر والمشايخ المتصدرون ما عدا الشيخ عبد الله الشرقاوي ومن يلوذ به، فسأل عليه القاضي وعلى من تأخر فقيل له: الآن يحضر، ولعل الذي أخَّره ضعفه ومرضه.

ثم إنهم انتظروا باقي الوُجها وأرسلوا لهم جملة مراسيل فلما حضروا قروا المرسوم الوارد صحبة الكتخدا المذكور، ومضمونه: إبقا محمد علي باشا واستمراره على ولاية مصر، حيث إن الخاصة والعامة راضية بأحكامه وعدله بشهادة العُلما وأشراف الناس، وقبلنا رجاهم وشهادتهم، وأنه يقوم بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين وإيصال العلايف والغلال لأربابها على النسق القديم، وليس له تعلُّق بثغر رشيد ولا دمياط ولا إسكندرية، فإنه يكون إيرادها من الجمارك يضبط إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول.

ومن الشروط أيضًا أن يُرضي خواطر الأُمرا المصريين، ويمتنع من محاربتهم ويعطيهم جهات يتعيشون بها، وهذا من قبيل تحلية البضاعة.

وانفض المجلس وضربوا مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية وبولاق، وأشيع عمل زينة بالبلدة وشرع الناس في أسبابها وبعضهم علق على داره تعاليق، ثم بطل ذلك وطاف المبشرون من أتباعهم على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش، وأذن الباشا بدخول المراكب إلى الخليج والأزبكية، ثم عملوا شنكًا وحراقات وسواريخ ثلاثة أيام بلياليها بالأزبكية.

شهر شعبان (سنة ١٢٢١)

فيه تكلم القاضي مع الباشا في شأن الشيخ عبد الله الشرقاوي والإفراج عنه ويأذن له في الركوب والخروج من داره حيث يريد، فقال: أنا لا ذنب لي في التحجير عليه، وإنما ذلك من تفاقمهم مع بعضهم، فاستأذنه في مصالحتهم فأذن له في ذلك، فعمل القاضي لهم وليمة ودعاهم وتغدوا عنده وصالحهم، وقروا بينهم الفاتحة، وذهبوا إلى دورهم والذي في القلب مستقر فيه.

وفيه وردت الأخبار من الديار الرومية بقيام الرومنلي، وتعصبهم على منع النظام الجديد والحوادث، فوجهوا عليهم عسكر النظام فتلاقوا معهم وتحاربوا فكانت الهزيمة على النظام وهلك بينهم خلايق كثيرة، ولم يزالوا في أثرهم حتى قربوا من دار السلطنة، فترددت بينهم الرسل وصانعوهم وصالحوهم على شروط منها عزل أشخاص من مناصبهم، ونفي آخرين ومنهم الوزير وشيخ الإسلام والكتخدا والدفتردار، ومنع النظام والحوادث ورجوع الوجاقات على عادتهم، وتقلد أغات الينكجرية الصدارة وأشيا لم تثبت حقيقتها.

وفيه حضر عابدين بك أخو حسن باشا من الجهة القبلية.

وفي عاشره تواترت الأخبار بوقوع وقايع بالناحية القبلية، واختلاف العساكر ورجوع من كان بناحية منفلوط وعصيان المقيمين بالمنية بسبب تأخر علايفهم، ورجع حسن بك باشا إلى ناحية المنية فضرب عليه من بها فانحدر إلى بني سويف.

وفيه حضر إسماعيل الطوبجي كاشف المنوفية باستدعاء، فأرسله الباشا بمال إلى الجهة القبلية ليصالح العساكر.

وفيه وردت الأخبار من ثغر إسكندرية بسفر قبودان باشا وموسى باشا إلى إسلامبول، وأخذ القبودان صحبته طوسون بن محمد علي باشا، وكان نزولهم وسفرهم في يوم السبت خامسه، واستمر كتخدا القبودان بمصر متخلفًا حتى يستغلق مال المصالحة.

وفيه شرعوا في تقرير فرضة على البلاد أيضًا.

وفيه حضر محو بك من ناحية قبلي.

وفي سادس عشره سافر كتخدا القبودان بعدما استغلق المطلوب.

وفيه وصل إلى ثغر بولاق قابجي وعلى يده تقرير لمحمد علي باشا بالاستمرار على ولاية مصر، وخلعة وسيف، فأركبوه من بولاق إلى الأزبكية في موكب حفل وشقوا به من وسط المدينة، وحضر المشايخ والأعيان والاختيارية.

ونصب الباشا سحابه بحوش البيت للجمع والحضور، وقريت المرسومات، وهما فرمانان: أحدهما يتضمن تقرير الباشا على ولاية مصر بقبول شفاعة أهل البلدة والمشايخ والأشراف، والتاني يتضمن الأوامر السابقة وبإجرا لوازم الحرمين وطلوع الحج، وإرسال غلال الحرمين، والوصية بالرعية، وتشهيل غلال قدرها ستة آلاف أردب، وتسفيرها على طريق الشام معونة للعساكر المتوجهين إلى الحجاز.

وفيه الأمر أيضًا بعدم التعرض للأُمرا المصريين، وراحتهم وعدم محاربتهم؛ لأنه تقدم العفو عنهم ونحو ذلك، وانقضى المجلس وضربوا مدافع كثيرة من القلعة والأزبكية.

واستهل شهر رمضان بيوم الأربع (سنة ١٢٢١)

وانقضى بخير، ولم يقع فيه من الحوادث سوى توالي الطلب والفرض والسلف التي لا تُرد، وتجريد العسكر إلى محاربة الألفي، واستمرار الألفي بالبحيرة، ومحاصرة دمنهور واستمرار أهل دمنهور على الممانعة، وصبرهم على المحاصرة وعدم الطاعة مع متاركة المحاربة.

وفيه ورد الخبر بموت عثمان بك البرديسي في أوايل رمضان بمنفلوط، وكذلك سليم بك أبو دياب ببني عدي.

وفي أواخره تقدم محمد علي باشا إلى السيد عمر النقيب بتوزيع جملة أكياس على الناس من مياسير الناس على سبيل السلفة.

واستهل شهر شوال بيوم الجمعة (سنة ١٢٢١)

ولم يقع في شهر رمضان هذا ارتباك في هلالة أولًا وآخرًا، كما حصل فيما تقدم وكذلك حصل به سكون وطمأنينة من عربدة العساكر، لولا توالي الطلب والسلف والدعاوى الباطلة في المدينة والأرياف، وعسف أرباب المناصب في القرى، وعملوا شنكًا للعيد بمدافع كثيرة في الأوقاف الخمسة تلاتة أيام العيد.

وفيه فتحوا طلب الميري على السنة القابلة، وجدُّوا في التحصيل ووجهوا بالطلب العساكر والقواسة والأتراك بالعصي المفضضة وضيقوا على الملتزمين.

وفي عاشره أخرج الباشا خيامًا ونصب عرضي بناحية شبرا ومنية السيرج، والتمس من السيد عمر توزيع أربعماية كيس برأيه ومعرفته، فضاق صدره وشرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس، حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك.

وفي يوم الجمعة تاني عشرينه وصل حسن باشا طاهر من الجهة القبلية، ودخل داره وخرج محمد علي باشا إلى جهة الخلا يريد السفر إلى الألفي ووصلت عربان الألفي وعساكره إلى بر الجيزة، وطلبوا الكلف من البلاد.

وفي يوم الأحد رابع عشرينه عدى محمد علي باشا إلى بر إنبابة.

وفي يوم الاتنين خامس عشرينه عدى محمد علي باشا وغالب العسكر إلى بولاق، وأشاعوا أن الأخصام هربوا من وجوههم، فلم يذهبوا خلفهم بل رجعوا على أثرهم، ونهبوا كفر حكيم وما جاوره من القرى حتى أخذوا النسا والبنات والصبيان والمواشي، ودخلوا بهم إلى بولاق والقاهرة، ويبيعونهم فيما بينهم من غير تحاشٍ كأنهم سبايا الكفار.

واستهل شهر القعدة (سنة ١٢٢١) بيوم السبت

ووصل الحجاج الطرابلسية وعدوا إلى بر مصر. وفي يوم الأحد تانيه وصلت قُفل الصعيد من ناحية الجبل، وبها أحمال كثيرة وبضايع مع عرب المعازة وغيرهم فركب الباشا ليلًا وكبسهم على حين غفلة، ونهبهم وأخذ جِمالهم وأحمالهم متاعهم حتى أولاد العربان والنسا والبنات، ودخلوا بهم إلى المدينة يقودونهم أسرى في أيديهم، ويبيعونهم فيما بينهم كما فعلوا بأهل كفر حكيم وما حوله.

وفي ذلك اليوم ضربوا مدافع كثيرة من القلعة بورود أشخاص من الططر، ببشارة إلى الباشا وتقريره على السنة الجديدة.

وفي يوم السبت تامنه أداروا كسوة الكعبة والمحمل، وركب معها المتسفر عليها من القلزم وهو شخص يقال له: محمود أغا الجزيري، وركب أمامه الأغا والوالي والمحتسب وطايفة الدلاة وكثير من العسكر.

وفي يوم الاتنين عاشره وصلت الأخبار بوصول الألفي إلى ناحية الأخصاص، وانتشار جيوشه بإقليم الجيزة وكان الباشا معزومًا ذلك اليوم عند سعودي الحناوي بسوق الزلط وحارة المقس، وركب قبيل العصر وذهب إلى بولاق، وأمر العساكر بالخروج ولا يتخلف أحد لخامس ساعة من الليل، وعدى بمن معه إلى بر إنبابة.

وفي ليلة الأربع وقع بين الألفي والعسكر معركة، وانحاز العسكر وتترسوا بداخل الكفور والبلاد، ووصل منهم جرحى إلى البلد، واستمر الأمر على ذلك وهم يهابون البروز إلى الميدان، وأخصامهم لا يحاربون المتاريس والحيطان.

وفي يوم التلات تامن عشره ركب الألفي بجيوشه وتوجه إلى ناحية قناطر شبرا منت، فلما عاينهم الباشا ومن معه مارين ركب بعسكره من ناحية كفر حكيم وما حوله، وساروا إلى جهة الجيزة ونصب وطاقه بحريها، وباتوا تلك الليلة وعملوا شنكًا في صبحها، وهم يُشيعون هروب الألفي.

والحال أنه مر في جيش كثيف وصورة هايلة، وقد رتب جنوده وعساكره طوابير وبين يديه النظام الذي رتبه على هيئة عسكر الفرنسيس، ومعهم طبول بكيفية خرعت قلوبهم، والباشا واقف بجيوشه ينظر إليه تارة بعينه وتارة بالنظارة، ويقول: هذا طهماز الزمان، ويتعجب، وقال لطايفة الدلاة: تقدموا لمحاربته وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال، فلم يجسروا على التقدم لما سبق لهم معه.

وفي يوم الخميس حضر أشخاص من العرب إلى الباشا، وأخبروه بأن الألفي قد مات يوم وصوله إلى تلك المحطة، وذلك ليلة الأربع تاسع عشره، وقد نزل به خلط دموي فتقايا ثم مات، وذلك بناحية المحرقة بالقرب من دهشور، وأن مماليكه اجتمعوا وأمَّروا عليهم شاهين بك وذلك بإشارة أستاذهم، وأن طايفة أولاد علي انفصلوا عنهم ورجعوا إلى بلادهم وآخرين يطلبون الأمان.

فاشتبه الحال وشاع الخبر وصارت الناس ما بين مصدق ومكذب، واستمر الاشتباه والاضطراب أيامًا حتى إن الباشا خلع على ذلك المُخبر بعد أن تحقق خبره فروة سمور، وركب بها وشق من وسط المدينة، والناس ما بين مصدق ومكذب، ويظنون أن ذلك من مكايده وتحيلات لأمور يدبرها إلى أن حضر بعض الخدم إلى دوره وأخبروا بحقيقة الحال كما ذكره.

فعند ذلك زال الاشتباه، وعد ذلك من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي، حتى إنه قال في مجلس خاصته: الآن ملكت مصر.

ولما مات الألفي ارتحلت أجناده ومماليكه وأُمراه، وارتفعوا إلى ناحية قبلي. فسبحان الحي الذي لا يموت! قال الشاعر:

فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا

ثم إن الباشا أرسل إلى أُمراه مكاتبة يستميلهم ويطلبهم للصلح، ويدعوهم للانضمام إليه، ويعدهم أن يعطيهم فوق مأمولهم ونحو ذلك، وأرسل تلك المكاتبة صحبة قادري أغا الذي كان طرده الألفي ونفاه.

وأخذ محمد علي باشا في الاهتمام والركوب واللحوق بهم.

وفي كل يوم ينادي على العسكر بالمدينة بالخروج، وقوي نشاطهم ورفعوا روسهم وسعوا في قضا أشغالهم وخطفوا الجِمال والحمير، وحضر الباشا إلى بيته بالأزبكية وبات به ليلة الأحد وصرح بسفره يوم الخميس، وخرج إلى العرضي ثانيًا، وطلب السلف والمال ومضى الخميس والجمعة ولم يسافر.

وفي ليلة السبت تاسع عشرينه نزل به حادر وتحرك عنده خلط، وحصل له إسهال وقيء، وأشاع الناس موته يوم السبت وتناقلوه، وكاد العسكر ينهبون العرضي، ثم حصلت له إفاقة وخرج السيد عمر والمشايخ للسلام عليه يوم الأحد، وليهنوه بالعافية، وكذلك خرجوا لوداعه قبل ذلك مرارًا.

وفيه حضر قادري بجوابات الرسالة من أُمرا الألفي، أحدها للباشا وعليه ختم شاهين وباقي خشداشينه الكبار وآخَر خطابًا لمصطفى كاشف أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي، ومن كان كاتبهم بالمعنى السابق، يذكرون في جوابهم إن كان سيدهم قد مات وهو شخص واحد، فقد خلَّف رجالًا وأُمرا، وهم على طريقة أستاذهم في الشجاعة والرأي والتدبير ونحو ذلك، وليس كل مدعٍ تسلم له دعواه، ومن أمثال المغاربة «ما كل حمرا لحمة ولا كل بيضا شحمة»، وذكروا في الجواب أيضًا أنه إن اصطلح من كبراهم الكاينين بقبلي، وهم إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن وباقي أمراهم كنا مثلهم، وإن كان يريد صلحنا دونهم فيعطينا ما كان يطلبه أستاذنا من الأقاليم ونحو ذلك.

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الاثنين (سنة ١٢٢١)

فيه ارتحل الباشا بالعرضي إلى ساقية مكي بالجيزة متوجهًا لقبلي.

وفيه طلبوا المراكب من كل ناحية وعز وجودها، وامتنعت الواردون ومراكب المعاشات والتجارات، مع استمرار الطلب للمغارم والسلف ونحو ذلك.

وفي منتصفه وردت مكاتبات من وزير الدولة العثمانية، وفيها الخبر بوقوع الغزو بين العثماني والموسكوب، والأمر بالتيقظ والتحفظ وتحصين الثغور، فربما أغاروا على بعضها على حين غفلة.

وكذلك وردت أخبار بمعنى ذلك من حاكم أزمير وحاكم رودس، وأن الإنكليز معاونون لطايفة الموسكوب لاستمرار عداوتهم مع الفرنساوية، ولكون الفرانساوية متصادقين مع العثماني.

والخبر عن مجمل القضية أن بونابارته أمير جيش الفرنساوية وعساكرهم خرجوا في العام الماضي، وأغاروا على القرانات والممالك الإفرنجية، واستولوا على النمسا التي هي أعظم القرانات وبينهم وبين الموسكوب مصادقة ونسب، فأرسل الموسكوب جندًا كثيفًا مساعدة للنيمساويه مع كبير من قرابة قرابتهم، فتلاقوا مع بونابارته بعد استيلاه على تخت النيمسة فهزمهم أيضًا وأسر عظماهم، وسار بجيوشه إلى الروسية واستولى على عدة أماكن.

وكلما استولى على جهة قرر بها حكامها، وشرط عليهم شروطه التي منها معاداة الإنكليز ومنابذتهم.

وراسله العثماني وراسله هو أيضًا، ورأى العثماني قوة بأسه فصادقه، وأرسل إليه من طرفه إلجي إلى إسلامبول، فدخلها في أهبة عظيمة وأنزلوه منزلًا حسنًا، وأرسل صحبته هدايا، وقوبل بأعظم منها، وكذلك أرسل إلى خصوص بونابارته تحفًا وهدايا وتاجًا من الجوهر.

فعند ذلك انتبذ الموسكوب ونقض الهدنة بينه وبين العثماني، وطلب المحاربة فخافه العثماني لما يعلمه منه من القوة والكثرة، وسعى الإنكليز بينهما بالصلح، واجتهد في ذلك حتى أمضاه بشروط قبيحة، وصلت إلينا صورتها وظهر لنا منها اثنا عشر شرطًا، ونصها:
  • الأول: أن أُمرا القلاع والبغازات يحتاج يتغيرو بإذن الإنكليز والموسكوب.
  • التاني: مشيخة السبع جزاير من الآن فصاعدًا لا تكون تابعة غير الموسكوب.
  • التالت: تعريفة الديوان في بلاد العثماني هي التي كانوا يأخذونها قبل النظام الجديد.
  • الرابع: الدولة العلية تسمح للموسكوب في طريق ثلثماية ألف مقاتل يدخلون إلى أي محل أرادوه من بلاد العثماني، وذلك مدة اتفاق الإنكليز والموسكوب وهو تسع سنين.
  • الخامس: يكون مسموحًا لعمارة الموسكوب أنها تدخل لمينة الترسخانة بإسلامبول لأجل أنهم يأخذون من هناك كامل الذي يلزمهم.
  • السادس: جميع الرعايا والحمايات الذي للموسكوب من جديد وقديم لهم الإقامة والتجارة، وشِرا الأملاك في كامل بلاد العثماني.
  • السابع: كامل مراكب الموسكوب التجاري، التي كانوا عن بعض الأسباب نزلوا بيارقها يقدرون أن يتوجهوا بها إلى قنصولية الموسكوب بإسلامبول، وحالًا تعطى لهم بطانات جديدة.
  • التامن: كامل الأروام الموجودين في بلاد العثماني، ويريدون أن يدخلوا في حماية الموسكوب يمكنهم بكل حرية.
  • التاسع: البراتلية والقرمانلية يحصلون على قوتهم التي كانوا بها سابقًا.
  • العاشر: إلجي الفرنساوية ملزوم يسافر من إسلامبول بعد واحد وتلاتين يومًا.
  • الحادي عشر: مراكب الأروام والعثماني لم يسافروا لبلاد فرنسا، ما دام الحرب بين الموسكوب والفرنساوية.

فلما تقررت هذه الشروط واطلع عليها الفرنساوي، فكأنه لم يرضَ بها وقال للعثماني: لم يبقَ بيدك مملكة، وأشار عليه بنقضها، وتكفل بمساعدته ومقاومتهم فركن إليه ونقض تلك الشروط، فعند ذلك نبذوا صداقة العثماني وأظهروا مخاصمته ووافقهم على ذلك الإنكليز، لكونه صادق الفرنساوية. وأغاروا على بعض النواحي وأخذوا الختن وغيرها.

وشرع أهل إسكندرية في تحصين قلاعها وأبراجها، وكذلك أبو قير أرسل كتخدا بك من يتقيد ببنا قلعة بالبرلس.

وحصل لمصر قلق ولغط وغلت الأسعار في البضايع المجلوبة، وعملوا جمعيات ببيت كتخدا بك وببيت السيد عمر النقيب، واتفقوا على إرسال تلك المراسلات إلى محمد علي باشا بالجهة القبلية صحبة ديوان أفندي.

وفي عشرينه اجتمعوا بالأزهر لقراءة صحيح البخاري في أجزاء صغار.

وفيه حضر ديوان أفندي بمكاتبات، وفيها طلب جماعة من الفُقها ليسعوا في إجرا الصلح بين الأُمرا المصريين وبين الباشا، فوقع الاتفاق على تعيين ثلاثة أشخاص، وهم: ابن الشيخ الأمير، وابن الشيخ العروسي، والسيد محمد الدواخلي، فسافروا في يوم الأحد سادس عشرينه.

ووصلت الأخبار بأن الإنكليز حضروا في اثني عشر مركبًا، وعبروا بغاز إسلامبول وكانوا محترسين، فضربوا عليهم بالمدافع من الجهتين فلم يكترثوا ولم يفزعوا ولم يتأخروا ولم يُصب الضرب إلا مركبًا واحدًا من الاثني عشر، وعمروا ثلمتها في الحال، ولم يزالوا سايرين حتى رسوا ببر إسلامبول، فهاج كل أهلها وصرخوا وانزعجوا انزعاجًا عظيمًا، وأيقنوا بأخذ الإنكليز البلدة، ولو أرادوا حرقها لأحرقوها عن آخرها، فعند ذلك نزل إليهم السيد علي باشا القبطان، وهو أخو علي باشا الذي كان أخذ يسير مع البرديسي من برج مغيزل برشيد، فتكلم معهم وصالحهم وخرجوا من البغاز سالمين مغبوطين بعفوهم مع المقدرة، وانقضت السنة بحوادثها.

وأما من مات بها من العُلما والأُمرا ممن له ذكر

مات العمدة الفاضل صدر المدرسين وعمدة المحققين الفقيه الورع الشيخ محمد الخشني الشافعي، تخرج على الشيخ عطية الأجهوري وغيره من أشياخ العصر المتقدمين كالحفني والعدوي، ومسكنه بخطة السيدة نفيسة، ويأتي إلى الأزهر في كل يوم فيقرا دروسه ثم يعود إلى داره، متقللًا في معيشته منعزلًا عن مخالطة غالب الناس، وهو آخر الطبقة.

وتمرض شهورًا بمنزله الذي بالمشهد النفيسي، وكان دايمًا يسأل عن الشيخ سليمان البجيرمي، وكان يقول: لا أموت حتى يموت البجيرمي؛ لأنه رأى النبي في المنام وقال له: «أنت آخر أقرانك موتًا»، ولم يكن من أقرانه سوى البجيرمي؛ فلذلك كان يسأل عنه، ثم مات البجيرمي بقرية تسمى مصطية، ومات هو بعده بنحو ثلاثة أشهر، وكانت وفاته في يوم الاتنين خامس عشرين ذي الحجة، ولم يحضروا بجنازته إلى الأزهر، بل صُلي عليه بالمشهد النفيسي، ودُفن هناك — رحمة الله تعالى عليه.

مات الشيخ الفقيه المحدث خاتمة المحققين وعمدة المدققين، بقية السلف وعمدة الخلف الشيخ سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي الشافعي الأزهري، المنتهي نسبه إلى الشيخ جمعة الزيدي المدفون ببجيرم بالقرب من منية ابن خصيم.

وينتهي نسب الشيخ جمعة المذكور إلى سيدي محمد بن الحنفية. وُلد ببجيرم قرية من الغربية سنة إحدى وتلاتين وماية وألف، وحضر إلى مصر صغيرًا دون البلوغ وربَّاه قريبه الشيخ موسى البجيرمي، وحفظ القرآن ولازم الشيخ المذكور حتى تأهل لطلب العلوم.

وحضر على الشيخ العشماوي في الصحيحين وأبي داود والترمذي والشفا والمواهب، وشرح المنهج لشيخ الإسلام وشرحَي المنهاج لكلٍّ من الرملي وابن حجر، وحضر دروس الشيخ الحفني وأجازه الملوي والجوهري والمدابغي، وأخذ عن الديربي وغيره، وحضر أيضًا دروس الشيخ علي الصعيدي والسيد البليدي، وشارك كثيرًا من الأشياخ كالشيخ عطية الأجهوري وغيره.

وكان إنسانًا حسنًا حميد الأخلاق منجمعًا عن مخالطة الناس مقبلًا على شأنه، وقد انتفع به أناس كثيرون وكف بصره سنينًا، وعَمَّرَ وتجاوز الماية سنة.

ومن تآليفه بأيدي الطلبة حاشية على المنهج وأخرى على الخطيب وغير ذلك، وقبل وفاته سافر إلى مصطية بالقرب من بجيرم، فتُوُفِّيَ بها ليلة الاتنين وقت السحر تالت عشر رمضان من السنة المذكورة، ودُفن هناك — رحمة الله تعالى عليه.

ومات الأجل العلامة والفاضل الفهامة فريد عصره علمًا وعملًا، ووحيد دهره تفضيلًا وجملًا الشيخ مصطفى العقباوي المالكي نسبة لمنية عقبة بالجيزة، وحضر إلى الأزهر صغيرًا ولازم السيد حسنًا البقلي، ثم الشيخ محمد العقاد المالكي، ثم الشيخ محمد عبادة العدوي ملازمة كلية حتى تمهر في مذهبه في المنقولات وفي المعقولات، وحضر دروس أشياخ العصر، كالشيخ الدردير والشيخ محمد البيلي والشيخ الأمير وغيرهم، وتصدر لإلقاء الدروس وانتفع به الطلبة، واشتُهر فضله.

وكان إنسانًا حسن الأخلاق مقبلًا على الإفادة والاستفادة، لا يتداخل فيما لا يعنيه، ويأتيه من بلدته ما يكفيه قانعًا متورعًا متواضعًا، ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام، حتى إنه كان إذا ركب مع المكاري يعلمه عقايد التوحيد وفرايض الصلاة، إلى أن تُوُفِّيَ يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة، ولم يخلف بعده مثله — رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه.

ومات الأجل المعظم المبجل المحقق المدقق المفضل العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ علي النجاري المعروف بالقباني، الشافعي مذهبًا المكي مولدًا المدني أصلًا، ابن العالم الفاضل الشيخ أحمد تقي الدين ابن السيد تقي الدين المنتهي نسبه إلى أبي سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن دينار بن تيم الله بن ثعلبة النجاري أحد بطون الخزرج، وينتهي نسب أخواله إلى السيد أحمد الناسك بن عبد الله بن إدريس بن عبد الله بن حسن الأنور ابن سيدنا الحسن السبط — رضي الله تعالى عنه.

وُلد المترجم بمكة سنة أربع وتلاتين وماية، وقدم إلى مصر مع أبيه وأخيه السيد حسن سنة إحدى وسبعين ماية، فليلة وصولهم مرض أخوه المذكور وتُوُفِّيَ صبح تالت يوم؛ فجزع والده لذلك جزعًا شديدًا وتشاءم به، وعزم على السفر إلى مكة تانيًا، ولم يتيسر له ذلك إلا أواخر شوال من السنة المذكورة، وبقي المترجم واشتغل بتحصيل العلوم وشِرا الكتب النافعة، واستكتابها ومشاركة أشياخ العصر في الإفادة والاستفادة، مع مباشرة شغل تجارتهم من بيع الإرساليات التي ترد إليه من أولاد أخيه من جدة ومكة، وشِرا ما يُشترى وإرساله لهم إلى أن تمرض وانقطع ببيته الذي بخطة عابدين قريبًا من الأستاذ الحنفي سنة تسع ومايتين.

وكان عالمًا ماهرًا وأديبًا شاعرًا تخرَّج على والده وعلى غيره بمكة، وعلى كثير من أشياخ العصر المتقدمين كالشيخ العشماوي والشيخ الحفني والشيخ العدوي وغيرهم، وتخرج في الأدب على والده وعلى الشيخ علي بن تاج الدين المكي، وعلى الشيخ عبد الله الإدكاوي وغيرهم، وله مؤلفات منها: نفح الأكمام على منظومته في علم الكلام، ومنها تقريره على الرملي وهو مجلد ضخم، ومنها شرح بديعيته التي سماها مراقي الفرج في مدح عالي الدرج، وله ديوان شعر صغير غالبه جيد.

وكان في مدة انقطاعه لا يشتغل بغير المطالعة وتحصيل الكتب الغريبة، وقيد ولده السيد سلامة بأشغال تجارتهم، وولده السيد أحمد بملازمته وإسماعه فيما يريد مطالعته.

وكانت داره في غالب الأوقات لا تخلو من المترددين، إلى أن تُوُفِّيَ ليلة السابع والعشرين من رجب من السنة المذكورة، وعمره سبع وثمانون سنة، وصُلي عليه بالأزهر ودُفن بمقبرة أخيه بباب الوزير وخلَّف ولديه المذكورين، وكان وجيهًا لطيفًا محبوبًا للنفوس ورعًا — رحمة الله تعالى عليه.

ومات صاحبنا الأجل المعظم والوجيه المكرم الأمير ذو الفقار البكري نسبة ونسابة، وهو مملوك السيد محمد بن علي أفندي البكري الصديقي، اشتراه سيده المذكور عام إحدى وسبعين وماية وألف وربَّاه وأدَّبه، وأعتقه وزوَّجه ابنته، ونشأ في عز ورفاهية وسيادة وعفة وطيب خيم وعلو همة.

ولما تُوُفِّيَ سيده اتحد بولد السيد محمد أفندي وهو أخو زوجته اتحادًا كليًّا؛ بحيث صارا كالأخوين لا يصبر أحدهما عن الآخر ساعة واحدة، وسكنهما واحد في بيتهم الكبير بالأزبكية.

ولما تُوُفِّيَ السيد محمد أفندي اشتغل المترجم بالسكنى في الدار إلى أن حضر الفرنساوية، فخرج مع من خرج من مصر إلى ناحية الشام ونُهبت كتبه وداره. ثم رجع بأمان في أيام الفرنساوية، فوجد الدار قد سكنها الفرنساوية، فاشترى دارًا غيرها بخطة عابدين وجدد بها نظامه.

ولما حصلت حادثة عسكر الأروام العثمانية مع الأُمرا المصريين التي خرج فيها إبراهيم بك والبرديسي وأمراهم، نُهبت داره المذكورة أيضًا فيما نُهب، فانتقل إلى ناحية الأزهر ثم سكن بحارة السبع قاعات بالأجرة، واقتنى كتبًا شرا واستكتابًا، وجمع عدة أجزاء متفرقة من تاريخ مرآة الزمان لابن الجوزي، وخطط المقريزي وغيرها، إلى أن اخترمته المنية.

ومات فجأة يوم التلات في تاني عشر رجب من السنة قبيل الغروب، وصُلي عليه في صبحها بالأزهر في مشهد حافل، ودُفن بتربة البكرية ظاهر قبة الإمام الشافعي.

وكان إنسانًا حسنًا محبوبًا لجميع الناس وجيه الذات مليح الصفات حسن المفاكهة والمعاشرة، متوقد الفطنة صادق الفراسة ساكن الجاش وقورًا أدوبًا محتشمًا.

وخلف من بعده السيد محمد المعروف بالغزاوي المرزوق له من ابنة سيده المذكور؛ لكونه وُلد بغزة حين كانوا بالشام، أنشاه الله إنشاءً صالحًا وبارك فيه.

ومات الأمير الكبير والضرغام الشهير محمد بك الألفي المرادي، جلبه بعض التجار إلى مصر في سنة تسع وثمانين وماية وألف، فاشتراه أحمد جاويش المعروف بالمجنون، فأقام ببيته أيامًا فلم تعجبه أوضاعه لكونه كان مماجنًا سفيهًا ممازحًا؛ فطلب منه بيع نفسه فباعه لسليم أغا الغزاوي المعروف بتمرلنك، فأقام عنده شهورًا ثم أهداه إلى مراد بك فأعطاه في نظيره ألف أردب من الغلال؛ فلذلك سُمي بالألفي، وكان جميل الصورة فأحبه مراد بك وجعله جوخداره، ثم أعتقه وجعله كاشفًا بالشرقية وعمَّر دارًا بناحية الخطة المعروفة بالشيخ ضلام، وأنشأ هناك حمامًا بتلك الخطة عرفت به.

وكان صعب المِراس قوي الشكيمة، وكان بجواره علي أغا المعروف بالتوكلي، فدخل عليه وتشفع عنده في أمر فقبل رجاه ثم نكث فحنق منه واحتد ودخل عليه في داره يغادره ويعاتبه، فرد عليه بغلظة فأمر الخدم بضربه، فبطحوه وضربوه بالعصي المعروفة بالنبابيت فتألم لذلك ومات بعد يومين.

فشكوه إلى أستاذ مراد بك فنفاه إلى بحري، فعسف بالبلاد مثل فوة ومطوبس وبارنبال ورشيد، وأخذ منهم أرزًا وأموالًا فتشكوا منه إلى أستاذه، وكان يعجبه ذلك.

وفي أثنا ذلك وقع خلاف بمصر بين الأُمرا، ونفوا سليمان بك الأغا وأخاه إبراهيم بك ومصطفى بك، كما ذُكر ذلك في محله، وأرسل إليه مراد بك وأمره أن يتعين علي مصطفى بك، ويذهب به إلى إسكندرية منفيًّا، ثم يعود هو إلى مصر، ففعل ورجع المترجم إلى مصر فعند ذلك قلدوه الصنجقية، وذلك في سنة اتنين وتسعين وماية وألف.

واشتهر بالفجور فخافته الناس وتحاموا شدته.

وسكن أيضًا بدار بناحية قيصون، وذلك عندما اتسعت دايرته وهدم داره القديمة أيضًا، ووسعها وأنشاها إنشا جديدًا واشترى المماليك الكثيرة، وأمَّر منهم أُمرا وكشافًا فنشوا على طبيعة أستاذهم في التعدي والعسف والفجور، ويخافون من تجبره عليهم.

والتزم بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية، ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوير وغيرها، وتقلد كشوفية شرقية بلبيس ونزل إليها، وكان يُغِير على ما بتلك الناحية من إقطاعات وغيرها.

وأخاف جميع عربان تلك الجهة وجميع قبايل الناحية، ومنعهم من التعدي والجور على الفلاحين بتلك النواحي حتى خافه الكثير من العربان والقبايل، وكانوا يخشونه وصادهم بإشراك منهم، وقبض على الكثير من كبراهم وسحبهم في الجنازير، وصادرهم في أموالهم ومواشيهم، وفرض عليهم المغارم والجمال.

ولم يزل على حالته وسطوته إلى أن حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر، فخرج المترجم مع عشيرته إلى ناحية قبلي، ثم رجع معهم في أواخر سنة خمس ومايتين بعد الألف، بعد الطاعون الذي مات فيه إسماعيل بك وذلك بعد إقامتهم بالصعيد زيادة عن أربع سنوات.

ففي تلك المدة ترزن عقله وانهضمت نفسه، وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزيئات العلوم والفلكيات والهندسيات، وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية، والتقاويم ومنازل القمر وأنواها، ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه، واقتنى كتبًا في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره القديمة ورغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك، واقتصر على مماليكه والإقطاعات التي بيده.

واستمر على ذلك مدة من الزمان فثقل هذا الأمر على أهل دايرته، وبدأ يصغر في أعين خشداشينه ويضعف جانبه، وطفقوا يباكتونه، وتجاسروا عليه وطمعوا فيما لديه، وتطلع أدونهم للترفع عليه، فلم يسهل به ذلك، واستعمل الأمر الأوسط.

وسكن بدار أحمد جاويش المجنون يدرب سعادة، وعمَّر القصر الكبير بمصر القديمة بشاطي النيل تجاه المقياس، وأنشا أيضًا قصرًا فيما بين باب النصر والدمرداش وجعل غالب إقامته فيهما.

وأكثرَ مِن شِرا المماليك وصار يدفع فيهم الأموال الكثيرة للجلابين، ويدفع لهم أموالًا مقدمًا يشترونهم بها، وكذلك الجواري حتى اجتمع عنده نحو الألف مملوك خلاف الذي عند كشافه، وهم نحو الأربعين كاشفًا، الواحد منهم دايرته قدر دايرة صنجق من الأُمرا السابقين، وكل مدة قليلة يزوج من يختاره من مماليكه لمن تصلح له من الجواري ويجهزهم بالجهاز الفاخر، ويسكنهم الدور الواسعة ويعطيهم الفايظ والمناصب، وقلد كشوفية الشرقية لبعض مماليكه ترفعًا لنفسه عن ذلك، وينزل هو إليهم أيضًا على سبيل التروح.

وبنى له قصرًا خارج بلبيس وآخر بالدمامين، وأخمد شوكة عربان الشرق، وجبى منهم الأموال والجمال وأخمد ناموسهم الذي كان يغشى أبدان الفلاحين وأرواحهم، وأضعف شوكتهم وأخفى صوتهم، وكان يقيم بناحية الشرق شهورًا تلاتة أو أربعة ثم يعود إلى مصر.

واصطنع قصرًا من خشب مفصلًا قطعًا ويركب بشناكل وأغربة متينة قوية يُحمل على عدة جمال، فإذا أراد النزول في محطة تقدم الفراشون وركبوه خارج الصيوان، فيصير مجلسًا لطيفًا يصعد إليه بثلاث درج مفروش بالطنافس والوسايد، يسع ثمانية أشخاص وهو مسقوف وله شبابيك من الأربع جهات تفتح وتغلق بحسب الاختيار، وحوله الأسرة من كل جانب، وكل ذلك من داخل دهليز الصيوان.

وكان له داران بالأزبكية إحداهما كانت لرضوان بك بلفيا والأخرى للسيد أحمد بن عبد السلام، فبدا له في سنة اثنتي عشرة ومايتين وألف أن ينشي دارًا عظيمة خلاف ذلك بالأزبكية، فاشترى قصر ابن السيد سعودي الذي بخطة الساكن فيما بينه وبين قنطرة الدكة من أحمد أغا شويكار وهدمه، وأوقف في شيادته على العمارة كتخدا ذا الفقار أرسله قبل مجيه من ناحية الشرقية، ورسم له صورة وضعه في كاغد كبير، فأقام جدرانه وحيطانه وحضر هو في أثنا ذلك، فوجده قد أخطا الرسم فاغتاظ وهدم غالب ذلك وهندسه على مقتضى عقله واجتهد في بناه، وأوقف أربعة من كبار أُمراه على تلك العمارة، كل أمير في جهة من جهاته الأربع يحثون الصناع، ومعهم أكثر أتباعهم ومماليكهم وعملوا عدة قمن لحرق الأحجار، وعمل النورة وكذلك ركب طواحين الجبس لطحنه، وكل ذلك بجانب العمارة وقطعوا الأحجار الكبار ونقلوها في المراكب من طرا إلى جانب العمارة بالأزبكية، ثم نشروها بالمناشير ألواحًا كبارًا لتبليط الأرض وعمل الدرج والفسحات، وأحضروا لها الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط.

واشترى بيت حسن كتخدا الشعراوي المطل على بركة الرطلي من عتقاه وهدمه، ونقل أخشابه وأنقاضه إلى العمارة، وكذلك نقلوا إليه أنواع الرخام والأعمدة، ولم يزل الاجتهاد في العمل تم على المنوال الذي أراده ولم يجعل له خرجات ولا حرمدانات بارزة عن أصل البنا ولا رواشن، بل جعله ساذجًا حرصًا على المتانة وطول البقا، ثم ركبوا على فرجاته المطلة على البركة والبستان والرجبة الشبابيك الخرط المصنعة، وركبوا عليها شرايح الزجاج ووضع به النجف والأشيا والتحف العظيمة التي أهداها إليه الإفرنج، وعملوا بقاعة الجلوس السفلى فسقية عظيمة بسلسبيل من الرخام قطعة واحدة، ونوفرة كبيرة حولها نوفرات من الصفر يخرج الماء من أفواهها، وجعل بها حمامين علويًّا وسفليًّا، وبنوا بداير حوشه عدة كبيرة من الطباق لسكنى المماليك، وجعله دورًا واحدًا.

ولما تم البنا والبياض والدهان فرشه بأنواع الفرش والوسايد والستاير المقصبات، وجعل خلفه بستانًا عظيمًا وأنشأ به جملونًا مستطيلًا متسعًا به دكك وأعمدة، وهو من الجهة البحرية ينتهي آخره إلى الدور المتصلة بقنطرة الدكة، وأهدى إليه أيضًا الإفرنج فسقية رخام في غاية العظم فيها صورة أسماك مصورة يخرج من أفواهها الماء جعلها بالبستان، ونجز البنا والعمل وسكن بها هو وعياله وحريمه في آخر شهر شعبان من سنة اثنتي عشرة، واستهل شهر رمضان فأوقدوا فيها الوقدات والأحمال الممتلية بالقناديل بداير الحوش والرحبة الخارجة، وكذلك بقاعة الجلوس أحمالًا النجف والشموع والصحب والفتيارات الزجاج، وهنته الشعرا ونظم مولانا الأستاذ الفاضل الشيخ حسن العطار تاريخًا لقاعة الجلوس في بيتين، نقشوها بالأزمير على أسكفة باب القاعة وموَّهوهما بالذهب، وهما:

شموس التهاني قد أضاءت بقاعة
محاسنُها للعين تزداد بالألف
على بابها قال السرور مؤرخًا
سماء سعادتي تجدد بالألفي

وازدحمت خيول الأُمرا ببابه فأقام على ذلك إلى منتصف شهر رمضان.

وبدا له السفر إلى الشرقية، فأبطلوا الوقدة وأطفوا السرج والشموع، فكان ذلك فالًا سيئًا، فكانت مدة سكناه ستة عشر يومًا بلياليها.

وإنما أطنبنا في ذكر ذلك ليعتبر أولو الألباب ولا يجتهد العاقل في تعمير الخراب.

وفي أثنا غيبته بالشرقية وصلت الفرنساوية إلى إسكندرية ثم إلى مصر، وجرى ما جرى مما سبق ذكره، وذهب مع عشيرته إلى قبلي، وعند وصول الفرنساوية إلى بر إنبابة بالبر الغربي، وتحاربوا مع المصريين أبلى المترجم وجنده في تلك الواقعة بلاءً حسنًا، وقتل من كشافه ومماليكه عدة وافرة، ولم يزل مدة إقامة الفرنساوية بمصر ينتقل في الجهات القبلية والبحرية والشرقية والغربية، ويعمل معهم مكايد ويصطاد منهم بالمصايد.

ولما وصل عرضي الوزير إلى ناحية الشام ذهب إليه وقابله، وأنعم عليه وكان معه رويسا من الفرنساوية وعدة أسرى وأسد عظيم اصطاده في سروحه، فشكره الوزير وخلع عليه الخلع السنية، وأقام بعرضيه أيامًا ثم رجع إلى ناحية مصر وذهب إلى الصعيد، ثم رجع إلى الشام والفرنساوية يأخذون خبره ويرصدونه في الطرق فيزوغ منهم ويكبسهم في غفلاتهم، وينال منهم، ولما وصل الوزير وحصل انتقاض الصلح وانحصر المصريون والعثمانيون بداخل المدينة وقع له مع الفرنساوية الوقايع الهايلة، فكان يكر ويفر هو وحسن بك الجداوي ويعمل الحيل والمكايد.

وقتل من كشافه في تلك الحروب رجال معدودة، منهم إسماعيل كاشف المعروف بأبي قطية، احترق هو وجنده ببيت أحمد أغا شويكار الذي كان أنشاه برصيف الخشاب، وكانت الفرنساوية قد عملوا تحته لغم بارود في أسفل جدرانه، ولم يعلم به أحد فلما تترس فيه إسماعيل كاشف ومن معه أرسلوا من ألهمه النار، فالتهبت على من فيه واحترقوا بأجمعهم وتطايروا في الهوا.

ولما اصطلح مراد بك مع الفرنساوية لم يوافقه على ذلك واعتزله، ولما اشتد الأمر بين الفريقين وشاطت طبخة العثمانيين ومن تبعهم، طفق يسعى بين الفريقين في الصلح ويمشي مع رسل الفرنساوية في دخولهم بين العسكر وخروجهم؛ ليمنع من يتعدى عليهم من أوباش العسكر؛ خوفًا من ازدياد الشر إلى أن تم الصلح.

وخرج المترجم مع العثمانية إلى نواحي الشام، ثم رجع إلى جهة الشرقية فيحارب من يصادقه من الفرنسيس ويقتل منهم، فإذا جمعوا جيشهم وأتوا لحربه لم يجدوه، ويمر من خلف الجبل ويمر بالحاجر إلى الصعيد، فلا يعلم أين ذهب بالبر الغربي ثم يسير مشرقًا ويعود إلى الشام، وهكذا كان دأبه بطول السنة التي تخللت بين الصلحين إلى أن نظم العثمانية أمرهم، وتعاونوا بالإنكليز ورجع الوزير على طريق البر وقبطان باشا بصحبة الإنكليز من البحر، فحضر المترجم وباقي الأُمرا واستقر الجميع بداخل مصر والإنكليز ببر الجيزة، وارتحلت الفرنساوية وخلت منهم مصر، فعند ذلك قلق المترجم وداخله وسواس وفكر؛ لأنه كان صحيح النظر في عواقب الأمور فكان لا يستقر له قرار ولم يدخل إلى الحريم، ولم يبت بداره إلا ليلتين على سجادة ومخدة في القاعة السفلى ولم يكن بها حريم.

يقول الفقير: ذهبت إليه مرة في ظرف اليومين فوجدته جالسًا على السجادة فجلست معه ساعة، فدخل عليه بعض أُمراه يستأذنه في زواج إحدى زوجات من مات من خشداشينه، فنتر فيه وشتمه وطرده وقال لي: انظر إلى عقول هولا المغفلين يظنون أنهم استقروا بمصر، ويتزوجوا ويتأهلوا مع أن جميع ما تقدم من حوادث الفرنسيس وغيرها أهون من الورطة التي نحن فيها الآن.

ولما أطلق الوزير لإبراهيم بك الكبير التصرف، وألبسه خلعة وجعله شيخ البلد كعادته وأن أوراق التصرفات في الإقطاعات والأطيان وغيرها تكون بختمه وعلامته، اغتر هو وباقي الأُمرا بذلك، وازدحم الديوان ببيت إبراهيم بك المرادي وعثمان بك حسن والبرديسي، وتناقلوا في الحديث فذكروا ملاطفة الوزير ومحبته لهم وإقامته لناموسهم، فقال المترجم: لا تغتروا بذلك فإنما هي حيل ومكايد، وكأنها تروج عليكم، فانظروا في أمركم وتفطنوا لما عساه يحصل، فإن سو الظن من الحزم، فقالوا له: وما الذي يكون؟ قال: إن هولا العثمانيين لهم السنين العديدة والأزمان المديدة يتمنون نفوذ أحكامهم وتملكهم لهذا الإقليم، ومضت الأحقاب وأُمرا مصر قاهرون لهم وغالبون عليهم ليس لهم معهم إلا مجرد الطاعة الظاهرة، وخصوصًا دولتنا الأخيرة وما كنا نفعله معهم من الإهانة ومنع الخزينة، وعدم الامتثال لأوامرهم، وكل ذلك مكمون في نفوسهم زيادة على ما جُبلوا عليه من الطمع والخيانة والشره، وقد ولجوا البلاد الآن وملكوها على هذه الصورة، وتأمروا علينا، فلا يهون بهم أن يتركوها لنا كما كانت بأيدينا، ويرجعوا إلى بلادهم بعدما ذاقوا حلاوتها، فدبروا رأيكم وتيقظوا من غفلتكم.

فلما سمعوا منه ذلك صادق عليه بعضهم، وقال بعضهم: هذا من وساوسك، وقال آخر: هذا لا يكون بعدما كنا نقاتل معهم ثلاث سنوات وأشهُر بأموالنا وأنفسنا، وهم لا يعرفون طرايق البلاد ولا سياستها، فلا غنًى لهم عنا وقال آخر غير ذلك، ثم قالوا له: ما رأيك الذي تراه؟ فقال: الرأي عندي إن قبلتموه أن نعدي بأجمعنا إلى بر الجيزة وننصب خيامنا هناك، ونجعل الإنكليز واسطة بيننا وبين الوزير والقبطان، ونتمم الشروط التي نرتاح نحن وهم عليها بكفالة الإنكليز، ولا نرجع إلى البر الشرقي ولا ندخل مصر حتى يخرجوا منها، ويرجعوا إلى بلادهم ويبقى منهم من يبقى مثل من يقلدوه الولاية والدفتردار ونحو ذلك.

وكان ذلك هو الرأي، ووافق عليه البعض ولم يوافق البعض الآخر، وقال: كيف ننابذهم ولم يظهر لنا منهم خيانة، ونذهب إلى الإنكليز وهم أعدا الدين؛ فيحكم العُلما بردتنا وخيانتنا لدولة الإسلام، على أنهم إن قصدوا بنا شيًّا قمنا بأجمعنا عليهم، وفينا ولله الحمد الكفاية وعند ذلك تتوسط بيننا وبينهم الإنكليز، فنكون لنا المندوحة والعذر؟

فقال المترجم: أما الاستنكاف من الالتجا للإنكليز، فإن القوم لم يستنكفوا من ذلك واستعانوا بهم، ولولا مساعدتهم لما أدركوا هذا المحصول ولا قدروا على إخراج الفرنساوية من البلاد، وقد شاهدنا ما حصل في العام الماضي لما حضروا بدون الإنكليز، على أن هذا قياس مع الفارق فإن تلك مساعدة حرب، وأما هذه فهي وساطة مصلحة لا غير، وأما انتظار حصول المنابذة، فقد لا يمكن التدارك بعد الوقوع لأمور، والرأي لكم فسكتوا وتفرقوا على كتمان ما دار بينهم.

ولما لم يوافقوا المترجم على ما أشار به عليهم أخذ يدبر في خلاص نفسه؛ فانضم إلى محمود أفندي ريس الكتاب لقربه من الوزير، وقبوله عنده وأوهمه النصيحة للوزير بتحصيل مقادير عظيمة من الأموال من جهة الصعيد، إن قلده الوزير إمارة الصعيد، فإنه يجمع له أموالًا جمة من تركات الأغنيا الذين ماتوا بالطاعون في العام الماضي وخلافه ولم يكن لهم ورثة، وغير ذلك من الجهات التي لا يحيط بها خلافه، والمال والغلال الميرية، فلما عرف الريس الوزير بذلك لم يكن بأسرع من إجابته لوجهين؛ الأول: طمعًا في تحصيل المال، والثاني: لتفريق جمعهم، فإنهم كانوا يحسبون حسابه دون باقي الجماعة لكثرة جيشه وشدة احترازه، فإنه كان إذا ذهب عند الوزير لا يذهب في الغالب إلا وحوله جميع جنوده ومماليكه.

وعندما أجاب الوزير إلى سفره كتب له فرمانًا بإمارة الجهة القبلية وأطلق له الإذن، ورخص له في جميع ما يودي إليه اجتهاده من غير معارض، وتمم الريس القصد، وفي الوقت حضر المترجم فأخذ المرسوم ولبس الخلعة بنفسه وودع الوزير والريس، وركب في الوقت والساعة وخرج مسافرًا وجعل ريس أفندي وكيلًا عنه وسفيرًا بينه وبين الوزير، بعدما أسكنه في داره، ولم يشعر بذلك أحد ولم ير للوزير وجهًا بعد ذلك.

وعندما أشيع ذلك حضر إلى الوزير من اعتراض عليه في هذه الغفلة، وأشار عليه بنقض ذلك فأرسل يستدعيه لأمر تذكَّره على ظن تأخره، فلم يدركوه إلا وقد قطع مسافة بعيدة ورجعوا على غير طايل، وذهب هو إلى أسيوط وشرع في جبي الأموال، وأرسل للوزير دفعة من المال وأغنامًا وعبيدًا طواشية وغلالًا.

ثم لم يمضِ على ذلك إلا نحو ثلاثة شهور، وسافر طايفة من الإنكليز إلى إسكندرية، وكذلك حسين باشا القبطان ونصبوا للمصريين الفخاخ، وأرسل القبطان بطلب طايفة منهم فأوقع بهم ما أوقع، وقبض الوزير على من بمصر من الأُمرا وحبسهم وجرى ما هو مسطور في محله، وعينوا على المترجم طاهر باشا بعساكر، وحصلت المفاقمة وقُتل من قُتل والتجا من بقي إلى الإنكليز.

ولم يندمل الجرح بعد تقريحه، وذهب الجميع إلى الناحية القبلية، وأرسلوا لهم التجاريد وتصدى المترجم لحروبهم، ثم حضر إلى ناحية بحري ونزل بظاهر الجيزة، وسار إلى ناحية البحيرة بعد حروب ووقايع، فاجتهد محمد باشا خسرو في إخراج تجريدة عظيمة، وصاري عسكرها كتخداه، وهو يوسف كتخدا بك، وهي التجريدة التي سماها العوام تجريدة الحمير؛ لأنهم جمعوا من جملة ذلك حمير الحمارة والتراسين وحمير اللكاف والسقايين، وعملوا على أهل بولاق بألف حمار، وكذلك مصر ومصر القديمة، وطفقوا يخطفون حمير الناس ويكبسون البيوت ويأخذون ما يجدونه.

وكان يأتي بعض معاكيس العسكر عند الدور، ويضع أحدهم فمه عند الباب ويقول: «زَرْ» فينهق الحمار فيأخذوه، فلما تم مرادهم من جمع الحمير اللازمة لهم سافروا إلى ناحية البحيرة، فكانت بينهم واقعة عظيمة بمرأى من الإنكليز، وكانت الغلبة له على العسكر وأخذ منهم جملة أسرى، وانهزم الباقون شر هزيمة وحضروا إلى مصر في أسوا حال.

وهذه الكسرة كانت سببًا لحصول الوحشة بين الباشا والعسكر، فإنه غضب عليهم وأمرهم بالخروج من مصر، فطلبوا علايفهم فقال: بأي شي تستحقون العلايف ولم يخرج من أيديكم شي؟ فامتنعوا من الخروج، وكان المشار إليه فيهم محمد علي سرششمه، فأراد الباشا اصطياده فلم يتمكن منه لشدة احتراسه، فحاربه فوقع له ما ذُكر في محله وخرج الباشا هاربًا إلى دمياط.

ومن ذلك الوقت ظهر اسم محمد علي، ولم يزل ينمو ذكره بعد ذلك.

وأما المترجم فإنه بعد كسرته للعسكر ذهب ناحية دمنهور، وذهبت كشافه وأُمراه إلى المنوفية والغربية والدقهلية، وطلبوا منهم المال والكلف، ثم رجعوا إلى البحيرة، ثم بعد هذه الوقايع سافر المترجم مع الإنكليز إلى بلادهم، واختار من مماليكه خمسة عشر شخصًا أخذهم صحبته، وأقام عوضه أحد مماليكه المسمى بشتك بك — ويسمى الألفي الصغير — وأمَّره على مماليكه وأُمراه، وأمرهم بطاعته وأوصاه وصايا وسافر، وغاب سنة وشهرًا وبعض أيام؛ لأنه سافر في منتصف شهر شوال سنة سبعة عشر، وحضر في أول شهر القعدة سنة ثمانية عشرة.

وجرى في مدة غيابه من الحوادث التي تقدم من ذكرها ما يغني عن إعادتها من خروج محمد باشا خسرو، وتولية طاهر باشا ثم قتله، ودخول الأُمرا المصريين وتحكمهم بمصر سنة ثمانية عشر وتأمير صناجق من أتباع المترجم، وما جرى بها من الوقايع بتقدير الله — تعالى — البارز بتدبير محمد علي ونفاقه وحيله، فإنه سعى أولًا في نقض دولة مخدومه محمد باشا خسرو، بتواطيه مع طاهر باشا وخازنداره محمد باشا المحافظ للقلعة، ثم الإغرا على طاهر باشا حتى قُتل.

ثم معاوتنه الأُمرا المصريين ودخولهم وتملكهم وإظهار المساعدة الكلية لهم، ومصادقتهم وخدمتهم ومعاونتهم والرمح في غفلتهم، وخصوصًا عثمان بك البرديسي فإنه كان ممخرقًا غشومًا يحب التراؤس فأظهر له الصداقة والمواخاة والمصافاة، حتى قضى منهم أغراضه من قتل الدفتردار والكتخدا وعلي باشا الطرابلسي ومحاربة محمد باشا، وأخذوه أسيرًا من دمياط، وأخيه السيد علي القبطان برشيد، ونسبة جميع هذه الأفعال والقبايح إليهم.

فلما انقضى ذلك كله لم يبقَ إلا الألفي وجماعته والبرديسي الذي هو خشداشه يحقد عليه ويغار منه، ويعلم أنه إذا حضر لا يبقى له معه ذكر وتخمد أنفاسه فيتناجيا ويتسارا في أمر المترجم، ويتذكرا تعاظم وكيله وخشداشينه، ونقضهم عليه ما يبرمونه مع غياب أستاذهم، فكيف بهم إذا حضر ويوهمه المساعدة والمعاضدة، ويكون خادمًا له وعساكره جنده، إلى أن حضر المترجم، فأوقعا به ما تقدم ذكره، ونجا بنفسه واختفى عند عشيبة البدوي بالوادي.

فلما خلا الجو من الألفي وجماعته فأوقع محمد علي عند ذلك بالبرديسي وعشيرته ما أوقع، وظهر بعد ذلك المترجم من اختفاه، وذهب إلى ناحية قبلي هو ومملوكه صالح بك، واجتمعت عليه أُمراه وأجناده، واستفحل أمره واصطلح مع عشيرته والبرديسي على ما في نفوسهما، وما زال منجمعًا عن مخالطتهم، وجرى ما جرى من مجيهم حوالي مصر، وحروبهم مع العساكر في أيام خورشيد أحمد باشا، وانفصالهم عنها بدون طايل لتفاشلهم واختلاف آراهم وفساد تدبيرهم، ورجعوا إلى ناحية قبلي، ثم عادوا إلى ناحية بحري بعد حروب ووقايع مع حسن باشا ومحمد علي وعساكرهم.

ثم لما حصلت المفاقمة بينهما وبين خورشيد أحمد باشا، وانتصر محمد علي بالسيد عمر مكرم النقيب والمشايخ والقاضي وأهل البلدة والرعايا، وهاجت الحروب بين الباشا وأهل البلدة كما هو مذكور، وكانت الأُمرا المصريون بناحية التبين والمترجم منعزل عنهم بناحية الطرانة، والسيد عمر يراسله ويعده ويذكر له بأن هذا القيام من أجلك وإخراج هذه الأوباش، ويعود الأمر إليكم كما كان، وأنت المعني بذلك لظننا فيك الخير والصلاح والعدل، فيصدق هذا القول ويساعده بإرسال المال ليصرفه في مصالح المقاتلين والمحاربين، ومحمد علي يداهن السيد عمر سرًّا ويتملق إليه، ويأتيه ويراسله ويأتي إليه في أواخر الليل وفي أوساطه مترددًا عليه في غالب أوقاته، حتى تم له الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة والأيمان الكاذبة على سيره بالعدل، وإقامة الأحكام والشرايع والإقلاع عن المظالم، ولا يفعل أمرًا إلا بمشورته ومشورة العُلما، وأنه متى خالف الشروط عزلوه وأخرجوه، وهم قادرون على ذلك كما يفعلون الآن فيتورط المخاطب بذلك القول، ويظن صحته وأن كل الوقايع زلابية.

وكل ذلك سرًّا لم يشعر به خلافهم إلى أن عقد السيد عمر مجلسًا عند محمد علي، وأحضر المشايخ والأعيان وذكر لهم أن هذا الأمر وهذه الحروب ما دامت على هذه الحالة لا تزداد إلا فشلًا، ولا بد من تعيين شخص من جنس القوم للولاية، فانظروا من تجدوه وتختاروه لهذا الأمر؛ ليكون قايم مقام حتى يتعين من طرف الدولة من يتعين، فقال الجميع: الرأي ما تراه فأشار إلى محمد علي فأظهر التمنع وقال: لا أصلح لذلك ولست من الوزرا ولا من الأمرا ولا من أكابر الدولة، فقالوا جميعًا: قد اخترناك لذلك برأي الجميع والكافة والعبرة رِضَى أهل البلاد.

وفي الحال أحضروا فروة ألبسوها له وباركوا له وهنوه، وجهروا بخلع خورشيد أحمد باشا من الولاية، وإقامة المذكور في النيابة حتى يأتي المتولي أو يأتي له تقرير بالولاية، ونودي في المدينة بعزل الباشا وإقامة محمد علي في النيابة، إلى أن كان ما هو مسطور قبل ذلك في محله، فلما بلغ المترجم ذلك وكان ببر الجيزة ويراسل السيد عمر مكرم والمشايخ، فانقبض خاطره ورجع إلى البحيرة، وأراد دمنهور فامتنع عليه أهلها وحاربوه وحاربهم ولم ينل منهم غرضًا، والسيد عمر يقويهم ويمدهم ويرسل إليهم البارود وغيره من الاحتياجات، وظهر للمترجم تلاعب السيد عمر مكرم معه، وكأنه كان يقويه على نفسه فقبض على السفير الذي كان بينهما وحبسه وضربه، وأراد قتله ثم أطلقه ثم عاد إلى بر الجيزة.

وسكنت الفتنة واستقر الأمر لمحمد علي باشا، وحضر قبطان باشا إلى ساحل أبي قير، ووصل سلحداره إلى مصر وأنزل أحمد باشا المخلوع عن الولاية من القلعة إلى بولاق ليسافر، ومنع محمد علي من الذهاب والمجي إلى المصريين، وأوقف أشخاصًا برًّا وبحرًا، يرصدون من يأتي من قِبلهم أو يذهب إليهم بشي من متاع وملبوس وسلاح وغير ذلك، ومن عثروا عليه بشي قبضوا عليه، وأخذوا ما معه وعاقبوه، فامتنع الباعة والمتسببون وغيرهم من الذهاب إليهم بشي مطلقًا، فضاق خناق المترجم فاحتال بأن أرسل محمد كتخداه يطلب الصلح مع الباشا، فانسر لذلك وفرح واعتقد صحة ذلك، وأنعم على الكتخدا وعبى هدية جليلة لمخدومه من ملابس وفراوي وأسلحة وخيام ونقود وغير ذلك.

وعندما قضى الكتخدا أشغاله من مطلوبات مخدومه واحتياجاته له ولأتباعه وأمراه، وأوسق مراكب وذهب بها جهارًا من غير أن يتعرض له أحد، وذهب صحبته السلحدار وموسى البارودي، ثم عاد الكتخدا ثانيًا وصحبته السلحدار وموسى البارودي، وذكروا أنه يطلب كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومايتي بلد من الغربية والمنوفية والدقهلية يستغل فايظها، ويجعل إقامته بالجيزة، ويكون تحت الطاعة فلم يرضَ الباشا بذلك، وقال: إننا صالحنا باقي الأمرا وأعطيناهم من حدود جرجا بالشروط التي شرطناها عليهم، وهو داخل في ضمنهم.

فرجع محمد كتخدا له بالجواب بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته ولوازمه من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك، وتمت حيلته وقضى أغراضه وذهب إلى الفيوم، وتحارب جنده مع جند ياسين بك، وانخدل فيها ياسين بك ثم عاد شاهين بك الألفي بجند كثير بعد شهور إلى بر الجيزة، وخرج محمد علي باشا لمحاربته بنفسه فكانت له الغلبة، وقتل في هذه الواقعة علي كاشف الذي كان تزوج بزوجة حسن بك الجداوي، وهي بنت حسن بك شنن، رآه الأخصام منجملًا فظنوه الباشا فأحاطوا به وأخذوه أسيرًا، ثم قتلوه ورجع الباشا إلى مصر، واجتهد في تشهيل تجريدة أخرى وكل ذلك مع طول المدى.

وفي أثنا ذلك مات بشتك بك — المعروف بالألفي الصغير — مبطونًا بناحية قبلي، ثم إن المترجم خرج من الفيوم في أوايل المحرم من السنة المذكورة، وكان حسن باشا طاهر بناحية جزيرة الهوا بمن معه من العساكر، فكانت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها حسن باشا إلى الرقق، وأدركه أخوه عابدين بك فأقام معه الرفق كما تقدم.

وحضر الألفي إلى بر الجيزة وإنبابة، وخرجت إليهم العساكر؛ فكانت بينهم واقعة بسوق الغنم ظهر عليهم فيها أيضًا.

ثم سار مبحرًا وعدى من عسكره وجنده جملة إلى السبكية، فأخذوا منها ما أخذوه وعادوا إلى أستاذهم بالطرانة، ثم إنه انتقل راحلًا إلى البحيرة وحرب دمنهور ومحاصرتها، وكانوا قد حصنوها غاية التحصين؛ فلم يقدر عليها، فعاد إلى ناحية وردان.

ثم رجع إلى حوش ابن عيسى؛ لأنه بلغه وصول مراكب إنكليزية وبها أمين بك تابعه وعدة عساكر من النظام الجديد وأشخاص من الإنكليز؛ لأنه كان مع ما هو فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والإنكليز، وأرسل بالخصوص أمين بك إلى الإنكليز، فسعوا مع الدولة بمساعدته وحضروا إليه بمطلوبه، فعمل لهم بحوش ابن عيسى شنكًا وأرسلهم مع أمين بك إلى الأُمرا القبليين، فلما بلغ محمد علي باشا ذلك راسل الأُمرا القبليين، وداهنهم وأرسل لهم الهدايا فراجت أموره عليهم مع ما في صدورهم من الغل للمترجم.

وفي أثر ذلك حضر قبطان باشا إلى إسكندرية، ووردت السعاة بخبر وروده وأن بعده واصل باشا واليًا على مصر وبالعفو عن المصريين.

وكان من خبر هذه القضية، والسبب في حركة القبطان إرساليات الألفي للإنكليز، ومخاطبة الإنكليز الدولة ووزيرها المسمى محمد باشا السلحدار، وأصله مملوك السلطان مصطفى ولا يخفى الميل إلى الجنسية، فاتفق أنه اختلى بسليمان أغا تابع صالح بك الوكيل الذي كان يوسف باشا الوزير قلده سلحدارًا، وأرسله إلى إسلامبول وسأله عن المصريين: هل بقي منهم غير الألفي؟ فقال له: جميع الريسا موجودن وعدَّدهم له وهم ومماليكهم يبلغون ألفين وزيادة، فقال: إني أرى تمليكهم ورجوعهم على شروط نشترطها عليهم أولى من تمادي العداوة بينهم وبين هذا الذي ظهر من العسكر، وهو رجل جاهل متحيل وهم لا يسهل بهم إجلاهم عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم؛ فيتمادى الحال والحروب بينهم وبينه، واحتياج الفريقين إلى جمع العساكر وكثرة النفقات والعلايف والمصاريف، فيجمعونها من أي وجه كان، ويودي ذلك إلى خراب الإقليم، فالأَولى والمناسب صرف هذا المتغلب وإخراجه وتولية خلافه، فما رأيك في ذلك؟ فقال له سليمان: لا رأي عندي في ذلك، وخاف أن يكون كلامه له باطن خلاف الظاهر، وأدرك منه ذلك فحلف له عند ذلك الوزير أن كلامه وخطابه له على ظاهره وحقيقته، لكن لا بد من مصلحة للخزينة العامرة، فقال له سليمان أغا: إذا كان كذلك ابعثوا إلى الألفي بإحضار كتخدا محمد أغا؛ لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك ففعل وحضر المذكور في أقرب وقت، وتمموا الأمر على مصلحة ألف وخمسماية كيس كفلها محمد كتخدا المذكور بدفعها لقبطان باشا عند وصوله بيد سليمان أغا المذكور، وكفالته أيضًا لمحمد كتخدا بعد إتمام الشروط التي قررها له مخدومه.

ومن جملتها إطلاق بيع المماليك وشِراهم وجلب الجلابين لهم إلى مصر كعادتهم، فإنهم كانوا منعوا ذلك من نحو تلات سنوات وغير ذلك.

وسافر كلٌّ من سليمان أغا الوكيل ومحمد كتخدا بصحبة قبودان باشا حتى طلعوا على ثغر إسكندرية، فركب صحبة سلحدار القبودان فتلاقوا مع المترجم بالبحيرة، وأعلموه بما حصل فامتلا فرحًا وسرورًا، وقال لسليمان أغا: اذهب إلى إخواننا بقبلي واعرض عليهم الأمر، ولا يخفى أننا الآن ثلاثة فرق، كبيرنا إبراهيم بك وجماعته، والمرادية وكبيرهم هناك عثمان بك البرديسي، وأنا وأتباعي؛ فيكون ما يخص كل طايفة خمسماية كيس، فإذا استلمت منهم الألف كيس ورجعت إليَّ سلمتك الخمسماية كيس.

فركب المذكور وذهب إليهم واجتمع بهم وأخبرهم بصورة الواقع وطلب منهم ذلك القدر، فقال البرديسي: حيث إن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم، ويولي الوزرا ويعزلهم بمراده ويتعين قبودان باشا في حاجته فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه؛ لأنه صار الآن هو الكبير، ونحن الجميع أتباع له وطوايف خلفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه، فقال سليمان أغا: هو على كل حال واحد منكم وأخوكم.

ثم إنه اختلى مع إبراهيم بك الكبير وتكلم معه، فقال إبراهيم بك: أنا أرضى بدخولي أي بيت، كان وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أيٍّ مَن كان مِن عشيرتنا أَولى من هذا الشتات الذي نحن فيه، ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف، وهذا الذي حصل لنا كله بسو تدبيره ونحسه؟ وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا، وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم، كل ذلك حذرًا وخوفًا من وقوع الشر والقتل والعداوة، إلى أن مات وخلف هولا الجماعة المجانين، وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي، وداخله الغرور وركن إلى أبنا جنسه وصادقهم واغتر بهم وقطع رحمه، وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل، ولا يستمع لنصح ناصح أولًا وآخرًا.

وما زال سليمان أغا يتفاوض معهم في ذلك أيامًا إلى أن اتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم المترجم بالنصف الثاني، فقال: سلموني القدر أذهب به وأخبره بما حصل فقالوا: حتى ترجع إليه وتعلمه وتطيب خاطره على ذلك؛ لئلا يقبضه ثم يطالبنا بغيره.

فلما رجع إليه وأخبره بما داره بينهم قال: أما قولهم: إني أكون أميرًا عليهم، فهذا لا يُتصور ولا يصح أني أتعاظم على مثل والدَيَّ إبراهيم بك وعثمان بك حسن، ولا على من هو في طبقتي من خشداشيني على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتأمر عليهم واحدًا منهم ومن جنسهم، ولك أمر لم يخطر لي ببال وأرضى بأدنى من ذلك، ويأخذوا عليَّ عهدًا بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شي ولا أقارشهم في أمر وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته، ويسمحوا لي بإقامتي بالجيزة ولا أعارضهم في شي، وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقًا، فإنه يكفيني وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك تابعي، وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي، فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله، فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي، وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره، ومملوكي مملوكهم، وقد قتل لي عدة أُمرا ومماليك في الحروب، فأفرضه من جملتهم ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا، وعلى أن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم، بل كنا جميعًا إخوانًا، وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجا إلى الإنكليز، وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع لهم، ورجعوا إليَّ ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنكليز؛ فامتثلت ذلك وتجشمت المشاق وخاطرت بنفسي وسافرت إلى بلاد الإنجلترة، وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهرًا، كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم، وحصل ما حصل في غيابي ودخلوا مصر من غير قياس، وبنوا قصورهم على غير أساس، واطمأنوا إلى عدوهم، وتعاونوا به على هلاك صديقهم.

وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم، وأخرجهم من البلدة وأهانهم وشردهم، واحتال عليهم ثانيًا يوم قطع الخليج، فراجت حيلته عليهم أيضًا وأرسلت إليهم فنصحتهم فاستغشوني وخالفوني، ودخل الكثير منهم البلد وانحشروا في أزقتها وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع، ولم ينجُ إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق، ثم إنه الآن أيضًا يراسلهم ويداهنهم ويهاديهم ويصالحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم، وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد، فارجع إليهم وذكرهم بما سبق لهم من الوقايع، فلعلهم ينتبهوا من سكرتهم ويرسلوا معك التلتين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك، وهذا القدر ليس فيه كبير مشقة؛ فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس، وعلى كل كاشف خمسة أكياس، وكل جندي أو مملوك كيسًا واحدًا اجتمع المبلغ وزيادة، وأنا أفعل مثل ذلك مع قومي، والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس، وثمرة المال قضا مصالح الدنيا، وما نحن فيه الآن من أهم المصالح، وقل لهم: البدار قبل فوات الفرصة، والخصم ليس بغافل ولا مهمل، والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار.

فلما فرغ من كلامه ودعه سليمان أغا ورجع إلى قبلي، فوجد الجماعة أصروا على عدم دفع شي، ورجع إبراهيم بك أيضًا إلى قولهم ورأيهم.

ولما ألقى لهم سليمان أغا العبارات التي قالها صاحبهم، وإنه يكون تحت أمرهم ونهيهم ويرضى بأدنى المعاش معهم ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال، قالوا: هذا والله كله كلام لا أصل له ولا ينسى ثأره، وما فعلناه في حقه وحق أتباعه، ولو اعتزل عنا وسكن قلعة الجبل، فهو الألفي الذي شاع ذكره في الآفاق، ولا تخاطب الدولة غيره وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتًا من عفاريته، فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشيه خلافهم، وداخلهم الحقد وزاد في وساوسهم الشيطان؟ فقال لهم سليمان أغا: اقضوا شغلكم في هذا الحين حتى تنجلي عنكم الأعدا الأغراب، ثم اقتلوه بعد ذلك وتستريحوا منه فقالوا: هيهات بعد أن يظهر علينا، فإنه يقتلنا واحدًا بعد واحد، ويخرجنا إلى البلاد ثم يرسل يقتلنا، وهو بعيد المكر فلا نأمن إليه مطلقًا، وغرهم الخصم بتمويهاته وأرسل إليهم هدايا وخيولًا وسروجًا وأقمشة، هذا ورسل القبودان تذهب وتأتي بالمخاطبات والعرضحالات حتى تمموا الأمر كما تقدم.

وفي أثناء ذلك ينتظر القبودان جوابًا كافيًا وسلحداره مقيم أيضًا عند المترجم، والمترجم يشاغل القبودان بالهدايا والأغنام والذخيرة من الأرز والغلال والسمن والعسل وغير ذلك، إلى أن رجع إليه سليمان أغا بخُفي حنين محزونًا مهمومًا متحيرًا فيما وقع فيه من الورطة مكسوف البال مع القبودان ووزير الدولة، وكيف يكون جوابه للمذكور والقبودان جعل في الإبرة خيطين ليتبع الأروج.

فلما وصل إليه سليمان أغا، وأخبره أن الجماعة القبليين لا راحة عندهم وامتنعوا من الدفع ومن الحضور، وأن المترجم يقوم بدفع القدر الذي يقدر عليه، والذي يبقى ويتجمع عليه يقوم بدفعه، فاغتاظ القبودان وقال: أنت تضحك على ذقني وذقن وزير الدولة، وقد تحركنا هذه الحركة على ظن أن الجماعة على قلب رجل واحد، وإذا حصل من المالك للبلدة عصيان ومخالفة، ولم يكن فيهم مكافأة لمقاومته ساعدناهم بجيش من النظام الجديد وغيره، وحيث إنهم متنافرون ومتحاسدون ومتباغضون فلا خير فيهم، وصاحبك هذا لا يكفي في المقاومة وحده ويحتاج إلى كثير المعاونة، وهي لا تكون إلا بكثرة المصاريف.

ولما ظهر لسليمان أغا الغيظ والتغير من القبودان، خاف على نفسه أن يبطش به وعرف منه أن المانع له من ذلك غياب السلحدار عند المترجم؛ لأنه قال له: وأين سلحداري؟ قال: هو عند الألفي بالبحيرة فقال: اذهب فأتني به واحضر صحبته.

وكان موسى باشا المتولي قد حضر أيضًا، فما صدق سليمان أغا بقوله ذلك وخلاصه من بين يديه، فركب في الوقت وخرج من إسكندرية فما هو إلا بعد عنها مقدار غلوة إلا والسلحدار قادم إلى إسكندرية، فسأله إلى أين يذهب، فقال: إن مخدومك أرسلني في شغل وها أنا راجع إليكم. وذهب عند المترجم ولم يرجع.

وفي أثناء هذه الأيام كان المترجم يحارب دمنهور، وبعث إليه محمد علي باشا التجريدة العظيمة التي بذل فيها جهده، وفيها جميع عساكر الدلاة وطاهر باشا ومن معه من عساكر الأرنؤد والأتراك وعسكر المغاربة، فحاربهم وكسرهم وهزمهم شر هزيمة، حتى ألقوا بأنفسهم في البحر ورجعوا في أسوأ حال.

فلو تجاسر المترجم وتبعهم لهرب الباقون من البلدة وخرجوا جميعًا على وجوههم من شدة ما داخلهم من الرعب، ولكن لم يرد الله ذلك، ولم يجسروا للخروج عليه بعد ذلك.

ولما تنحت عنه عشيرته ولم يُلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة، وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر إسكندرية على الصورة المذكورة استأنف المترجم أمرًا آخر وراسل الإنكليز يلتمس منهم المساعدة، وأن يرسلوا له طايفة من جنودهم ليقوى بهم على محاربة الخصم — كما التمس منهم في العام الماضي — فاعتذروا له بأنهم صلح مع العثماني، وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحًا أن يتعدوا على المتصادقين معهم، ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم، فغاية ما يكون المكالمة والترجي ففعلوا، وحصل ما تقدم ذكره.

ولم يتم الأمر، فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع الغرة بينهم وبين العثماني، فأرسلوا إلى المترجم يوعدوه بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته، فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور، وكان ذلك أوان القيظ وليس ثَم زرع ولا نبات، فضاقت على جيوشهم الناحية وقد طال انتظاره للإنكليز، فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم؛ لشدة ما هم فيه من الجهد، وفي كل حين يوعدهم بالفرج، ويقول لهم: اصبروا ولم يبقَ إلا القليل فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له: إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي، فإن أرض الله واسعة، وإما أن تأذن لنا في الرحيل في طلب القوت، فما وسعه إلا الرحيل مكظومًا مقهورًا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب:
  • الأول: مجي القبودان وموسى باشا على هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طايل.
  • الثاني: عدم ملكه دمنهور وكان قصده أن يجعلها معقلًا، ويقيم بها حتى تأتيه النجدة.
  • الثالث: تأخر مجي النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل.
  • الرابع: وهو أعظمها، مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له، وامتناعهم عن الانضمام إليه.

فارتحل من البحيرة بجيوشه ومن يصحبه من العربان حتى وصل إلى الأخصاص، فنادى محمد علي باشا على العساكر بالخروج ولا يتأخر منهم واحد، فخرجوا ليلًا ونهارًا حتى وصلوا إلى ساحل بولاق، وعدوا إلى بر إنبابة وجيشوا بظاهرها، وقد وصل المترجم إلى كفر حكيم يوم التلات تامن عشر القعدة، وانتشرت جيوشه بالبر الغربي ناحية إنبابة والجيزة، وركب الباشا وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم واصطف الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم، ومر المترجم في هيئة عظيمة هايلة وجيوش تسد الفضا وهم مرتبون طوابير ومعهم طبول، وصحبته قبايل العرب من أولاد علي والهنادي، وعربان الشرق في كبكبة زايدة، والباشا والعسكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد، وهو يتعجب ويقول: هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون، ثم يقول للدلاة والخيالة: تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال، ويذكر لهم مقادير عظيمة ويرغبهم فلم يتجاسروا على الإقدام، وصاروا باهتين ومتعجبين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم، وقد أصابوه بأعينهم.

ولم يزل سايرًا حتى وصل إلى قريب قناطر شبرامنت، فنزل على علوة هناك وجلس عليها، وزاد الهاجس والقهر ونظر إلى جهة مصر وقال: يا مصر انظري إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين، واستوطنك أجلاف الأتراك واليهود وأراذل الأرنؤد وصاروا يقبضون خراجك، ويحاربون أولادك ويقاتلون أبطالك ويقاومون فرسانك ويهدمون دورك ويسكنون قصورك، ويفسقون بولدانك وحورك ويطمسون بهجتك ونورك، ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله وقد تحرك به خلط دموي، وفي الحال تقايا دمًا وقال: قُضي الأمر. وخلصت مصر لمحمد علي وما ثَم مَن ينازعه ويغالبه وجرى، حكمه على المماليك المصرية، فما أظن أن تقوم لهم راية بعد اليوم، ثم إنه أحضر أُمراه وأمَّر عليهم شاهين بك وأوصاه بخشداشينه وأوصاهم به وأن يحرصوا على دوام الألفة بينهم، وترك التنازع الموجب للتفرق والتفاشل، وأن يحذروا من مخادعة عدوهم، وأوصاهم أنه إذا مات يحملوه إلى وادي البهنسا ويدفنوه بجوار قبور الشهدا، فمات في تلك الليلة وهي ليلة الأربع تاسع عشر ذي القعدة، فلما مات غسلوه وكفنوه وصلوا عليه وحملوه على بعير وأرسلوه إلى البهنسا، ودفنوه هناك بجوار الشهدا، وانقضى نحبه، فسبحان من له سَرْمَدِيَّةُ البقا.

وفي الحال حضر المبشر إلى محمد علي باشا وبشره بموت المترجم، فلم يصدقه واستغرب ذلك وحبس البدوي الذي أتاه بالبشارة أربعة أيام؛ وذلك لأن أتباعه كانوا كتموا أمر موته ولم يذيعوه في عرضيه، والذي أشاع الخبر وأتى بالبشارة رفيق البدوي الذي حمله على بعيره.

ولما ثبت موته عند الباشا امتلا فرحًا وسرورًا، وكذلك خاصته، ورفعوا روسهم وأحضر ذلك المبشر فألبسه فروة سمور وأعطاه مالًا، وأمره أن يركب بتلك الخلعة ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة، وشاع ذلك الخبر في الناس من وقت المبشر، وهم يكذبون ذلك الخبر ويقولون: هذا من جملة تحيلاته فإنه لما سافر إلى بلاد الإنكليز لم يعلم بسفره أحد، ولم يظهر سفره إلا بعد مضي أشهر.

فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة، ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين، حتى قويت عندهم القراين بما حصل بعد ذلك.

فإنه لما مات تفرقت قبايل العربان التي كانت متجمعة حوله، وبعضهم أرسل يطلب أمانًا من الباشا، وغير ذلك مما تقدم ذكره وخبره في ضمن ما تقدم، وكان محمد علي باشا يقول: ما دام هذا الألفي موجودًا لا يهنا لي عيش ومثالي أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل، لكن هو في رجليه قبقاب فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك: الآن طابت لي مصر وما عدت أحسب لغيره حسابًا.

وكان المترجم أميرًا جليلًا مهيبًا محتشمًا مدبرًا بعيد الفكر في عواقب الأمور، صحيح الفراسة إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه، قوي الشكيمة صعب المراس عظيم الباس ذا غَيْرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه، يحب علو الهمة في كل شي حتى إن التجار الذين يعاملهم في المشتروات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها، بل يكتبون الأثمان بأنفسهم كما يحبون ويريدون في قوايم ويأخذها الكاتب ليعرضها عليه، فيمضي عليها ولا ينظر فيها، ويرى أن النظر في مثل ذلك أو المحاققة فيه عيب ونقض يخل بالأمرية، ولا تمضي السنة إلا والجميع قد استوفوا حقوقهم، ويستأنفوا احتياجات العام الجديد.

ولذلك راج حال المعاملين له رواجًا عظيمًا لكثرة ربحهم عليه ومكاسبهم، ومع ذلك يواسيهم في جملة أحبابه والمنتسبين إليه بإرسال الغلال لمونة بيوتهم وعيالهم وكساوي العيد، وينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه ويجب لهم رفعة القدر عن غيرهم، مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخل بالمروءة عنَّفه وزجره، فترى؛ كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم، وصعوبتهم يخافونه خوفًا شديدًا ويهابون خطابه.

ومن عجيب أمره ومناقبه التي انفرد بها عن غيره امتثال جميع قبايل العربان الكاينين بالقطر المصري لأمره، وتسخيرهم وطاعتهم له لا يخالفونه في شي، وكان له معهم سياسة غريبة ومعرفة بأحوالهم وطبايعهم، فكأنما هو مربى فيهم أو ابن خليفتهم أو صاحب رسالتهم، ويقعدون لأمره مع أنه يصادرهم في أموالهم وجمالهم ومواشيهم ويحبسهم ويطلقهم، ويقتل منهم، ومع ذلك لا ينفرون منه وقد تزوج كثيرًا من بناتهم، فالتي تعجبه يبقيها حتى يقضي وطره منها، والتي لا توافق مزاجه يسرحها إلى أهلها، ولم يبقَ في عصمته غير واحدة وهي التي أعجبته فمات عنها.

فلما بلغ العربَ موتُه اجتمعت بنات العرب، وصرن يندبنه بكلام عجيب تناقلته أرباب المغاني يغنون به على آلات اللهو المطربة، وركَّبوا عليه أدوارًا وقوافي وغير ذلك.

والعجب منه — رحمه الله — أنه لما كان في دولتهم السابقة، وينزل في كل سنة إلى شرقية بلبيس ويتحكم في عربانها ويسومهم سو العذاب بالقبض عليهم ووضعهم في الزناجير، ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر، ويأخذ منهم الأموال والخيول والأباعر والأغنام، ويفرض عليهم الفرد الزايدة، ويمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد.

ثم إنه لما رجع من بلاد الإنكليز وتعصب عليه البرديسي والعسكر وأحاطوا به من كل جانب، فاختفى منهم وهرب إلى الوادي عند عشيبة البدوي، فآواه وأخفاه وكتم أمره، والبرديسي ومن معه يبالغون في الفحص والتفتيش وبذْل الأموال والرغايب لمن يدل عليه أو يأتي به، فلم يطمعوا في شي من ذلك ولم يفشوا سره، وقيدوا بالطرق الموصلة له أنفارًا منهم تحرس الطريق من طارق يأتي على حين غفلة، وهذا من العجايب حتى كان كثير من الناس يقولون: إنه يسحرهم أو معه سر يسخرهم به.

فلما مات تفرق الجميع ولم يجتمعوا على أحد بعده، وذهبوا إلى أماكنهم وبعضهم طلب من الباشا الأمان.

وأما مماليكه وأتباعه فلم يفلحوا بعده وذهبوا إلى الأُمرا القبليين، فوجدوا طباعهم متنافرة عنهم ولم يحصل بينهم الْتِئام ولا صفا كَدَرُ الفريقين من الآخر؛ فانعزلوا عنهم إلى أن جرى ما جرى من صلحهم مع الباشا، وأوقع بهم ما سيتلى عليك بعد — إن شاء الله تعالى.

وبعد موت المترجم بنحو الأربعين يومًا وصلت نجدة الإنكليز إلى ثغر إسكندرية، وطلعوا إليه فبلغهم عند ذلك موت المذكور، فلم يسهل بهم الرجوع فأرسلوا رسلهم إلى الجماعة المصريين ظانين أن فيهم أثر الهمة والنخوة، يطلبونهم للحضور ويساعدهم الإنكليز على ردهم لمملكتهم وأوطانهم، وكان محمد علي باشا حين ذاك بناحية قبلي يحاربهم، فطلبهم للصلح معه وأرسل إليهم بعض فُقها الأزهر وخادعهم وثبطهم فقعدوا عن الحركة، وجرى ما جرى على طايفة الإنكليز كما سيتلى عليك خبره ثم عليهم بعد ذلك، وكان أمر الله مفعولًا.

وكان للمترجم ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصًا العلوم الغربية مثل: الجفريات والجغرافيا والأسطر نوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية، وما تدل عليه من الحوادث الكونية، ويعرف أيضًا مواضع المنازل وأسماها وطبايعها، والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها، كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس.

وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة متضلع، وناقشه مناقشة متطلع، وله أيضًا معرفة بالأشكال الرملية، واستخراجات الضماير بالقواعد الحرفية، وكان له في ذلك إصابات.

ومنها ما أخبرني به بعض أتباعه أنه لما وصل إلى ثغر إسكندرية راجعًا من بلاد الإنكليز رسم شكلًا، وتأمل فيه وقطب وجهه، ثم قال: إني أرى حادثًا في طريقنا، وربما أني أفترق منكم وأغيب عنكم نحو أربعين يومًا؛ فلذلك أحب أن يخفى أمره ويأتي على حين غفلة.

وكان البرديسي قد أقام بالثغر رقيبًا يوصل خبر وروده، فلما وصل أرسل ذلك الرقيب ساعيًا في الحال، وكان ما ذكرناه في سياق التاريخ من غدرهم وقتلهم حسين بك أبو شاش بالبر الغربي، وهروب بشتك بك من القصر وإرسال العسكر لملاقاة المترجم على حين غفلة ليقتلوه، وهروبه واختفاه ثم ظهوره واجتماعهم عليه بعد انقضا تلك المدة أو قريب منها.

وكان — رحمه الله — إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها، فإن رأى فيه فايدة ومزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه، وكان له مع جلساه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون، وكان غالب إقامته بقصوره التي عَمَّرها خارج مصر وهو القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطي النيل، والقصر الآخر الكاين بالقرب من زاوية الدمرداش، والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري.

وكان إذا خرج من داره لبعض تلك القصور لا يمر من وسط المدينة، وإذا رجع كذلك فسُيل عن سبب ذلك، فقال: أستحي أن أمر من وسط الأسواق، وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إليَّ وأفرجهم على نفسي.

وللمترجم أخبار وسير ووقايع لو سطرت لكانت سيرة مستقلة، خصوصًا وقايعه وسياحته ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، أيام أقام الفرنساوية بالقطر المصري، ورحلته بعد ذلك إلى بلاد الإنكليز وغيابه بها سنة وشهورًا.

وقد تهذبت أخلاقه بما اطلع عليه من عمارة بلادهم وحسن سياسة أحكامهم، وكثرة أموالهم ورفاهيتهم وصنايعهم، وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم؛ بحيث لا يوجد فيهم فقير ولا مستجدي ولا ذو فاقة ولا محتاج، وقد أهدوا له هدايا وجواهر وآلات فلكية وأشكالًا هندسية وأسطرلابات وكرات ونظارات، وفيها ما إذا نظر الإنسان فيها في الظلمة يرى أعيان الأشكال كما يراها في النور، ومنها لخصوص النظر في الكواكب فيرى بها الإنسان الكوكب الصغير عظيم الجرم، وحوله عدة كواكب لا تدرك بالبصر الحديد، ومن أنواع الأسلحة الحربية أشيا كثيرة، وأهدوا به آلة موسيقى تشبه الصندوق، بداخلها أشكال تدور بحركات، فيظهر منها أصوات مطربة على إيقاع الأنغام وضروب الألحان، وبها نشانات وعلامات لتبديل الأنغام بحسب ما يشتهي السامع، إلى غير ذلك، نهب ذلك جميعه العسكر الذين أرسلهم إليه البرديسي ليقتلوه، وطفقوا يبيعونه في أسواق البلدة وأغلبه تكسر وتلف وتبدد.

وأخبرني بعض من خرج لملاقاته عند منوف العلا أنه لما طلع إليها وقابله سليمان بك البواب أخلى له الحمام في تلك الليلة، وكان قد بلغه كافة أفعاله بالمنوفية من العسف والتكاليف، وكذا باقي إخوانه وأفعالهم بالأقاليم.

فكان مسامرتهم معه تلك الليلة في ذكر العدالة الموجبة لعمار البلاد، ويقول لسليمان بك في التمثيل: الإنسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسمنها وجبنها يلزمه أن يرفق بها في العلف، حتى تدر وتسمن وتنتج له النتاج، بخلاف ما إذا أجاعها وأجحفها وأتعبها وأشقاها وأضعفها، حتى إذا ذبحها لا يجد بها لحمًا ولا دهنًا، فقال: هذا ما اعتدناه ورُبينا عليه.

فقال: إن أعطاني الله سيادة مصر والإمارة في هذا القطر لأمنعن هذه الوقايع، وأُجري فيه العدل ليكثر خيره وتعمر بلاده، وترتاح أهله، ويكون أحسن بلاد الله، ولكن الإقليم المصري ليس له بخت ولا سعد، وأهله تراهم مختلفين في الأجناس متنافري القلوب (متنافرين) منحرفين في الطباع، فلم يمضِ على هذا الكلام إلا بقية الليل وساعات النهار حتى أحاطوا به وفر هاربًا ونجا بنفسه، وجرى ما تقدم ذكره من اختفاه وظهوره وانتقاله إلى الجهة القبلية واجتماع الجيوش عليه، وحكمت عليه الصورة التي ظهر فيها وحصل له ما حصل.

وأخبرني من اجتمع عليه في البحيرة وسامره فقال: يا فلان، والله يخيل لي أن أقتل نفسي، ولكن لا تهون عليَّ وقد صرت الآن واحدًا بين ألوف من من الأعدا، وهولا قومي وعشيرتي فعلوا بي ما فعلوا؛ تجنبوني وعادوني من غير جرم ولا ذنب سبق مني في حقهم، وأشقوني وأشقوا أنفسهم، وملَّكوا البلاد لأعداي وأعداهم، وسعيت واجتهدت في مراضاتهم ومصالحتهم والنصح لهم، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا وتباعدًا عني، ثم هذه الجنود وريسهم الذين ولجوا البلاد وذاقوا حلاوتها وشبعوا بعد جوعهم وترفهوا بعد ذلهم، يجيشون عليَّ ويحاربوني ويكيدوني ويقاتلوني.

ثم إن هولا العربان المجتمعين عليَّ أصانعهم وأسوسهم وأغاضبهم وأراضيهم، وكذلك جندي ومماليكي، وكلٌّ منهم يطلب مني رياسة وإمارة ويظنون بغفلتهم أن البلاد تحت حكمي، ويظنون أني مقصر في حقهم، فتارة أعاملهم باللطف وتارة أزجرهم بالعنف، فأنا بين الكل مثل الفريسة والجميع حولي مثل الكلاب الجياع يريدون نهشي وأكلي، وليس بيدي كنوز قارون فأنفق على هولا الجموع منها فيضطرني الحال إلى التعدي على عبد الله وأخذ أموالهم، وأكل مزارعهم ومواشيهم، فإن قدر الله لي بالظفر عوضت عليهم ذلك ورفقت بحالهم، وإن كانت الأخرى فالله يلطف بنا وبهم، ولا بد أن يترحموا علينا ويسترضوا عن ظلمنا وجورنا بالنسبة لما يحل بهم بعدنا.

وبالجملة فكان آخر من أدركنا من الأُمرا المصريين شهامة وصرامة؛ ونظرًا في عواقب الأمور، وكان وحيدًا في نفسه فريدًا في أبناء جنسه، وبموته اضمحلت دولتهم وتفرقت جمعيتهم وانكسرت شوكتهم، وزادت نفرتهم، وما زالوا في نقص وإدبار وذلة وهوان وصَغَار، ولم تقم لهم بعده راية، وانقرضوا وطردوا إلى أقصى البلاد في النهاية.

وأما مماليكه وصناجقه فإنهم تركوا نصيحته، ونسوا وصيته وانضموا إلى عدوهم وصادقوه، ولم يزل بهم حتى قتلهم وأبادهم عن آخرهم، كما سيتلى عليك خبر ذلك فيما بعد.

وكانت صفة المترجم معتدل القامة أبيض اللون مشربًا بحمرة، جميل الصورة مدور اللحية أشقر الشعر وقد خطه الشيب، مليح العينين مقرون الحاجبين معجبًا بنفسه مترفهًا في زيه وملبسه، كثير الفكر كتومًا لا يبيح بسر ولا لأعز أحبابه، إلا أنه لم يسعفه الدهر وجنى عليه بالقهر، وخاب أمله وانقضى أجله، وخانه الزمان وذهب في خبر كان، ومات وله من العمر نحو الخمسة والخمسين سنة — غفر الله له.

ومات الأمير عثمان بك البرديسي المرادي وسُمي البرديسي؛ لأنه تولى كشوفية برديس بقبلي فعرف بذلك واشتهر به. تقلد الأمرية والصنجقية في سنة عشر ومايتين وألف، وتزوج ببنت أحمد كتخدا علي، وهي أخت علي كاشف الشرقية، وعمل لها مهمًا، وذلك قبل أن يتقلد الصنجقية، وسكن بدار علي كتخدا الطويل بالأزبكية، واشتهر ذكره وصار معدودًا من جملة الأُمرا.

ولما قُتل عثمان بك البرديسي المرادي بساحل أبو قير، ورجع من رجع إلى قبلي، كان الألفي هو المتعين بالرياسة على المرادية.

فلما سافر الألفي إلى بلاد الإنكليز تعين المترجم بالرياسة على خشداشينه مع مشاركة بشتك بك الذي عُرف بالألفي الصغير، فلما حضروا إلى مصر في سنة ثمان عشرة بعد خروج محمد باشا خسرو وقتْل طاهر باشا، انضم إليه محمد علي باشا، وكان إذ ذاك سرششمه العساكر، وتواخى معه وصادقه ورمح في ميدان غفلته، وتحالفا وتعاهدا وتعاقدا على المحبة والمصافاة وعدم خيانة أحدهما للآخر، وأن يكون محمد علي باشا وعساكره الأروام أتباعًا له وهو الأمير المتبوع، فانتفخ جأشه؛ لأنه كان طايش العقل مقتبل الشبيبة فاغتر بظاهر محمد علي باشا؛ لأنه حين عمل شغلة في خدمة محمد باشا وبعده طاهر باشا دعا الأُمرا المصريين وأدخلهم إلى مصر، وانتسب إلى إبراهيم بك الكبير؛ لكونه رئيس القوم وكبيرهم.

وعين لإبراهيم بك خرجًا وعلوفة مثل أتباعه، وسيره واختبره فلم ترج سلعته عليه ووجده محرصًا على دوام التراحم والألفة والمحبة وعدم التفاشل في عشيرته وأبناء جنسه، متحرزًا من وقوع ما يوجب التقاطع والتنافر في قبيلته، فلما أيس منه مال عنه وانضم إلى المترجم واستخفه واحتوى على عقله، وصاحبه وصادقه وصار يختلي معه، ويتعاقر معه الشراب، ويسامره ويسايره حتى باح له بما في ضميره من الحقد لإخوانه، وتطلب الانفراد بالرياسة، فصار يقوي عزمه ويزيد في إغراه ويوعده بالمعاونة والمساعدة على إتمام قصده، ولم يزل به حتى رسخ في ذهن المترجم نصحه وصدقه.

كل ذلك توصلًا لما هو كامن في نفسه من إهلاك الجميع، ثم أشار عليه ببنا أبراج حول داره التي سكن بها بالناصرية، فلما أتمها أسكن بها طايفة من عساكره، كأنهم محافظون لما عساه أن يكون، ثم سار معه إلى حرب محمد باشا خسرو بدمياط، فحاربوه وأتوا به أسيرًا وحبسوه.

ثم فعلوا بالسيد علي القبطان مثل ذلك، ثم كاينه علي باشا الطرابلسي وقتله، وقد تقدَّم خبر ذلك كله، وجميعه ينسب فعله للمصريين، ولم يبقَ إلا الإيقاع بينهم، فكان وصول الألفي عقب ذلك، فأوقعوا به وبجنده ما تقدم ذكره، وتفاشلوا وتفرقوا بعد جمعهم وقلوا بعد الكثرة، ثم أشار على المترجم المصادق الناصح بتفريق أكثر الجمع الباقي في النواحي والجهات، البعض منهم لرصد الألفي والقبض عليه وعلى جنده، والبعض الآخر لظلم الفلاحين في البلاد، ولم يبقَ بالمدينة غير المترجم وإبراهيم بك الكبير وبعض أُمرا، فعند ذلك سلط محمد علي العساكر بطلب علايفهم المنكسرة فعجزوا عنها، فأراد المترجم أن يفرض على فُقرا البلدة فرضة بعد أن استشار الأخ النصوح.

وطافت الكتَّاب في الحارات والأزقة يكتبون أسما الناس ودورهم، ففزعوا وصرخوا في وجوه العسكر فقالوا: نحن ليس لنا عندكم شي ولا نرضى بذلك، وعلايفنا عند أُمراكم، ونحن مساعدون لكم، فعند ذلك قاموا على ساق وخرجت نسا الحارات وبأيديهم الدفوف يغنون ويقولون: «إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي»، وصاروا يسخطون على المصريين ويترضون عن العسكر.

وفي الحال أحاطت العسكر ببيوت الأُمرا، ولم يشعر البرديسي إلا والعسكر الذين أقامهم بالأبراج التي بناها حوله ليكونوا له عزًّا ومنعة يضربون عليه ويحاربونه ويريدون قتله، وتسلقوا عليه فلم يسَع الجميع إلا الهروب والفرار، وخرجوا خروج الضب من الوجار، وذهب المترجم إلى الصعيد مذمومًا مدحورًا، وجوزي مجازاة من ينتصر بعدوه ويعول عليه ويقص أجنحته برجليه، وكالباحث على حتفه بظلفه والجادع بظفره مارن أنفه، ولم يزل في هجاج وحروب — كما سطر في السياق — ولم ينتصر في معركة، ولم يزل مصرًّا على معاداة أخيه الألفي وحاقدًا عليه وعلى أتباعه، محرصًا على زلاته، وأعظمها قضية القبودان وموسى باشا إلى غير ذلك.

وكان ظالمًا غشومًا طايشًا سيئ التدبير، وقد أوجده الله — جل جلاله — وجعله سببًا لزوال عزهم ودولتهم، واختلال أمرهم وخراب دورهم وهتك أعراضهم ومذلتهم وتشتيت جمعهم، ولم يزل خبثه حتى مرض ومات بمنفلوط ودُفن هناك.

ومات الأمير بشتك بك، وهو الملقب بالألفي الصغير، وهو مملوك محمد بك الألفي الكبير، أمَّره وجعله وكيلًا عنه مدة غيابه في بلاد الإنكليز، وكان قبل ذلك سلحداره، وأمر كشافه ومماليكه وجنده بطاعته وامتثال أمره، فلما حضر الأُمرا المصريون في سنة ثمانية عشر أقام هو بقصر مراد بك بالجيزة، فلم يحسن السياسة وداخله الغرور وأُعجب بنفسه وشمخ على نظراه وعلى أعمامه الذين هم خشداشون لأستاذه، بل وعلى إبراهيم بك الكبير الذي هو بمنزلة جده، وكان مراد بك الذي هو أستاذ أستاذه يراعي حقه ويتأدب معه ويقبِّل يده في مثل الأعياد، ويقول: هو أميرنا وكبيرنا. وكذلك أستاذ المترجم كان إذا دخل على إبراهيم بك قبَّل يده، ولا يجلس بحضرته إلا بعد أن يأذن له.

فلم يقتفِ المترجم في ذلك أسلافه، بل سلك مسلك التعاظم والتكبر على الجميع، واستعمل العسف في أموره مع الترفع على الجميع وإذا عقدوا أمرًا بدونه حَلَّه، أو حَلُّوا شيًّا بدونه عقده؛ فضاق لذلك خناق الجميع منه وكرهوه وكرهوا أستاذه، وكان هو من جملة أسباب نفورهم من أستاذه وانحراف قلوبهم عنه، فلما رجع أستاذه وظهر من اختفاه وبلغه أفعاله مقته وأبعده، ولم يزل ممقوتًا عنده حتى مات مبطونًا في حياة أستاذه بناحية قبلي في تلك السنة.

ومات غير هولا ممن له ذكر مثل سليمان بك المعروف بأبو دياب بناحية قبلي أيضًا.

ومات أيضًا أحمد بك المعروف بالهنداوي الألفي في واقعة النجيلة

ومات أيضًا صالح بك الألفي، وهو أيضًا ممن تأمَّر في غياب أستاذه، وعند حضور أستاذه من بلاد الإنكليز كان هو متوليًا كشوفية الشرقية وغايبًا هناك فأرسلوا، له تجريدة ليقتلوه وكان بناحية شلشلمون، فوصله الخبر فترك خيامه وأحماله وأثقاله وهرب واختفى.

فلما وقعت حادثة الأُمرا مع العسكر وخرجوا من مصر هاربين وظهر الألفي من الوادي، ذهب إليه وأمده بما معه من الأموال، وذهب مع أستاذه إلى قبلي ولم يزل حتى مات أيضًا في هذه السنة، وغير أوليك كثير لم تحضرني أسماهم ولا وفاتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤