سنة خمس وعشرين ومايتين وألف (١٨١٠م)

استهل المحرم بيوم الاتنين، فيه وردت الأخبار من الديار الرومية بغلبة الموسكوب واستيلاهم على ممالك كثيرة، وأنه واقع بإسلامبول شدة حصر وغلا في الأسعار وتخوُّف، وأنهم يذيعون في الممالك بخلاف الواقع لأجل التطمين.

وفي خامسه حضر إبراهيم أفندي القابجي الذي كان توجَّه إلى الدولة من مدة سابقة، وعلى يده مراسيم بطلب ذخيرة وغلال، وعملوا لقدومه شنكًا ومدافع، وطلع في موكب إلى القلعة.

وفيه رجع ديوان أفندي من ناحية قبلي وصحبته أحمد أغا شويكار، فأقاما بمصر أيامًا ثم رجعا بجواب إلى الأمرا القبليين.

وفي ليلة السبت تالت عشره حصلت زلزلة عجيبة مزعجة، وارتجت منها الجهات تلات درجات متواليات، واستمرت نحو أربع دقايق فانزعج الناس منها من منامهم وصار لهم جلبة وقلقة، وخرج الكثير من دورهم هاربين إلى الأزقة يريدون الخلاص إلى الفضا مع بُعده عنهم، وكان ذلك في أول الساعة السابعة من الليل، وأصبح الناس يتحدثون بها فيما بينهم، وسقط بسببها بعض حيطان ودور قديمة وتشققت جدران وسقطت منارة بسوس، ونصف منارة بأم أخنان بالمنوفية، وغير ذلك لا نعلمه.

وفي عصر يوم السبت أيضًا حصلت زلزلة، ولكن دون الأولى فانزعج الناس منها أيضًا، وهاجوا ثم سكنوا ثم كثر لغط العالم بمعاودتها، فمنهم من يقول ليلة الأربع ومنهم من يقول خلافه، وأنها تستمر طويلًا، وأسندوا ذلك لبعض المنجمين، ومنهم من أسنده لبعض النصارى واليهود، وأن رجلًا نصرانيًّا ذهب إلى الباشا وأخبره بحصول ذلك، وأكد في قوله وقال له: احبسني وإن لم يظهر صدقي اقتلني، وأن الباشا حبسه حتى يمضي الوقت الذي عينه ليظهر صدقه من كذبه، وكل ذلك من تخيلاتهم واختلاقاتهم وأكاذيبهم وما يعلم الغيب إلا الله.

وفي يوم الأحد رابع عشره أمر الباشا بالاحتياط على بيوت عظما الأقباط كالمعلم غالي والمعلم جرجس الطويل وأخيه فلتيوس وفرانسيكو وعدتهم سبعة، فأحضروهم في صورة منكرة وسمروا دورهم وأخذوا دفاترهم، فلما حضروا بين يديه قال لهم: أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه وأمر بحبسهم، فطلبوا منه الأمان وأن يأذن لهم في خطابه فأذن لهم فخاطبه المعلم غالي، وخرجوا من بين يديه إلى الحبس، ثم قرر عليهم بواسطة حسين أفندي الروزنامجي سبعة آلاف كيس، بعد أن كان طلب منهم تلاتين ألف كيس.

وفي يوم الخميس تامن عشره شاع في الناس حصول زلزلة تلك الليلة، وهي ليلة الجمعة ويكون ذلك في نصف الليل، فتأهب غالب الناس للطلوع بخارج البلد، فخرجوا بنساهم وأولادهم إلى شاطي النيل ببولاق ونواحي الشيخ قمر، ووسط بركة الأزبكية وغيرها، وكذلك خرج الكثيرُ من العسكر أيضًا، ونصبوا خيامًا في وسط الرملية وقراميدان والقرافتين، وقاسوا تلك الليلة من البرد ما لا يكيف ولا يوصف؛ لأن الشمس كان ببرج الدلو، وهو وسط الشتا، ولم يحصل شي مما أشاعوه وأذاعوه وتوهموه، وتسلق العيارون والحرامية تلك الليلة على كثير من الدور والأماكن وفتشوها، فلما أصبح يوم الجمعة كثر التشكي إلى الحكام من ذلك، فنادوا في الأسواق بأن لا أحدًا يذكر أمر الزلزلة، وكل من خرج لذلك من داره عوقب، فانكفوا وتركوا هذا اللفظ الفارغ.

وفيه ظهر بالأزهر أنفار يقفون بالليل بصحن الجامع الأزهر، فإذا قام إنسان لحاجته منفردًا أخذوا ما معه، وأشيع ذلك فاجتهد الشيخ المهدي في الفحص والقبض على فاعل ذلك إلى أن عرفوا أشخاصهم ونسبهم، وفيهم من هو من أولاد أصحاب المظاهر المتعممين، فستروا أمرهم وأظهروا شخصًا من رفقاهم ليس له شهرة، وأخرجوه من البلدة منفيًّا ونسبوا إليه الفعال، وسنكشف ستر الفاعلين فيما بعد ويفتضحون بين العالم كما يأتي خبر ذلك في سنة سبع وعشرين.

وكذلك أخرجوا طايفة من القوادين والنسا الفواحش سكنوا بحارة الأزهر، واجتمعوا في أهله حتى إن أكابر الدولة وعساكرهم، بل وأهل البلد والسوقة جعلوا سمرهم وديدنهم ذكر الأزهر وأهله، ونسبوا له كل رذيلة وقبيحة، ويقولون: هي كل موبقة تظهر منه ومن أهله، وبعد أن كان منيع الشريعة والعلم صار بعكس ذلك، وقد ظهر منه قبلُ الزغلية، والآن الحرامية وأمور غير ذلك مخفية.

وفيه طلب الباشا تمهيد الطريق الموصلة من القلعة إلى الزلاقة، التي أنشاها طريقًا يصعد منها إلى الجبل المقطم السابق ذكرها، وأراد أن يفرض على الأخطاط والحارات رجالًا للعمل بعدد مخصوص، ومن اعتذر عن الخروج والمساعدة يُفرض عليه بدلًا عنه أو قدرًا من الدراهم يدفعها نظير البدل، وأشيع هذا الأمر واستحضر الأوباش على الطبول والزمور كما كانوا يفعلون في قضية عمارة محمد باشا خسرو، ثم إن الشيخ المهدي اجتمع بكتخدا بك وأدخل عليه وهمًا أن محمد باشا خسرو لما فعل ذلك لم يتم له أمرًا، وعزل ولم تطل أيامه، ونحن نطلب دوام دولتكم والأولى ترك هذا الأمر؛ فتركوا ذلك ولم يذكروه بعد.

واستهل شهر صفر الخير بيوم الأربع (سنة ١٢٢٥)

فيه قلد الباشا خليل أفندي النظر على الروزنامجي وكُتَّابه، وسمَّوه كاتب الذمة، أي: ذمة الإيراد والمصرف، وكان ذلك عند فتح الطلب بالميري عن السنة الجديدة فلا يُكتب تحويل ولا تنبيه ولا تذكرة حتى يُطلِعوه عليها، ويكتب عليها علامته؛ فتكدر من ذلك الروزنامجي وباقي الكتبة.

وهذه أول دسيسة أدخلوها في الروزنامة، وابتدا فضيحتها وكشف سرها، وذلك بإغرا بعض الأفندية الخاملين أنهى إليهم أن الروزنامجي ومن معه من الكتاب يوفرون لأنفسهم الكثير من الأموال الميرية ويتوسعون فيها، وفي ذلك إجحاف بمال الخزينة، وخليل أفندي هذا كان كاتب الخزينة عند محمد باشا خسرو ولا يُفيق من الشرب.

وفيه طلب الباشا تلاتة أشخاص من كتبة الأقباط الذين كانوا متقيدين بقياس الأراضي بالمنوفية، وضربهم وحبسهم لكونه بلغه عنهم أنهم أخذوا البراطيل والرشوات على قياس طين أراضي بعض البلاد، وأنقصوا من القياس فيما ارتوى من الطين، وهي البدعة التي حدثت على الطين الري وسموها القياسة، وقد تقدم ذكرها غير مرة.

وحُررت في هذه السنة على الكامل لكثرة النيل وعموم الماء الأراضيَ، على أنه بقي الكثير من بلاد البحيرة وغيرها شراقي؛ بسبب عدم حفر الترع وحبس الحبوس، وتجسير الجسور، واشتغال الفلاحين والملتزمين بالفرض المظالم وعجزهم عن ذلك.

وفي خامسه طلب الباشا كشاف الأقاليم، وشرع في تقرير فرضة على البلاد بما يقتضيه نظره ونظر كشاف الأقاليم والمعلمين القبط، فقرروا على أعلاها تمانين كيسًا والأدنى خمسة عشر كيسًا.

ولم يتقيد بتحرير ذلك أحد من الكتبة الذين يحررون ذلك بدفاتر ويوزعونها على مقتضى الحال، ولم يعطوا بالمقادير أوراقًا لملتزمي الحصص كما كانوا يفعلون قبل ذلك، فإن الملتزم كان إذا بلغه تقرير فرضة تدارك أمره وذهب إلى ديوان الكتبة، وأخذ علم القدر المقرر على حصته وتكفل بها وأخذ منهم مهلة بأجل معلوم، وكتب على نفسه وثيقة وأبقاها عندهم ثم يجتهد في تحصيل المبلغ من فلاحيه، وإن لم يسعفوه في الدفع وحولوا عليه الطلب دفعه من عنده إن كان ذا مقدرة أو استدانه ولو بالربا، ثم يستوفيه بعد ذلك من الفلاحين شيًّا فشيًّا.

كل ذلك حرصًا على راحة فلاحي حصته، وتأمينهم واستقرارهم في وطنهم ليحصِّل منهم المطلوب من المال الميري، وبعض ما يقتاتون به هم وعيالهم، وإن لم يفعل ذلك تحول باستخلاص ذلك كاشفُ الناحية وعيَّن على الناحية الأعوان بالطلب الحثيث، وما ينضاف إلى ذلك من حق طرق المعينين كُلَفهم، وإن تأخر الدفع تكرر الإرسال والطلب على النسق المشروع، فيتضاعف الهم وربما ضاع في ذلك قدر الأصل المطلوب وزيادة عنه مرة أو مرتين.

والذي يقبضونه يحبسونه بالفرط، وهو في كل ريال عشرة أنصاف فضة يسمونها ديواني، فيقبض المباشر عن الريال تسعين نصفًا فضة ويجعل التسعين تمانين، وذلك خلاف ما يقرره في أوراق الرسم من خدم المباشرين من كتبة القبط، فينكشف حال الفلاح ويبيع ما عنده من الغلة والبهيمة، ثم يفر من بلدته إلى غيرها فيطلبه الملتزم ويبعث إليه المعينين من كاشف الناحية بحق طريق أيضًا، فربما أداه الحال إن كان خفيف العيال والحركة إلى الفرار والخروج من الإقليم بالكلية.

وقد وقع ذلك حتى امتلأت البلاد الشامية والرومية من فلاحي قرى مصر الذين جلَوا عنها، وخرجوا منها وتغربوا عن أوطانهم عن عظيم هَول الجور.

وإذا ضاق الحال بالملتزم وكتب له عرضحالًا يشكو حاله وحال بلده أو حصته وضعف حالها ويرجو التخفيف، وتجاسر وقدم عرضحاله إلى الباشا يقال له: هات التقسيط وخذ تمن حصتك أو بدلها، أو يعين له ترتيبًا بقدر فايظها على بعض الجهات الميرية من المكوس والجمارك التي أحدثوها، فإن سلم سنده وكان ممن يُراعى جانبُه حوَّل إلى بعض الجهات المذكورة صورة وإلا أهمل أمره.

وبعضهم باعها لهم بما انكسر عليه من مال الفرض، وقد وقع ذلك الكثير من أصحاب الذمم المتعددة، انكسر عليه مقادير عظيمة فنزل عن بعضها وخصموا له ثمنها من المنكسر عليه من الفرضة، وبقي عليه الباقي يطالب به، فإن حدثت فرضة أخرى قبل غلاق الباقي وقعد بها وضُمَّت إلى الباقي، وقصرت يده لعجز فلاحيه واستدان بالربا من العسكر تضاعف الحال وتوجه عليه الطلب من الجهتين، فيضطر إلى خلاص نفسه وينزل عما بقي تحت يده كالأول، وقد يبقى عليه الكسر ويصبح فارغ اليد من الالتزام ومديونًا، وقد وقع ذلك لكثير كانوا أغنيا ذوي ثروة، وأصبحوا فقرا محتاجين من حيث لا يشعرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

وفيه تحركت همم الأمرا المصريين القبليين إلى الحضور إلى ناحية مصر بعد ترداد الرسل والمكاتبات، وحضور ديوان أفندي ورجوعه وحضور محمد بك المنفوخ أيضًا، وكل من حضر منهم أنعم عليه الباشا، وألبسه الخلع ويقدم له التقادم ويعطيه المقادير العظيمة من الأكياس، وقصده الباطني صيدهم، حتى إنه كان أنعم على محمد بك المنفوخ بالتزام جمرك ديوان بولاق، ثم عوضه عنه ستماية كيس وغير ذلك.

وفيه قلد الباشا نظر المهمات لصالح بن مصطفى كتخدا الرزاز، ونقلوا ورشة الحدادين ومنافخهم وعُددهم من بيت محمد أفندي طبل الودنلي المعروف بناظر المهمات إلى بيت صالح المذكور بناحية التبانة، وكذلك العربجية وصناع الجلل والمدافع، ونزعوا منه أيضًا معمل البارود وكان تحت نظره، وكذلك قاعة الفضة وجمرك اللبان وغيره.

وفيه وصلت الأخبار من البلاد الرومية والشامية وغيرها بوقوع الزلزلة في الوقت، الذي حصلت فيه بمصر، إلا أنها كانت أعظم وأشد وأطول مدة، وحصل في بلاد كريت إتلافات كثيرة وهدمت أماكن ودورًا كثيرة، وهلك كثير من الناس تحت الردم، وخسفت أماكن وتكسر على ساحل مالطة عدة مراكب، وحصل أيضًا باللاذقية خَسْف، وحكى الناقلون أن الأرض انشقت في جهة من اللاذقية، فظهر في أسفلها أبنية انخسفت بها الأرض قبل ذلك ثم انطبقت ثانيًا.

وفيه من الحوادث ما وقع ببيت المقدس، وهو أنه لما احترقت القمامة الكبرى — كما تقدم ذكر حرقها في العام قبل الماضي — أعرضوا إلى الدولة، فبرز الأمر السلطاني بإعادة بناها، وعينوا لذلك أغا قابجي وعلى يده مرسوم شريف فحضر إلى القدس، وحصل الاجتهاد في تشهيل مهمات العمارة، وشرعوا في البنا على وضع أحسن من الأول، وتوسعوا في مساحة جرمها وأدخلوا فيها أماكن مجاورة لها، وأتقنوا البنا إتقانًا عجيبًا، وجعلوا أسوارها وحيطانها بالحجر النحيت، ونقلوا إليها من رخام المسجد الأقصى.

فقام يمنع ذلك جماعة من الأشراف الينكجرية، وشنعوا على الأغا المعين وعلى كبار البلدة، وتعصبوا حماية للدين قايلين: إن الكنايس إذا خربت لا يجوز إعادتها إلا بأنقاضها، ولا يجوز الاستعلا بها ولا تشييدها ولا أخذ رخام الحرم القدسي ليوضع في الكنيسة، ومانعوا في ذلك فأرسل ذلك الأغا المعين إلى يوسف باشا يعرفه عن المعارضين لأوامر الدولة، فأرسل يوسف باشا طايفة من عسكره في عدة وافرة، فوصلوا من طريق الغور وهو مسلك موصل إلى القدس قريب المسافة خلاف الطريق المعتاد، فدهموا الجماعة المعارضين على حين غفلة، وحاصروهم في دير وقتلوهم عن آخرهم وهم نيف وتلاتون نفرًا.

وشيدوا القمامة كما أرادوا أعظم وأضخم مما كانت عليه قبل حرقها، فنسأل المولى السلامة في الدين.

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس (سنة ١٢٢٥)

فيه وصلت الأمرا المصريون القبالي إلى ناحية بني سويف، وكثير من الأجناد إلى مصر، وترددت الرسل وحضر ديوان أفندي ثم رجع تانيًا إليهم.

وفيه أمر الباشا الكُتاب بعمل حساب حسين أفندي الروزنامجي عن السنتين الماضيتين، وهما سنة تلاتة وعشرين وأربع وعشرين، وذلك بإغرا البعض منهم، فاستمروا في عمل الحساب أيامًا فزاد لحسين أفندي ماية وتمانون كيسًا، فلم يعجب الباشا ذلك واستخونهم في عمل الحساب، ثم ألزمه بدفع أربعماية كيس وقال: أنا كنت أريد منه ستماية كيس وقد سامحته في مايتين في نظير الذي تأخر له، وطلع في صبحها إلى الباشا وخلع عليه فروة باستقراره في منصبه، ونزل إلى داره، فلما كان بعد الغروب حضر إليه جماعة من العسكر في هيئة مزعجة ومعهم مشاعل، وطلبوا الدفاتر وهم يقولون: معزول معزول، وأخذوا الدفاتر وذهبوا وحولوا عليه الحوالات بطلب الأربعماية كيس، فاجتهد في تحصيلها ودفعها ثم ردوا له الدفاتر تانيًا.

وفيه حصلت كاينة أحمد أفندي المعروف باليتيم من كتاب الروزنامة؛ وذلك أن الباشا كان ببيت الأزبكية، فوصل إليه مكتوب من كاشف إقليم الدقهلية، يعرِّفه فيه أنه قاس قطعة أرض جارية في إقطاع أحمد أفندي المذكور، فوجد مساحتها خلاف المقيد بدفتر المقياس الأول، ومسقوط منها نحو الخمسماية فدان، وذلك من فعل المذكور ومخامرته مع النصارى الكتبة والمساحين؛ لأنهم يراعونه ويدلسون معه؛ لأن دفاتر الروزنامة بيده.

فلما قرأ المكتوب أمر في الحال بالقبض على أحمد أفندي وسجنه، وكان السيد محمد المحروقي حاضرًا، وكذلك علي كاشف الكبير الألفي فترجيا عند الباشا وأخبراه بأن المذكور مريض بالسرطان في رجله ولا يقدر على حركتها، واستأذنه السيد المحروقي بأن يأخذه إلى داره، فإن داره باب من أبوابه فأجابه إلى ذلك.

وركب في الحال ولحق بالمعينين، وكانوا قد وصلوا إليه وأزعجوه فمنعهم عنه، وأخذه إلى داره وراجع الباشا في أمره، فقرر عليه تمانين كيسًا بعد أن قال: إني كنت أريد أن أقول: ثلثماية كيس فسبق لساني فقلت: ماية كيس، وقد تجاوزت لأجلك عن عشرين كيسًا، وهو لا يقدر على أكثر من ذلك؛ لأنه يفعل كذا وكذا، وعدَّد أشياء تدل على أنه ذو غنية كبيرة، منها أنه لما سافر إلى الباشا بدفتر الفرضة إلى ناحية أسيوط، طلع إلى البلدة في هيئة وصحبته فرش وسحاحير وبشخانات وكرارات وفراشون وخدم وكيلارجية ومصاحبجية والحكيم والمزين.

فلما شاهد الباشا هيئته سأل عنه وعن منصبه فقيل له: إنه جاجرت من كتبة الروزنامة، فقال: إذا كان جاجرت بمعنى تلميذ، فكيف يكون باش جاجرت أو قلفاوات لإقليم فضلًا عن كبيرهم الروزنامجي، وأي شي ذلك؟ وأسر ذلك في نفسه وطفق يسأل ويتجسس عن أحوالهم؛ لأنه من طبعه الحقد والحسد والتطلع لما في أيدي الناس.

ولما قلد خليل أفندي كتابة الذمة في الروزنامة — كما تقدم — انضم إليه الكارهون للمذكور الذين كانوا خاملي الذكر بوجوده، وتوصلوا إلى باب الباشا وكتخدا بك، وأنهوا فيه أنه يتصرف في الأموال الميرية كما يختار، وأن حسين أفندي الروزنامجي لا يخرج عن مراده وإشارته، وبيته مفتوح للضيفان ويجتمع عنده في كل ليلة عدة من الفقرا يثرد لهم الثريد في القصاع، ويواسي الكثير من أهل العلم وغيرهم، ويتعهد بكثير من الملتزمين بالفرض التي تقرر على حصصهم، ويضمها في حسابه ويصبر عليهم حتى يوفوها له في طول الزمن ونحو ذلك، وكل ما ذكر دليل على سعة الحال والمقدرة.

وأما الذنب الذي أخذه به فإن القدر المذكور من الطين كان من الموات، فاتفق المذكور مع شركاه ملتزمي الناحية وجرفوه وأحيوه وأصلحوه، بعد أن كان خرسًا ومواتًا لا يُنتفع به، وجعلوه صالحًا للزراعة وظن أن ذلك لا يدخل في المساحة فأسقطه منها، فوقع له ما وقع، وأسقطوا اسمه من كتَّاب الروزنامة، ومنعوه منها وانقطع في داره وزاد به ألم رجله.

وفيه انحرف أيضًا الباشا على الخواجا محمود حسن، وعزله من الجمارك والبزرجانية، وأكل عليه المطلوب له وهو مبلغ ألفان وخمسون كيسًا.

واستهل شهر ربيع التاني بيوم السبت (سنة ١٢٢٥)

فيه وصلت الأخبار من البلاد الحجازية بنزول سيل عظيم حصل منه ضرر كثير وهدم دورًا كثيرة بمكة وجدة، وأتلف كثيرًا من البضايع للتجار، حكوا أنه هدم بمكة خاصة ستماية دار، وكان ذلك في شهر صفر.

وفيه وصل الأمرا المصريون إلى ناحية الرقق وأوايلهم وصلوا إلى دهشور، وخرج إليهم الأتباع بالملاقاة من بيوتهم وأحبابهم، وذهب إليهم مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وديوان أفندي، ثم الباشا ثم في أثرهم طوسون ابن الباشا، وقدم له إبراهيم بك تقادم وأقام بوطاقه أيامًا ثم رجعوا، وكثر ترداد المراسلات والاختلافات في أمر الشروط.

وفي خامسه حضر عثمان بك يوسف وصحبته صنجق آخر، فطلعا إلى القلعة وقابلا الباشا ثم رجعا وحضرا في تاني يوم كذلك، فخلع عليهما خلعًا وأعطاهما أكياسًا، وأرسل إلى إبراهيم بك هدايا وإلى سليم بك المحرمجي المرادي أيضًا.

وفي يوم التلات حادي عشره وصل الجميع إلى الجيزة، ونصبوا وطاقهم خارج الجيزة وصحبتهم عربان وهوارة كثيرة، وانتظروا أن الباشا يضرب لحضورهم مدافع، فلم يفعل وقال إبراهيم بك: سبحان الله! ما هذا الاحتقار؟ ألم أكن أمير مصر نيفًا وأربعين سنة تقلدت قايمقامية ولايتها ووزارتها مرارًا، وبأخرة صار من أتباعي وأعطيه خرجه من كيلاري، ثم أحضر أنا وباقي الأمرا على صورة الصلح، فلا يضرب لنا مدافع كما يفعل لحضور بعض الإفرنج، وتأثر من ذلك.

وأشيع في الناس تعدية الباشا من الغد للسلام على إبراهيم بك فلم يثبت، وظهر أنه لم يفعل وأصبح مبكرًا إلى شبرا وجلس في قصره، وحضر إليه شاهين بك الألفي في سفينة، ووقع بينهما مكالمات ورجع من عنده عايدًا إلى الجيزة منفعل الخاطر، ثم إن الباشا عرض عساكره، فاجتمع إليه الجميع وبدا اللغط وكثرت اللقلقة، وعندما وصل شاهين بك إلى الجيزة أزَّر حريمه وأركبهن وأرسلهن إلى الفيوم، ونقل متاعه وفرشه من قصر الجيزة في بقية اليوم، وكسر المرايات وزجاج الشبابيك التي في مجالسه الخاصة.

ثم ركب في طوايفه وأتباعه وخشداشينه ومماليكه، وذهب إلى عرضي إخوانه وقبيلته ونصب خيامه ووطاقه بحذاهم، واجتمع بهم وتصافى معهم، وقد كان حضر إليه عبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي المعروف بالطنبرجي، وحول دماغه واتفق معه على الانضمام إليهم والخروج عن الباشا، ففعل ما فعل وجعلوه ريس الأمرا المرادية.

وفي ذلك اليوم عدى حسن باشا وصالح أغا قوج إلى بر الجيزة، وذهبا إلى عرضي الأمرا وسلما عليهم وتغديا عند شاهين بك، وجرى بينهما وبين إبراهيم بك كلام كثير وقال له حسن باشا: إنكم وصلتم إلى هنا لتمام الصلح على الشروط التي حصلت بينكم وبين الباشا والاتفاق الذي جرى بأسيوط، ويكون تمامه عند وصولكم إلى الجيزة واجتماعكم وقد حصل، فقال له إبراهيم بك: وما هي الشروط؟ قال: هي أن تدخلوا تحت حكمه وطاعته، وهو يوليكم المناصب التي تريدونها بشرط أن تقوموا بدفع الفرض التي يقررها على النواحي والغلال الميرية والخراج، وتعيين من يريده منكم صحبة العساكر الموجهة إلى البلاد الحجازية لفتح الحرمين، وتكونوا معه أمرا مطيعين، وهو يعطيكم الأمريات والإنعامات الجزيلة، ويعمر لكم ما تريدونه من الدور والقصور التي لكم ولأتباعكم على طرفه لا يكلفكم بشي من الأشيا، وقد رأيتم وسمعتم ما فعله من الإكرام والإنعام على شاهين بك، وما أعطاه من المماليك والجواري الحسان وشفاعاته عنده لا ترد. وأطلق له التصرف في البر الغربي من رشيد إلى الفيوم إلى بني سويف والبهنسا مما هو تحت حكمه، ويراعي بجانبه إلى الغاية، فقال له إبراهيم بك: نعم إنه فعل مع شاهين بك ما لا تفعله الملوك فضلًا عن الوزرا، وليس ذلك لسابق معروف فعله شاهين بك معه ليستحق به ذلك، بل هو لغرض سو يكتمه في نفسه، وشبكة يصطاد بها غيره، فإننا سبرنا أحواله وخيانته وشاهدنا ذلك في كثير ممن خدموه ونصحوا معه حتى ملَّكوه هذه الملكة. قال: ومن هم؟ قال: أولهم مخدومه محمد باشا خسرو، ثم كتخدا وخازنداره عثمان أغا جنج الذي خامر معه مع أخيه المرحوم طاهر باشا القلعة وأحرق سرايته.

ثم سلط الأتراك على طاهر باشا حتى قتلوه في داره، وأظهر موالاتنا وصداقتنا ومساعدتنا، وصيَّر نفسه من عسكرنا.

واتحد بعثمان بك البرديسي، وأظهر له خلوص الصداقة والأخوة وعاهده بالإيمان حتى أغراه على علي باشا الطرابلسي، وجرى ما جرى عليه من القتل ونسب ذلك إلينا، ثم اشتغل معه على خيانته لأخيه الألفي وأتباعه، ثم سلط علينا العساكر بطلب العلوفة، وأشار على عثمان بك بطلب المال من الرعية، حتى وقع لنا ما وقع وخرجنا من مصر على الصورة التي خرجنا عليها، ثم أحضر أحمد باشا خورشيد وولَّاه وزيرًا وخرج هو لمحاربتنا، ثم اتضح أمره لأحمد باشا وأراد الإيقاع به، فعجل العود إلى مصر وأوقع بينه وبين جنده، حتى نفروا منه ونابذوه.

وألقى إلى السيد عمر والقاضي والمشايخ أن أحمد باشا يريد الفتك بهم، فهيجوا العامة والخاصة وجرى ما جرى من الحروب وحرق الدور، وبذل السيد عمر جهده في النصح معه بما يظهره له من الحب والصداقة، وراجت عليه أحواله حتى تمكن أمره وبلغ مراده، وأوقع به وأخرجه من مصر وغربه عن وطنه، ونقض العهود والمواثيق التي كانت بينه وبينه كما فعل بعمر بك وغيره.

وكل ذلك معلوم ومشاهد لكم ولغيركم؛ فمن يأمن لهذا ويعقد معه صلحًا؟! واعلم يا ولدي أننا كنا بمصر نحو العشرة آلاف أو أقل أو أكثر ما بين مقدمي ألوف وأمرا وكشاف وأكابر وجاقات ومماليك وأجناد وطوايف وخدم وأتباع مرفهي المعاش بأنواع الملاذ، كل أمير مختص ومعتكف بإقطاعه مع كثرة مصارفنا وإنعاماتنا على أتباعنا ومن ينتسب إلينا، وأسمطة الجميع ممدودة في الأوقات المعهودة، ولا نعرف عسكرًا ولا علوفة عسكر، والقرى والبلاد مطمينة والفلاحون ومشايخ البلاد مرتاحون في أوطانهم، ومضايفهم مفتوحة للواردين والضيفان، مع ما كان يلزم علينا من المصارف الميرية ومرتبات الفقرا وخزينة السلطان، وصرة الحرمين والحجاج وعوايد العربان، وكلف الوزرا المتولين والأغوات والقبالجية المعينين، وخدمهم والهدايا السلطانية وغير ذلك.

وأفندينا ما كفاه إيراد الإقليم وما أحدثه من الجمارك والمكوس، وما قرره على القرى والبلدان من فرض المال والغلال والجمال والخيول والتعدي على الملتزمين ومقاسمتهم في فايظهم ومعاشهم.

وذلك خلاف مصادرات الناس والتجار في مصر وقراها والدعاوى والشكاوى والتزايد في الجمارك، وما أحدثه في الضربخانة من ضرب القروش النحاس، واستغراقها أموال الناس بحيث صار إيراد كل قلم من أقلام المكوس بإيراد إقليم من الأقاليم، ويبخل علينا بما نتعيش به نحن وعيالنا ومن بقي معنا من أتباعنا ومماليكنا، بل وقصده صيدنا وهلاكنا عن آخرنا.

فقال حسن باشا: حاشا لله، لم يكن ذلك، ودايمًا يقول والدنا إبراهيم بك: ولكن لا يخفاكم أن الله أعطاه ولاية هذا القطر، وهو يؤتي الملك من يشا ولا ترضى نفسه من يخالف عليه أو يشاركه بالقهر والاستيلا، فإذا صار الصلح ووقع الصفا أعطاكم فوق مأمولكم، فهز إبراهيم بك رأسه وقال: صحيح يكون خيرًا، وانفض المجلس ورجع حسن باشا وصالح قوج وعديا إلى بر مصر.

وفي تلك الليلة خرج جميع من كان بمصر من الأمرا والأجناد المصرية بخيلهم وهجنهم ومتاعهم، وعدوا إلى بر الجيزة، ولم يبقَ منهم إلا القليل، واجتمعوا مع بعضهم وقسموا الأمر بينهم تلاتة أقسام: قسم للمرادية وكبيرهم شاهين بك، وقسم للمحمدية وكبيرهم علي بك أيوب، وقسم للإبراهيمية وكبيرهم عثمان بك حسن، وكتبوا مكاتبات وأرسلوها إلى مشايخ العربان لم أقف على مضمونها.

وفي يوم الجمعة رابع عشره أوقفوا عساكر على أبواب المدينة يمنعون الخارجين من البلد حتى الخدم، ومنعوا التعدية إلى البر الغربي، وجمعوا المراكب والمعادي إلى البر الشرقي، ونقلوا البضايع التي في مراكب التجارة المعدة لسفر رشيد ودمياط المعروفة بالرواحل، وأخذوها إليهم وشرعوا في التعدية بطول يوم الجمعة والسبت، وعدى الباشا آخر النهار، دخل إلى قصر الجيزة الذي كان به شاهين بك، وكذا عدوا بالخيام والمدافع والعربات والأثقال، واجتمعت طوايف العسكر من الأتراك والأرنؤد والدلاة والسجمان بالجيزة، وتحققت المفاقمة والأمرا المصرية خلف السور في مقابلتهم، واستمروا على ذلك إلى تاني يوم، والناس متوقعون حصول الحرب بين الفريقين، ولم يحصل. وانتقل المصرية وترفعوا إلى قبلي الجيزة بناحية دهشور وزنين.

وفي يوم الاتنين والتلات أنفق الباشا على العسكر وكان له مدة شهور لم ينفق عليهم.

وفي ليلة التلات ركب الباشا ليلًا، وسافر إلى ناحية كرداسة على جرايد الخيل، ورجع في تاني ليلة، وكان سبب ركوبه أنه بلغه أن طايفة من العربان مارين يريدون المصرية، فأراد أن يقطع عليهم الطريق، فلم يجد أحدًا وصادف نجعًا مقيمين في محطة، فنهب مواشيهم ورجع متعوبًا، وانقطع عنه أفراد من العسكر ومات بعضهم من العطش.

وفي يوم الجمعة ارتحل المصرية وترفعوا إلى ناحية جرز الهوى بالقرب من الرقق.

وفيه حضر مشايخ عربان أولاد علي للباشا، فكساهم وخلع عليهم وألبسهم شالات كشميري عدتها تمان شالات، وأنعم عليهم بماية وخمسين كيسًا وحضر عند المصرية عربان الهنادي ومشايخهم وانضموا إليهم.

وفي يوم الأحد تالت عشرينه عدى الباشا إلى بر مصر، وذهب إلى بيته بالأزبكية فبات به ليلتين ثم طلع يوم التلات إلى القلعة، وقد تكدر طبعه من هذه الحادثة بعد أن حصلوا بالجيزة وكاد يتم قصده فيهم، وخصوصًا ما فعله شاهين بك الذي أنفق عليه ألوفًا من الأموال ذهبت جميعها في الفارغ البطال.

وفي هذه الأيام — أعني منتصف شهر بشنس القبطي — زاد النيل زيادة ظاهرة أكثر من ذراع ونصف، واستمر أيامًا ثم رجع إلى حاله الأول، وهذا من جملة عجايب الوقت.

واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد (سنة ١٢٢٥)

فيه عمل الباشا ميدان رماحة بالجيزة، فتقنطر به الحصان ووقع به الأرض فأقاموه وأصيب غلام من مماليكه برصاصة فمات، ويقال: إن الضارب لها كان قاصدًا الباشا فأخطأته وأصابت ذلك المملوك والأجل حصن.

وفيه نبهوا على العسكر بالخروج فسعوا بالجد والعجلة في قضا أشغالهم ولوازمهم، وطفقوا يخطفون حمير الناس وجِمالهم ومن يصادفونه ويقدرون عليه من أهل البلد وخلافهم، ويقولون: في غد مسافرون وراحلون لمحاربة المصريين، والمصريون أيضًا مستمرون في منزلتهم لم ينتقلوا عنها.

وفي خامسه خرج حسن باشا وبرز خيامه بناحية الآثار، وخرج أيضًا محو بك بعسكره وطوايفه ومعهم بيارق، وسافر جملة عساكر في المراكب ليرابطوا في البنادر؛ فإنها خالية ليس بها أحد من المصريين، وفي كل يوم يخرج عساكر ثم يرجعون إلى المدينة، وهم مستديمون على خطف الدواب وحمير البطيخ وجمال السقايين، والباشا يعدي إلى بر مصر في كل يومين أو تلاتة، ويطلع إلى القلعة ثم يعود إلى مخيمه في الجيزة، وامتنع سفر المسافرين قبلي وبحري.

وفي يوم التلات سابع عشره بلغ الباشا أن الأمرا المرادية والإبراهيمية وغالب المصرية لهم مراسلات ومعاملات مع السيد سلامة النجاري وأخيه وابن أخيه، وأنه يرسل لهم جميع ما يلزم من أسلحة وأمتعة وخلافها بواسطة بعض عملاهم من العربان خفية، وأنه اشترى جملة أسلحة وخيول وثياب وغيرها، وأخذ أشيا من بيوت بعضهم لأجل أن يرسل الجميع إليهم، وأن جميع ذلك موجود عند المذكور الآن، ومن جملة أيام حضر مرسول من عندهم بدراهم ومعه حصان نعمان بك وهو عنده أيضًا، فأمر بجلبه وحبسه وهجم منزله، وضبط أوراقه وضبط ما يوجد بها، ففعلوا ذلك وحبسوا معه ابن أخيه وأزعجوهما، وهجموا منزله فوجدوا فيه خمسة خيول وجملة أسلحة، فطغوا وبغوا ونهبوا متاعه، وبددوا شمل كتب أبيه، ولم يجدوا مكاتبات من الأمرا القبالي، ولا أتر لذلك، بل إنهم وجدوا جوابًا من أخيه السيد أحمد مضمونه أننا عند وصولنا إلى مكة المشرفة اشترينا أربعة خيول نجدية بها العلامات التي أفدتونا عنها، وهي مرسلة لكم عسى أن تفوزوا بتقديمها لأفندينا.

ولما سيل عن الأسلحة والخيول التي عنده قال: إن السلاح عندنا من قديم وله مُدَد ورؤيته تدل على ذلك، وأما الخيول فمنها أربعة أحضرتها هدية لأفندينا، وجاءت ضعيفة فأبقيتها عندي حتى تتقوى وأقدمها إليه، والحصان الخامس اشتريته لنفسي من رجل عميلنا اسمه عطوان أحمد من أهالي كفر حكيم، أخبرني أنه اشتراه من ناحية صول، لما رأيت فيه علامات الجودة وجات الأربعة خيول تركت ركوبه، وأبقيته معها حتى أقدِّم الجميع لأفندينا، فعند ذلك توجَّه محمد أفندي طبل للباشا وفهَّمه براءة ذمة المذكور، وأخبره بما صار وما وجدوه وما قاله المذكور، وسعى في إزالة هذه التهمة عنه، وعرفه أن هذا الرجل مستقيم الأحوال، وأنه من وقت توظيفه معه لم ينظر عليه ما يخالف، وصدق عليه الحاضرون، فلما ظهر للباشا كذب التهمة وتحقق براءته، وأنه أحضر هذه الخيول هدية له أمر بإطلاقه من السجن واسترجاع ما نهبته الأعوان من منزله، وتخلق عليهم بسبب ذلك.

ثم أمر بإحضاره وإحضار الخيول المهداة له فقبلها منه، ثم سأله عن علامات الجودة وما يحمد في الخيل وما يذم فيها، فأجابه بأجوبة مفيدة استحسنها، فأنعم عليه وضاعف مرتبه؛ فصارت جملته أربعة أكياس شهريًّا، وأحال عليه نظر مشتري الخيول.

وفيه وصلت الأخبار بأن حسن باشا وصالح قوج وعابدين بك وعساكر الأرنؤد وصلوا إلى ناحية صول والبرنبل فوجدوا المصريين جعلوا متاريس ومدافع على البر؛ ليمنعوا مرور المراكب فحاربوهم حتى أجلوهم عنها وملكوا المتاريس، وقُتل رجل من الأجناد، وهو الذي كان محافظًا على المتاريس يقال له إبراهيم أغا، سقط به الجرف إلى البحر، فأخذوه إليهم ومعه آخر وقتلوهما وقطعوا روسهما وأرسلوهما صحبة المبشرين إلى الباشا، فعلقوا الراسين بباب زويلة.

ولما بلغ الأمرا المصريين أخذ المتاريس تأهبوا وساروا من أول الليل، وهي ليلة السبت رابع عشره، مكمنين وكاتمين أمرهم، فدهموا الأرنؤد من كل ناحية فوقع بينهم مقتلة عظيمة، وأخذوا منهم عدة بالحياة وأخذوا منهم أشيا، وكان حسن باشا وأخوه عابدين بك صعدا بمراكبهما إلى قبلي المتاريس، فاحترق من مراكب أخيه مركب، وألقى مَن فيها بأنفسهم إلى البحر، فمنهم من نجا ومنهم من غرق. وأما مراكب حسن باشا فإنه ساعدها الريح أيضًا، فسارت إلى ناحية بني سويف، ثم إن المصريين عدى منهم طايفة إلى شرق أطفيح، وانتقل بواقيهم راجعين إلى ناحية الجيزة قريبًا من عرضي الباشا.

وفي ليلة الخميس تاسع عشره عدى الباشا إلى بر مصر وطلع إلى القلعة، فلما كان الليل وصل طايفة من المصريين إلى المرابطين لخفارة عرضي الباشا، واحتاطوا بهم وساقوهم إليهم فانزعج العرضي، وحصل فيهم غاغة، فأرسل طوسون باشا إلى أبيه، فركب ونزل من القلعة في سادس ساعة من الليل وعدى إلى البر الغربي.

ومما سمعته أن الباشا عندما نزل المعدية، وسار بها في البحر سمع واحدًا يقول لآخر: قدِّم حتى نقتل المصريين ونبدد شملهم، ويكرر ذلك، فأرسل الباشا مركبًا وأرسل بعض أتباعه بها لينظروا هذين الشخصين ولأي شي نزلا البحر في هذا الوقت، فلما ذهبوا إلى الجهة التي سُمع منها الصوت لم يجدوا أحدًا، وتفحصوا عنهما فلم يجدوهما، فاعتقد من له اعتقاد منهم أنهما من الأوليا وأن الباشا مساعد بأهل الباطن.

وفي عشرينه ظهر التفاشل بين الأمرا المصريين، وتبيَّن أن الذين كانوا عدوا إلى البر الشرقي هم تلاتة أمرا من الألفية، وهم: نعمان بك وأمين بك ويحيى بك؛ وذلك أنهم لما تصالحوا مع الباشا وأميرهم شاهين بك، وهو الريس المنظور إليه، ومطلق التصرف في معظم البر الغربي والفيوم يتحكم فيهم وفي طوايف العربان وأهالي البلاد والفلاحين بما يريد، وكذلك أموال المعادي بناحية الأخصاص وإنبابة والخبيري وغير ذلك، وهو شي له قدر كبير وزاد فيهم أيضًا أضعاف المعتاد، فيأخذ جميع ذلك ويختص به، وذلك خلاف إنعامات الباشا عليه بالمئين من الأكياس، ويشتري المماليك والجواري الحسان، ولا يدفع لهم ثمنًا فيشكون إلى الباشا، فيدفعه إلى اليسرجية من خزينته وهو منشرح الخاطر، وإخوانه يتأثرون لذلك وتأخذهم الغيرة ويطمعون في جانبه، وهو يقصِّر في حقهم ولا يعطيهم إلا النزر مع المن والتضجر، وفيهم من هو أقدم منه هجرة ويرى في نفسه أنه أحق بالتقدم منه.

ولما دنت وفاة أستاذهم، أحضر شاهين بك وسلمه خزينته وأوصاه بأن يعطي لكل أمير من خشداشينه سبعة آلاف مشخص، ولم يعطِهم وطفق كلما أعطاهم شيًّا حسبه عليهم من الوصية، حتى إذا أعطى اليلك والبنش لنعمان بك مثلًا، يعطيه له أنقص من بنش أمين بك نصف ذراع، ويقول: هو قصير القامة، ونحو ذلك فيحقدون ذلك عليه ويتشكون من خسته وتقصيره في حقهم، ويعلم الباشا ذلك، فلما نقض شاهين بك عهده وانضم إلى المخالفين وخشداشينه المذكورين معه بالتنافر القلبي، راسلهم الباشا سرًّا ووعدهم ومنَّاهم بأنهم إذا حضروا إليه وفارقوا شاهين بك الخاين المقصر في حقهم، أنزلهم منزلة شاهين بك وزيادة، واختص بهم اختصاصًا كبيرًا، فمالت نفوسهم لذلك القول واعتقدوا بخسافة عقولهم صحته، وأنهم إذا رجعوا إليه هذه المرة ونبذوا المخالفين اعتقد صداقتهم وخلوصهم وزاد قدرهم ومنزلتهم عنده، وتذكروا عند ذلك ما كانوا فيه مدة إقامتهم بمصر من التنعم والراحة في القصور التي عمروها بالجيزة والبيوت التي اتخذوها بداخل المدينة، والرفاهية والفُرش الوطية، وتحركت غلمتهم للنسا والسراري التي أنعم عليهم الباشا بها، وقالوا: ما لنا والغربة وتعب الجسم والخاطر والانزعاج والحروب والإلقا بنفوسنا في المهالك وعدم الراحة في النوم واليقظة.

فردوا الجواب بالإجابة وتمنوا عليه أيضًا ما حاك في نفوسهم بشرط طرح المؤاخذة، والعفو الكامل بواسطة من يعتمد صدقه، فأْجابهم لكل ما سألوه وتمنوه بواسطة مصطفى كاشف المورلي، وهو معدود سابقًا منهم، وانفصل عنهم وانتمى إلى كتخدا بك، وصار من أتباعه.

فعند ذلك شرعوا في مناكدة أخيهم شاهين بك ومفارقته وعقدوا معه مجلسًا، وقالوا له: قاسمنا في ربع المملكة التي خصونا به القسمة التي شرطوها فإننا شركاك، فإن إبراهيم بك قسم مع جماعته، وكذلك عثمان بك وعلي بك أيوب. فقال لهم: وما هو الذي ملكناه حتى أقاسمكم فيه؟ فقالوا: أنت تجحف علينا وتختص بالشي دوننا، فإنك لما اصطلحنا معك مع الباشا وصرفك في البر الغربي اختصيت بإيراده، وهو كذا وكذا دوننا، ولم تشركنا معك في شي، ولولا أن الباشا كان يرعينا ويواسينا من عنده لمتنا جوعًا، فنحن لا نرافقك ولا نصحبك ولا نحارب معك حتى تُظهر لنا ما نقاتل معك عليه، وتزايدوا معه في المكالمة والمعاتبة والمفاقمة، ثم انفصلوا عنه ونقلوا خيامهم إلى ناحية البحر، واعتزلوه وفارقوا عرضي الجميع.

فلما علم بذلك إبراهيم بك الكبير تنكد خاطره وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أي شي هذا الفشل وخسافة العقل والتفرق بعد الالتيام والاجتماع! وذهب إليهم ليصالحهم، ويضمن لهم كل ما طلبوه وطمعوا فيه عند تملكهم، وقال لهم: إن كنتم محتاجين في هذا الوقت لمصرف أنا أعطيكم من عندي عشرين ألف ريال اقسموها بينكم وعودوا لمضربكم معنا، فامتنعوا من صلحهم مع شاهين بك، فرجع إبراهيم بك يريد أخذ شاهين بك إليهم، فامتنع من ذهابه إليهم وقال: أنا لست محتاجًا إليهم وإن ذهبوا قلدت أُمرا خلافهم، وعندي من يصلح لذلك ويكون مطيعًا لي دونهم، فإن هولا يرون أنهم أحق مني بالرياسة.

والجماعة شرعوا في التعدية وانتقلوا إلى البر الشرقي وحال البحر بين الفريقين، ووصل إليهم مصطفى كاشف المورلي بمرسوم الباشا، واجتمعوا معه عند عبد الله أغا المقيم بناحية بني سويف، وضرب لهم شنكًا ومدافع، ثم إنهم عزموا على الحضور إلى مصر، فوصلوا في يوم الخميس خامس عشرينه، وقابلوا الباشا وخلع عليهم وأعطاهم تقادم ورجعوا إلى مضربهم ناحية الآثار، وصحبتهم ستة عشر من كشافهم، والجميع يزيدون عن المايتين، وأنعم عليهم الباشا بمايتي كيس، لكل كبير من الأربعة عشرون كيسًا، وماية وعشرون كيسًا لبقيتهم، واشتروا دورًا واسعة وشرعوا في تغييرها وزخرفتها على طرف الباشا، فاشترى أْمين بك دار عثمان كتخذا المنفوخ بدرب سعادة من عتقايه، ودفع له الباشا ثمنها، وأمر لكل أمير منهم بسبعة آلاف ريال؛ ليصرفها فيما يحتاج إليه في العمارة واللوازم وحوَّلهم بذلك على المعلم غالي.

ولما تحقق شاهين بك انفصالهم قلد أربعة من أتباعه إمرياتهم وأعطاهم بيرقًا وخيولًا، وضم لهم مماليك وطوايف، وتمت حيلة الباشا التي أحكمها بمكره، وعند ذلك أشيع في الإقليم القبلي والبحري تفرقهم وتفاشلهم، ورجع من كان عازمًا من القبايل والعربان عن الانضمام إليهم، وطلبوا الأمان من الباشا، وحضروا إليه ودخلوا في طاعته، وأنعم عليهم وكساهم.

وكانت أهالي البلاد عندما حصلت هذه الحادثة عصت عن دفع الفرض والمغارم، وطردوا المعينين وتعطل الحال، وخصوصًا عندما شاع غلبة المصريين على الأرنؤد، وتفرقت عنهم العربان الذين كانوا انضموا إليهم، وأطاع المخالف والعاصي والممانع، وكلها أسباب لبروز المقدور والمستور في غيبه — سبحانه وتعالى.

وفي أواخره حضر كثير من عسكر الدلاة من الجهة الشامية، وكذلك حضر أتراك من على ظهر البحر كثيرون.

واستهل شهر جمادى الثانية بيوم التلات (سنة ١٢٢٥)

في تالته يوم الخميس قلد الباشا ديوان أفندي نظر مهمات الحرمين، والتأهب لسفر الحجاز لمحاربة الوهابية، وسكن ببيت قصبة رضوان، كل ذلك مع توجه الهمة والاستعداد لمحاربة الأمرا المصريين، والمذكورين بناحية قنطرة اللاهون.

وأما حسن باشا وصالح قوج وعابدين بك ومن معهم، فإنهم صعدوا إلى قبلي وملكوا البنادر إلى حد جرجا، واستقر دبوس أوغلي بمنية ابن خصيب.

وفي يوم السبت خامسه ارتحل الباشا بعساكره من الجيزة وانتقل إلى جزيرة الذهب، ونودي في المدينة بخروج العساكر المقيمين بمصر ولا يتخلف منهم أحد، فزاد تعديهم وخطفهم الحمير والجِمال والرجال الفلاحين وغيرهم لتسخيرهم في خدمتهم، وفي المراكب عوضًا عن النوتية والملاحين الذين هربوا وتركوا سفاينهم، فكانوا يقبضون على كل من يصادفونه ويحبسونهم في الحواصل ببولاق.

واتفق أنهم حبسوا نحو ستين نفرًا في حاصل مظلم وأغلقوه عليهم، وتركوهم من غير أكل ولا شرب أيامًا حتى ماتوا عن آخرهم.

وانحدر قبطان بولاق وأعوانه في طلب المراكب من بحر النيل، فكانوا يقبضون على المراكب الواصلة إلى مصر بالغلال والبضايع والسفار، فيلقون شحنها التي لا حاجة لهم بها على شطوط الملق، ويأتون بالمراكب إلى بولاق والجيزة إلا أن يعطوهم براطيل على تركهم الغلة بالمركب حتى يصلوا بها إلى ساحل بولاق، فيخرجونها منها ثم يأخذون المركب، وهكذا كان دأبهم بطول هذه المدة.

وفي عاشره ارتحل الباشا من جزيرة الذهب يريد محاربة المصريين.

وفي منتصفه ورد الخبر بأن حسين بك تابع حسين بك المعروف بالوشاش الألفي أراد الهروب والمجي إلى الباشا، فقبض عليه شاهين بك وأهانه وسلب نعمته وكتَّفه وأركبه على جمل مغطَّى الرأس، وأرسله إلى الواحات فاحتال وهرب، وحضر إلى عرضي الباشا فأكرمه وأنعم عليه وأعطاه خمسين كيسًا واستمر عنده.

وفي خامس عشرينه وصلت الأخبار بأن الباشا ملك قناطر اللاهون، وأن المصريين ارتحلوا إلى ناحية البهنسا، ولم يقع بينهم كبير محاربة، وأن الباشا استولى على الفيوم، وأرسل الباشا هدايا لمن في سرايته ولكتخدا بك من ظرايف الفيوم، مثل ماء الورد والعنب والفاكهة وغير ذلك، واستولى على ما كان مودوعًا للمصريين من الغلال بالفيوم.

وفي أواخره وصلت أخبار من ناحية الشام بأن طايفة من الوهابية، جردوا جيشًا إلى تلك الجهة، فتوجه يوسف باشا إلى المزيريب وحصن قلعتها، واستعد إليهم بجيش وحاربوهم وطردوهم، ثم اضطربت الأخبار واختلفت الأقوال.

واستهل شهر رجب بيوم الخميس (سنة ١٢٢٥)

فيه وردت الأخبار بورود قزلار أغا من طرف الدولة، وعلى يده أوامر وخلعة وسيف وخنجر لمحمد علي باشا، وصحبته أيضًا مهمات وآلات مراكب ولوازم حروب لسفر البلاد الحجازية ومحاربة الوهابية، وهو يسمى عيسى أغا وأنه طلع إلى ثغر إسكندرية.

وفي يوم السبت عاشره الموافق لسادس مسرى القبطي أوفى النيل وحصلت الجمعية وحضر كتخدا بك والقاضي وباقي الأعيان، وكسر السد بحضرتهم في صبحها يوم الأحد وجرى الماء في الخليج.

وفيه وصل الأغا شبرا وعملوا له هناك شنكًا وحراقات وتعليقات قبالة القصر الذي أنشأه الباشا بساحل شبرا، وخرجوا لملاقاته في صبحها بعد تلات ليالٍ في يوم التلات تالت عشره، وعملوا له موكبًا عظيمًا وطلع إلى القلعة، وضربوا عند طلوعه إلى القلعة مدافع، وهذا الأغا أسمر اللون حبشي مخصي لطيف الذات متعاظم في نفسه قليل الكلام، وفي حال مروره كان بجانبه شخصان ينثران الذهب والفضة الإسلامبول على الناس المتفرجين، وحضر صحبته وصحبة أتباعه السكة الجديدة التس ضُربت بإسلامبول من الذهب والفضة، وهي دراهم فضة خالصة سالمة من أغش زنة الدرهم منها درهم وزني كامل، ستة عشر قيراطًا يصرف بخمسة وعشرين نصفًا من الأنصاف المعاملة العددية المستعملة في معاملة الناس الآن، وكذلك قطعة مضروبة وزن درهمين بالدرهم الوزني تصرف بخمسين، وكذلك قطعة مضروبة وزنها أربعة دراهم وتصرف بماية نصف، وقطعة وزنها تمانية دراهم وتصرف بمايتين، وكذلك ذهب فندقلي إسلامي يصرف بأربعماية نصف وأربعين نصفًا ونصفه وربعه.

وفي يوم الجمعة سادس عشره حضر الأغا المذكور إلى المسجد الحسيني، وصلى به الجمعة وخرج وهو يفرق على الفُقرا والمستجدين أرباع الفنادقة، وأعطى خَدمة الضريح وخَدمة المسجد قروشًا إسلامبولي في صُرَر، أقل ما في الصرة الواحدة عشرة قروش.

وفي يوم السبت سابع عشره عملوا ديوانًا بالقلعة، وأحضروا خلعة وصلت صحبة الأغا المذكور أرسلها صحبة خازنداره، وألبسوها لابن الباشا وجعلوه باش ميرميران، وابن الباشا المذكور ولد مراهق صغير يسمى إسماعيل، وضربوا شنكًا ومدافع.

وأشيع أنه وصلت مبشرون من الجهة القبلية بنصرة الباشا على المصريين، وأرسلوا بذلك أوراقًا للأعيان أخبروا فيها بنصرة الباشا على المصريين، وأرسلوا بذلك أوراقًا للأعيان أخبروا فيها بوقوع الحرب بين الفريقين ليلة السبت أو يوم السبت عاشر رجب.

وفي ليلة التالت عشرينه أرسلوا تنابيه إلى المشايخ بالحضور من الغد لأنفار عدوها، ويكون حضورهم بالمشهد الحسيني، فبات الناس في ارتياب وظنون وتخامين.

فلما أصبح اليوم حضر شيخ السادات وهو الناظر على أوقاف المشهد إلى قبة المدفن، وحضر الشيخ البكري، وأغلقوا باب القبة ومنعوا الناس من العبور بالمسجد متشوفين لثمرة هذا الاجتماع، وكل من حضر من الأشياخ المشاهير استأذنوا له وأدخلوه إلى القبة.

وحضر الشيخ الأمير والشيخ المهدي، وتأخر حضور الشيخ الشرقاوي؛ لكونه كان يبيت في بولاق، ثم حضر الأغا المذكور ودخل إلى القبة وصحبته ظرف من خشب، ففتحه وأخرج منه لوحًا طوله أزيد من ذراعين في عرض ذراع ونصف، مكتوب فيه البسملة بخط الثلث مموه بالدهب، وهي بخط يد السلطان محمود وتحتها طرة العلامة السلطانية، فعلقوه على مقصورة المقام وقروا الفاتحة، ودعا السيد محمد المنزلاوي خطيب المسجد بدعوات للسلطان، ولما فرغ دعا أيضًا السيد بدر الدين المقدسي، ثم خلع على المشايخ خلعًا وفرَّق دهبًا، ثم خرج الجميع وركبوا إلى دورهم، فكان هذا الجمع سُخْف لا غير.

وفي يوم الجمعة ركب الأغا المذكور، وذهب إلى ضريح السادات الوفائية بالقرافة صحبة الشيخ المتولي خليفتهم، فزار مقابرهم وعلق هناك لوحًا أيضًا وفرَّق دراهم وخلع على الشيخ المذكور خلعة.

ومن الحوادث البدعية من هذا القبيل أن عثمان أغا المتولي أغات مستحفظان سولت له نفسه عمارة مشهد الراس، وهو راس زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهم — ويُعرف هذا المشهد عند العامة بزين العابدين وبذلك اشتهر، ويقصدونه بالزيارة صبح يوم الأحد، فلما كانت الحوادث ومجي الفرنسيس أهملوا ذلك وتخرَّب المشهد وأهيلت عليه الأتربة، فاجتهد عثمان أغا المذكور في تعمير ذلك فعمره وزخرفه وبيَّضه، وعمل به سِتْرًا وتاجًا ليوضعا على المقام.

وأرسل فنادى على أهل الطرق الشيطانية المعروفين بالأشاير، وهم السوقة وأرباب الحرف المرذولة الذين ينسبون أنفسهم لأرباب الضرايح المشهورين كالأحمدية والرفاعية والقادرية والبرهامية ونحو ذلك، وأكد في حضورهم قبل الجمع بأيام.

ثم إنهم اجتمعوا في يوم الأحد خامس عشرينه بأنواع من الطبول والزمامير والبيارق والأعلام والشراميط والخرق الملوَّنة والمصبغة، ولهم أنواع من الصياح والنياح والجلبة والصراخ الهايل، حتى ملوا النواحي والأسواق، وانتظموا وساروا وهم يصيحون ويترددون ويتجاوبون بالصلوات والآيات التي يحرفونها، وأنواع التوسلات ومناداة أشياخهم أيضًا المنتسبين إليهم بأسماهم، كقولهم برفع الصوت وضرب الطبلات: ياهو ياهو يا جباوي ويا بدوي ويا دسوقي ويا بيومي.

ويصحبهم الكثير من الفُقها والمتعممين، والأغا المذكور راكب معهم، والستر المصنوع مُركب على أعواد وعليه العمامة مرفوعة بوسط الستر على خشب ومتحلقين حوله بالصياح والمقارع يمنعون أيدي الناس الذين يمدون أيديهم للتمسُّح والتبرُّك من الرجال والنسا والصبيان المتفرجين، ويرمون الخرق والطُّرَح حتى إنهم يرخونها من الطيقان بالحبال لتصل إلى ذلك التمثال لينالوا جزءًا من بركته.

ولم يزالوا سايرين به على هذا النمط والخلايق تزداد كثرة، حتى وصلوا إلى ذلك المشهد خارج البلدة بالقرب من كوم الجارح حيث المجراة، وصنع في ذلك اليوم والليلة أطعمة وأسمطة للمجتمعين، وباتوا على ذلك إلى تاني يوم.

وفيه بعث عيسى أغا الواصل نجيب أفندي إلى الباشا يخبره بحضوره وبالغرض الذي حضر من أجله ويستدعيه للمجي.

وفي يوم الجمعة غايته وردت أخبار بوقوع حرابة بين الباشا والمصريين، وقتل بين الفريقين مقتلة عظيمة عند دلجة والبدرمان، وكانت الغلبة للباشا على المصريين وأخذوا منهم أسرى، وحضر إلى الباشا جماعة من الأمرا الألفية بأمان وهرب الباقون، وصعدوا إلى قبلي فعملوا لذلك اليوم شنكًا ومدافع تلاتة أيام، كل يوم تلات مرات.

واستهل شهر شعبان بيوم السبت (سنة ١٢٢٥)

فيه حضر الباشا وقت الغروب في تطريدة وصحبته جماعة قليلون، وطلع من البحر من بر طرا والمعيصرة، وركب من هناك خيولًا من خيول العرب، وطلع إلى القلعة على حين غفلة، فضربوا في ذلك الوقت مدافع إعلامًا بحضوره.

وفي تاني ليلة صعد إليه عيسى أغا المذكور عند الغروب وقابله وسلَّم عليه.

وفي يوم الاتنين تالته عمل الباشا ديوانًا، وركب ذلك الأغا من بيت عثمان أغا الوكيل الكاين بدرب الجماميز في موكب وطلع إلى القلعة، وقرا المرسوم الذي وصل صحبته بالمعنى السابق، وهو الأمر بالخروج إلى الحجاز، ولبس الباشا الخلعة والسيف بحضرة الجمع، وضربوا مدافع كثيرة عقيب ذلك.

وفيه وردت الأخبار بمجي يوسف باشا والي الشام إلى ثغر دمياط، وكان من خبر وروده على هذه الصورة أنه لما ظهر أمره وأتته ولاية الشام فأقام العدل، وأبطل المظالم واستقامت أحواله وشاع أمر عدله النسبي في البلدان، فثقل أمره على غيره من الولاة وأهل الدولة لمخالفته طرايقهم، فقصدوا عزله وقتله فأرسلوا له ولوالي مصر أوامر بالخروج فحصل التواني.

وفي أثنا ذلك حضر فرقة من العربان الوهابيين، وخرج إليهم يوسف باشا المذكور وحصَّن المزيريب كما تقدم، ورجع إلى الشام وتفرقت الجموع، ثم وصل عيسى أغا هذا وعلى يده مراسيم بولاية سليمان باشا على الشام وعزل يوسف باشا، وأشاعوا ذلك وخرج سليمان باشا تابع الجزار من عكا في جمع، وخرج يوسف باشا بمجموعه أيضًا فتحاربا فانهزم يوسف باشا ونزل بالمزة، واستعجل الرجوع إلى الشام فقامت عليه عساكره ونهبوا متاعه، وخرج سليمان باشا تابع الجزار من عكا وتفرقوا عنه، فما وسعه إلا الفرار وترك ثقله وأمواله، ونزل في مركب ومعه نحو التلاتين نفرًا، وحضر إلى مصر ملتجيًا لواليها محمد علي باشا؛ لأن بينهما صداقة ومراسلات.

فلما وصلت الأخبار بوصوله أرسل إلى ملاقاته طاهر باشا، وحضر صحبته إلى مصر، وأنزله بمنزل مطل على بركة الأزبكية، وعيَّن له ما يكفيه وأرسل إليه هدايا وخيولًا وما يحتاج إليه.

وفي هذه الأيام اختل سد ترعة الفرعونية وانفتح منه شرم واندفع فيه الماء فضج الناس، وتعين لسدها ديوان أفندي، وأخذ معه مراكب وأحجارًا وأخشابًا وغاب يومين ثم رجع، واتسع الخرق واستمر عمر بك تابع الأشقر مقيمًا عليها لخفارتها؛ وليمنع مرور المراكب ويقوي ردمها؛ لئلا تنحرها المياه فيزداد اتساع الخرق.

وفي هذه الأيام توقفت زيادة النيل فكان يزيد من بعد الوفا قليلًا، ثم ينقص قليلًا، ثم يرجع النقص وهكذا، فأشار بالاجتماع للاستسقا بالأزهر، فتجمع القليل ثم تفرقوا، وذلك يوم التلات رابعه، وخرج النصارى الأقباط يستسقون أيضًا، واجتمعوا بالروضة وصحبتهم القساوسة والرهبان وهم راكبون الخيول والرهوانات والبغال والحمير في تجمل زايد، وصحبتهم طايفة من أتباع الباشا بالعصي المفضضة.

وعملوا في ذلك اليوم سيبانة وحانات وقهوات وأسمطة وسكردانات عند جميز العبد.

ويقولون: إن النيل لما توقفت زيادته في العام الذي قبل العام الماضي، وخرج الناس يستسقون بجامع عمرو وخرج النصارى في تاني يوم، فزاد النيل تلك الليلة، وذلك لا أصل له على أنه لا استغراب للزيادة في أوانها، وهذه الأيام أيضًا أواخر مسرى وأيام النسيء، وفيها قوة الزيادة وأيام النوروز.

وفي يوم السبت خرج المشايخ والناس إلى جامع عمرو بمصر القديمة، وأرسلوا تلك الليلة فجمعوا الأطفال من مصر وبولاق، فحضر الكثير وخطبوا وصلوا، وأضر بالمجتمعين الجوع في ذلك اليوم ولم يجدوا ما يأكلونه.

وفي تاني يوم نقص النيل واستمر ينقص في كل يوم.

وفي يوم الخميس تالت عشره حضرت العساكر والتجريدة إلى نواحي الآثار والبساتين، ودخلوا في صبيحة يوم الجمعة رابع عشره بطموشهم وحملاتهم حتى ضاقت بهم الأرض، وحضر صحبتهم الكثير من الأجناد المصرية وأسرى ومستأمنين.

وفيه حضر يوسف باشا المنفصل عن الشام ونزل بقصر شبرا، وضربوا لحضوره مدافع، ثم انتقل إلى الأزبكية وسكن هناك كما تقدم ذكره.

وفي خامس عشرينه زاد النيل ورجع ما كان انتقصه، وزاد على ذلك نحو قيراطين، وثبت إلى أواخر توت واطمأن الناس.

وفي غايته سافر عيسى أغا بعدما قبض ما أهداه إليه الباشا له ولمخدومه من الهدايا والأكياس والتحف والسكاكر والشرابات والأقمشة الهندية وغير ذلك، ونزل لتشييعه عثمان أغا الوكيل وسافر صحبته نجيب أفندي.

وفي أواخره سافر سليمان بك البواب لمصالحة الأمرا المنهزمين على يد حسن باشا.

واستهل شهر رمضان بيوم الأحد (سنة ١٢٢٥)

في سابع عشره قبض الباشا على المعلم غالي كبير المباشرين الأقباط والمعلم فلتيوس والمعلم جرجس الطويل والمعلم فرنسيس أخي المعلم غالي وباقي أعيان المباشرين، فأما غالي وفلتيوس فنزلوا بهما تلك الليلة إلى بولاق، وأنزلوهما في مركب ليسافرا إلى دمياط، وحبسوا الباقين بالقلعة وختموا على دورهم، ووجدوا عند المعلم غالي نيفًا وستين جارية بيضا وسودا وحبشية.

ثم قلدوا المباشرة إلى المعلم منصور ضريمون الذي كان معلم ديوان الجمرك ببولاق سابقًا، والمعلم بشارة ورزق الله الصباغ مشاركان معه، ثم أنزلوا النصارى المعتقلين من القلعة إلى بيت إبراهيم بك الدفتردار بالأزبكية، وفيهم جرجس الطويل وأخوه حنا وجريس وفرنسيس أخو غالي ويعقوب كاتبه وغيرهم، وأشاعوا عمل حسابهم، ثم دار الشغل، وسعت الساعون في المصالحة على غالي ورفقاه إلى أن تم الأمر على أربعة وعشرين ألف كيس، ونزل له فرمان الرِّضَى والخلع والبشاير، وذلك في آخر رمضان.

واستهل شهر شوال بيوم التلات (سنة ١٢٢٥)

فيه نزلت طبلخانة الباشا إلى بيت المعلم غالي، واستمروا يضربون النوبة التركية تلاتة أيام العيد ببيته، وكذلك الطبل الشامي وباقي الملاعيب، وترمى لهم الخلع والبقاشيش.

وفي سابعه حضر المعلم غالي وطلع إلى القلعة، وخلع عليه الباشا خلع الرِّضَى وألبسه فروة سمور وأنعم عليه ونزل له عن أربعة آلاف كيس من أصل الأربعة وعشرين ألف كيس المطلوبة في المصالحة، ونزل إلى داره وأمامه الجويشية والأتباع بالعصي المفضضة، وجلس بدكة داره وأقبل عليه الأعيان من المسلمين والنصارى للسلام عليه، والتهنية له بالقدوم المبارك، وأما المعلم منصور ضريمون، فجبروا خاطره بأن قيدوه بخدمة بيت إبراهيم بك ابن الباشا الدفتردار، وقيدوا رفيقيه في خدم أخرى.

وفي يوم الخميس عاشر شوال حضر شاهين بك الألفي ومن معه إلى مصر، ونصب وطاقه بناحية البساتين، وذلك بعد أن تمموا الصلح على يد حسن باشا بواسطة سليمان بك البواب، فلما استقر بخيامه وعرضيه ببر مصر حضر مع رفقاه وقابل الباشا وهو ببيت الأزبكية فبش في وجهه، فقال شاهين بك: نرجو سماح أفندينا وعفوه عما أذنبناه، فقال: نعم من قبل مجيكم بزمان، وهو مُصِر لهم على كل كريهة، وأخلى له بيت محمد كتخدا الأشقر بجوار طاهر باشا بالأزبكية وفرشوه ونظموه، ووعده برجوعه إلى الجيزة في مناصبه كما كان، حتى يتحول منها محرم بك صهر الباشا؛ لأنه عند انتقال شاهين بك من الجيزة، عَدَّى إليها محرم بك بحريمه وهي ابنة الباشا، وسكن القصر بعسكره.

وكذلك أسكن كبار أتباعه وخواصه القصور التي كان يسكنها الألفية، وكذلك البيوت والدور، فوعده بالرجوع إلى محله، وظن بخسافة عقله صحة ذلك، وحضر صحبة شاهين بك جملة من العسكر والدلاة وغيرهم، واستمرت حملاتهم وأمتعتهم تدخل إلى المدينة أرسالًا في عدة أيام.

وفي يوم الجمعة عمل الباشا ديوانًا بالأزبكية في بيت ابنه إبراهيم بك الدفتردار، واجتمع عنده المشايخ والوجاقلية وغيرهم، فتكلم الباشا وقال: يا أحبابنا، لا يخفاكم احتياجي إلى الأموال الكثيرة لنفقات العساكر والمصاريف والمهمات والإيراد لا يكفي ذلك، فلزم الحال لتقرير الفُرض على البلاد والأطيان، وقد أجحف ذلك بأهاليها حتى جلت وخربت القرى، وتعطلت المزارع وبارت الأطيان، ولا يمكنني رفع ذلك بالكلية، والقصد أن تدبروا لنا تدبيرًا وطريقًا لتحصيل المال من غير ضرر ولا إجحاف على أهل القرى، وتعود مصلحة التدبير عليهم وعلينا، فقال الجميع: الرأي لك، فقال: إني فوضت الرأي في تدبير الأمور السابقة لجماعة الكتبة، وهم الأفندية والأقباط، فوجدت الجميع خاينين، وإني دبرت رأيًا لا تدخله التهمة، وهو أن من المعلوم أن جميع الحصص لها سندات ومعين بها مقدار الميري والفايظ، فتقرر على كل حصة قدر ميريها وفايظها إما سنة أو سنتين، فلا يضر ذلك بالملتزمين ولا بالفلاحين.

فانتبذ أيوب كتخدا الفلاح، وهو كبير الاختيارية، وقال: لكن يا أفندينا يلزم إلى مساواة الناس، فإن حصص كثير من المشايخ مرفوع ما عليها من المغارم، ويرجع تتميم الغرامة على حصص الشركا، فحنق من كلامه الشيخ الشرقاوي، وقال له: أنت رجل سو، وثار عليه باقي المشايخ الحاضرين، وزاد فيهم الصياح، فقام الباشا من المجلس وتركهم وذهب بعيدًا عنهم، وهم يتزايدون ويتشاجرون، فأرسل إليهم الباشا الترجمان، وقال: إنكم شوشتم على الباشا وتكدر خاطره من صياحكم، فسكتوا وقاموا من المجلس وذهبوا إلى دورهم وهم منفعلون المزاج.

ولعل كلام أيوب كتخدا وافق غرض الباشا أو هو بإغراه.

ثم شرعوا في تحرير الدفاتر وتبديل الكيفيات، وكان في العزم أولًا أن يجعلها على ذمم الأطيان شارقًا وغارقًا، بما فيها من الأوسية التي للملتزمين والأرزاق ومسموح مشايخ البلاد، وذكر ذلك في المجلس، فقيل له: إن الأوسية معايش الملتزمين، والرزق قسمان: قسم داخل في زمام أطيان البلد ومحسوب في مساحة فلاحتها، وقسم خارج عن زمامها، والقسمان من الإرصادات على الخيرات، وعلى جهات البر والصدقة والمساجد والأسبلة والمكاتب والأحواض لسقي الدواب وغير ذلك، فيلزم منه إبطال هذه الخيرات وتعطيلها، فقال الباشا: إن المساجد غالبها متخرب ومتهدم، فقالوا له: عليك بالفحص والتفتيش وإلزام المتولي على المسجد بعمارته، إذا كان إيراده رايجًا إلى آخر ما قيل.

وفي يوم الاتنين حادي عشرينه قتلوا شخصًا من الأجناد الألفية، وقطعوا راسه بباب الخرق بسبب أنه قتل زوجته من غير جرم يوجب قتلها.

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربع (سنة ١٢٢٥)

في تانيه سافر الباشا إلى ثغر إسكندرية ليكشف على عمارة الأبراج والأسوار، ويبيع الغلال التي جمعها من البلاد في الفرض التي فرضت عليهم، وكذلك ما أحضره من البلاد القبلية، فجمعوا المراكب وشحنوها بالغلال وأرسلها إلى إسكندرية؛ ليبيعها على الإفرنج فباع عليهم أزيد من مايتي ألف أردب، كل أردب بماية قرش، وسعرها بمصر تمانية عشر قرشًا، وهو لم يشترِها ولم تكن عليه بمال، بل أخذها من زراعات الفلاحين من أصل ما فرضه عليهم من الظلم مع تطفيف الكيل عليهم، وإلزامهم بكلفة شَيْله وأجرة نقله إلى المحل الذي يلزمونهم بوضعه فيه، وأخذ من الإفرنج في ثمنه أصناف النقود من الدهب المشخص البندقي والمجر والفرانسة، وعروض البضايع من الجوخ المتنوعة والدودة التي يقال لها القرمز والقزدير، وأصناف البضايع الإفرنكية، وأحدث وهو بإسكندرية أحداثًا ومكوسًا.

واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الأحد (سنة ١٢٢٥)

في تاني عشرينه حضر الباشا من إسكندرية إلى مصر، وذلك يوم الجمعة أواخر النهار، وحضر في العشية إلى بيت الأزبكية وبات عند حريمه، وطلع في صبح يوم السبت إلى القلعة وضربوا مدافع كثيرة لحضوره؛ وبذلك علم الناس حضوره. وانقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها، إذ لا يمكن استيفاها للتباعد عن مباشرة الأمور، وعدم تحققها على الصحة، وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواية، فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار، وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف، وربما أخرت قيد حادثة حتى أثبتها ويحدث غيرها وأنساها، فأكتبها في طيارة حتى أقيدها في محلها — إن شاء الله تعالى — عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشويش البال وتكدر الحال، وهم العيال وكثرة الاشتغال، وضعف البدن وضيق العطن.

ومن حوادثها أحداث عدة مكوس زيادة على ما أحدث على الأرز والكتان والحرير والحطب والملح، وغير ذلك مما لم يصل إلينا خبره، حتى غلت أسعارها إلى الغاية وكان سعر الدرهم الحرير نصفين، فصار بخمسة عشر نصفًا، وكنا نشتري القنطار من الحطب الرومي في أوانه بتلاتين نصفًا وفي غير أوانه بأربعين نصفًا، فصار بتلتماية نصف، وكان الملح يأتي من أرضه بثمن القفاف التي يوضع فيها لا غير، ويبيعه الذين ينقلونه إلى ساحل بولاق الأردب بعشرين نصفًا وأردبه تلاتة أرادب، ويشتريه المتسبب بمصر بذلك السعر؛ لأن أردبه أردبان ويبيعه أيضًا بذلك السعر، ولكن أردبه واحد فالتفاوت في الكيل لا في السعر، فلما احتكر صار الكيل لا يتفاوت، وسعره الآن أربعماية وخمسون نصفًا، والتزم به من التزم وأوقف رجاله في مواردة البحرية لمنع من يأخذ منه شيًّا من المراكب المارة بالسعر الرخيص من أربابه، ويذهب به إلى قبلي أو نحو ذلك.

ومنها — وهي من الحوادث الغريبة — أنه ظهر بالتل الكاين خارج راس الصوَّة المعروفة الآن بالحطابة قُبالة الباب المعروف بباب الوزير في وَهْدة بين التلول نار كامنة بداخل الأتربة، واشتُهر أمرها وشاع ذكرها وزاد ظهورها في أواخر هذه السنة، فيظهر من خلال التراب ثُقب، ويخرج منها الدخان بروايح مختلفة كرايحة الخِرق البالية وغير ذلك.

وكثر ترداد الناس للاطلاع عليها أفواجًا أفواجًا نسا ورجال وأطفال، فيمشون عليها ويجدون حرارتها تحت أرجلهم، فيحفرون قليلًا فتظهر النار مثل نار الدِّمس، فيقربون منها الخرق والحلفا ونحو ذلك فتدق فيها النار وتورى ويصعد منها الدخان، وإن غَوَّصوا فيها خشبة أو قصبة احترقت.

ولما شاع ذلك وأخبروا بها كتخدا بك نزل إليها بجمع من أكابره وأتباعه وغيرهم، وشاهد ذلك فأمروا إلى الشرطة بصب الماء عليها، وإهالة الأتربة من أعالي التل فوقها، ففعلوا ذلك وأحضروا السقايين، وصبوا عليها بالقرب ماءً كثيرًا وأهالوا عليها الأتربة.

وبعد يومين صارت الناس المتجمعة والأطفال يحفرون تحت ذلك الماء المصبوب قليلًا، فتظهر النار ويظهر دخانها، فيقربون منها الخرق والحلفا واليدكات فتورى وتدخن، واستمر الناس يَغدون ويروحون للفُرجة عليها نحو شهرين، وشاهدت ذلك في جملتهم ثم بطل ذلك.

ومنها أنه نودي أواخر السنة على صرف المحبوب بزيادة صرفه تلاتين نصفًا، وكان يصرف بمايتين وخمسين من زيادات الناس في معاملاتهم، فكانوا ينادون بالنقص ورجوعها إلى ما كان قبل الزيادة ويعاقبون على التزايد.

وفي هذه الأيام نودي بالزيادة، وذلك بحسب الأغراض والمقاصد والمقتضيات ومراعاة مصالح أنفسهم لا المصلحة العامة، هذا مع نقص عياره ووزنه عما كان عليه قبل المناداة، وكذلك نقصوا وزن القروش وجعلوا القرش على النصف من القرش الأول ووزنه درهمين، وكان أربعة دراهم، وفي الدرهمين ربع درهم فضة، هذا مع عدم الفضة العددية ووجودها بأيدي الناس والصيارف.

وإذا أراد إنسان صرف قرش واحد من غيره صَرَفه بنقص ربع العشر، وأخذ بدله قطعًا صغارًا إفرنجية يصرف منها الواحدة باثني عشر وأخرى بعشرة وأخرى بخمسة، ولكنها جيدة العيار.

وهم الآن يجمعونها ويضربونها بما يزاد عليها من النحاس، وهو تلاتة أرباعها قروشًا؛ لأن القطعة الصغيرة التي تصرف بخمسة أنصاف وزنها درهم واحد وَزْني، فيصيرونها أربعة قروش فتضاعف الخمسة إلى تمانين، وكل ذلك نقص واختلاس أموال الناس من حيث لا يشعرون.

أما من مات في هذه السنة ممن له ذكر

فمات الفقيه الفريد والعلامة المفيد الشيخ علي الحصاوي الشافعي ولا أعلم له ترجمة، وإنما رأيته يقرر الدروس ويفيد الطلبة في الفقه والمعقول، ويشهد الفُضلا بفضله ورسوخه، وكان على طريقة المتقدمين في الانقطاع للإفادة وعدم الرفاهية والرِّضَى بما قُسم له منعكفًا في حاله، وتمرض بالبرودة ولم ينقطع عن ملازمة الدروس، حتى تُوُفِّيَ في منتصف جمادى الثانية من السنة، وصُلي عليه بالأزهر ودُفن في تربة المجاورين بالصحرا.

ومات المعلم جرجس الجوهري القبطي كبير المباشرين بالديار المصرية، وهو أخو المعلم إبراهيم الجوهري، ولما مات أخوه في زمن رياسة الأمرا المصرية تعين مكانه في الرياسة على المباشرين والكتبة، وبيده حل الأمور وربطُها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة وافر الحرمة، وتقدم في أيام الفرنسيس فكان ريس الريسا، وكذلك عند مجي الوزير والعتمانيين، وقدموه وأجلسوه لما يسديه إليهم من الهدايا والرغايب، حتى كانوا يسمونه جرجس أفندي، ورأيته يجلس بجانب محمد باشا خسرو وبجانب شريف أفندي الدفتردار، ويشرب بحضرتهم الدخان وغيره، ويراعون جانبه ويشاورونه في الأمور.

وكان عظيم النفس ويعطي العطايا ويفرق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي والبن، ويعطي ويهب وبنى عدة بيوت بحارة الونديك والأزبكية، وأنشأ دارًا كبيرة، وهي التي يسكنها الدفتردار الآن، ويعمل فيها الباشا وابنه الدواوين عند قنطرة الدكة، وكان يقف على أبوابه الحجاب والخدم.

ولم يزل على حالته حتى ظهر المعلم غالي وتداخل في هذا الباشا، وفتح له الأبواب لأخذ الأموال والمترجم يدافع في ذلك، وإذا طلب الباشا طلبًا واسعًا من المعلم جرجس يقول له: هذا لا يتيسر تحصيله، فيأتي المعلم غالي فيسهل له الأمور ويفتح له أبواب التحصيل، فضاق خناق المترجم وخاف على نفسه فهرب إلى قبلي، ثم حضر بأمان كما تقدم، وانحط قدره ولازمته الأمراض حتى مات في أواخر شعبان وانقضى، وخلا الجو للمعلم غالي وتعين بالتقدم، ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية، وكل شي له بداية وله نهاية، والله أعلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤