ستبقى الطفلتان

منذ ثلاثين عامًا، كانت هناك عائلة تقضي إجازة على الساحل الشرقي لجزيرة فانكوفر؛ هذه العائلة تتكون من أب وأم وابنتيهما الصغيرتين وزوجين أكبر سنًّا؛ هما والدا الزوج.

كم كان الجو بديعًا! في كل صباح — في هذا الطقس الجميل — ينفذ أول ضوء ذهبي للشمس من بين أغصان الأشجار العالية مبددًا الضباب الذي يتكاثف فوق مياه مضيق جورجيا الراكدة. انحسر المد — في ذلك الوقت من العام — تاركًا وراءه مساحة هائلة من الرمال الخاوية التي ما زالت مبللة بالرغم من سهولة السير عليها وكأنها طبقة من الأسمنت في آخر مراحل جفافه. الواقع أن المد لم يتراجع كثيرًا؛ فكل صباح تتقلص مساحة الرمال لكنها ما زالت تبدو شاسعة. كان الجد مهتمًّا للغاية بمسألة تغير المد، ولم يَبدُ أن أي أحد آخر شاركه هذا الاهتمام.

بولين، الأم الشابة، لم تكن في الحقيقة تحب الشاطئ كما كانت تحب ذلك الطريق الذي يمتد شمالًا خلف الأكواخ مسافة ميل أو نحو ذلك ليتوقف عند ضفة النهر الصغير الذي يصب في البحر.

لولا المد، لكان من الصعب تذكُّر أن هذا هو البحر؛ فالناظر عبر الماء يستطيع أن يرى سلاسل الجبال الواقعة على الضفة الأخرى؛ وهي تمثل الحدود الغربية لقارة أمريكا الشمالية. لمحت بولين من بين الأشجار هذه المرتفعات والقمم التي تبرز من بين الضباب بينما كانت تدفع أمامها عربة طفلتها على الطريق. وتلك الجبال أيضًا كانت تثير اهتمام الجد، وكذلك ابنه براين — زوج بولين — فقد كان الرجلان يحاولان باستمرار تحديد أيٍّ من هذه المعالم هو بالفعل جبل قاريٌّ، وأيها مرتفع عارض على الجزيرة بارز على الشاطئ. من المتعذر تحديد هذه الأمور مع تداخل عدد هائل منها بعضها مع بعض، وكذلك لأن ضوء النهار المتغير يؤثر على رؤيتها من حيث القرب والبعد.

لكن هناك خريطة معلقة أسفل مرآة بين الأكواخ والشاطئ، ويمكن للمرء أن ينظر إلى الخريطة ثم يرفع عينيه إلى المرآة ليرى ما أمامه، ثم يعيد النظر إلى الخريطة مرة أخرى حتى يتمكن من تبيُّن ما يراه. لا يزال الجد وبراين يفعلان ذلك كل يوم، وغالبًا ما يدفعهما هذا إلى الجدال؛ مع أنه لا داعي للجدال مع وجود الخريطة بين أيديهما. يرى براين أن الخريطة غير دقيقة، في حين لا يقبل أبوه أي نقد لأي شيء في هذا المكان الذي اختاره لقضاء الإجازة؛ فالخريطة والسكن والطقس كلها أمور مثالية من وجهة نظره.

أما أم براين، فما كانت لتنظر إلى الخريطة، قائلةً إنها تربكها، وهو ما يُضحك الرجلين منها؛ لأنهما يريانها بالفعل دومًا مرتبكة. والسبب كما يراه زوجها أنها أنثى، بينما يرى براين أن السبب وراء ارتباكها هو أنها أمُّه. فهي لا تهتم إلا بالسؤال عما إذا كان أحدهم جوعانَ أو عطشانَ، وهل ارتدت الصغيرتان قبعتيهما للوقاية من الشمس، وهل دهنتا مستحضرات الحماية منها، وعن تلك العضة الغريبة على ذراع كيتلِن التي لا تبدو كلدغة بعوضة. كما أنها — في هذه الإجازة — أرغمت زوجها على أن يرتدي قبعة كبيرة من القطن تغطي وجهه، وكانت ترى أن براين يجب أن يرتدي قبعة مثلها، مذكرةً إياه بإصابته بضربة الشمس في ذاك الصيف الذي قضوه في أوكاناجان عندما كان طفلًا. وأحيانًا يقول براين لأمه بنبرة يغلب عليها الانفعال: «فلتهدئي يا أمي؛ كفِّي عن الثرثرة.» لكن أباه يوبِّخه على تلك الطريقة غير المناسبة التي يخاطب بها أمه هذه الأيام.

فيقول براين: «إنها لا تمانع.»

ويرد أبوه: «أنَّى لك أن تعرف؟»

فتقول أمه: «أوه، يا إلهي.»

•••

في كل صباح، ما إن تستيقظ بولين حتى تنهض من الفراش مبتعدةً عن ذراعَي وساقَي براين، الطويلة الكثيرة الحركة أثناء النوم. تستيقظ على أول ما تصدره طفلتها الرضيعة مارا من همهمة وصراخ متقطع في غرفة الأطفال، ثم على صوت صرير مهدها — هي الآن في شهرها السادس عشر وعلى وشك الانتهاء من فترة الرضاعة — بينما تشد جسدها لأعلى محاولة الوقوف متعلقة بحافة المهد. وتواصل الرضيعة همهمتها اللطيفة الناعمة بينما ترفعها بولين خارج المهد لتذهب بها إلى المطبخ كي تغير حفاضتها على الأرض، في حين تتحرك كيتلِن التي دنت من الخامسة من عمرها في فراشها المجاور دون أن تفيق من نومها. بعد ذلك، توضع مارا في عربتها ومعها قطعة من البسكويت وزجاجة من عصير التفاح، في حين ترتدي بولين ثوبها عاري الذراعين المناسب للطقس الحار وتنتعل صندلها، ثم تدلف إلى دورة المياه لتمشط شعرها، بقدر ما تستطيع من سرعة وهدوء. وبعدها، تخرجان من الكوخ متجاوزتين بعض الأكواخ الأخرى لتسيرا على الطريق الوعر غير الممهد الذي لا يزال يخيَّم على معظمه الظل الصباحي، ليبدو كأرضية نفق تظلل عليها أشجار الأرز والتنوب.

كذلك يعتاد الجد أن يفيق مبكرًا، فيراهما من شرفة كوخه، وتراه بولين بالمثل فتلوِّح له بيدها فحسب. فما من كلام كثير بينهما ليتبادلا أطرافه (مع أنهما في بعض الأحيان يشعران ببعض من التآلف الروحي حين يقوم براين ببعض تصرفاته الغريبة لوقت طويل أو تُصدر الجدة بعض الجلبة التي تأسف لها لكن — في الوقت نفسه — تصر عليها؛ وحينها يحرص كلاهما على ألا ينظر أحدهما للآخر حتى لا تشي نظراتهما باستياء قد يسيء للآخرين).

في هذه الإجازة، اختلست بولين وقتًا لنفسها؛ ولا يختلف قضاء الوقت مع مارا كثيرًا عن قضائه بمفردها؛ فتتنزه في الصباح الباكر، ثم تختلي بنفسها في ساعة متأخرة من الصباح لغسل الحفاضات وتعليقها على الحبال لتجف. وقد تستطيع أن تقتنص ساعة أخرى أو نحو الساعة بعد الظهيرة، حين تغفو مارا. لكن براين أقام مظلة على الشاطئ وكان يحمل سرير اللعب إليها كل يوم حتى تغفو مارا ولا تضطر بولين أن تغيب عنهم؛ إذ يقول إن والديه قد يشعران بإهانة إذا ما تسللت مبتعدة عنهما كل يوم. لكنه مع هذا يرى أنها تحتاج وقتًا تراجع فيه دورها في المسرحية التي ستمثلها في سبتمبر المقبل حين يعودون إلى فيكتوريا.

بولين ليست ممثلة، وليس هذا إلا عرضًا للهواة مع أنها ليست حتى ممثلة هاوية، كذلك فإنها لم تُختبر لأداء هذا الدور، لكن تصادف أنها كانت قد قرأت المسرحية بالفعل. إنها مسرحية «يوريديس» لجان أنويه. وفيما بعد قرأت بولين كل ما يخطر ببال.

تلقَّت بولين عرضًا للاشتراك في هذه المسرحية من رجل كانت قد التقته في يونيو الماضي في حفل شواء. وكان معظم من حضروا الحفل معلمين، ومعهم زوجاتهم أو أزواجهن؛ إذ كان مُقامًا في بيت ناظر المدرسة التي يعمل بها براين. أتت مدرِّسة اللغة الفرنسية الأرملة بصحبة ابنها البالغ الذي كان يقيم معها خلال الصيف ويعمل موظفًّا ليليًّا في فندق بوسط البلدة. أخبرت الحضور أن ابنها قد حاز وظيفة ليدرس في جامعة بولاية واشنطن الغربية، وأنه سوف يسافر إلى هناك في الخريف.

اسمه جيفري تُوُم، وقال بخصوص اسمه: «تُوُم وليس تُوْم»، وكأنه لا يحتمل أي مزاح بشأن اسمه الذي يختلف عن اسم أمه؛ لأنها ترملت مرتين، وكان هو ابن زوجها الأول. تحدَّث عن وظيفته قائلًا: «لا ضمان أن تلك الوظيفة ستدوم، فالتعاقد محدد بعام واحد.»

ماذا سيدرِّس؟

قال: «دراما» ماطًّا شفتيه بأسلوب ساخر.

وتحدث أيضًا عن وظيفته الحالية بأسلوب لا يقلُّ استخفافًا.

قال: «إنه مكان موحش؛ ربما تكونون قد سمعتم عن غانية قُتلت هناك الشتاء الماضي. كذلك فإنه يعج بالبؤساء المعتادين الذين يلتحقون بالدراسة فيه ليفرطوا في تعاطي المخدرات أو يقتلوا أنفسهم.»

لم يجد الناس أي فائدة مما يقول ولذا انصرفوا عنه، فيما عدا بولين.

قال لها: «إنني أفكر في إنتاج مسرحية، هل تحبين أن تشاركي في تمثيلها؟» وسألها عما إذا كانت قد سمعت عن مسرحية تسمى «يوريديس».

ردَّت عليه بولين: «تعني المسرحية التي ألَّفها أنويه؟» الأمر الذي أثار دهشته دون تملُّقٍ أو مجاملة. وعلى الفور قال إنه لا يعرف إذا كانت هذه المسرحية ستنجح، مستطردًا: «كل ما هنالك أنني رأيت أنه من الشائق أن أفعل شيئًا مختلفًا هنا في بلاد نويل كوارد.»

لم تتذكر بولين متى عُرضت مسرحية لنويل كوارد في فيكتوريا، لكنها افترضت أن هذا قد حدث عدة مرات، وقالت: «الشتاء الماضي شاهدنا مسرحية «دوقة مالفي» حين عُرضت في الجامعة. كما عُرضت على المسرح الصغير مسرحية «رنين مدوٍّ» لكننا لم نحضر عرضها.»

قال وقد تورَّد وجهه: «نعم، حسنًا.» ظنت بولين أنه يكبرها سنًّا، على الأقل في سن براين (الذي كان في الثلاثين من عمره، مع أن الناس يقولون له كثيرًا إنه لا يتصرف بما يتناسب مع سنِّه)، لكنه ما إن بدأ يكلِّمها بأسلوبه المرتجل المستخف متحاشيًا النظر إلى عينيها، حتى شكَّت أنه أصغر مما يبدو عليه. أما الآن، بعد أن تخضَّب وجهه بهذه الحمرة، فقد صارت متيقنة من هذا.

اتضح بعدها أنه يصغرها بعام واحد؛ فقد كان في الخامسة والعشرين من عمره.

قالت إنها لا تستطيع أن تكون يوريديس؛ لأنها لا تستطيع التمثيل، لكن في تلك اللحظة أتى براين ليستعلم عن موضوع هذا الحديث، ثم قال لها إنه عليها أن تجرب الأمر.

قال براين لجيفري: «إنها في حاجة لدفعة، لا شيء سوى ذلك؛ فهي عنيدة جدًّا ومن الصعب حثُّها على فعل شيء. كذلك هي لا تحب لفت الأنظار إلى نفسها، وأنا لا أفتأ أخبرها بذلك طوال الوقت. لكنَّها ذكية، بل هي في الواقع أذكى مني بكثير.»

حينها نظر جيفري مباشرةً في عينَي بولين بجرأةٍ وكأنه يحاول أن يتقصَّى عما بداخلها، فكانت هي مَن تورَّد وجهها هذه المرة.

انتقاها جيفري على الفور لتمثِّل دور يوريديس بسبب مظهرها، وليس لأنها جميلة؛ إذ قال: «ما كنت لأعطي الدور لفتاة جميلة، لا أعتقد أنني قد أعطي أي دور مسرحي لفتاة جميلة، فستكون مبالغة كبيرة تشتت انتباه الجمهور.»

إذن، ماذا كان يعني بمظهرها؟ قال إنه يعني شعرها الطويل الغامق الكثيف (الذي لم يكن الموضة السائدة تلك الأيام) وبشرتها الشاحبة (ما دفعه إلى أن يقول لها حفاظًا عليها: «ابتعدي عن الشمس خلال هذا الصيف») وعلى وجه الخصوص حاجبَيْها.

قالت بولين كذبًا: «لم يعجباني قط.» كان لها حاجبان متساويان غامقان وكثيفان يغلبان على وجهها، لكنهما — مثل شعرها — لم يتفقا والموضة السائدة. لكن إذا لم تكن بالفعل معجبة بهما، فلِمَ لم تشذِّبهما؟

لم يبدُ أن جيفري قد سمعها؛ إذ قال: «إنهما يُكسبانكِ مظهرًا متجهمًا، وهو أمر يثير انفعال الجمهور، كما أن فكَّك عريض، وهو ما يجعلك أقرب إلى الإغريق. لعله من الأفضل تمثيل الأسطورة في فيلم سينمائي؛ إذ سيتسنى لي حينها أن آخذ لكِ لقطة قريبة؛ فمن المعتاد أن يكون ليوريديس مظهر ملائكي، وأنا لا أريد هذا المظهر.»

أخذت بولين تراجع دورها بينما تمشي مع مارا على طول الطريق. كان دورها يتضمَّن في نهايته بعض السطور التي تقلقها؛ ولذا دفعت العربة أمامها مكرِّرة إياها: «إنك رائع، تعلم هذا، إنك في روعة الملائكة. أتظن أن كلَّ مَن يمشي للأمام في شجاعتك وروعتك … أوه، لا تنظر إليَّ يا حبيبي، رجاءً، لا تنظر إليَّ … ربما لستُ ما تمنيتَ أن أكون عليه، لكنني هنا؛ دافئة، وطيبة، وأحبك. وسأمنحك السعادة على قدر استطاعتي. ولكن لا تنظر إليَّ. لا تنظر. دعني أعِش.»

سقطت منها بعض الكلمات سهوًا: «ربما لستُ ما تمنيتَ أن أكون عليه، لكنك تشعر بي هنا، أليس كذلك؟ دافئة، وطيبة …»

قالت لجيفري إن المسرحية رائعة.

فسألها: «حقًّا؟» لم يسرَّه ما قالت ولم يفاجئه، ويبدو أنه شعر أنه رأي متوقَّع وعديم الأهمية. لم يكن ليصف أي مسرحية بهذا الوصف، فقد كان يتحدث عنها وكأنها عقبة عليه أن يتجاوزها، أو تحدٍّ عليه أن يخوضه للانتصار على أعداء متعددين؛ أعداء على غرار المتعجرفين الأكاديميين — كما يسميهم — الذين عرضوا مسرحية «دوقة مالفي»، وأيضًا على غرار الأغبياء الاجتماعيين — كما يسميهم — ممثلي المسرح الصغير. كان يرى نفسه دخيلًا يفرض سيطرته على أولئك الأعداء، بتمثيل مسرحيته — كان يسميها مسرحيته — بالرغم من مقتهم ومعارضتهم. في البداية، ظنَّت بولين أن كل هذا يدور في مخيلته، وأن الأرجح أن هؤلاء الناس لا يعرفون شيئًا عنه. ثم حدث أمرٌ ما، قد يكون — لكنه قد لا يكون — مصادفة. كان لا بد من إجراء إصلاحات في قاعة الكنيسة التي ستعرض بها المسرحية، وهو ما جعل عرضها غير ممكن. وكذلك كانت هناك زيادة غير متوقعة في تكلفة طبع الملصقات الدعائية. فوجدت بولين نفسها تنظر للأمر من منظوره؛ فمن يقترب منه وقتًا طويلًا لا بد أن يرى الأمور من منظوره؛ فالجدال معه خطير ومرهق.

قال جيفري كازًّا على أسنانه، وإن كان بقليل من الرضا: «الأوغاد. لا أستغرب ما حدث.»

كانت بروفات المسرحية تتم في أحد الأدوار العليا بمبنى قديم بشارع فيسجارد. كان عصر يوم الأحد هو الوقت الوحيد الذي يجتمع فيه الجميع، لكن كانت هناك بروفات جزئية تقام على مدار الأسبوع. كان مرشد السفن المتقاعد الذي يؤدي دور السيد هنري قادرًا على حضور جميع البروفات، وكان يثير أعصاب البقية بمعرفته أدوارهم جميعًا. لكن مصففة الشعر — التي لم تكن لها أي خبرة إلا بأعمال جيلبرت وسوليفان لكنها الآن وجدت نفسها تؤدي دور أم يوريديس — لم تستطع ترك صالونها فترة طويلة في أي وقت آخر سوى عصر الأحد. وكذلك، كان سائق الحافلة الذي يؤدي دور حبيبها يشتغل بوظيفة يومية، مثله مثل النادل الذي يؤدي دور أورفيوس (وكان الوحيد الذي يأمل بينهم في أن يصبح ممثلًا حقيقيًّا). أما بولين، فقد كانت تضطر أحيانًا لأن تعتمد على جليسات أطفال في المرحلة الثانوية لا يُعتمد عليهن؛ لأن براين خلال الأسابيع الستة الأولى من الصيف كان منشغلًا بالتدريس في المدرسة الصيفية. وكذلك جيفري نفسه كان يتعيَّن عليه أن يوجد في عمله بالفندق بحلول الثامنة مساءً. لكن في عصر يوم الأحد، كانوا يُوجَدون جميعًا. وبينما كان غيرهم في الوقت نفسه يسبحون في بحيرة ثيتيس، أو يمشون في منتزه بيكون هيل بارك تحت الأشجار ويطعمون البط، أو يذهبون بسياراتهم خارج البلدة إلى شواطئ المحيط الهادئ، كان جيفري وفريقه يكدحون في غرفة مغبرة ذات سقف عالٍ في شارع فيسجارد. كانت نوافذها مقنطرة، كنوافذ بعض الكنائس البسيطة العريقة، وكانت تُفتح في الجو الحار، وتُسند بأي غرض يجده أعضاء الفريق أمامهم؛ مثل سجلات حسابات تعود إلى عشرينيات القرن العشرين وتخص متجر قبعات كان مفتوحًا في السابق في الطابق السفلي، أو قطع من الخشب متخلفة عن إطارات لوحة زيتية رسمها فنانون على القماش وقد أضحت مكدسة الآن ومهملة عند أحد الجدران. وكان الزجاج متسخًا لكن في الخارج انعكس ضوء الشمس على الأرصفة وأماكن ركن السيارات المفترشة بالحصى والمباني الجصية الخفيضة، فيما بدا بريقًا خاصًّا بيوم الأحد. ولم يكد يمرُّ أحدٌ في شوارع وسط المدينة، ولم تكن هناك محال مفتوحة عدا المقهى — أحيانًا — محدود المساحة، ومحل البقالة الذي يستعمره الذباب.

كانت بولين هي التي تذهب في الاستراحة لتبتاع المشروبات غير الكحولية والقهوة، وكانت هي أقلهم كلامًا عن المسرحية وعن كيفية سيرها — مع أنها الوحيدة التي قرأتها من قبل — وذلك لأنها الوحيدة التي لم تمارس التمثيل من قبل؛ لذا فقد بدا الأفضل لها أن تتطوع لهذا الأمر، وكانت تستمتع بالتمشية القصيرة في الطرقات الخالية؛ وكانت تشعر في تلك الأوقات أنها قد أصبحت شخصًا حضريًّا يعيش في عزلة عن الآخرين وإن سُلطت عليه الأضواء في حلم عظيم. أحيانًا كانت تفكر في براين وهو يعمل في الحديقة ويراقب الأطفال في المنزل. أو ربما يكون قد أخذهم إلى طريق دالاس؛ إذ وعدهم ذات مرة بأن يتنزهوا بمركب في البركة. بدت لها هذه الحياة مزرية ومملة بالمقارنة بما يحدث في بروفات المسرحية؛ تلك الساعات التي يقضونها في العمل والتركيز والأحاديث الحادة والعرق والتوتر، بل وحتى مذاق القهوة الساخنة المر التي اختارها الجميع وفضلوها على المشروبات الأشهى، غير أنها كانت تفضِّل المشروبات الباردة الأكثر حفاظًا على الصحة. كذلك كانت تحب نوافذ العرض في المتاجر المجاورة. لم يكن الشارع الذي ترتاده للوصول إلى قاعة البروفات واحدًا من الشوارع المبهرجة التي تقع قرب الميناء؛ فقد كان يعج بمحال إصلاح الأحذية والدراجات، ومتاجر الأصواف والأقمشة زهيدة الثمن، ومعارض الملابس والأثاث التي ظلت في نوافذ العرض حتى بدت مستعملة، وإن لم تكن كذلك. كذلك كانت بعض نوافذ العرض مغطاة من الداخل بطبقة من البلاستك الرقيق المجعد الذهبي اللون — الشبيه بالسلوفان — لحماية البضاعة المعروضة من أشعة الشمس. غير أن كل هذه المتاجر والمحال كانت تغلق أبوابها في هذا اليوم، الأحد، وإن بدت كما هي — لا تتأثر بتغيير الأيام — كرسوم على جدران الكهوف أو آثار مكتشفة تحت كثبان الرمال.

•••

عندما قالت إنها مضطرة أن تتغيب عن البروفات في إجازة لمدة أسبوعين، صُعق جيفري — وكأنه لم يتخيل يومًا أن حياتها قد تتخللها الإجازات — ثم بدأ يتعامل مع الفريق بجدية وقليل من السخرية؛ وكأن هذه ضربة أخرى كان ينبغي له توقعها. غير أن بولين أوضحت له أنها لن تتغيب عن البروفات سوى يوم واحد — ذاك الأحد الذي يتوسط الأسبوعين — لأنها وبراين سيذهبان بالسيارة إلى الجزيرة يوم الإثنين ثم يعودان صباح يوم الأحد الذي يليه، وقطعت على نفسها عهدًا أن تعود في الميعاد المحدد المزمع إقامة البروفة فيه. لكنها تساءلت فيما بينها كيف يمكنها الوفاء بذلك العهد؛ فدائمًا ما يستغرق الأمر أكثر من المتوقع لحزم الحقائب ومغادرة المكان، وتساءلت أيضًا إن كان يمكنها العودة بمفردها، مستقلة الحافلة التي تغادر في الصباح. ولكن قد يكون هذا الطلب مبالغًا فيه؛ لهذا لم تذكره لعائلتها.

ما استطاعت أن تسأله هو هل المسرحية هي جلُّ ما يفكر فيه؟ هل مجرد غيابها عن البروفة هو السبب وراء هذه الزوبعة؟ في هذه المرحلة، كان ذلك هو الأقرب إلى الحقيقة؛ فعندما كان يتحدث إليها خلال البروفات، لم يكن هناك أي إشارة إلى أنه يتحدث معها بطريقة تشي بغير ذلك. والاختلاف الوحيد في معاملته إياها مقارنةً بالفريق كان انخفاض سقف توقعاته منها ومن أدائها التمثيلي عما يتوقع من الآخرين. وكان هذا أمرًا مفهومًا للجميع. لقد كانت هي الوحيدة التي اختيرت فجأة لأجل مظهرها، أما الآخرون فقد تقدموا لاختبار أداء بعد أن قرءوا اللافتات الإعلانية التي علَّقها في المقاهي والمكتبات المنتشرة في أرجاء المدينة. كان يتوقع منها الجمود والارتباك الذي لم يُرِده من بقيتهم؛ ربما لأنها في أجزاء لاحقة من المسرحية من المفترض أن تمثل دور امرأة قد ماتت بالفعل.

لكنها ظنت أنهم جميعًا يعرفون؛ بقية الممثلين كلهم يعرفون ما يجري بالرغم من أساليب جيفري الفظة غير المتوقعة التي لا تتميز بكثير من التحضر. كانوا يعرفون أنه بعد أن يذهب كلٌّ منهم لحال سبيله، يمشي عبر الغرفة ويغلق رتاج الباب المؤدي إلى الدرج (في البداية كانت بولين تتظاهر بأنها تغادر مع بقية الممثلين، بل إنها كانت تستقل سيارتها وتدور حول الحي، لكن فيما بعد صارت هذه الحيلة مهينة؛ ليس لنفسها ولجيفري فقط، بل أيضًا للآخرين الذين كانت تثق أنهم لن يغدروا بها؛ لأنهم جميعًا — مثلها — يقعون تحت تأثير السحر المسرحي القوي مع أنه مؤقت).

يمشي جيفري عبر الغرفة ويغلق رتاج الباب؛ وفي كل مرة يبدو الأمر كقرار جديد لا بد أن يتخذه، وحتى ينتهي مما خطط له، ما كانت لتنظر إليه. صوت الرتاج وهو يندفع في فجوته اندفاعًا — ذاك الصوت المشئوم الحتمي لمعدن يضرب معدنًا — كان يبثُّ في نفسها صدمة مركَّزة تدفعها للاستسلام. ما كانت لتتحرك في ذلك الحين، وما كان منها سوى أن تنتظر ليعود إليها بعد أن تزول عن وجهه تعبيرات العناء والجهد والإحباط المعتاد والطبيعي. كل ذلك يتلاشى وتحل محله طاقة مفعمة بالحيوية طالما أدهشتها.

•••

تساءل والد براين: «أخبرينا عما تدور حوله هذه المسرحية؛ أهي واحدة من تلك المسرحيات التي يخلع فيها الممثلون ثيابهم على خشبة المسرح؟»

قالت أم براين: «لا تضايقها.»

قبل ذلك الحوار، كان براين وبولين قد وضعا صغيرتيهما في الفراش وتمشيا لكوخ الوالدين كي يحتسيا معهما مشروبًا. سارا ومن خلفهما شمس المغيب تفارق السماء أمام غابات جزيرة فانكوفر، وأمام أعينهم الجبال وقد بدت شديدة الوضوح في سماء مضيئة بلون وردي؛ انعكس عليها من قمم بعض الجبال الشاهقة — التي تقع داخل البلاد — وتُوجت قممها بثلوج صيفية وردية اللون.

قال براين بصوته التعليمي الجهور: «لا أحد يخلع ثيابه يا أبي، أتدري لماذا؟ لأنهم لا يرتدون أي ثياب في الأساس؛ أحدث صيحات العصر. وبعد هذه المسرحية سيؤدون مسرحية «هاملت» عراة، ثم «روميو وجولييت» عراةً. يا إلهي! مشهد الشرفة حين يتسلق روميو التعريشة فيعلق في شجيرات الورد …»

قالت أمه: «أوه، براين.»

قالت بولين: «تحكي قصة أورفيوس ويوريديس أن يوريديس ماتت، فذهب أورفيوس إلى العالم السفلي محاولًا استعادتها مرة أخرى. وهناك أجيب طلبه بشرط واحد؛ هو أن يَعِد ألا ينظر إليها، ألا ينظر للخلف لرؤيتها. وكانت هي تمشي وراءه …»

قاطعها براين: «باثنتي عشرة خطوة بالتمام والكمال.»

قالت بولين: «إنها قصة إغريقية عُدِّلت لتناسب العصر الحديث، على الأقل هذه النسخة؛ فهي حديثة إلى حدٍّ ما. فأورفيوس موسيقي رحَّال مع والده — وكلاهما موسيقيان — ويوريديس ممثلة، والقصة تدور أحداثها في فرنسا.»

قال والد براين: «أهي مترجَمة؟»

قال براين: «لا، لكن لا تقلق فهي ليست باللغة الفرنسية، إنها مكتوبة بالرومانية.»

قالت أم براين وهي تضحك ضحكة يشوبها القلق: «من الصعب أن يفهم المرء أي شيء حين يكون براين موجودًا.»

قالت بولين: «إنها بالإنجليزية.»

«وأنت تؤدين دور مَن؟»

قالت: «يوريديس.»

«وهل سيستعيدك بسلام؟»

قالت: «كلا، سينظر إليَّ؛ ولذا سأظل في عداد الموتى.»

قالت أم براين: «أوه، نهاية غير سعيدة.»

قال والد براين متشككًا: «وهل أنتِ رائعة الجمال حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من النظر إلى الخلف؟»

قالت بولين: «الأمر ليس كذلك.» لكنها أحسَّت أن حماها حقَّق شيئًا ما كان يريده — وطالما أراده في كل مرة جرى بينهما حوار — ألا وهو معرفة تفاصيل أمر ما طلبه منها، ومع أنها تلبي طلبه بطول أناة — وإن كان على مضض — يستخفُّ هو بتفاصيلها ويسفهها بتجاهل ظاهري. فمنذ وقت طويل، كان الحمو يمثل لها خطرًا يهددها على هذا النحو، لكن الأمر اختلف هذه الليلة.

أما براين، فلم يكن يعرف شيئًا عن ذلك، لكنه ما زال يحاول العثور على مخرج يمكن إنقاذها منه.

قال براين: «بولين فاتنة.»

قالت أمه: «نعم بالفعل.»

فرد أبوه: «ربما، إن ذهبت لمصفف الشعر.» إذ كان شعر بولين الطويل يثير اعتراضه منذ زمن؛ حتى إنه تحول لموضوع دعابة تتندر به العائلة. وحتى بولين ضحكت حينها قائلةً: «لا أستطيع تحمل نفقة الذهاب لمصفف الشعر حتى نصلح سقف شرفتنا.» وكذلك ضحك براين ضحكة صاخبة ملؤها الشعور بالارتياح لتقبُّلها القول على سبيل الدعابة؛ فقد كان دائمًا يحثُّها على هذا.

كان يقول لها: «ردِّي عليه مزاحه؛ هذه هي الطريقة الوحيدة للتعامل معه.»

قال الأب: «نعم معكِ حق، لكن إن اشتريتما منزلًا مناسبًا تعيشان فيه.» لكن المنزل لا يختلف شيئًا عن شعر بولين من حيث كونه نقطة حساسة اعتاد إثارتها ولا يمكن أن تضايق أحدًا. كان براين وبولين قد ابتاعا منزلًا جميلًا — وإن كانت إصلاحاته غير مجدية — في أحد شوارع فيكتوريا التي بدأت قصورها القديمة تتحول إلى مبانٍ مقسمة إلى شقق يسيء السكان استخدامها. فكان ذاك المنزل، والشارع الكائن فيه، وأشجار البلوط القديمة المزروعة بعشوائية في المكان — وكذلك عدم اشتمال المنزل على قبو أسفله — من الأشياء التي أثارت سخط والد براين. وعادةً ما كان براين يوافق والده، بل ويحاول أن يزيد من هذا الشعور؛ فإذا أشار والده إلى البيت المجاور — الذي يتقاطع أمامه سلم الطوارئ بلونه الأسود — وسأل عن طبيعة الجيران الذين يسكنون هذا البيت، يقول براين: «مساكين للغاية يا أبي؛ يدمنون المخدرات.» وعندما يسأله أبوه عن كيفية تدفئة هذا المنزل، يقول: «بمدافئ الفحم؛ لم يتبقَّ منها الكثير هذه الأيام. ومع أن الفحم ثمنه بخس، فإنه بالطبع قذر كريه الرائحة.»

لهذا، كان ما قاله أبوه الآن عن المنزل المناسب بادرة سلام؛ أو يمكن اعتباره كذلك.

كان براين ابنًا وحيدًا، يعمل مدرسًا للرياضيات، أما أبوه فهو مهندس مدني وشريك في شركة مقاولات؛ ولم يُذكر قط أنه تمنى يومًا لو أن له ابنًا مهندسًا يعمل معه في الشركة. وبخصوص ذلك، سألت بولين زوجها عما إذا كان يظن أن انتقاد أبيه لمنزلهما وشعرها والكتب التي تقرؤها قد يكون للتغطية على خيبة أمله الكبرى — أن ابنه ليس مهندسًا يشاركه العمل في الشركة — لكن براين قال لها: «كلا، في عائلتي نشكو مما نريد أن نشكو منه، فنحن لا نتميز باللباقة يا سيدتي.»

لكن هذا التساؤل لم يغادر ذهن بولين عندما سمعت أمه تتحدث ذات مرة عن أن المدرسين أحق الناس بالتبجيل في العالم بأسره، وعن أنهم لا يَلقَوْن نصف التقدير الذي يستحقونه، ولا تدري كيف نجح براين في عمله بمرور الوقت. وحينها كان أبوه يقول: «هذا حقيقي»، أو «مما لا شك فيه أنني لا أرغب في العمل في هذه الوظيفة؛ فلن يمكنهم دفع ما يكفي من المال.»

فيقول براين: «لا تقلق يا أبي، لن يدفعوا لك الكثير.»

إنَّ حياة براين اليومية جعلته شخصًا أكثر درامية بكثير من جيفري؛ إذ كان يسيطر على الفصل الدراسي بدعاباته ونكاته وسلوكياته الغريبة المستمرة، فيما يُعد امتدادًا للدور الذي لا يفتأ يلعبه مع أبيه وأمه؛ كما تظن بولين. كان يتصرف بشكل أخرق، لا تكسره الإهانات المزعومة، بل ويرد عليها المثل بالمثل؛ كانت له اليد العليا مدافعًا عن الحق غير مفسد، مزعجًا لكن مرحًا.

قال ناظر المدرسة لبولين ذات مرة: «فتاكِ ترك أثرًا لدينا بلا شك. لم يكتفِ بأن عاش بيننا، وهو الشيء الصعب في حد ذاته، وإنما ترك أثرًا لدينا.»

فتاكِ.

كان براين يسمي تلاميذه بالأغبياء، وكانت نبرة صوته معهم رقيقة ولكن متشائمة. قال إن أباه كان ملك الفلسطينيين القدماء — من سلالة البرابرة الخالصة — وإن أمه كانت جميلة جذابة طيبة القلب ولكن أعياها الزمن. ورغم تجاهله لهما، لم يكن يطيق البقاء وقتًا طويلًا بعيدًا عنهما. وكان يأخذ تلامذته أيضًا في رحلات تخييم. وما كان يتخيل الصيف دون قضاء الإجازة مع أبيه وأمه. وكل عام كان يرتعب من فكرة أن ترفض بولين الذهاب معهم، أو أنها — إذا ما وافقت — تبتئس وتشعر بالإهانة مما يقول والده، أو تتذمر من طول الوقت الذي تقضيه مع أمه، وتتجهم لعدم استطاعتهما الانفراد بأنفسهما أبدًا. وقد تقرِّر أن تقضي اليوم كله في كوخهما تقرأ، مدعيةً أنها تعاني حروقًا من أثر الشمس.

كل هذه الأمور حدثت في إجازات سابقة، لكنها بدت مستريحة هذه السنة، وقد أخبرها أنه لاحظ ذلك وممتنٌّ لأجله.

قال: «أعي ما تبذلين من جهد، أما بالنسبة إليَّ فالأمر يختلف؛ فهما أبواي وليس من عادتي أخذهما على محمل الجد.»

تربَّت بولين في عائلة تأخذ الأمور على محمل الجد؛ مما أدى إلى طلاق الأبوين. توفيت أمها منذ فترة، أما أبوها وأختاها — الأكبر سنًّا — فتجمعها بهم صلة ضعيفة وإن كانت صلة رحم. كانت تقول إنه لا يوجد شيء مشترك بينهم، إلا أنها كانت على دراية بأن براين لا يمكنه أن يفهم أن يكون ذلك سببًا للبُعد. ولقد لاحظت هذا العام كيف سعِد بسير الأمور على ما يرام؛ وكانت ترى في الإجازات السابقة أن كسله أو عدم شجاعته يمنعانه من أن يتوقف عن هذا التقليد المكرر، لكنها الآن ترى أن السبب أكثر إيجابية بكثير؛ فلقد كان يريد أن يجمع زوجته وأبويه وطفلتيه ويجعلهم مترابطين معًا؛ أراد أن يُدخل بولين إلى حياته مع أبويه، ويدفع أبويه للتعرف عليها؛ مع أن معرفة أبيه بها متحفظة ومتناقضة، ومعرفة أمه سخية وسلسة. وكذلك أراد أن ترتبط بولين وطفلتاه بطفولته؛ أراد أن تكون هذه العطلات متصلة بالعطلات التي كان يقضيها في طفولته ما بين طقس سيئ وطقس بديع، ومشاكل ناتجة عن أعطال بالسيارة، ومخالفات مرورية، وذعر يتخلل الرحلات البحرية، ولدغات النحل، وماراثون ألعاب المونوبولي، إضافةً إلى كل الأشياء التي كان يقول لأمه إن سماعها يضجره أيما ضجر. كان يريد أن تُلتقط لهم صورٌ هذا الصيف ثم توضع في ألبوم صور أمه، استكمالًا لكل الصور التي كان يتأفَّف من مجرد ذكرها.

لم يستطيعا خلال الإجازة التحدث إلا في آخر الليل، حين يأويان إلى الفراش، لكنهما كانا يتحدثان حينها أكثر مما يتحدثان عادة في بيتهما؛ لأن براين في الغالب يكون مرهقًا جدًّا فيغطُّ في نومه على الفور. وفي أثناء النهار، يكون من الصعب في العادة التحدث إليه بسبب دعاباته المستمرة التي — كما رأت بولين — تضفي لمعانًا على عينيه عندما يتلفظ بها (وكان يشبهها في لون الشعر الغامق والبشرة الشاحبة والعينين الرماديتين؛ غير أن عينيها غامقتان وعينيه فاتحتان، كماء صافٍ يجري فوق الصخور). كانت تلاحظه بينما يبحث بين الكلمات عن تورية لفظية أو بدء قافية — أو أي شيء يمكن أن يُخرِج به المحادثة إلى حيز العبث — وجسده بأكمله الطويل المرتخي، الذي لا يزال في نحافة المراهقين، يختلج بنزعة كوميدية. وقبل أن تتزوجه بولين، كانت لها صديقة تدعى جراسي؛ وكانت فتاة تبدو متجهمة تكره الرجال. وكان براين يراها في حاجة إلى رفع معنوياتها؛ ولهذا بذل معها أكثر من الجهد المعتاد، حتى إن جراسي قالت لبولين: «كيف تتحملين هذا العرض المستمر؟»

فردَّت بولين: «هذا ليس براين على حقيقته، فهو يختلف حين نكون بمفردنا.» لكنها حين تتذكر ما حدث، تتساءل هل كان ما قالته صحيحًا؟ هل قالت هذا ببساطة كي تدافع عن خيارها كما يفعل المرء حين يعقد عزمه على الزواج؟

لذا كان الكلام معه في الظلام يتعلق بعدم رؤية وجهه، وبمعرفته أنها لا تستطيع النظر إلى وجهه.

ولكنه مع ذلك كان يضايقها قليلًا حتى في ظلمة الليل — غير المألوفة لهما — وسكونه. كان يتحدث دومًا عن جيفري واصفًا إياه ﺑ «السيد المخرج» ناطقًا اللقب بالفرنسية؛ مما جعل المسرحية — أو كونها فرنسية — سخيفة إلى حدٍّ ما. أو ربما كان المقصود هو جيفري نفسه وجديته بشأن المسرحية.

أما عن بولين، فلم تبالِ بهذه المضايقات، بل كان من دواعي سرورها وارتياحها ذكر اسم جيفري.

وفي الغالب لم تكن تذكر اسمه، وإنما تدور حول متعة ذكره من بعيد. فكانت تصف الآخرين جميعًا؛ مصففة الشعر، مرشد السفن، النادل، والرجل العجوز الذي ادعى أنه سجَّل في الإذاعة ممثلًا ذات مرة. كان يؤدي في المسرحية دور والد أورفيوس، وكان أكثر من أتعب جيفري؛ لأنه صاحب آراء عنيدة حول التمثيل.

أما دور قائد الفرقة الموسيقية — السيد دولاك — الذي هو في منتصف العمر، فكان يلعبه وكيل سفريات في الرابعة والعشرين من عمره. ودور ماتياس — عشيق يوريديس السابق — يؤديه مدير متجر أحذية؛ متزوج وله أطفال.

تساءل براين لماذا لم يعطِ السيد المخرج كلًّا من هذين الرجلين دور الآخر.

فقالت بولين: «ذاك هو أسلوبه؛ فما يراه فينا لا يراه غيره.»

قالت على سبيل المثال إن النادل يؤدي دور أورفيوس بشكل أخرق.

«فهو لم يتعدَّ التاسعة عشرة من عمره، وخجول جدًّا، ودومًا ما يضايقه جيفري لهذا السبب؛ يطلب منه ألا يؤدي دوره كأنه يمارس الحب مع جدته، ودومًا ما يملي عليه ما يجب فعله، مثل: «دعها بين ذراعيك فترة أطول» … «لاطفها برفق». ولا أدري كيف سينجح هذا الأمر؛ لكن عليَّ أن أثق في جيفري، وفي أنه يعي ما يفعل.»

قال براين: «لاطفها برفق! ربما يجب أن أحضر وأراقب هذه البروفات جيدًا.»

عندما بدأت بولين في ترديد كلام جيفري، شعرت باضطرابات في رحمها أو أسفل معدتها، ثم أحست بالصدمة تتقدم تدريجيًّا لأعلى على نحو غريب حتى ضربت أحبالها الصوتية. كان عليها أن تخفي هذه الرجفة في صوتها بدمدمة وكأنها تحاكي صوت جيفري (مع أن جيفري لم يدمدم قط، وكذلك لم يتحدث بصخب أو بأي طريقة مسرحية على الإطلاق).

فأسرعت قائلة: «لكن هناك هدفًا من كونه بهذه البراءة، وعدم جرأته على القرب الجسدي، ومن طبيعته الخرقاء.» ثم أخذت تتكلم عن أورفيوس؛ الشخصية المسرحية، وليس النادل. فأورفيوس كان يعاني من مشكلة مع الحب أو الواقع؛ لم يرضَ بغير الكمال بديلًا، ويريد حبًّا لا يمتُّ للحياة العادية بصلة. يريد يوريديس المثالية.

«أما يوريديس فهي أكثر واقعية. كانت لها علاقات مشينة مع ماتياس والسيد دولاك، وكانت تعيش بالقرب من أمها وعشيق أمها؛ لذا فهي تعرف طبائع الناس. لكنها تحب أورفيوس؛ تحبه بطريقة أفضل من طريقة حبه لها؛ لأنها ليست بحماقته؛ ولأنها تحبه كإنسان.»

قال براين: «لكنَّ هذين الرجلين الآخرين ضاجعاها.»

«الواقع أنها اضطرت لمضاجعة السيد دولاك ولم يكن بيدها حيلة. لم تكن ترغب فيه في البداية، لكنها صارت على الأرجح تستمتع بالعلاقة بعد فترة؛ إذ لم تستطع في مرحلة معينة منع نفسها من الاستمتاع.»

أورفيوس هو المَلوم؛ حسبما قالت بولين بحزم. وفي العالم السفلي، التفت إلى يوريديس عامدًا قتلها والتخلص منها؛ لأنها ليست مثالية. وهكذا بسببه، تموت للمرة الثانية.

قال براين وهو مستلقٍ على ظهره وعيناه مفتوحتان (علمت ذلك من نبرة صوته): «لكن ألا يموت بذلك هو أيضًا؟»

«نعم، هو مَن اختار.»

«إذن فقد قتل نفسه ليصيرا معًا؟»

«نعم، مثل روميو وجولييت. «أورفيوس ويوريديس أخيرًا معًا.» ذاك هو السطر الأخير في المسرحية، يقوله السيد هنري. إنها النهاية.» انقلبت بولين على جانبها ومست بوجنتها كتف براين؛ لا لشيء سوى التأكيد على ما ستقوله: «من ناحية، هي مسرحية جميلة، لكنها من ناحية أخرى سخيفة جدًّا؛ فهي لا تشبه في الواقع مسرحية «روميو وجولييت»؛ لأن أحداثها لا تعتمد على الحظ العاثر أو الظروف السيئة، وإنما كل شيء يحدث فيها عن عمد؛ لذا فليس على بطليها خوض الحياة بتطورها الطبيعي، من زواج وإنجاب وشراء منزل قديم، ثم إصلاحه و…»

قاطعها براين: «ويخون أحدهما الآخر؛ فهما على كل حال فرنسيان.»

ثم قال: «ويكونان مثل أبويَّ.»

ضحكت بولين وقالت: «هل يخون أحدهما الآخر؟ يمكنني أن أتخيل هذا.»

قال براين: «طبعًا. أقصد مثلهما في أسلوب حياتهما. أرى أنه من المنطق أن يقتل المرء نفسه حتى لا يصير كوالديه. لا أصدق أن امرأً قد يحذو حذو أبويه.»

قالت بولين حالمةً: «لكل إنسان اختياراته؛ فأمها وأبوه كلاهما بغيضٌ، لكن ليس بالضرورة أن يكون أورفيوس ويوريديس مثلهما. إنهما ليسا فاسدين. هي ليست فاسدة لمجرد أنها أقامت علاقات مع هذين الرجلين. لم تكن حينها قد وقعت في الحب بعد. لم تكن قد قابلت أورفيوس. هناك مشهد يقول لها فيه إن كل ما فعلته يلازمها طوال الوقت، وإن هذا لأمر مقزز. الأكاذيب التي حدَّثته عنها، والرجلان اللذان ضاجعاها؛ كل هذا سيلازمها إلى الأبد. وحينها بالطبع سيلعب السيد هنري على هذا الوتر، ويقول لأورفيوس إنه لن يقلَّ عنها سوءًا، وإنه يومًا ما سيمشي مع يوريديس في الطرقات، وسيبدو كرجل معه كلب يحاول التخلص منه.»

ما أدهشها هو أن براين ضحك.

قالت: «كلا، هذه حماقة. ما قلت ليس حتميًّا، ليس حتميًّا على الإطلاق.»

أخذا يتأملان الأمور، ويتجادلان بأريحية بشكل لم يعتاداه؛ وإن لم يكن غريبًا عليهما بالكلية. لقد فعلا هذا من قبل على فترات طويلة متقطعة على مدار حياتهما الزوجية. كانا يقضيان نصف الليل يتحدثان عن الرب أو الخوف من الموت، أو يتساءلان كيف يجب أن تتعلم صغيرتاهما، أو عما إذا كان المال مهمًّا. ولكن أخيرًا قالا إنهما قد أُرهقا على نحو يتعذر معه الفهم والإدراك لفترة أطول، فاتخذا وضعًا حميميًّا واستغرقا في النوم.

•••

وأخيرًا، أمطرت السماء ذات يوم. استقلَّ براين وأبواه سيارتيهم واتجهوا نحو مدينة كامبل ريفر ليبتاعوا البقالة والجِن، وليذهبوا بسيارة الأب إلى ورشة الإصلاح لتفقد المشكلة التي طرأت عليها في الطريق من نانايمو. كانت مشكلة بسيطة جدًّا، لكن السيارة كانت لا تزال في فترة الضمان؛ لذلك أراد والد براين أن يُتم فحص السيارة على وجه السرعة. واضطر براين أن يذهب معهما مستقلًّا سيارته تحسبًا لأن يضطروا لترك سيارة الأب في الورشة. أما بولين فقالت إن عليها أن تظل في البيت حتى تحظى مارا بقيلولتها.

كذلك أقنعت كيتلِن بأن تأوي إلى فراشها أيضًا، وسمحت لها بأن تأخذ معها صندوق الموسيقى إلى الفراش، شريطة ألا تشغِّله بصوت عالٍ. وبعد ذلك، فتحت بولين نص المسرحية على طاولة المطبخ، واحتست فنجان قهوة، وأخذت تراجع المشهد الذي يقول فيه أورفيوس إنه من غير المحتمل — في النهاية — أن يظلا جسدين منفصلين، كلٌّ منهما منغلق على ما فيه من دم ولحم، كلٌّ في عزلته، فتطلب منه يوريديس أن يصمت.

«لا تتكلم، لا تفكر، فقط دع يدك تلمسني، دعها تستمتع.»

تقول يوريديس: يدك سبب سعادتي. تَقبَّلها على هذا النحو. تَقبَّل سعادتك.

وبالطبع يقول إنه لا يستطيع.

نادتها كيتلِن بشكل متكرر لتسألها كم الساعة. رفعت صوت صندوق الموسيقى، فهرعت بولين إلى غرفة النوم وهمست لها بأن تخفض الصوت لكيلا توقظ مارا.

«إذا رفعتِ صوته مرة أخرى فسوف آخذه منك، أتفهمين؟»

لكن مارا كانت قد بدأت بالفعل تتمتم في مهدها، وخلال دقائق قليلة أخذت كيتلِن تتحدث بصوت خفيض مشجعةً أختها على الاستيقاظ، كما أنها رفعت صوت صندوق الموسيقى ثم خفضته بسرعة. وبعدها مباشرةً هزت مارا حاجز المهد — فأحدث صوتًا — وشدَّت نفسها لأعلى، ملقيةً زجاجة الرضاعة على الأرض، ثم شرعت تبكي بكاءها الطفولي الذي أخذ يعلو ويعلو حتى أتت أمها.

قالت كيتلِن: «لم أوقظها، هي استيقظت من تلقاء نفسها. لقد توقَّف المطر الآن، فهل يمكن أن نذهب إلى الشاطئ؟»

كانت محقة؛ لم تعد السماء تمطر. فسريعًا قامت بولين بتغيير حفاضة مارا، وطلبت من كيتلِن أن ترتدي ملابس السباحة وتبحث عن دلو الرمال. وارتدت هي الأخرى ملابس السباحة ثم سروالها القصير تحسبًا لأن تصل بقية العائلة وهي على الشاطئ (قالت لها أم براين ذات مرة: «لا يحب حماكِ الطريقة التي تخرج بها بعض النساء من أكواخهن مرتديات ملابس السباحة، أعتقد أنني وإياه تربينا في زمان آخر»). أخذت نص المسرحية في يدها ليكون معها على الشاطئ، ثم أعادته مكانه مرة أخرى؛ فلقد خشيت أن تنهمك في قراءته فتغفل عن صغيرتيها فترة طويلة.

لم تكن الأفكار التي تراودها عن جيفري في حقيقة الأمر أفكارًا، وإنما كانت تغيرات تحدث في جسدها؛ قد يحدث هذا حين تجلس على الشاطئ (محاولة أن تستظلَّ بظل شجيرة كي تحافظ على لون بشرتها الشاحب، كما أمر جيفري)، أو حين تغسل الحفاضات، أو حين تكون مع براين في زيارة لأبويه، وحين تلعب المونوبولي أو لعبة الكلمات المبعثرة أو تلعب بأوراق اللعب. كانت تستمر في التحدث أو الاستماع أو العمل أو مراقبة الأطفال، بينما يجول في ذهنها ذكرى حياتها السرية لتزعجها وتثيرها، ثم يراودها شعور بدفء واطمئنان شديدين يغمرانها. غير أنه شعورٌ لا يدوم، بل يتسلل منها ويتلاشى ارتياحها فتصبح كالبخيل الذي فقد ثروته وظن أن لن يواتيه الحظ مرة أخرى. يغالبها الشوق للقياه، فتعد الأيام والليالي، بل كانت — أحيانًا — تقسِّم الأيام إلى أجزاء كي تحدد كم مضى بالضبط منها.

فكَّرت أن تذهب إلى كامبل ريفر، وتختلق عذرًا ما كي تذهب إلى كابينة اتصالات وتهاتفه؛ فلم يكن بالأكواخ أي هواتف، والهاتف العمومي الوحيد كان موجودًا في بهو النزل. لكن لم يكن معها رقم هاتف الفندق الذي يعمل فيه جيفري، وأيضًا فإنها لا يمكن أن تذهب إلى كامبل ريفر في المساء، وكانت تخشى إذا هاتفته في البيت نهارًا، أن ترد عليها أمه؛ معلمة اللغة الفرنسية؛ فقد قال لها إن أمه نادرًا ما تغيب عن البيت خلال الصيف، وذات مرة — لم تتكرر — ركبت البحر إلى فانكوفر لقضاء اليوم على مركب في الماء، وحينها، هاتف جيفري بولين طالبًا منها أن تأتيه؛ وقتها كان براين في المدرسة وكيتلِن تلعب مع مجموعة اللعب المشتركة فيها.

قالت بولين: «لا أستطيع؛ مارا بصحبتي.»

فقال جيفري: «مَن؟ أوه، كم هذا مؤسف! لكن ألا يمكن أن تحضريها معك؟»

أجابته بالنفي.

«ولِمَ لا؟ ألا يمكنك أن تحضري بعض الألعاب كي تلهو بها؟»

قالت بولين: «لا أستطيع، لا يمكنني أبدًا.» بدا لها أمرًا خطيرًا أن تجرَّ ابنتها معها في هذه الرحلة الآثمة إلى بيت لا توضع فيه سوائل التنظيف على أرفف عالية، أو الحبوب والشراب والسجائر والأزرار في غير متناول الأطفال. وحتى إن لم تتسمَّم مارا أو تختنق، فمن الممكن أن تختزن في داخلها قنابل موقوتة؛ ذكريات لمنزل غريب كانت تُترك فيه وحيدة أمام باب مغلق، ومن ورائه أصوات وصيحات.

قال جيفري: «كل ما أردتُهُ أن أحظى بكِ. أردتُ أن أحظى بكِ في فراشي.»

رددت بضعف: «لا.»

ظلت كلماته تتردد في نفسها: «أردت أن أحظى بك في فراشي.» قالها بنبرة صوت مثيرة يشوبها إلحاحٌ وتصميمٌ وعمليةٌ، وكأن قوله: «في فراشي» يعني ما هو أكثر من الفراش المتعارف عليه، وشعرت أن له أبعادًا أكبر لا تمت للأبعاد المادية بصلة.

هل ارتكبتْ خطأً جسيمًا برفضها عرضه؟ هل هذا تذكير بكَمْ هي محاصرة فيما يمكن أن تُسمى حياتها الحقيقية؟

•••

كان الشاطئ شبه خالٍ؛ فقد غاب عنه الناس اليوم بسبب المطر، وكانت الرمال مبللة وثقيلة بما لا يمكِّن كيتلِن من بناء قلعة أو حفر قناة ري؛ وهي أنشطة ما كانت الفتاة تمارسها على أي حال إلا في وجود أبيها؛ لأنها كانت تحس بأنه يوليها اهتمامًا عظيمًا، بينما لا تبالي بها بولين؛ ولذا أخذت تتجول وحيدة متجهمة على حافة الماء. الأرجح أنها كانت تفتقد وجود أطفال آخرين؛ أولئك الذين تصادقهم ما إن تراهم — على غير علم بأسمائهم — وأحيانًا يتحولون إلى أعداء يلقون الأحجار ويركلون الماء بعضهم في وجوه بعض، ولا يتوقفون عن الصياح والعبث بالماء والسقوط فيه أيضًا. رأت الفتاة صبيًّا أكبر منها قليلًا يقف وحيدًا في البحر — فيما بدا لها — بعيدًا عن الشاطئ والماء عند ركبتيه. إذا ما اجتمع الاثنان معًا، فسيكون كل شيء على ما يُرام؛ إذ ستستطيع الفتاة استرجاع تجاربها على الشاطئ. ولم تستطع بولين تخمين إذا ما كانت كيتلِن تجري مثيرة المياه حولها لأجله، وما إذا كان الصبي ينظر إليها منزعجًا أم مهتمًّا.

أما عن مارا، فلم تكن في حاجةٍ لصحبة لها على الشاطئ — الآن على الأقل — وكل ما فعلته أنها تعثرت في مشيتها إلى المياه، وحينما شعرت بالماء يلمس قدميها عدلت عن رأيها، فتوقفت ثم أخذت تتلفَّت حولها، ولمَّا رأت بولين قالت فرحة: «بو. بو.» إذ كانت تنادي بولين بهذا الاسم، بدلًا من «ماما»، أو «أمي». أخلَّ تلفُّتها حولها بتوازنها، فجلست حيثما كانت — نصفها على الرمال ونصفها على الماء — وصاحت متفاجئة للفت نظر أمها إليها. وبعدها أخذت تحاول بشيء من التصميم الذي يعوزه الخفة والتوازن كي تنهض — مستندة إلى يديها — إلى أن وقفت على قدميها متمايلة ظافرة. كانت قد تعلمت المشي منذ ستة أشهر، لكن السير على الرمال كان يمثل تحديًا لها. وبعدها عادت إلى بولين، قائلةً أشياء مألوفة بلغتها الخاصة.

قالت بولين وهي تمسك في يدها حفنة من الرمال: «انظري يا مارا، إنها رمال.»

لكن مارا صححت لها الاسم ونطقت كلمة أخرى من قاموسها على نفس الوزن. كانت حفَّاضتها السميكة المبللة — التي ترتديها تحت السروال التحتي البلاستيكي وثياب اللعب المصممة من قماش المناشف القطني — تُظهر مؤخرتها سمينة. وهذا كله مع وجنتيها وكتفيها الممتلئتين ونظرتها المغرورة من جانب عينها، جعلها أشبه بامرأة ناضجة متحفزة.

انتبهت بولين لصوت ينادي اسمها، لكنها لم تنتبه له في المرة الأولى — بل في الثانية أو الثالثة — لأنه لم يكن صوتًا مألوفًا. فوقفت ولوَّحت بيدها، ووجدت صاحبة الصوت هي المرأة التي تعمل في متجر النزل. كانت تطل من الشرفة وتنادي: «سيدة كيتنج، سيدة كيتنج، اتصال لكِ سيدة كيتنج.»

رفعت بولين مارا من الأرض وحملتها ساندة إياها على فخذها من أعلى، وصاحت مناديةً كيتلِن التي كانت قد تعرَّفت على الصبي وأخذا يلتقطان الحجارة من القاع ثم يقذفانها في الماء. لم تسمع نداء بولين في البداية أو فقط تظاهرت بهذا.

صاحت بولين: «إلى المتجر يا كيتلِن، إلى المتجر.» كانت واثقة من أن كيتلِن ستتبعها إلى المتجر — كانت كلمة «المتجر» تبث في نفسها سرورًا بالغًا؛ ذاك المتجر الصغير الموجود في النزل حيث تستطيع شراء الآيس كريم والحلوى والسجائر والمشروبات غير الكحولية التي تُخلَط بالخمر — وبدأت رحلتها عبر الرمال وصعدت الدرج الخشبي متجاوزةً الرمال وشجيرات السلال. وفي منتصف الدرج توقفت وقالت مخاطبة مارا: «وزنك ثقيل يا مارا.» ثم نقلت الطفلة إلى الناحية الأخرى، بينما ضربت كيتلِن الدرابزين بعصًا في يدها.

«هل يمكن أن تشتري لي حلوى الفدج المثلج يا أمي؟ أمي، ممكن؟»

«سوف نرى.»

«أرجوكِ، هل يمكن أن أشتري الفدج المثلج؟»

«انتظري.»

كان بجوار الهاتف العمومي لوحة ملاحظات معلقة على الجانب الآخر من البهو الرئيسي قبالة باب غرفة الطعام، وكانت هناك لعبة بينجو مفترشة بالداخل بسبب هطول المطر خارج النزل.

قالت السيدة التي تعمل في المتجر بصوت مرتفع: «آمل أن يكون ما زال في انتظارك.» ثم توارت خلف الطاولة جالسةً على كرسيها.

التقطت بولين سماعة الهاتف المتدلية أمام الطاولة — وهي لا تزال تحمل مارا — وقالت لاهثةً: «مرحبًا.» كانت تتوقع أن تسمع صوت براين يخبرها عن تأخيرهم في كامبل ريفر أو يسألها ماذا كانت تريد من الصيدلية؛ فقد كان شيء واحد فحسب هو ما نسي تدوينه ليجلبه لها، وهو لوسيون كالامين.

غير أنه كان جيفري، وقال لها: «بولين. إنه أنا.»

أخذت مارا تضرب جانب بولين، وتتملص من يدها لتنزلها إلى الأرض، أما كيتلِن فقد مشت عبر البهو حتى دخلت المتجر، وطبعت قدماها آثارًا رملية مبللة على الأرض. قالت بولين مكررةً: «لحظة واحدة.» وتركت مارا تنزلق من بين يدها، وهرعت لتغلق الباب المؤدي إلى الدرج. لا تذكر أنها أخبرت جيفري باسم هذا المكان مع أنها أخبرته بموقعه تقريبًا. سمعت المرأة العاملة في المتجر تخاطب كيتلِن بنبرة أكثر حدة من تلك التي تخاطب بها الأطفال الذين يكون ذووهم معهم.

«هل نسيتِ أن تغسلي قدميك تحت صنبور الماء؟»

قال جيفري: «أنا هنا. لم أستطع العيش بدونك، لم أستطع على الإطلاق.»

اتجهت مارا نحو غرفة الطعام، وكأن الصوت الذكوري الذي صاح قائلًا: «تحت اﻟ …» كان دعوة مباشرة لها.

قالت بولين: «هنا، أين؟»

قرأت اللافتات المثبتة على لوحة الملاحظات التي تجاور الهاتف:
«غير مسموح لأي طفل دون الرابعة عشرة أن يستقل القوارب والزوارق دون صحبة أحد البالغين.»
«سباق صيد.»
«سوق مخبوزات ومعرض مشغولات فنية بكنيسة سانت بارثولوميو.»
«حياتك في يديك: قراءة الكف والورق قراءة دقيقة ومنطقية؛ فقط اتصل بكلير.»
«في نزل بكامبل ريفر.»

عرفت بولين أين هي قبل أن تفتح عينيها، لم يفاجئها شيء؛ نامت لكن نومها لم يكن عميقًا حتى تنسى معه كل شيء.

انتظرت براين في مرأب النُّزل، ومعها البنتان، ثم طلبت منه المفاتيح. أخبرته أمام والديه أنها تحتاج شيئًا آخر من كامبل ريفر، فسألها عن هذا الشيء، وعما إذا كان معها نقود.

فردَّت عليه: «شيء ما.» لعله يظن أنها تقصد فوطًا صحية أو وسيلة منع الحمل، ولا تريد أن تذكرها. فقال لها: «حسنًا.»

وأضاف: «لكن لا بد أن تزوِّدي السيارة بالوقود.»

لا بد أن تهاتف زوجها فيما بعد؛ هكذا أخبرها جيفري.

«لأنه لن يصدق كلامي، سيظن أنني اختطفتك أو ما شابه هذا. لن يصدقني.»

لكن أغرب ما جرى ذلك اليوم أن براين — فيما يبدو — صدق هذا الأمر على الفور، وحينها كان يقف في المكان نفسه الذي لم تُطِل هي الوقوف فيه متحدثةً مع جيفري في الهاتف — في بهو النزل العام — ولكن هذه المرة لم تكن لعبة البينجو مفترشة. غير أنها كانت تسمع على الهاتف أصوات أناس يمرون بجانبه، وكأنهم خارجون من غرفة الطعام بعد تناول العشاء، وإذ به يقول حين أخبرته: «أوه. أوه. أوه. حسنًا.» قال هذه العبارات بنبرة صوت تمكَّن من السيطرة عليها على وجه السرعة، وإن فاضت بقدر هائل من حتمية ومعرفة مسبقة غير طبيعية.

وكأنه كان يعلم جلَّ ما كان يمكن أن يحدث معها بالكامل.

قال: «حسنًا، ماذا عن السيارة؟»

وبعد تساؤله، ذكر شيئًا آخر — شيئًا مستحيلًا — ثم أغلق الهاتف، وخرجت هي من كابينة الهاتف التي تجاور بعض مضخات الوقود في كامبل ريفر.

قال جيفري: «جرت المكالمة سريعًا وعلى نحو أيسر مما توقعتِ.»

ردَّت بولين: «لا أدري.»

«لعله كان يعرف أمرنا دون وعي؛ فالناس يحسون بهذه الأمور.»

هزَّت رأسها وكأنها تطلب إليه ألا يطيل الحديث عن هذا الموضوع، فاعتذر ثم سارا معًا في الشارع دون تلامس أو حديث.

•••

كان عليهما الخروج للبحث عن كابينة هاتف؛ لأنه لم يكن هناك أي هواتف في غرفة النزل حيث ينامان. وحينذاك، في الصباح الباكر، حين نظرت بولين حولها لتستشعر الراحة بلا أعباء — لأول مرة تحظى بهذه الراحة أو الحرية منذ أتت إلى هذه الغرفة — رأت أن هذه الغرفة لا تحوي الكثير؛ لا تحوي سوى خزانة مستهلكة، وسرير بدون ظهر، ومقعد منجد دون ذراعين، وستارة فينيسية ذات ضلع مكسور تغطي النافذة، وستارة أخرى من البلاستيك برتقالي اللون — من المفترض أن تبدو كالستائر الشفافة ولا تحتاج لأن تُثنى أطرافها — ممزقة من أسفل. وكان هناك جهاز تكييف ذو هدير صاخب، أطفأه جيفري ليلًا وترك الباب مفتوحًا مع غلق سلسلة الأمان؛ لأن النافذة ما كانت تُفتح. لكن الباب مغلق الآن — بعد أن استيقظت — ولا بد أنه استيقظ ليلًا فأغلقه.

كان هذا هو كل ما تملك؛ فلقد انقطعت صلتها بالكوخ حيث يرقد براين نائمًا أو أرِقًا، وانقطعت صلتها أيضًا بالمنزل الذي كان تجسيدًا لحياتها مع براين، ولطريقة الحياة التي أرادا أن يعيشاها. لم يَعُد لديها أثاث؛ فلقد قطعت الصلة بينها وبين كل مكتسباتها الملموسة الضخمة، كالغسالة وآلة تجفيف الملابس والطاولة المصنوعة من خشب البلوط وخزانة الثياب التي تم تجديدها والثريا التي كانت تقليدًا لأخرى مرسومة في إحدى لوحات فيرمير. وكذلك بالقدر نفسه قطعت صلتها بمتعلقاتها الخاصة بها؛ كالكئوس المصنوعة من الزجاج المضغوط التي كانت تجمعها، وبساط الصلاة الذي لم يكن بالطبع أصليًّا لكنه جميل. قطعت صلتها بهذه الأشياء خاصة، وبكتبها أيضًا، فالأرجح أنها فقدتها بالكامل، وحتى ثيابها؛ لم يعد لديها الآن سوى التنورة والبلوزة والصندل، وهي الأشياء التي كانت ترتديها خلال رحلتها إلى كامبل ريفر. ما كانت لتعود أبدًا كي تطالب بأيٍّ من متعلقاتها. إذا ما هاتفها براين ليسألها ما يفعل بما يخصها، فستقول له أن يفعل بها ما يحلو له؛ أن يتخلص من كل شيء في القمامة؛ إذا كان هذا هو ما يريد (لكنها كانت تعلم أنه على الأرجح سيملأ صندوق السيارة — بأمانة شديدة — بمعطفها الشتوي وحذائها ذي الرقبة وأشياء أخرى كمشد خاصرتها الذي ارتدته في حفل زفافهما ولم ترتدِه مرة أخرى، وأنه سيضع بساط الصلاة فوق كل متعلقاتها كعلامة أخيرة على كرمه، سواء التلقائي أو المرتب له؛ وهو ما قد حدث بالفعل).

أيقنت بولين أنها لن تبالي بعد الآن بالمكان الذي ستسكنه أو الثياب التي سترتديها. لن تسعى أبدًا لأن توضِّح لأي امرئ موقفها وكيف كانت تعيش، بل لن توضِّح هذا لنفسها. يكفي ما فعلت، ما فعلته يغني عن أي شيء.

ما فعلته هو ما سمعت به وقرأت عنه؛ كان أشبه بما فعلته آنا كارنينا وما أرادت مدام بوفاري أن تفعله، وما فعله مدرس — زميل براين — مع سكرتيرة المدرسة. هرب معها؛ هكذا أُطلق على فعلتهما. هربا معًا وفرَّا دون ثالث. تحدَّث الناس عن فرارهما باحتقار وتندُّر وغبطة. لقد تجاوزت العلاقةُ حدود الفحشاء؛ فلا بد أن طرفيها كانا على علاقة بالفعل منذ فترة، بل ومارسا الفحشاء لفترة، قبل أن يصلا إلى قدر كافٍ من اليأس أو الشجاعة يمكِّنهما من اتخاذ تلك الخطوة. فبين كل حين طويل وآخر، يدَّعي حبيبان أن عشقهما نقيٌّ لا ينضب، في حين ينظر إليهما الناس — إذا ما صدَّقوهما — على أنهما جادَّان للغاية وهدفهما نبيل، لكنهما متهوران على نحو هدَّام، شأنهما شأن من يغامرون ويتخلَّوْن عن كل شيء مقابل الرحيل عن البلد للعمل في إحدى الدول الفقيرة الخطرة.

أما الحبيبان — الزانيان — فإن لم يجدا من يصدِّقهما فسيعتبرهما الناس غير مسئولَيْن ولا ناضجيْن، أنانيين، بل وعديمي الشفقة. وكذلك هما محظوظان؛ محظوظان لأن الجنس الذي مارساه من قبل في سياراتهما المتوقفة في المرأب، أو على العشب الطويل، أو في فراش الزوجية المدنس أو — وهو الأرجح — في مثل هذه الأنزال، لا بد أنه رائع، وإلا فما كان أحدهما ليتوق بهذا الشكل لصحبة الآخر مهما كان الثمن، وما كانا ليوقنا أن مستقبلهما معًا سيختلف بالكلية عن حياتهما الماضية، بل وسيكون أفضل منها.

سيختلف المستقبل بالكلية. لا بد أن هذا ما كانت بولين تؤمن به بعد رحيلها؛ أن هناك اختلافات أساسية بين أنواع الحياة المختلفة أو زيجات البشر وعلاقاتهم. آمنت أن بعضهم مصيره محتوم لا مفر منه، وبعضهم ليس له هذا المصير. وبالطبع كانت ستردِّد الرأي نفسه قبل ما حدث بسنة. وكان مَن سبقها يرددونه أيضًا، وكانوا يؤمنون به، ويؤمنون أيضًا أن حالتهم هي الأولى من نوعها — حالات فريدة — حتى وإن رأى غيرهم أنهم ليسوا روَّادًا، وإن لم يعرفوا هم أنفسهم عن أي شيء يتحدثون. هي نفسها ما كانت لتعرف عن أي شيء تتحدث.

•••

كان جو الغرفة دافئًا جدًّا، وكذلك جسد جيفري، وكأنه يشعُّ ثقةً ومشاكسةً حتى وهو نائم. كان جذعه أكثر امتلاءً من جذع براين؛ إذ كان أكثر بدانة عند الخاصرة، وكان لديه لحم أكثر يغطي العظام؛ وإن لم يكن متدليًا. كانت بولين واثقة من أن الناس سيقولون إنه ليس وسيمًا بشكل عام، كما أنه ليس مهندمًا. لم تكن تفوح أي رائحة من براين في الفراش، أما جيفري، ففي كل مرة ترقد بجانبه، تفوح منه رائحة زيت — نوعًا ما — أو جوز ساخن. لم يستحمَّ الليلة الماضية، وهي كذلك، لكنه اغتسل لاحقًا؛ فلم يكن هناك وقت للاستحمام. ولكن هل يمكن أن تجد معه فرشاة أسنان؟ لم تكن معها فرشاتها؛ لكنها لم تكن تعرف أنها ستبيت.

عندما قابلت جيفري في هذا المكان، كان يدور في خلدها ضرورة اختلاق كذبة كبيرة كي تغطي على الحقيقة عندما تعود إلى المنزل، ولكن الأمور جرت معها — بل معهما — على وجه السرعة. فعندما قال لها جيفري إنه قرر عدم افتراقهما، وضرورة أن تذهب معه إلى ولاية واشنطن، وحتمية التخلي عن إكمال المسرحية لأن الأمر لن يتيسر لهما في فيكتوريا، أخذت تنظر إليه نظرة خاوية كتلك التي ترتسم على عيني أي شخص لحظة بدء وقوع زلزال. كانت مستعدة لأن تخبره بكل الأسباب التي تحول دون موافقتها، وظلت معتقدة أنها ستخبره بها، لكن حياتها سارت على غير هدًى في هذه اللحظة. وإذا ما حاولت التراجع، فسيكون الأمر أشبه بوضع رأسها داخل كيس يكتم أنفاسها.

لم تَقُل سوى: «هل أنت واثق مما تقول؟»

ردَّ عليها: «بالطبع.» ثم أردف بإخلاص: «لن أتخلى عنك البتة.»

ليس هذا من كلامه المعتاد؛ ثم أدركت بعد حين أنه يقتبس من المسرحية، ويا لها من مفارقة! اقتبس عبارته من حديث أورفيوس ليوريديس خلال دقائق من لقائهما الأول في كافيتريا المحطة.

هكذا انقلبت حياتها وسارت خطوات للأمام؛ أضحت من أولئك الذين هربوا، صارت امرأة تخلَّت عن كل شيء بشكل صادم غير مفهوم. قد يقول الناس هازئين إنها هربت من أجل الحب، لكنهم يقصدون من أجل الجنس. ما كان أيٌّ من هذا ليحدث لولا الجنس.

لكن هل هناك اختلاف كبير؟ ليس هناك اختلاف بالرغم من كل ما يقال. تلامس واحتكاك، حركات، اتصال، ونتائج. ليست بولين من النساء اللائي يصعب التوصل معهن إلى نتائج. براين خرج بتلك النتائج، الأرجح أن أي شخص كان سيخرج بتلك النتائج؛ أي شخص ليس أخرق أو مثيرًا للاشمئزاز من الناحية الأخلاقية.

لكن، في الواقع، ليس جميع الرجال متماثلين. مع براين — خاصةً مع براين الذي منحته شعورًا أنانيًّا بالرضا والذي عاشت معه في شراكة زوجية — لم يكن ليحدث أبدًا مثل هذا التعري، هذا الهروب الحتمي، لم تكن لتشعر معه أبدًا بهذه المشاعر التي تشعر بها الآن دون معاناة وإنما تستسلم لها كما تستسلم للتنفس أو الموت. غير أنها تظن أنها ما كانت لتشعر بكل هذا إلا وهي عارية في أحضان جيفري؛ نظرًا للحركات التي يقوم بها جيفري، وثقل جسد جيفري الذي يحوي داخله قلب جيفري، وكذلك عاداته وأفكاره وطباعه الغريبة وطموحه ووحدته (وكل ذلك — حسب علمها — يرجع في جزء كبير منه إلى شبابه).

حسب علمها، وليس لها من العلم الكثير. لا تكاد بولين تعرف شيئًا عما يفضِّله في الطعام أو الموسيقى، وعن الدور الذي تلعبه أمه في حياته (لا شك أنه دور غامض لكنه مهم، مثل الدور الذي يلعبه والدا براين). أمر واحد فقط هو الذي تثق به ثقة عمياء، هو أن كل ما يرغبه أو يمقته محدَّد وبدقة.

تسللتْ من تحت يد جيفري ونهضت من تحت الغطاء — الذي تفوح منه رائحة منظف نفاذة — ونزلت إلى الأرض حيث كانت ملاءة السرير ملقاة، ولفَّت جسدها بذات الملاءة الصفراء المائلة للخضرة. ما أرادت أن يفتح عينيه ويراها من الخلف عارية فيلاحظ تدلي مؤخرتها. صحيح أنه رآها عارية من قبل، لكنه نظر إليها نظرة عامة في لحظات أخرى أكثر تسامحًا.

مضمضت فمها واغتسلت بماء وقطعة صابون؛ جامدة كالحجارة، وصغيرة في سُمك قالبَي شوكولاتة رفيعَيْن. كان مهبلها المتورم كريه الرائحة منهكًا من كثرة ممارسة الجنس. كما أنها تبوَّلت بصعوبة شديدة، وعانت أيضًا الإمساك فيما يبدو. في الليلة الماضية حين خرجا وتناولا البرجر، لم تجد في نفسها رغبة في الأكل. من المرجح أنها ستتعلم الاعتياد على هذه الأشياء مرة أخرى، وستظل تلعب دورها المهم الطبيعي في حياتها، لكنها في تلك اللحظة لا تملك أن توليها فيما يبدو انتباهها.

كان لديها في حقيبة يدها بعض النقود، فوجدت أنه من الضروري أن تخرج لتبتاع فرشاة ومعجون أسنان ومزيلًا لرائحة العرق وشامبو، وكذلك جيل مهبليًّا. ففي الليلة الماضية، استخدما الواقي الذكري في المرتين الأوليين، لكنهما لم يستخدما أي شيء في الثالثة.

لم تُحضر معها ساعة يدها، ولم يكن جيفري يرتدي ساعته، وبالطبع لم يكن في الحجرة ساعة. فكَّرت أن الوقت ما زال مبكرًا؛ فلا يزال ضوء النهار يبدو مبكرًا بالرغم من ارتفاع درجة الحرارة. والأرجح أن المتاجر لم تفتح أبوابها بعد، لكن لا بد أن هناك مكانًا يمكن أن تحتسي فيه القهوة.

تقلَّب جيفري على جانبه الآخر، لا بد أنها أيقظته من نومه للحظات.

سوف يكون لهما غرفة نوم ومطبخ وعنوان لبيتهما، سوف يذهب هو إلى العمل وستذهب هي إلى المغسلة. وربما ستذهب هي أيضًا إلى العمل، بائعة أو نادلة، أو مدرِّسة خاصة لبعض التلاميذ. إنها تتقن الفرنسية واللاتينية — ولكن هل تُدرَّس الفرنسية واللاتينية في المدارس الثانوية الأمريكية؟ هل يمكن أن يحظى غير الأمريكي بوظيفة؟ فجيفري ليس أمريكيًّا.

تركت له المفتاح؛ لذا سيكون عليها أن توقظه حين تعود، وليس لديها قلم أو ورقة لتترك له رسالة.

الوقت لا يزال مبكرًا. يقع النزل على الطريق السريع على الحد الشمالي للمدينة قرب الجسر. لم تبدأ حركة المرور بعد؛ ولذا سارت فترة طويلة تجر قدميها تحت أشجار الحور القطني قبل أن تسمع صوت مركبة من أي نوع على الجسر؛ مع أن مرور السيارات على هذا الجسر كان يهز فراشهما بين الحين والآخر في وقت متأخر من الليل.

اقترب قدوم شيء بعد حين؛ شاحنة، لكنها ليست مجرد شاحنة، بل حقيقة عظيمة قاتمة تقترب منها. كذلك فإنها لم تأتِ من المجهول؛ بل كانت تنتظرها، تلكزها بغير شفقة منذ أفاقت من نومها، بل طوال الليل.

كيتلِن ومارا.

الليلة الماضية، وبعد أن حدَّثها براين عبر الهاتف بصوت هادئ غير منفعل لا يشي بأي عاطفة — وكأن كبرياءه أَبَتْ عليه أن يبدو مصدومًا أو يعترض أو يتوسل إليها — ما لبث أن انفجر فيها، وحينها قال بازدراء وغضب شديد، غير مكترث بمن قد يسمعه: «وماذا عن الصغيرتين؟»

بدا ارتعاد صوته واضحًا عبر الهاتف.

فقالت له: «سوف نتحدث …» لكن لم يبدُ أنه سمعها.

وأضاف بذات الصوت المرتعد الناقم: «الطفلتين»؛ وبدت لها الإشارة إلى البنتين بكلمة «الطفلتين» بدلًا من «الصغيرتين» وكأنها صفعة على وجهها، تهديد خطير، عادل وجدي.

قال براين: «ستبقى الطفلتان معي يا بولين، هل تسمعينني؟»

قالت بولين: «لا. سمعتك لكن …»

«حسنًا. لقد سمعتِني. تذكري دائمًا، ستبقيان معي.»

لم يكن بوسعه فعل شيء أكثر من هذا كي يجعلها ترى عواقب فعلتها، وما كانت ستئول إليه الأمور، ويعاقبها به — إن أصرَّت — وما كان أحد ليلومه على هذا. ربما سيصدر منها بعض التحايل والمساومات، وبلا شك ستذل نفسها في سبيل إبقائهما معها. لكن تلك المشكلة ستكون أشبه بغصة في حلقها، وستظل هذه الغصة مكانها حتى تعدل عن رأيها تمامًا؛ ستبقى الطفلتان معه.

كانت سيارتهما — سيارتها هي وبراين — لا تزال في مرأب النزل منذ أن حضرت، ولعل براين سيطلب من أحد أبويه أن يوصِّله كي يحضر السيارة من هناك. كانت المفاتيح في حقيبة يدها، لكن للسيارة مفاتيح احتياطية ولا بد أنه سيحضرها. ومع ذلك، فتحت باب السيارة وألقت المفاتيح على المقعد، ثم قفلت الباب من الداخل.

فات أوان التراجع، لم يَعُد باستطاعتها أن تلج إلى سيارتها وتقودها عائدة له معترفة بجنونها. إذا فعلت هذا، فسيسامحها لكنه لن يستطيع تجاوز الأمر ولن تتجاوزه هي أيضًا. لكن مع هذا، سيستكملان حياتهما معًا كما فعل غيرهما.

خرجت من المرأب وسارت بجوار الرصيف متجهة نحو المدينة.

تذكَّرت ثقل مارا على مفصل ساقها بالأمس، وتذكَّرت آثار أقدام كيتلِن على الأرض.

«بو. بو.»

لا تحتاج بولين المفاتيح كي تعود إليهما، لا تحتاج السيارة؛ يمكنها طلب توصيلة من الطريق السريع. فلتستسلم؛ تستسلم وتعود إليهما مهما كانت العواقب، فكيف لا يمكنها فعل ذلك؟

كأن رأسها داخل كيس يكتم أنفاسها، كلما فكرت في العودة.

اختيارها المتذبذب — اختيارها الواهم — ينسكب على الأرض كالماء فيتحول ثلجًا على الفور ويتخذ شكلًا لا يمكن تجاهله.

•••

كم يعتصرها الألم! ألمٌ مزمن، سيظل يصاحبها أبد الدهر وإن لم يكن متواصلًا. ولعلها لن تموت بسببه. لن تتحرر منه لكنها لن تموت بسببه. لن تشعر به كل دقيقة، لكن لن تمر عليها أيام عدة دون أن تشعر به. ستتعلم بعض الحيل لتطفئ لهيبه أو تبدده، محاولةً ألا ينتهي بها الأمر إلى تدمير ما تحمَّلت كل هذا الألم لأجله. ليس هذا خطأه؛ فهو لا يزال بريئًا أو همجيًّا لا يعلم أن في الدنيا ألمًا مزمنًا. فلتقنع نفسها إذن أنها ستفقدهما على أي حال. ستكبران؛ وكل أم تترقب دائمًا هذه اللحظة المأساوية، السخيفة إلى حدٍّ ما. ستنسيان هذه المرحلة، ستتبرآن منها بطريقة أو بأخرى. أو — على العكس — ستظلان معها إلى أن تعجز عن إدراك ما يمكن أن تفعل بشأنهما؛ كما فعل براين.

مع هذا، كم هو ألم شديد سيصاحبها وتعتاده حتى يصير ماضيها فقط هو ما تحزن لأجله، ولا يكون أمامها أي حاضر يمكن أن ترثيه!

•••

كبرت طفلتاها ولم تكرهاها لهروبها أو بُعدها عنهما، لكنهما لم تسامحاها أيضًا. ولعلهما ما كانتا لتسامحاها أبدًا على أي حال؛ ولكن لأسباب مختلفة.

تتذكر كيتلِن القليل عن ذاك الصيف الذي قضوه في النزل، أما مارا فلا تتذكر شيئًا البتة. وذات يوم، أتت كيتلِن على ذكر النزل لبولين قائلةً عنه: «المكان الذي أقام فيه جدي وجدتي.»

وأضافت: «المكان الذي كنا فيه حين هربتِ. لم نعرف إلا بعدها بفترة أنك هربتِ مع أورفيوس.»

قالت بولين: «لم يكن أورفيوس.»

«حقًّا؟ اعتاد أبي أن يقول هذا. كان يقول: «وبعدها هربت أمكما مع أورفيوس».»

قالت بولين: «لعله كان يمزح.»

«لقد ظللت أعتقد أنه أورفيوس، ذاك الذي هربتِ معه. إذن هو شخص آخر.»

«كان شخصًا آخر له علاقة بالمسرحية، وقد عشت معه فترة.»

«ليس أورفيوس.»

«نعم، لم يكن هو.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤