جزيرة كورتِز

كنت عروسًا صغيرة. حينما تزوجت كنتُ في العشرين من عمري، طولي خمسة أقدام وسبع بوصات، ووزني يتراوح بين المائة والخمسة والثلاثين والمائة والأربعين رطلًا، لكن البعض، مثل زوجة رئيس تشيس في العمل، وسكرتيرة مكتبه الأكبر سنًّا، والسيدة جوري التي تسكن في الطابق العلوي، كن يطلقن عليَّ لقب العروس الصغيرة؛ وأحيانًا عروسنا الصغيرة. وكنت أنا وتشيس نتندَّر على هذا الموضوع، إلا أن رد فعله لهم كان يظهر في نظرة افتتان واعتزاز، أما رد فعلي فكان في ابتسامة حييَّة مستسلمة.

كنا نعيش في فانكوفر في قبو أحد المنازل؛ أسفل الدور الأرضي. لم يكن المنزل ملكًا لآل جوري — كما ظننت في البداية — وإنما كان ملكًا لراي ابن السيدة جوري، وكان يأتي أحيانًا إلى القبو لتصليح بعض الأشياء. فيدخل من باب القبو تمامًا كما ندخل أنا وتشيس. كان نحيلًا، ليس عريض الصدر، ربما في العقد الرابع من عمره، وكان دائمًا يحمل صندوق أدوات ويعتمر قبعات العمال. وكان منحني الظهر دومًا؛ ربما بسبب الانحناء معظم أوقاته، بينما يزاول أعمال السباكة والكهرباء والنجارة. أما وجهه فكان شاحبًا، وكان كثير السعال، وكانت كل سعلة تصدر منه تعبيرًا مستقلًّا متحفظًا يدل على شعوره بأن وجوده في القبو تطفُّل لا بد منه. غير أنه لم يعتذر عن دخوله المكان، لكنه أيضًا لم يتجوَّل في الأرجاء وكأنه صاحبه. لم أتكلم معه قط إلا حين يطرق بابي كي يبلغني أن الماء أو الكهرباء سوف تنقطع بعض الوقت. أما إيجار السكن، فكان يُدفع نقدًا كل شهر للسيدة جوري. ولا أدري ما إذا كانت تسلمه المبلغ كاملًا أم تقتطع جزءًا منه لنفسها لتستعين به على نفقاتها؛ فما كان لها والسيد جوري من مصدر دخل سوى معاش الزوج. أما هي فلم يكن لها معاش؛ لأنها — كما أخبرتني — لم تبلغ السن التي تستحق بها المعاش بعدُ.

كانت السيدة جوري دائمًا ما تنادي راي من أعلى — وهو يعمل في القبو — لتسأل عن أحواله وما إذا كان يرغب في احتساء فنجان من الشاي. وعادةً يرد بأنه على ما يرام ولا وقت لديه لاحتساء الشاي، فأسمعها تقول إنه يكدح في عمله، مثلها تمامًا. وكانت تتلمَّس الحيل كي يتناول المزيد من الحلوى التي تعدُّها بنفسها؛ من حلوى محفوظة أو كعك صغير أو خبز زنجبيل، وهي نفس الحلوى التي كانت تلحُّ عليَّ أن أتناولها. وكان هو يرفض قائلًا إنه قد أكل لتوِّه، أو إن لديه الكثير من الطعام في البيت، وكنت مثله أقاوم إلحاحها هذا، مع أنني كنت أرضخ في محاولتها السابعة أو ربما الثامنة. كنت أتحرَّج أن أواصل رفضي أمام تعبيرات وجهها الملحة المداهنة، وقسماتها التي تبدو عليها خيبة الأمل. وكم أعجبتني الطريقة التي يصر بها راي على رفضه؛ فهو حتى لا يقول: «لا يا أمي»، وإنما يكتفي فقط بقول «لا».

غير أنها ما كانت تستسلم؛ فتحاول أن تفتح أي مجال للحوار.

«إذن ما الجديد في حياتك؟»

فيكون رده: لا جديد، لا أدري. لم يكن فظًّا أو سريع الغضب قط، ولكنه لم يعطِها أي فرصة؛ فدائمًا صحته جيدة، ونزلة البرد التي يعانيها تحسنت، والسيدة كورنش وأيرين على ما يرام.

السيدة كورنش هي المرأة التي يعيش راي في بيتها؛ في حي ما شرق فانكوفر. كان راي دائم الانشغال بأعمال في بيت السيدة كورنش وأخرى في هذا البيت؛ ولذا لزم عليه سرعة الرحيل فور أن ينهي عمله هنا. وكان دائمًا يساعد السيدة كورنش في العناية بابنتها أيرين التي كانت حبيسة كرسي متحرك بسبب إصابتها بشلل دماغي؛ ولذا تقول السيدة جوري عندما يخبرها راي أن أيرين بخير حال: «يا للمسكينة!» واعتادت أمُّه ألا تنتقده وجهًا لوجه بسبب الوقت الذي يمضيه مع تلك الفتاة التعسة وتنزُّهه معها في ستانلي بارك، أو خروجه معها مساءً لشراء الآيس كريم (كانت تعلم هذه الأمور؛ لأنها أحيانًا تتحدث مع السيدة كورنش عبر الهاتف)، لكنها كانت تقول لي: «لا أستطيع التوقف عن التفكير في مظهرها والآيس كريم يسيل على وجهها. لا أستطيع التوقف عن تخيُّله؛ فلا بد أن الناس لا يكفُّون عن التحديق فيهما بلا شفقة.»

قالت لي إنها حين ترافق السيد جوري إلى الخارج على كرسيه المتحرك (والسبب في شلله سكتة دماغية)، ينظر إليهما الناس، لكن الأمر يختلف مع أيرين؛ لأن زوجها حين يكون بالخارج لا تصدر عنه حركة أو صوت، وكانت هي دائمة الحرص على أن يكون مظهره لائقًا. أما أيرين فتجلس بجسد متراخٍ، مكرِّرةً كلمات غير مفهومة؛ تلك المسكينة ما بيدها حيلة.

أخبرتني السيدة جوري أن السيدة كورنش ربما تفكر في أمر ما، فمن سيرعى تلك الفتاة المعاقة عندما ترحل هي عن هذه الحياة؟

«لا بد أن يُسَنَّ قانون يحظر على الأصحاء الزواج من مثل هؤلاء الناس، لكن حتى الآن لا يوجد مثل هذا القانون.»

طلبت إليَّ السيدة جوري أن أصعد إلى شقتها لارتشاف القهوة، لكنني لم أحبذ قط زيارتها لانشغالي بحياتي الخاصة في القبو. أحيانًا كنت أتظاهر بأنني خارج المنزل حين تطرق بابي، ولأجل هذا كان يتعيَّن عليَّ أن أطفئ الأنوار وأوصد الباب بمجرد أن أسمعها وهي تفتح بابها، وكذلك أبقى ساكنة بينما تنقر هي بأظافرها على بابي مناديةً اسمي بصوتها العالي. كذلك فإنني أضطر أن أظل هادئة ساعة على الأقل بعد أن تصعد شقتها، وأمتنع عن غمر المرحاض. وحتى حين أتحجَّج لها بأن لا وقت لدي، فهناك أمور أريد أن أنجزها، تضحك قائلة: «أي أمور تلك؟»

فأقول: «خطابات أريد أن أكتبها.»

فتقول لي: «دائمًا تكتبين الخطابات، لا بد أنك مشتاقة إلى وطنك.»

كان حاجباها ذوي لون زهري يقارب لون شعرها الأحمر المائل للوردي. كنت أظن أن لون شعرها لا يمكن أن يكون طبيعيًّا، لكن أنَّى لها أن تصبغ حاجبيها؟ وكان وجهها نحيلًا متوردًا ينبض بالحياة، وأسنانها كبيرة ومتلألئة. أما ميلها الفطري للود والصحبة، فما كان ليتزعزع مهما كانت المقاومة. ففي صبيحة اليوم الأول الذي أحضرني فيه تشيس إلى الشقة بعد أن استقبلني في محطة القطار، وجدتها تطرق بابي وفي يدها طبق من الكعك وعلى وجهها ابتسامة خدَّاعة. لم أكن قد خلعت قبعتي بعد، وكان تشيس يفك حزام وسطي. كان الكعك جافًّا وصلبًا ومغطًّى بكريمة ذات لون وردي برَّاق، احتفالًا بعُرسي. اقتضب تشيس حديثه معها؛ إذ كان عليه العودة إلى عمله خلال نصف ساعة، لكنه حين تخلَّص منها وجد أن الوقت قد انقضى ولن يستطيع أن يكمل ما بدأه، فاكتفى بأن يأكل الكعك واحدةً تلو الأخرى، متذمرًا من مذاقها الذي يشبه مذاق نشارة الخشب.

قالت لي ذات مرة: «زوجك ذو شخصية جادة جدًّا، وهذا يضحكني؛ فهو دومًا ينظر إليَّ بتلك النظرة الجادة في رواحه وغدوِّه؛ أود نصحه بأن يهوِّن على نفسه، فهو لا يحمل الدنيا على عاتقه.»

أحيانًا كنت أضطر أن أتبعها إلى الطابق العلوي بعد أن تنتزعني من الكتاب الذي أقرؤه أو الفقرة التي أكتبها، فنجلس في غرفة الطعام على المائدة التي كانت تزيِّنها بمفرش من الدانتيل، وتضع عليها مرآة ثُمانيَّة الأضلاع تعكس تحفة من السيراميك على شكل بجعة. وكنا نرتشف القهوة من فناجين خزفية، ونأكل (المزيد من الكعك، أو تورتة الزبيب، أو الحلوى الدسمة) في أطباق صغيرة تحمل ذات النقوش، ونمسح شفاهنا بمناديل قماشية صغيرة مطرزة لنزيل عنها آثار الكعك. كنت أجلس أمام خزانة الأواني الخزفية التي تتراصُّ فيها الكئوس الفاخرة، ومجموعات أواني اللبن والسكر، والملح والفلفل، وكانت كلها أنيقة وبارعة بطريقة لا تسمح باستخدامها يوميًّا الاستخدام العادي. وكذلك المزهريات الطويلة الضيقة من أعلى، وإبريق شاي على شكل كوخ مسقَّف بالقش، وشمعدانات على أشكال زهور السوسن. وكانت السيدة جوري تفتح خزانة الأواني الخزفية مرة كل شهر وتغسل كل ما فيها. هي من أخبرتني بهذا؛ أخبرتني أيضًا عن أمور تتعلق بمستقبلي، عن المنزل الذي سأعيش فيه — حسب ظنها — وعن المستقبل الذي ينتظرني، وكلما تكلَّمت، يزداد شعوري بأثقال حديدية تجثم على أوصالي، وأحتاج إلى التثاؤب مرارًا وتكرارًا في منتصف الفترة الصباحية، وأشعر برغبة ملحَّة في أن أزحف لمكان قصي لأختبئ وأنام، لكنني كنت أحرص على أن أُبدي لها إعجابي بكل شيء؛ من محتويات خزانة الأواني الخزفية، إلى نظام تدبير المنزل الذي تتبعه في حياتها، إلى تناسق ملابسها كل صباح؛ كالتنورات والسترات بدرجات ألوانها البنفسجية والحمراء، والأوشحة المتناسقة معها المصنوعة من الحرير الصناعي.

قالت لي ذات يوم بعد أن رأتني أكثر من مرة مرتديةً الروب: «احرصي على أن ترتدي ثيابك ما إن تستيقظي من النوم، كأنك ستخرجين للعمل، وكذلك صفِّفي شعرك وضعي زينة وجهك. وإذا ما أردتِ أن تقومي بأعمال المنزل من غسيل أو خبز، فيمكنك ارتداء مئزرٍ فوق ثيابك. إن هذا سيحسِّن حالتك المعنوية جدًّا.»

كانت السيدة جوري تخبز الكعك والحلوى دومًا تحسبًا لأي زائر يطرق بابها (وعلى حد علمي لم يَزُرها أحد سواي، ولا يمكن القول بأني كنت أطرق بابها)، ولم تكن قط تقدِّم القهوة في أكواب فخارية.

لم تتكلم بفظاظة وإنما كانت دومًا تبدأ جملها بكلمات رقيقة مثل: «دائمًا ما …» أو «أحب دائمًا أن …» أو «أعتقد أنه من الأفضل أن …»

«حتى حين كنت أعيش في البرية، كنت دائمًا أحب أن …» وهنا تراجعت رغبتي في التثاؤب أو الصراخ. أين تلك البرية التي كانت تعيش فيها؟ ومتى؟

قالت: «على مسافة من الشاطئ، كنت حينها عروسًا أيضًا. عشت هناك سنوات في مدينة يونيون باي، التي لم تكن الطبيعة فيها شديدة البرية. عشت في جزيرة كورتِز.»

سألتها أين يقع هذا المكان؟ فقالت: «بعيد للغاية.»

قلت: «لا بد أن الحياة هناك مشوقة.»

قالت: «مشوقة. إنها كذلك إذا كنتِ ترَيْن الدببة مشوقة، إذا كنتِ ترين أسود الجبال مشوقة. عن نفسي أفضِّل الحياة الحضرية.»

كان هناك باب جرَّار من خشب البلوط يفصل غرفة الطعام عن غرفة المعيشة، وكان دائمًا ما يُفتح قليلًا كي تتمكن السيدة جوري من أن تُبقي عينيها على السيد جوري الجالس على مقعده الريكلاينر أمام نافذة غرفة المعيشة، وهي تجلس على الكرسي في نهاية المائدة. كانت تتحدث عنه قائلة: «زوجي القعيد على الكرسي المتحرك»، لكنه في الحقيقة لم يجلس على الكرسي المتحرك إلا حين تصطحبه إلى الخارج للتنزه. لم يكن لديهما جهاز تليفزيون؛ حيث إنه، وقتها، كان من الصيحات الحديثة. وكان السيد جوري يجلس ليشاهد الطريق ومنتزه كيتسيلانو الذي يقع على الجانب الآخر من الشارع ويقع خلفه خليج بورَّارد. وكان يذهب بمفرده إلى دورة المياه متكئًا على عصاه بإحدى يديه، وممسكًا باليد الأخرى ظهور الكراسي أو متخبطًا بالجدران. وفي الداخل كان يتدبر أموره بمفرده وإن كان قضاء حاجته يستغرق منه وقتًا طويلًا، وقالت لي السيدة جوري إنها أحيانًا تنظِّف الأرضية بعض الشيء بعد أن يخرج.

عادةً ما كنت لأرى من السيد جوري سوى ساقه الممتدة في بنطاله على مقعده الريكلاينر الأخضر الفاتح، لكنني رأيته مرة أو مرتين وهو يترنح بصعوبة بالغة ليصل إلى دورة المياه. كان رجلًا ضخمًا ذا رأس كبير وكتفَيْن عريضَتَيْن وعظام عريضة.

لكني لم أنظر إلى وجهه؛ فأولئك الذين تتسبب السكتات الدماغية أو الأمراض في إعاقة حركتهم أراهم نذير شؤم، أو رسائل تذكيرية قاسية. لم يكن ما أتجنب رؤيته هو شكل أطرافهم المعطلة أو أيًّا من علامات الإعاقة الجسدية الدالة على حظِّهم العاثر، وإنما أعينهم.

لا أظن أنه قد نظر إليَّ، مع أن السيدة جوري نادته لتخبره أنني حضرت من شقتي في القبو لزيارتهم، فصدرت عنه زمجرة ربما كانت أفضل ما بوسعه القيام به كتحية أو تذمُّر.

•••

كانت شقتنا مكونة من غرفتين كبيرتين وحجرة صغيرة للمهجع، وكنا قد استأجرناها مؤثثة، لكن الشقق في مثل هذه المناطق لم تكن مؤثثة بالمعنى المتعارف عليه؛ إذ اشتملت شقتنا على أثاث بالٍ. فأنا أتذكر أرضية غرفة المعيشة التي كانت مغطاة ببواقي مشمع جاء تصميمه على هيئة مربعات ومستطيلات؛ فاجتمعت فيه كل الألوان والتصميمات المختلفة والتحمت معًا فبدت أشبه بلحاف عجيب به شرائط لامعة. وكذلك الموقد الذي يعمل بالغاز الطبيعي كان باليًا؛ كان يُلقم العداد الملحق به بعملات معدنية حتى نستطيع تشغيله. أما الفراش، فكان في فجوة في الجدار المقابل للمطبخ، وكان موضوعًا بإحكام داخل الجدار، لدرجة أننا كنا نقفز إليه من موضع الأقدام لننام. وقد قرأ تشيس ذات مرة أن تلك الطريقة هي التي كانت تصعد بها فتيات الحريم إلى فراش السلطان، ليمسِّدن قدميه في البداية، ثم يتقدمن ببطء لأعلى للعناية بسائر أجزاء جسمه؛ ولذا كنا نلعب هذه اللعبة أحيانًا.

دومًا ما كنا نسدل الستار على الفراش عند موضع الأقدام، حتى نفصله عن المطبخ. وفي واقع الأمر، كان الستار مفرش سرير قديمًا من نسيج غير متماسك له أهداب، لونه بيج ضارب إلى الصفرة من أحد الجانبين، ويعلوه تطريز لورود حمراء وأوراق شجر خضراء. أما الجانب الآخر المقابل للفراش فكان مزينًا بشرائط حمراء وخضراء، وزهور ونقوش لأوراق شجر تبدو كأشباح على الخلفية البيج. ذاك الستار هو أكثر ما أتذكَّره في الشقة بوضوح، ولا عجب في ذلك. فقد كان يتمدَّد أمام ناظريَّ في فورة الجنس وخلال ما يعقبه من شعور بالإشباع، وأصبح يذكِّرني بما أحببته في الزواج؛ بالجائزة التي عانيت من أجلها مهانة كوني العروس الصغيرة، وتحمَّلت الرهبة المرتبطة على نحو عجيب بخزانة الأواني الخزفية.

نشأت أنا وتشيس في بيوت ترى الجنس خارج إطار الزواج مقززًا ولا يمكن التسامح معه، أما الجنس في إطار الزواج فلم يكن يُذكر البتة وسرعان ما كان يذهب طي النسيان. كنا على وشك النظر إلى الأمور بالطريقة نفسها، لكننا لم نكن نعرف ذلك؛ فعندما وجدت والدة تشيس واقيات ذكرية في حقيبته، هرعت إلى أبيه باكية (وقد قال تشيس إنها وُزعت عليه عندما كان في المعسكر يؤدي التدريب العسكري الذي أرسلته إليه الجامعة — وكان هذا حقيقيًّا — وأنه قد نسي وجودها في الحقيبة، وهو ما كان كذبًا)؛ لذا فقد كان امتلاكنا لمكان خاص وفراش خاص نستطيع أن نمارس فيه الجنس كما يحلو لنا أمرًا بديعًا. وكانت صفقة رابحة عقدناها، لكننا لم يخطر ببالنا قط أن من يكبروننا سنًّا — آباءنا وأعمامنا وأخوالنا وعماتنا وخالاتنا — قد أقبلوا على الصفقة ذاتها تلبيةً لرغباتهم الجنسية. فقد بدا لنا أن حاجتهم الأساسية كانت للمنازل والممتلكات وماكينات جزِّ الأعشاب والمجمدات والجدران الساندة للمنشآت. وبالطبع، بالنسبة إلى النساء، كن يملن نحو إنجاب الأطفال. كانت كل هذه الرغبات هي ما فكَّرنا في اختيارها أو عدم اختيارها في المستقبل، ولم نفكر قط أنها ستداهمنا لا محالة كالعمر أو الطقس مثلًا.

والآن حين أفكر في الأمر بصدق مع نفسي أجد أنها لم تفعل؛ فلم يحدث أن داهمنا شيء دون أن نختاره؛ حتى الحمل كذلك؛ إذ خضنا مخاطرته لسبب واحد؛ أن نتأكد أننا نضجنا بالفعل، ونرى إذا ما كان الحمل ممكن الحدوث.

الأمر الآخر الذي كنت أفعله خلف هذا الستار هو القراءة؛ كنت أقرأ الكتب التي أحضرها من مكتبة كيتسيلانو التي تبعد عنا مسافة بضعة مربعات سكنية. وعندما كنت أُبعد ببصري عن الكتاب وأنا في حالة من الإثارة الممزوجة بالدهشة التي تكسبني إياها القراءة — حالة الانتشاء التي أقع تحت تأثيرها بعد أن أقتني من الكتب الغالي والنفيس — تقع عيناي على شرائط الستار. وخلال هذا، تمتزج الشخصيات والقصة بل وكذلك روح الكتاب مع الزهور المطرَّزة، وتتدفق مع تيار النبيذ الأحمر الغامق، ممثلًا في شرائط الستار، أو الأوراق الخضراء الداكنة. قرأت الكتب الكبيرة التي كانت عناوينها مألوفة بالنسبة إليَّ على نحو سلبني عقلي — بل إنني حاولت قراءة رواية «الخطيبان» — وقرأت فيما بينها أيضًا روايات ألدوس هكسلي وهنري جرين، وروايات «إلى الفنار» و«نهاية شيري» و«موت القلب». كنت أستزيد من هذه الكتب، واحدًا تلو الآخر، دون أن أفضِّل هذا على ذاك، فأسلم نفسي لكلٍّ في دوره، تمامًا كما كنت أقرأ الكتب في طفولتي. وخلف الستار، كنت لا أزال في تلك المرحلة من الاشتهاء المتزايد، والنهم الأقرب إلى الألم.

لكن طرأ عليَّ تغيير منذ طفولتي زاد الأمر تعقيدًا؛ إذ بدا من الضروري أن أصير كاتبة إلى جانب كوني قارئة، فابتعت دفترًا مدرسيًّا وحاولت الكتابة؛ وكتبت بالفعل. أبدعت في كتابة سطور قلائل في البداية، ثم جفَّت أحباري وكففت، فما كان مني إلا أن أمزِّق الأوراق وأعتصرها كنوع من العقاب الأليم، ثم ألقيها في سلة القمامة. فعلت ذلك مرات ومرات حتى لم يتبقَّ من الدفتر سوى غلافه. ثم ابتعت دفترًا جديدًا وكرَّرت المحاولة مرة أخرى، ولففت بالدائرة نفسها: إثارة ثم يأس، إثارة ثم يأس، وهكذا دواليك. فكان الأمر أشبه بحمل وإجهاض سرِّيين يحدثان بصفة أسبوعية.

لكنَّ أمري لم يكن سريًّا بالكامل؛ فقد كان تشيس على علم بأنني كثيرة القراءة ولي محاولات في الكتابة. لم يحاول أن يثبِّطني على الإطلاق، بل رأى أنه من المنطقي فعل ذلك، وربما يمكنني تعلُّمه. صحيح أنه يتطلَّب ممارسة جادة، لكنه سهل الإتقان كلعبة البريدج أو التنس. لم أشكره على هذه الثقة العارمة، فلم تَزِد مأساتي إلا هزلًا.

•••

كان تشيس يعمل في متجر بقالة لبيع الجملة، غير أنه تمنَّى من قبل أن يصبح مدرسًا لمادة التاريخ، لكن أباه أقنعه بأن دخل التدريس لا يكفي لإعالة زوجة وإحراز تقدم في الحياة. وكان أبوه هو من ساعده في العثور على هذه الوظيفة، لكنه أخبره أنه بعد أن ينال هذه الوظيفة عليه ألا ينتظر أي خدمات أخرى منه. وبالفعل لم يقدِّم غيرها. وخلال أول شتاء قضيناه معًا بعد الزواج، كان تشيس يغادر المنزل قبل بزوغ الضوء ويعود مساءً بعد أن يسدل الليل ستائره. كدح في عمله دون أن يبالي بما إذا كان عمله يلبِّي اهتماماته السابقة أو كان له هدف ذو شأن عظيم. ولم يكن له هدف سوى أن ينقلنا إلى حياة ننعم فيها بامتلاك ماكينات جزِّ الأعشاب والمجمدات؛ وهي التي كنا نعتقد أنها لا تعنينا. كنت أتعجب من انصياعه وإذعانه كلما فكرت في إدارته لشئون حياته؛ ذلك الإذعان المبتهج، أو فلْنَقُل: النبيل.

لكنني أدركت بعدها أن هذا هو ما يفعله الرجال.

•••

خرجت أنا نفسي بحثًا عن العمل؛ ففي الأيام التي لا يشتد فيها هطول الأمطار كنتُ أذهب إلى الصيدلية وأبتاع الجريدة لأطالع إعلانات الوظائف بينما أحتسي قهوتي. ثم أنهض وأبدأ رحلة البحث، حتى ولو كانت السماء تمطر رذاذًا، فأتوجه نحو أماكن العمل حيث أشار الإعلان إلى الحاجة إلى نادلة أو بائعة أو عاملة في مصنع؛ أي وظيفة لا تشترط القدرة على الكتابة على الآلة الكاتبة أو الخبرة. أما إذا هطل المطر بغزارة، فكنت أستقل الحافلة. وذات مرة، نصحني تشيس بأن أستقلَّ الحافلة دائمًا وألا أسير كي أوفر النقود؛ فبينما أنشغل بتوفير المال قد تنال فتاة أخرى الوظيفة.

لكن هذا، في الواقع، هو ما كنت آمله؛ إذ لم آسف قط على أي وظيفة فقدتها. فأحيانًا كنت أصل إلى المكان الذي أريد، ثم أقف على الرصيف أتطلع إلى متجر الثياب النسائية وإلى مراياه وسجاده البالي، أو أنظر إلى الموظفات وهن ينزلن على درجات السلم في طريقهن لتناول الغداء أثناء الاستراحة التي يتيحها المكتب الذي كان قد أعلن عن الحاجة إلى وظيفة كاتب محفوظات. حتى إنني لم أكن لأدخل المكتب؛ إذ كنت أعلم أن شعري وأظافري وحذائي الخفيض البالي سيقفون عائقًا أمام إمكانية حصولي على الوظيفة. وكذلك المصانع، كانت تبعث في نفسي ذات الرهبة؛ فكنت أستمع إلى هدير الماكينات المنبعث من داخل المباني التي تُعبأ فيها المشروبات الغازية، أو تجمِّع زينة أعياد الميلاد، وأرى مصابيحها غير المزخرفة متدلية من أسقفها التي تشبه أسقف الحظائر. لم تكن أظافري أو فردتا حذائي الخفيضتان ذوي أي شأن هناك في المصانع، لكن عدم إتقاني العمل وغبائي فيما يتعلق باستخدام الماكينات كانا سيجلبان عليَّ السباب والنهر (كنت أسمع صيحات زاعقة بأوامر تطغى على أصوات الماكينات). كنت سأُطرد شرَّ طردة ويلحقني الخزي. فلم أرَ نفسي حتى قادرةً على تعلُّم تشغيل آلة تسجيل المدفوعات النقدية. وقد ذكرت ذلك ذات مرة لأحد مديري المطاعم حين فكَّر جديًّا في تعييني؛ إذ أجبته بالنفي حينما سألني: «هل ترَيْن نفسك قادرة على التعامل معها؟» وحينها، نظر إليَّ كأنه لم يسمع في حياته اعترافًا كهذا من قبل؛ فبالرغم من كل شيء، كنت أقول الصدق؛ فلم أظن أن لديَّ القدرة على التعامل مع الأشياء بسرعة وعلى الملأ. ولو حاولت لتسمَّرت قدماي. فالشيء الوحيد الذي أستطيع فهمه بسهولة كان على شاكلة التفاصيل المعقدة لحرب الثلاثين عامًا على سبيل المثال.

الحقيقة هي أنني لم أضطر إلى العمل، فقد كان تشيس يوفر لنا الاحتياجات الأساسية جدًّا؛ ولذا لم يكن هناك ما يجعلني أُلقي بنفسي في هذا الجحيم؛ لأن زوجي فعل ذلك نيابةً عني؛ فهو أمر واجب على الرجال.

جال بخاطري أنني قد أستطيع العمل في المكتبة؛ ولذلك سألت هناك عن حاجتهم إلى موظفات مع أنهم لم يعلنوا عن أي وظائف خالية. مع ذلك، أدرجتْ سيدةٌ تعمل هناك اسمي في قائمة الانتظار؛ كانت سيدة مهذبة لكنها غير مشجعة. بعد ذلك، توجَّهت نحو متاجر بيع الكتب، وانتقيت منها المتاجر التي لم يَبدُ أنها تحصِّل المال باستخدام آلة تسجيل المدفوعات النقدية. وكلما كان المتجر فارغًا وغير منظم، كان هذا أفضل. كان أصحاب هذه المتاجر يدخِّنون أو يغفون على مكاتبهم، أما متاجر الكتب المستعملة فقد كانت تفوح منها دومًا رائحة قطط.

كانوا يقولون: «الإقبال علينا ليس مهولًا خلال الشتاء لنستعين بموظفات.»

وقالت لي إحدى العاملات ذات مرة ربما عليَّ العودة في الربيع.

«مع أننا لا نعمل كثيرًا في الربيع أيضًا.»

•••

لا يشبه شتاء فانكوفر أي شتاء آخر مرَّ بي؛ شتاءٌ بلا ثلوج، بلا أي شيء حتى على شاكلة الرياح الباردة. في منتصف النهار، عندما أتجه نحو وسط المدينة، كنت أشم رائحة تشبه رائحة السكر المحترق؛ وأعتقد أن منبعها الأسلاك العلوية التي توصل التيار الكهربائي إلى الحافلات. كنت أمشي في شارع هِستينجز ولا أرى امرأة أخرى غيري؛ لم أرَ سوى السكارى والمتشردين والعجائز المساكين والصينيين الذين يجرون أقدامهم على الطريق جرًّا. لم يُسئ إليَّ أحد منهم بكلمه. كنت أمرُّ على المستودعات والأراضي التي تغطيها الحشائش حيث لا يوجد أي رجل على مرمى البصر، أو كنت أمشي عبر حي كيتسيلانو، أشاهد منازله الخشبية الشاهقة التي تعجُّ بأناس يعيش بعضهم بالقرب من بعض، كما كنا في مقاطعة دنبار الراقية، ذات المنازل أحادية الطابق المبنية من الجص، والأشجار المبتورة فروعها. أو كنت أمشي عبر حي كيريزديل، حيث تُزرع الأشجار الأكثر فخامة — كأشجار البتولا — في المروج. أمشي عبر هذا الحي وأشاهد العوارض الخشبية التي تعلو المباني المشيدة على غرار العمارة التيودورية، وأستمتع بتناسق العمارة الجورجية، والبيوت ذات الأسطح الشبيهة بأسطح بيوت قِصة بيضاء الثلج المبنية بالقش، أو ربما كانت أسطحًا من القش الحقيقي. أنَّى لي أن أعرف؟

في كل هذه الأماكن التي يعيش فيها الناس، كانت مصابيح منازلهم تُضاء بحلول الرابعة عصرًا، ثم تُضاء بعدها مصابيح الشوارع، ثم أضواء الحافلات الكهربائية. وكانت السحب غالبًا ما تتفرَّق في السماء غربًا فوق البحر لتنفذ من خلالها الأشعة الحمراء وقت الغروب. وفي المنتزه — الذي أستدير حين أصله عائدةً للمنزل — تتلألأ أوراق شجيرات الشتاء التي يداعبها الهواء الرطب المصاحب لحمرة الأفق الباهتة عند الغروب. كان ذلك هو وقت عودة المتسوقين إلى منازلهم، والوقت الذي يفكر فيه العاملون والموظفون في العودة إلى بيوتهم، ووقت خروج مَن ظلوا في بيوتهم طوال اليوم ليحظوا بقدر قليل من النزهة تجعلهم يتوقون أكثر لبيوتهم. وفي طريق عودتي، كنت أقابل نساءً يدفعن عربات أطفال أمامهن، وأخريات بصحبتهنَّ صغار متذمرون، ولكنني لم أظن قط أنني سأمرُّ بما يمرُّون به قريبًا. قابلت عجائز مع كلابهم، وعجائز آخرين يتحركون ببطء أو يجلسون في مقاعد متحركة، يدفعهم رفاق أو قائمون على رعايتهم. قابلت السيدة جوري تدفع أمامها السيد جوري. كانت ترتدي رداءً على كتفيها وقبعة من الصوف الناعم أرجواني اللون (علمت منها أنها تحيك معظم ثيابها بنفسها)، وكانت قد وضعت على وجهها مقدارًا كبيرًا من الزينة الوردية. أما السيد جوري، فكان — حين رأيتهما — يرتدي قبعة بسيطة ويدثِّر رقبته بوشاح ثقيل. وعندما رأتني السيدة جوري، ألقت عليَّ تحية صاخبة توحي بأنني من ممتلكاتها، أما هو فلم يُلقِ التحية. لم يبدُ مستمتعًا بجولته، لكن القعداء نادرًا ما نجد على وجوههم تعبيرًا سوى الإذعان، وإن كان يبدو على بعضهم المهانة أو الحقد الصريح.

قالت لي السيدة جوري بعدها: «عندما قابلناكِ في المنتزه منذ بضعة أيام، ما كنتِ في طريقك للعودة إلى المنزل بعد أن بحثتِ عن عمل، أليس كذلك؟»

كذبتُ عليها وأجبتها بالإيجاب؛ إذ كنت أميل لإخفاء الحقيقة عنها بخصوص أي شيء.

«حسنًا. كنت سأقول لكِ إن كنتِ تبحثين عن وظيفة، فعليكِ تحسين مظهرك قليلًا. تتفقين معي، أليس كذلك؟»

أجبتها ببلى.

«لا أفهم كيف تخرج النساء في أيامنا هذه بالطريقة التي يخرجن بها! فعن نفسي لا يمكن أن أخرج من بيتي منتعلة حذاء خفيضًا، دون أن أضع أي زينة على وجهي، حتى إن كانت وجهتي هي متجر البقالة، ناهيك عن طلب الحصول على وظيفة من أحدهم.»

كانت تعلم أنني أكذب. تعلم أنني أقف ساكنة خلف باب شقتي في القبو ولا أجيب نقرها عليه. لم أكن لأندهش إذا ما علمتُ أنها فتشت في قمامتنا ووجدت أوراقي المتكمِّشة المتسخة التي سجلتُ فيها كوارثي باستفاضة، بل وقرأتْها. لماذا لم تيأس مني؟ لم تستطع؛ فقد كنت حالة مناسبة لها — ربما يعود ذلك إلى أن طباعي الغريبة وغير اللائقة لم تختلف بالنسبة إليها عن إصابة السيد جوري، وما لا يمكن تصحيحه لا بد من احتماله.

ذات يوم نزلت السيدة جوري الدرج، بينما كنت في وسط القبو أغسل ثيابنا؛ فقد سمحت لي أن أستخدم غسَّالتها وأحواض الغسيل كل يوم ثلاثاء.

سألتني حينها: «هل عثرتِ على فرصة عمل؟» فقلت لها دون تفكير إن المسئولين بالمكتبة قالوا إنهم قد يحتاجونني في المستقبل. وفكَّرت بالفعل أن أتظاهر بالعمل في المكتبة مستقبلًا — يمكنني أن أذهب هناك كل يوم وأجلس على إحدى طاولاتها الطويلة كي أقرأ أو حتى أحاول أن أكتب كما كنت أفعل بين الفينة والأخرى في الماضي. بالطبع سينكشف أمري إذا ما ذهبت السيدة جوري إلى المكتبة يومًا ما — لكنها لن تستطيع دفع السيد جوري أمامها كل تلك المسافة لأعلى التل — أو إذا ذكرت الموضوع أمام تشيس؛ لكنني لم أظن أن هذا قد يحدث أيضًا؛ فقد قالت لي ذات مرة إنها تخشى في بعض الأحيان من أن تُلقي عليه التحية؛ لأنه يبدو متجهمًا.

قالت السيدة جوري: «حسنًا لكن في الوقت الحالي … لقد خطر لي أنك في الوقت الحالي قد تفضِّلين القيام بوظيفة بسيطة؛ أن تجالسي السيد جوري خلال فترات بعد الظهيرة.»

قالت إنها قد عُرضت عليها وظيفة في متجر هدايا مستشفى سانت بول لثلاث أو أربع مرات في الأسبوع خلال فترة بعد الظهيرة، واستطردت: «إنها بلا مقابل مادي، وإلا لأرشدتك لتسألي عنها، وإنما هي عمل تطوعي. يقول الطبيب إن الخروج من المنزل أمرٌ جيد بالنسبة إليَّ، وإلا — حسب زعمه — فستخور قواي. الأمر ليس له علاقة بحاجتي للمال، حيث إن راي ولدٌ بارٌّ. إنما الوظيفة بسيطة وتطوعية، حتى إنني فكرت أن …» ثم نظرتْ إلى أحواض الشطف فرأت قمصان تشيس مغمورة في الماء النظيف نفسه مع الروب الخاص بي المزخرف بالزهور، والملاءات ذات اللون الأزرق الباهت.

قالت: «أوه، عزيزتي، لا تقولي إنك وضعت الملابس البيضاء مع الملونة في الحوض نفسه.»

قلت: «نعم. الملابس الفاتحة فحسب؛ ألوانها لا تصبغ الملابس البيضاء.»

فردَّت: «الملابس الفاتحة ملابس ملونة، ربما تظنين أن القمصان ستظل على بياضها، لكنها لن تكون بيضاء كما كانت.»

قلت لها إنني سأتذكر هذه النصيحة المرة القادمة.

فقالت وهي تضحك ضحكتها المقتضبة الفاضحة: «هذه هي الطريقة التي تعتنين بها بزوجك.»

قلت: «تشيس لا يبالي.» ولم أُدرك كيف ستأخذ مصداقيةُ هذه العبارة في النقصان بمرور السنين، وكيف ستحتل تلك المهام التي بدت عرضية وأقرب إلى العبث — وعلى هامش حياتي — مكان الصدارة وتتبلور أمام عيني.

•••

قبلت وظيفة مجالسة السيد جوري خلال فترات بعد الظهيرة. كان يوجد بأحد جانبَي مقعده الريكلاينر الأخضر طاولة صغيرة، أعلاها منشفة مفترشة — لامتصاص السوائل المنسكبة — وعبوات دوائه من أقراص وشراب، وساعة صغيرة ليعرف الوقت. وعلى الجانب الآخر من الكرسي، اكتظت طاولةٌ أخرى بمواد ليقرأها من صحف ومجلات؛ كصحيفة صباح اليوم، والصحيفة التي صدرت مساء أمس، وإصدارات من مجلات «لايف» و«لوك» و«ماكلينز»، التي لم يكن لها ثقل وقتئذٍ. وعلى أسفل رفٍّ في الطاولة، رأيت مجموعة من الكتب المحتوية على قصاصات مقتطعة من صحف ومجلات — كالتي يستخدمها الأطفال في المدارس — وكانت أوراقها سميكة تميل إلى اللون البني وذات حواف خشنة، وبرز منها بعض أجزاء مقتطفات الأخبار والصور. وكانت هذه الكتب تحوي قصاصاتٍ جمعها السيد جوري واحتفظ بها على مرِّ الأعوام إلى أن أصيب بالسكتة الدماغية وتوقف عن اقتطاعها من مصادرها. وأيضًا كانت هناك خزانة كتب في هذه الغرفة، تشتمل بالمثل على المزيد من المجلات وكتب القصاصات، وشغلت كتب مدرسية خاصة بالمرحلة الثانوية نصف رفٍّ؛ لعلها كانت كتب راي.

ذكرت لي السيدة جوري ذات مرة: «دائمًا ما أقرأ له الصحيفة. إنه لم يفقد قدرته على القراءة لكنه لا يستطيع الإمساك بها بيديه الاثنتين، كذلك فإن عينيه تؤلمانه حينما يقرأ.»

لهذا كنت أقرأ للسيد جوري في الوقت الذي تسرع فيه زوجته برشاقة إلى المحطة لاستقلال الحافلة، مستظلةً بمظلتها المزخرفة بالورود. قرأت له صفحة الرياضة، والأخبار المحلية والدولية، وكل ما يتعلق بجرائم القتل والسرقات، والطقس السيئ، وقرأت له أيضًا خطابات القراء إلى المحرر، وإلى الطبيب الذي يعطيهم نصائحه الطبية، وإلى آن لاندرز، وكذلك الرد عليها، وبدا لي أن أكثر ما كان يثير اهتمامه هو أخبار الرياضة وآن لاندرز. كنت أحيانًا أخطئ في نطق اسم أحد اللاعبين أو يختلط عليَّ اسم مصطلح ما، فيصير ما أقرؤه عديم المعنى؛ ولذا كان يتذمر وهو يوجِّهني غير راضٍ عني لأحاول مرة أخرى. حين أقرأ له صفحة الرياضة، ينفعل ويغدو منتبهًا وعابسًا، أما حين أقرأ صفحة آن لاندرز، فيتبدَّى استرخاؤه على وجهه ويصدر أصواتًا — تشبه الخرخرة والغطيط العميق — أظن أنها تنمُّ عن شكره وامتنانه. كان يصدر هذه الضوضاء تحديدًا عندما تشير هذه الخطابات إلى بعض الأمور النسوية أو التافهة (مثلًا كتبت إحدى السيدات أن أخت زوجها ادَّعت أنها صنعت كعكة بنفسها، مع أن المنديل الورقي الذي يحمل اسم محل المخبوزات كان لا يزال موجودًا تحت الكعكة حين قدَّمتها للزائرين)، أو حين تمسُّ أي موضوع جنسي بحذر كالعادة في تلك الفترة.

حين كنت أقرأ له صفحة المحرر أو أي مقال مليء بهراء عما قاله الروس أو ما قاله الأمريكيون في الأمم المتحدة، كان يغلق عينيه — أو بالأحرى يخفض جفن عينه السليمة بالكامل تقريبًا، على عكس جفن عينه الأخرى الضعيفة الذي يخفضه قليلًا — وتصير حركات صدره أثناء تنفسه ملحوظة. وعندها، أتوقف للحظات لأرى إذا ما كان قد نام، لكنه كان يُصدر صوتًا من نوع آخر؛ صوتًا موبِّخًا ومقتضبًا على نحو فظ. وبمرور الوقت، إذ اعتدت عليه واعتاد عليَّ، أخذ هذا الصوت يبدو أقلَّ توبيخًا، بل ومطمْئِنًا؛ ليس فقط بأنه ليس نائمًا وإنما لا يُحتضر في هذه اللحظة.

كان التفكير في أنه يُحتضر أمامي مروِّعًا في البداية؛ فلماذا لا يموت وهو يبدو شبه ميت بالفعل؟ كانت عينه الضعيفة أشبه بصخرة قابعة أسفل مياه مظلمة، وكان فمه مرفوعًا لأعلى ومفتوحًا من أحد جانبيه، فظهرت أسنانه الطبيعية (إذ كان معظم الناس وقتها يركِّبون أسنانًا صناعية) كريهة المنظر بحشوها الغامق الواضح فيما بين المينا الضعيفة. كان بقاؤه على قيد الحياة في هذا العالم يبدو لي خطأ يمكن أن يُصحح في أي لحظة، لكنني بعد ذلك — كما قلت من قبل — اعتدت عليه. كان رجلًا ضخمًا، له رأس ضخم ينمُّ على نبل أصله، وصدر عريض متعب، وكانت يده اليمنى المشلولة تتمدد على بنطاله فوق فخذه الطويلة. كلما أقرأ تغزو هذه الصورة مجال رؤيتي؛ بدا كأثر، كمحارب قديم آتٍ من العصور البربرية. بدا لي مثل أريك بلود آكس أو الملك كانوت:

قال ملك البحار لرجاله: قوتي تخور بسرعة،
لن أبحر غازيًا مرة أخرى.

كان هذا هو الشكل الذي بدا عليه، بضخامة جسده شبه المشلول التي تهدد أثاث المنزل وتعرِّضه للتلف، وتخبطه في الجدران خلال انتقاله إلى دورة المياه. أما عن رائحته، فلم تكن عفنة إلا أنه لم تَفُح منه أيضًا رائحة الأطفال بعد الاستحمام بالصابون واستخدام البودرة المعطرة، وإنما كانت تفوح منه رائحة ملابس ثقيلة علقت بها بقايا رائحة تبغ (على الرغم من أنه لم يَعُد يدخِّن)، ورائحة جلد — تخيلته سميكًا — يطرح إفرازات مثيرة، ويبعث حرارة تنمُّ عن أنشطة جسده الوظيفية. بالإضافة إلى رائحة بول طفيفة ودائمة، والواقع أن هذه الرائحة كانت ستصيبني باشمئزاز إن فاحت من امرأة، لكنها في حالته أمكن التسامح معها، بل وبدت تعبيرًا عن هبة قديمة كان يتمتع بها. وحين كنت أدخل دورة المياه بعده، أشعر أنني في عرين حيوان أجرب وإن كان لا يزال قويًّا.

قال لي تشيس إنني أهدر وقتي بمجالسة السيد جوري وكأنه طفل. كان الطقس قد أضحى صحوًا وصار النهار أطول، وبدأت المتاجر تعرض بضائع جديدة منتفضةً من بياتها الشتوي، وأضحى جميعها أكثر قابلية للتفكير في إتاحة وظائف لديها؛ لذا كان عليَّ أن أخرج باحثةً بجد عن عمل؛ فالسيدة جوري لم تدفع لي سوى أربعين سنتًا في الساعة.

قلت: «لكنني وعدتها.»

وذات يوم، قال لي إنه رآها — من نافذة مكتبه — تترجَّل عن حافلة، ولم يكن ذلك بالقرب من مستشفى سانت بول على الإطلاق.

قلت: «ربما كانت في استراحة.»

قال تشيس: «لم أَرَها قط في منتصف النهار من قبل. يا إلهي!»

اقترحت أن أصطحب السيد جوري في نزهة على كرسيه المتحرك بما أن الطقس قد تحسَّن، لكنه رفض الفكرة بجلبة أنبأتني عن يقين بأنه يبغض أن يُدفع على الكرسي المتحرك على الملأ، أو ربما لأن من يدفعه شخص مثلي يأخذ راتبًا ليقوم بهذه المهمة.

توقفت عن قراءتي للصحيفة لأطرح عليه هذا الاقتراح، وحينما حاولت مواصلة القراءة لوَّح بيده وأحدث جلبة أخرى ليخبرني بأنه قد سئم الاستماع إليَّ. وضعتُ الصحيفة جانبًا، فأشار بيده السليمة نحو كومة من كتب القصاصات الموجودة على الرف السفلي للطاولة بجواره. ومرة أخرى أصدر مزيدًا من الأصوات وجلبة أشد. كنت دومًا أصف هذه الأصوات بأنها زمجرة أو غطيط أو نحنحة أو نباح أو غمغمة، لكنها هذه المرة بدت لي أشبه بالكلمات؛ بل كانت كلمات. لم يكن وقعها على مسامعي — فقط — كعبارات وطلبات حاسمة (على شاكلة «لا أريد»، أو «ساعديني في النهوض»، أو «دعيني أرَ كم هو الوقت الآن»، أو «أريد شرابًا»)، لكنها بدت جملًا أكثر تعقيدًا، مثل: «يا إلهي! لماذا لا يكفُّ هذا الكلب عن النباح؟» أو «يا له من جو حار!» (يقولها بعد أن أقرأ له مقالًا ما في الصحيفة.)

لكن ما سمعته الآن كان: «دعينا نرَ إذا كان هناك ما هو أفضل مما في الصحيفة.»

تناولتُ مجموعة من الكتب من على الرف، ووضعتها على الأرض بالقرب من قدميه. ووجدت على أغلفتها الأمامية تواريخ أعوام قريبة مكتوبة بأقلام الشمع السوداء بخط كبير. تصفَّحت عام ١٩٥٢، وطالعت جزءًا مقتطفًا من جريدة يتناول جنازة جورج السادس، وكان مكتوبًا أعلاه بقلم الشمع: «ألبرت فريدريك جورج (١٨٨٥–١٩٥٢)»، وبجانبه صورة للثلاث ملكات في ملابس الحداد.

وفي الصفحة التي تليها طالعتُ خبرًا عن طريق ألاسكا السريع.

قلت: «إنه سجل شائق، هل تريد مني مساعدتك في ملء صفحات سجل جديد؟ يمكنك أن تختار ما تريد قصَّه ولصقه، وسأقوم بالمهمة.»

أحدث جلبةً تعني «إنه لمجهود شاق» أو «ما فائدته الآن؟» أو حتى «كم هي حمقاء تلك الفكرة!» أزاح كتاب الملك جورج السادس جانبًا ليرى التواريخ المكتوبة على أغلفة كتب أخرى، لكنه لم يجد ضالته. فأشار نحو خزانة الكتب، وأحضرتُ له مجموعة أخرى من كتب القصاصات. فهمت أنه يريد كتابًا يضم أحداث سنة معينة، فأخذت أرفع كل كتاب حتى يتسنى له رؤية الغلاف. وأحيانًا كنت أفتح الصفحات بالرغم من اعتراضه. رأيت مقالًا عن الأسد الأمريكي في جزيرة فانكوفر، وآخر عن موت لاعب ترابيز، وثالث عن طفل نجا مع أنه قد علق في انهيار ثلجي. تصفحنا ما كُتب عن سنوات الحرب، ورجعنا إلى الثلاثينيات، والعام الذي وُلدت فيه، ثم نحو عشر سنوات قبله حتى نصل إلى التاريخ الذي كان يريد. وبعدها أصدر لي الأمر، طالعي هذا العام؛ ١٩٢٣.

بدأت أتصفح قصاصات هذا العام منذ بدايته.

«تساقُط الجليد في يناير يطمر القرى في …»

ليس هذا. أسرعي، واستمري في المطالعة.

فبدأت أقلب الصفحات.

ببطء. تمهلي. ببطء.

فأخذت أقلِّب الصفحات — الواحدة تلو الأخرى — دون توقُّف لأقرأ أي شيء، حتى وصلنا إلى الصفحة التي أرادها.

«هي ذي، فلتقرئي.»

لم يكن بالصفحة أي صورة أو عنوان، وإنما حروف مكتوبة بقلم الشمع لتوثيق: «فانكوفر، الأحد، ١٧ أبريل، ١٩٢٣.»

قرأتُ: «جزيرة كورتِز، حسنًا؟»

«فلتبدئي.»

•••

جزيرة كورتِز. باكر صباح الأحد أو في ساعة متأخرة من مساء السبت، شبَّت النار في منزل آنسون جيمس وايلد عند الطرف الجنوبي للجزيرة ودمَّرته. كان هذا المنزل يبعد بمسافة كبيرة عن أي منزل أو مسكن آخر؛ ولذا لم يلحظ أحد على الجزيرة ألسنة اللهب المتصاعدة منه. تواترت أنباء أن ركاب قارب صيد قد شاهدوا النيران في أول ساعات صباح يوم الأحد، وكان قاربهم يتجه نحو منطقة ديسوليشن ساوند، لكنهم ظنوا أن النار ناتجة عن حرق أحد الأشخاص الحطب. ولأنهم يعلمون أن نار حرق الحطب لا تمثل أي خطر بسبب رطوبة الغابة في ذاك الوقت، واصلوا رحلتهم ولم يبالوا.

كان السيد وايلد مالك بستان فواكه وايلد فروت، وكان يعيش على الجزيرة منذ قرابة خمس عشرة سنة. عاش على أرضها وحيدًا، لكنه كان يتعامل مع من يقابلهم بود، وكان له تاريخ في الخدمة العسكرية. كان متزوجًا منذ أمد، وله ولد، وشاع أنه وُلد في المقاطعات الأطلنطية.

حوَّلت النيران المنزل إلى حطام وانهارت أعمدته، وتم العثور على جثمان السيد وايلد بين الأطلال المتفحمة، وكان محترقًا لدرجة لا تسمح بالتعرف عليه.

وعُثر بين هذه الأطلال على عبوة من الصفيح متفحمة، قيل إنها كانت تحتوي على كيروسين.

أما زوجة السيد وايلد، فلم تكن في المنزل وقت نشوب الحريق؛ إذ كانت قد لبَّت يوم الأربعاء السابق للحادث دعوة الذهاب على متن قارب في رحلة إلى مدينة كوموكس لشحن حمولة تفاح من بستان زوجها. كانت تنوي الرجوع في نفس اليوم الذي انطلق فيه القارب، لكنها ظلت هناك ثلاثة أيام وأربع ليالٍ بسبب عطل في محرك القارب. وفي صباح الأحد، عادت مع صديقها الذي عرض عليها هذه الرحلة، ومعًا اكتشفا هذه المأساة.

أثيرت المخاوف بشأن الصبي الصغير — ابنهما — الذي لم يكن بالبيت وقت احتراقه؛ فأُجري البحث عنه على وجه السرعة، وقبل أن يحلَّ الظلام مساء الأحد تم العثور عليه في الغابة، على بُعدٍ أقل من ميل من منزله. كان مبتلًّا يشعر بالبرد بسبب بقائه في الأدغال عدة ساعات. لكن بخلاف هذا لم يُصِبه أي أذًى. واتضح حينها أنه حمل معه بعض الطعام عندما خرج من البيت؛ إذ وُجد معه بعض الخبز عندما عثروا عليه.

سوف تُجرى التحقيقات في كورتيناي للوقوف على أسباب الحريق الذي دمَّر منزل عائلة وايلد، وأسفر عن وفاة رب الأسرة.

•••

قلت: «هل تعرف هؤلاء الناس؟»

«اقلبي الصفحة.»

•••

٤ أغسطس ١٩٢٣: بإجراء التحقيق في كورتيناي بجزيرة فانكوفر حول أسباب الحريق الذي تسبَّب في موت آنسون جيمس وايلد، القاطن بجزيرة كورتِز، في أبريل من هذا العام، تبيَّن أن شبهة إشعال الحريق عن عمد بواسطة الفقيد أو مجهول أو مجهولين لا تقوم على حجة دامغة. ولم يُقبل وجود عبوة كيروسين فارغة في مكان الحريق كدليل كافٍ. فحسبما قال السيد بيرسي كيمبر — صاحب متجر في منتزه مانسونز لاندنج بجزيرة كورتِز — كان السيد وايلد يبتاع الكيروسين ويستخدمه بشكل منتظم.

لم يكن لدى ابن الفقيد البالغ من العمر سبع سنين أي دليل يقدِّمه حول الحريق. وقد عثر عليه فريق بحث على مسافة غير بعيدة عن منزله بعد تجوال استمر عدة ساعات في الغابة. وقال الصبي في الاستجواب إن أباه أعطاه خبزًا وتفاحًا، وطلب إليه التنزه في مانسونز لاندنج، لكنه ضلَّ طريقه. ومع ذلك، قال بعد أسابيع إنه لا يذكر أن هذا هو ما قد حدث، وإنه لا يعرف كيف ضلَّ طريقه، مع أنه قطع هذا الطريق عدة مرات من قبل. وذكر الطبيب أنتوني هِلويل — الذي حضر من مدينة فيكتوريا للنظر في أمره — أنه بالكشف على الصبي، تبيَّن أنه قد هرب ما إن شاهد الحريق، وربما أُتيح له الوقت ليأخذ معه بعض الأطعمة؛ وهو ما لا يذكره الآن. على الجانب الآخر، قال أنتوني إن قصة الصبي قد تكون صحيحة، لكنَّ ذكراها ربما تكون قد شوِّهت في وقت لاحق، وإن مواصلة استجواب الصبي لن تفيد؛ لأنه على الأرجح لا يستطيع التمييز بين ما حدث في الواقع وبين خياله المتعلق بالحادث.

أما السيدة وايلد، فلم تكن في المنزل وقت اندلاع الحريق، بل كانت في جزيرة فانكوفر مستقلةً قاربًا مِلك جيمس تومبسون جوري من مدينة يونيون باي.

وقُيدت وفاة السيد وايلد على أنها حادث مأساوي نتج عن حريقٍ مصادره مجهولة.

•••

«أغلقي الكتاب الآن.»

«أرجعيه إلى مكانه. أعيدي كل الكتب على الرف.»

«لا، لا، ليس هكذا. ضعي الكتب على الرف مرتبةً وفقًا للسنة. هذا أفضل. تمامًا كما كانت.»

«هل هي في الطريق؟ انظري من النافذة.»

«حسنًا. إنها على وشك العودة.»

«ماذا عنك؟ ما رأيك في هذا؟»

«لا أبالي. لا أبالي برأيك فيه.»

«هل فكرت يومًا أن حياة الناس قد تكون على هذا المنوال، أو ينتهي بها المطاف على هذا النحو؟ حسنًا، هذا ليس من المستبعد.»

•••

لم أخبر تشيس بأيٍّ مما جرى، مع أنني اعتدت إخباره بأي شيء حدث وأظن أنه سيثير اهتمامه أو يسليه، إلا أنه دومًا ما كان يتجاهل أي ذكر لآل جوري، وكان يصفهم ﺑ «غريبي الأطوار».

أزهرت كل الأشجار الصغيرة التي بدت ذابلة من قبل في المنتزه، وتفتحت أزهارها وردية لامعة كأنها حبَّات فشار ذات ألوان اصطناعية.

في ذلك الحين، بدأت أعمل في وظيفة بالمعنى الحقيقي.

هاتفني أحد الأشخاص من مكتبة كيتسيلانو، وطلب إليَّ الحضور بضع ساعات عصر يوم سبت. وهناك، وجدت نفسي جالسة خلف المكتب، أختم الكتب التي يستعيرها الناس بتواريخ استردادها. كانت وجوه مستعيري الكتب مألوفة لي؛ إذ كنت أراهم وأنا أستعير الكتب من المكتبة نفسها، لكنني الآن صرت أبتسم لهم نيابةً عن المكتبة، وأقول: «أراكَ بعد أسبوعين.»

كان بعضهم يضحك قائلًا: «أوه، بل قبل هذا بكثير.» كانوا مثلي مدمني قراءة.

تبيَّن لي أن هذه الوظيفة يمكنني التعامل معها؛ فلم يكن بها آلات تسجيل المدفوعات النقدية، كل ما هنالك أنني حين أحصِّل غرامات تأخير الكتب من مستعيريها، أعطيهم الفكة من درج مكتبي. كذلك كنت أعرف مكان معظم الكتب على الأرفف، أما فيما يتعلق ببطاقات الاستعارة، فقد كنت أعرف الأبجدية.

مع الوقت، عُرضت عليَّ المزيد من ساعات العمل، ولم يمضِ وقت طويل حتى أضحيت أعمل في وظيفة مؤقتة بدوام كامل؛ فقد تعرَّضت إحدى العاملات الدائمات لإجهاض، واضطرت للتوقف عن العمل شهرين. وقبل أن تنتهي تلك المدة مباشرةً، حملت مرة أخرى، فنصحها الطبيب بألا تعود إلى العمل. وبذلك انضممت إلى فريق العمل الدائم بدوام كامل، وظللت أعمل معه حتى صرت في منتصف فترة حملي الأول. عملت مع سيدات كنت أعرفهن لفترة طويلة شكلًا فقط — مثل ميفيس وشيرلي والسيدة كارلسون والسيدة يوست — وكلهن يذكرن أنني كنت مواظبة على ارتياد المكتبة، حيث أهيم على وجهي — حسب زعمهن — ساعات كثيرة. تمنيت لو لم ينتبهن إليَّ هذه الانتباه الشديد، لو لم أتردد كثيرًا على المكتبة.

كم كانت متعة بسيطة؛ حيث أجلس في مكاني، وأواجه الناس من وراء مكتبي، وأتعامل بكفاءة ونشاط وود مع زبائني، وأظهر في أعينهم شخصًا يعرف خبايا الأمور — شخصًا ذا نفع في نظر الجميع — وأن أكفَّ عن التواري عن الآخرين، والتجوال والتخيل، وأصير الفتاة العاملة في المكتبة.

بالطبع، بعد هذه الوظيفة، لم يُتَح لي الآن وقت كبير للقراءة، وأحيانًا كنت أمسك بالكتاب في يدي للحظة وأنا على مكتبي — أمسك به كشيء وليس كإناء لا بد أن أتجرَّعه على الفور — ثم تنتابني لحظة خوف؛ كما يحدث عندما يحلم المرء بأنه موجود في مكان غير مكانه، أو أنه نسي ميعاد الامتحان، فيدرك أن ما رآه في الحلم ليس سوى جزء ضئيل من مصيبة مجهولة بالنسبة إليه أو غلطة يمكن أن تؤثر على حياته إلى الأبد.

لكن هذه الرهبة سرعان ما كانت تتلاشى.

كذلك تذكَّرتْ زميلاتي في المكتبة أيضًا رؤيتهنَّ لي وأنا أكتب حيث أعمل الآن.

فقلت لهن إنني كنت أكتب خطابات.

«أتكتبين خطاباتك في مفكرات؟»

قلت: «بالطبع؛ فهذا أرخص.»

أُهمِلت مفكرتي الأخيرة، وظلت مختبئة في أحد الأدراج مع أكوام من جواربي وثيابي الداخلية غير المرتبة. ظلت مهملةً، وصارت رؤيتي لها تملؤني ريبةً وامتهانًا. ومع أنني نويت التخلص منها، لم أفعل.

لم تهنِّئني السيدة جوري على الوظيفة.

بل قالت لي: «لم تخبريني أنك لم تكفِّي عن البحث عن عمل.»

فقلت لها إنني كنت على قائمة الانتظار في المكتبة منذ وقت طويل، وإنني أخبرتها أيضًا بذلك من قبل.

ردَّت قائلةً: «كان هذا قبل أن تبدئي في العمل لديَّ. فما مصير السيد جوري الآن؟»

قلت: «آسفة.»

«لن يفيده الأسف في شيء، أليس كذلك؟»

رفعتْ حاجبَيْها الزهريَّيْن وهي تخاطبني بأسلوبها المتغطرس الذي اعتدت أن أسمعها تتحدث به مع الجزار أو البقال عبر الهاتف عندما يخطآن فيما طلبتْ.

قالت: «ما عساي أن أفعل الآن؟ لقد تخليتِ عني وليس بيدي حيلة، أليس كذلك؟ أتمنى أن تَفِي بوعدك لرؤسائك أفضل مما فعلتِ معي.»

كان هذا هراءً بالطبع. لم أَعِدْها بأي شيء فيما يتعلق بمدة بقائي معها، لكنني مع هذا خالجني شعور بالقلق يشوبه بعض الذنب؛ إن لم يكن شعورًا بالذنب. صحيح أنني لم أَعِدْها بشيء، لكن ماذا عن المرات التي لم أستجب فيها لطَرْقها على بابي، أو تلك المرات التي كنت أتسلل فيها من المنزل وإليه دون أن تلحظني، خافضة رأسي دون مستوى نافذة مطبخها؟ وماذا عن تظاهري الفاتر بالإخلاص في مصادقتها في مقابل عروضها السخية؟

قالت: «لكن من الرائع أن حدث ذلك، فأنا لا أريد شخصًا لا يُعتمد عليه يرعى السيد جوري، كذلك فإنني لم أكن راضية بالكامل عن طريقة رعايتك له، أؤكد لك هذا.»

وسرعان ما وجدتْ جليسة أخرى؛ وكانت امرأة كثيفة شعر الجسم، ضئيلة الحجم، شعرها أسود تغطيه ببونيه شبكي. لم أسمعها تتكلم قط، لكنني كنت أسمع السيدة جوري تكلمها؛ فقد كان بابها مفتوحًا أعلى الدرج وكان من المنطقي سماعها.

«لم تغسل حتى الفنجان الذي احتسى فيه الشاي، بل وكانت تنسى في معظم الأوقات أن تُعِدَّ له الشاي. لا أدري ما كانت فائدتها. تجلس وتقرأ الصحيفة.»

في تلك الأيام، حين كنت أغادر المنزل ذهابًا إلى العمل، كانت نافذة المطبخ تُصفع ورائي، ويرنُّ صوتها في أذني مع أنها كانت تتحدث ظاهريًّا مع السيد جوري.

«هي ذي تمضي في طريقها دون أن تكلِّف نفسها عناء التلويح لنا وتحيَّتنا. لقد منحناها وظيفة وقت لم يقبلها أحد، لكنها لا تبالي بذلك. بالطبع، لا تفعل.»

لم ألوِّح لهما، وكنت مضطرة أن أسير أمام النافذة الأمامية حيث كان السيد جوري جالسًا، لكن راودني التفكير أنني إذا لوَّحت أو حتى نظرت له، فقد يشعر بالإهانة، أو حتى الغضب؛ فأي شيء سأفعله قد يشعرهما بالإهانة.

لكنني ما كنت أبلغ نهاية المربع السكني الذي يلينا حتى أنسى أمرهما بالكامل. كانت الفترات الصباحية خلال ذلك الوقت من السنة مشرقة. وفي طريقي إلى العمل، كنت أمشي وملئي شعور بالارتياح، معتزمةً على تحقيق هدفي. وفي مثل هذه اللحظات، يبدو لي ماضيَّ القريب مُشينًا بشكل غامض. ساعات قضيتها خلف ستائر المهجع، وساعات قضيتها على طاولة المطبخ أملأ صفحة تلو الأخرى بالفشل، وساعات قضيتها في حجرة قائظة مع رجل هرم؛ السجادة الخشنة، والمفروشات المخملية، ورائحة ثيابه وجسده، وقصاصات الورق الملصقة الجافة، وأوراق الصحف التي تغطي الأرضية فأضطر أن أشقَّ طريقي خلالها؛ والقصة المروعة التي احتفظ بها وجعلني أقرؤها له (لم أفكر للحظة أن ذلك من المآسي الإنسانية التي كنت أعشق قراءتها في الكتب). إنَّ تذكُّر كل هذا كان أشبه بتذكُّر فترات مرضي أثناء طفولتي؛ عندما كنت حبيسة — عن طيب خاطر — في فراشي وعلى ملاءتي القطنية الوثيرة التي تنبعث منها رائحة زيت الكافور، حبيسة الإعياء والحمَّى، وواقعة في شَرَك رسائل — لم أفكَّ رموزها — حملتها لي أغصان الشجر التي أطللت عليها من نافذتي بالدور العلوي. لم أندم على هذه الأوقات، وإنما كنت أنبذها بطبيعة الحال، لكنها بدت جزءًا مني — أكان جزءًا مريضًا؟ — بدأت الآن أنبذه. قد يظن أحدٌ أن الزواج هو ما أدى إلى هذا التحول، لكن هذا لم يحدث لفترة؛ ففي البداية كبتُّ رغباتي وأعدت الكرَّة وأبقيت على شخصيتي القديمة؛ شخصيتي العنيدة الكتومة التي لا تليق بامرأة. لكنني الآن خلعت هذا الثوب وأضحيت أشكر ربي على هذا التحول، فقد صرت زوجة وعاملة حسنة المظهر وعلى قدر كافٍ من الكفاءة لمواجهة الصعاب. وهذا ليس بالغريب، فقد غدوت قادرة على النجاح.

•••

طرقت السيدة جوري بابي وبيدها كيس وسادة، وسألتني — وهي ترسم على وجهها ابتسامة عدائية شنيعة تُظهر أسنانها — إذا ما كان هذا الكيس يخصني. فأجبتها دون تردد أنه لا يخصني، فكيسا الوسادتين اللذان أملكهما تحشوهما الوسادتان على السرير.

فقالت بلهجة معذَّبة: «حسنًا، فهو ليس ملكي بكل تأكيد.»

قلت: «كيف تجزمين بهذا؟»

صارت ابتسامتها الشيطانية أكثر ثقة شيئًا فشيئًا.

«لأنه ليس مصنوعًا من القماش الذي يمكن أن أضعه أبدًا تحت رأس السيد جوري أو رأسي.»

ولِمَ لا؟

«لأنه … رديء … الخامة.»

لذا اضطررت أن أذهب إلى مهجعي لأنزع الكيسين عن وسادتيهما وأحضرهما لها، وعندئذ تبيَّن لي أن الكيسين ليسا متطابقين كما بدَوَا لي من قبل؛ فأحدهما من نسيج فاخر — وكان يخصها — وبذلك اتضح أن الكيس الذي في يدها كان يخصني.

قالت: «لا أصدق أنك لم تلحظي الأمر، ما كان ليلحظه أحد غيرك.»

•••

سمع تشيس عن شقة أخرى يمكننا استئجارها — شقة حقيقية وليست «جناحًا» — بها حمام كامل وغرفتَي نوم. كان أحد رفاقه في العمل على وشك تركها؛ لأنه وزوجته قد ابتاعا منزلًا. وكانت الشقة تقع في بناية تطل على ملتقى شارعَي فيرست أفينيو وشارع ماكدونالد. لن يمنعني هذا الموقع من أن أذهب إلى العمل سيرًا على الأقدام، أما هو فسيستقل الحافلة نفسها التي يستقلها الآن. وإذا جمعنا مرتَّبَيْنا، فيمكننا أن نتدبر قيمة إيجارها. كان رفيقه وزوجته سيتركان بعض الأثاث وسيبيعانه بثمن بخس؛ فلن يناسب بيتهما الجديد، لكن بالنسبة إلينا كان سيبدو أثاثًا على قدر كبير من الفخامة. تجوَّلنا في غرف الشقة الجميلة التي تقع في الطابق الثالث، وأعجبتنا جدرانها المطلية باللون الأصفر الباهت، والأرضيات الباركيه من خشب البلوط، وخزانات الأواني الفسيحة الموجودة في المطبخ، وأرضية الحمام المبلطة بالقرميد. وكانت هناك أيضًا شرفة صغيرة تطل على أشجار منتزه ماكدونالد. حينئذٍ، وقع كلٌّ منا في حب الآخر بشكل جديد، وقعنا في حب وضعنا الجديد، حيث ارتقاؤنا إلى حياة البالغين صاعدين من القبو الذي لم يكن إلا محطة مؤقتة في طريق حياتنا. وصرنا نأتي على ذكره كمزحة، كاختبار لقوة تحمُّلنا لما سنشهده خلال السنوات القادمة. فكل خطوة خطوناها — المنزل المستأجر، أول منزل امتلكناه، ثاني منزل امتلكناه، أول منزل امتلكناه في مدينة أخرى — كانت تمنحنا شعورًا بالتقدم يملؤنا سعادةً، فتقوِّي صلتنا وتوثِّق رباطنا. وذلك حتى آخر البيوت — وأكبرها حتى الآن — التي دخلتها؛ إذ كان لديَّ هاجس بوقوع كارثة وشيكة ورغبةٌ في الهرب.

أخبرنا راي بشأن رحيلنا المزمع دون أن نخبر السيدة جوري؛ مما تسبَّب في زيادة عدائها تجاهنا، بل إنها كادت تفقد عقلها.

«يا إلهي! تظن نفسها بارعة وهي لا تستطيع الحفاظ على نظافة حجرتين، وعندما تنظف الأرضية لا تفعل شيئًا سوى جر القاذورات إلى أحد الأركان.»

عندما اشتريت مقشَّتي الأولى، نسيت أن أشتري جاروفًا وفعلتُ ما تحدَّثتْ عنه بعض الوقت، لكنها ما كانت لتعرف هذا إلا بدخول غرفتَيْنا بمفتاحها الخاص، ونحن في الخارج، وهو ما اتضح أنه حدث بالفعل.

«إنها جبانة تتسلل كاللصوص. عرفتُ هذا منذ رأيتها لأول مرة. وكاذبة أيضًا، ومختلة عقليًّا؛ فقد كانت تجلس متظاهرة بأنها تكتب الخطابات، لكنها كانت تكتب الكلام نفسه مرارًا وتكرارًا؛ لم تكتب خطابات، بل تخطُّ نفس الكلام مرة تلو الأخرى. مختلة.»

تأكدت الآن أنها كانت تأخذ الأوراق المتكمِّشة من سلة قمامتي؛ فعادةً ما كنت أحاول أن أبدأ القصة نفسها بنفس الكلمات مرارًا وتكرارًا، كما قالت.

أضحى الطقس دافئًا، وصرت أذهب إلى العمل دون سترتي الثقيلة. وذات مرة، ارتديت سترة ضيقة ووضعت أطرافها في تنورتي، وحزامًا محكمًا عليَّ عند أضيق ثقوبه.

وحينها فتحت السيدة جوري الباب الأمامي وصاحت تجاهي.

«الساقطة. انظروا إلى الساقطة، إنها تبرز صدرها إلى الأمام، وتتمايل بمؤخرتها. أتظنين نفسك مارلين مونرو؟»

وأضافت: «لا نريدك في بيتنا. كلما أسرعتِ بالرحيل كان هذا أفضل.»

ثم هاتفت راي وقالت له إنني حاولت سرقة ملاءة سريرها، وشَكَت له أنني أتحدث عنها في جميع أرجاء الشارع. كانت قد فتحت الباب حرصًا منها على أن أسمع ما تقول، كما كانت تصيح بأعلى صوتها في الهاتف، وهو ما لم يكن ضروريًّا؛ لأن هاتفنا كان على نفس الخط وكان بإمكاننا سماع ما تقول متى أردنا، لكنني لم أفعل ذلك قط، بل كنت أسد أذنيَّ بحركة غريزية كي لا أسمعها وهي تتحدث من أعلى، لكن ذات مساء كان تشيس في المنزل ورفع سماعة الهاتف وتكلَّم.

«لا تلتفت لما تقول يا راي؛ إنها عجوز مخبولة. أعلم أنها أمك، لكني أؤكد لك أنها مخبولة.»

سألته عما قاله راي، وعما إذا كان هذا الكلام قد أغضبه.

«لم يقل إلا: «بالطبع، حسنًا».»

أغلقتِ السيدة جوري الخط، وصاحت من أعلى مباشرةً: «سأخبرك الآن مَن هي المخبولة، سأعلمك مَن الكاذبة المجنونة التي تنشر الأكاذيب عني وعن زوجي …»

قال تشيس: «لا نسمع ما تقولين. دعي زوجتي وشأنها.» لكنه سألني فيما بعد: «ماذا كانت تعني بقولها إنك تنشرين الأكاذيب عنها وعن زوجها؟»

قلت: «لا أدري.»

قال: «إنها تتعمد مضايقتك؛ لأنك شابة جميلة وهي عجوز شمطاء.»

ثم استطرد: «فلتنسَي الأمر.» وسألني على سبيل الدعابة ليسري عني:

«ما فائدة العجائز أصلًا؟»

•••

انتقلنا إلى شقتنا الجديدة مستقلَّيْن سيارة أجرة، لا نحمل شيئًا سوى حقائب ثيابنا. وقفنا في انتظار السيارة على الرصيف — ظهورنا إلى المنزل — وتوقَّعت حينها أن تُصدر السيدة جوري صياحًا أخيرًا، لكن لم نسمع أي صوت.

قلت: «ماذا لو كان معها مسدس، ستطلق عليَّ الرصاص في ظهري؟»

فقال تشيس: «لا تتكلمي مثلها.»

«أود أن ألوِّح للسيد جوري؛ لو كان يطل من النافذة.»

«الأفضل ألا تفعلي ذلك.»

•••

لم أُلقِ نظرة أخيرة على المنزل، بل ولم أمشِ بعدها قط في هذا الشارع، في هذا المربع السكني الذي يقع في شارع آربيوتس في مواجهة المنتزه والبحر. لم أَعُد أتذكر بوضوح كيف كان يبدو، رغم أن أشياء قليلة لا تزال عالقة في ذهني، مثل ستار المهجع، وخزانة الآنية الصينية، ومقعد الريكلاينر الأخضر.

تعرَّفنا على أزواج شباب بدءوا حياتهم — كما فعلنا — بالسكن في أماكن زهيدة الإيجار في بيوت أناس آخرين. سمعنا منهم حكايات عن الفئران والصراصير، والمراحيض التي تقذف الفضلات على مستخدميها، ومالكات البيوت ناقصات العقل. وحكينا لهم بالتأكيد عن صاحبة بيتنا التي كانت مصابة بجنون الارتياب.

لم أفكر في السيدة جوري في غير تلك الحالات.

أما السيد جوري، فكنت أراه في منامي؛ رأيته في أحلامي وقابلته قبل أن يقابل زوجته. كان رشيقًا قويًّا، لكنه لم يكن شابًّا، ولم يختلف مظهره قط عما بدا عليه وقتما كنت أقرأ له في الغرفة الأمامية. ربما كان يستطيع الكلام، لكن كلامه لم يتجاوز تلك الأصوات التي تعلَّمت أن أفسرها. كانت أصواتًا مبتورة وحاسمة، كانت تعليقًا أساسيًّا — وربما مشمئزًّا — على ما يحدث في الأحلام. أما الأحداث، فكانت عنيفة وصارخة؛ أحداث أحلام جنسية. فعلى مدار حياتي وأنا زوجة شابة — ولم يمضِ وقت طويل حتى حملت؛ فما كان هناك ما يدعو للتأجيل — ثم أمٌّ دائمة الانشغال والإخلاص لزوجي، الذي حرص على إشباع رغباتي بصورة منتظمة، ظلت الأحلام الجنسية تراودني بين الفينة والأخرى، وفيها تجاوزت المبادرةُ والاستجابة والاحتمالات أي شيء وهبتني إياه الحياة. كانت أحلامي تخلو من الرومانسية، وكذلك من الاحتشام. كان فراشنا — أنا والسيد جوري — شاطئًا مغطًّى بالحصى، أو متن قارب متينًا، أو لفائف من الحبال الناعمة والموجعة. وكنت أشعر — إن شئت فَقُل — بلذة القبح، حيث رائحة جسده النفاذة، وعينه المريضة، وأسنانه التي تشبه أسنان الكلب. كنت أفيق من هذه الأحلام المحظورة غير عابئة بشيء — حتى الدهشة أو الخزي لم يطرآ على بالي — وإذ بي أغطُّ في النوم مرة أخرى، ثم أنهض في الصباح بذاكرةٍ تعوَّدت إنكارها. ظل السيد جوري يقوم بهذا الدور في حياتي الليلية سنوات طوالًا امتدت بكل تأكيد إلى ما بعد وفاته. ظل ذلك يتكرر إلى أن أهلكت الرجل تمامًا وقضيت عليه، كما يهلك الموتى. لكن هذا لا يعني أنني كنت المسئولة عن استدعائه إلى أحلامي؛ فقد بدا لي أننا شركاء في الأمر؛ وكأنه استدعاني كما استدعيته، وكأنها تجربته كما كانت تجربتي.

أما القارب، ورصيف الميناء، والحصى الذي يغطي الشاطئ، والأشجار الناظرة إلى السماء أو المائلة نحو الأرض أو التي تظلل الماء، ومشهد الجُزر المحيطة المعقد، والجبال المعتمة بالرغم من سهولة تمييزها، فكل هذه الأشياء بدت موجودة معًا في مشهد طبيعي مربك؛ يزيدني إبهارًا — وإن كان يبدو عاديًّا — بصورة أكبر من أي شيء يمكن أن أحلم به أو أن أختلقه. كان هذا المشهد أشبه بمكان سيظل باقيًا سواء وُجدت فيه أم لم أُوجد، وبالفعل هو باقٍ.

لكنني لم أرَ قط الأعمدة المتفحمة التي تهاوت على جسد الزوج؛ إذ حدث هذا منذ زمن بعيد قبل أن تنمو أشجار الغابة حول المكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤