قبل التغيير

عزيزي آر، شاهدت أنا وأبي مناظرة كينيدي ونيكسون؛ لقد اقتنى أبي منذ آخر مرة كنتَ فيها هنا تليفزيونًا. إنه جهاز ذو شاشة صغيرة وله هوائيان يشبهان أُذنَي الأرنب. التليفزيون موضوع أمام الخزانة في غرفة الطعام؛ ولهذا صار الوصول إلى الفضيات الفاخرة أو مفارش المائدة في الخزانة أمرًا عسيرًا. لماذا يضعانه في غرفة الطعام حيث لا يوجد مقعد واحد مريح؟ لأنهما ما عادا يتذكران أن لديهما غرفة معيشة في المنزل، أو لأن السيدة باري تحب مشاهدة التليفزيون وقت العشاء.

هل تذكر هذه الغرفة؟ لا جديد فيها سوى التليفزيون. الستائر الثقيلة لا تزال موجودة على كلا الجانبين — بلونها البيج ونقوش أوراق الشجر المرسومة عليها بلون النبيذ — والستائر الشفافة بينها، وكذلك صورة السير جالاهاد يمتطي صهوة جواده، وصورة غزال جلينكو الأحمر كناية عن المذبحة التي حدثت بها. أمَّا خزانة حفظ الملفات القديمة التي أتى بها أبي من عيادته منذ سنين عديدة، فما زلنا نبحث لها عن مكان؛ ولذا فقد ظلت في الغرفة كما هي دون حتى أن تُسند إلى الجدار. ولم تبرح ماكينة خياطة أمي محكمة الإغلاق مكانها (لم يُشِر أبي قط إلى أمي سوى مرة واحدة حين قال «ماكينة خياطة أمك»)، وكذلك نفس صف النباتات — أو ما تبدو كنباتات — في أصصها الفخارية أو العلب الصفيحية؛ كما هي ليست يانعة ولا ميتة.

ها أنا قد عدت إلى البيت، ولم يتساءل أحد قط عن المدة التي غبت فيها عنه. لقد ملأتُ سيارتي الميني كوبر بكل كتبي وأوراقي وملابسي وتوجَّهت بها إلى هنا من أوتاوا، واستغرقت الرحلة يومًا واحدًا. هاتفت أبي لأخبره أنني انتهيت من أطروحتي (والحقيقة أنني تخليت عنها ولكنني لم أعبأ أن أخبره بهذا) وفكرت في أنني أحتاج إلى راحة.

فقال لي: «راحة؟» وكأنه لم يسمع بشيء كهذا من قبل، ثم أكمل قائلًا: «حسنًا، ما دمتِ لا تعانين من انهيار عصبي.»

قلت: «ماذا؟»

فرد عليَّ: «انهيار عصبي.» قالها بصخب محذرًا؛ فهذه الكلمة لا يزال يستخدمها لوصف نوبات الفزع والقلق الحاد والاكتئاب والانهيار التي تصيب مرضاه، وحينها يطلب منهم على الأرجح أن يتحلوا بالقوة والإيجابية في التعامل مع حالاتهم.

هذا ظلم. غالبًا ما يصرفهم بعد أن يصف لهم حبوبًا مهدئة ويقول لهم بعض العبارات الرقيقة الجادة؛ إنه يستطيع أن يتعامل مع ضعف الآخرين أسهل بكثير من أن يتعامل مع ضعفي.

عندما وصلت إلى المنزل، لم أَلقَ ترحيبًا حافلًا، ولم أشعر بأنه قَلِقَ عليَّ. فقط أخذ يدور حول سيارتي، ثم انزعج لِما رآه وأخذ يتفحص الإطارات.

قال: «متفاجئٌ أنكِ فعلتِها وحضرتِ.»

فكرت أن أقبِّله؛ ادعاءً أكثر منه عاطفةً جياشة، هذا ما أفعله الآن، لكن ما إن لامست قدماي الأرض المفترشة بالحصى، حتى أدركت أنني لا أستطيع تقبيله. هنالك كانت السيدة بي (باري) واقفة بين طريق السيارات المؤدي إلى المنزل وباب المطبخ، فذهبت وطوَّقتها بذراعيَّ واحتكَّ أنفي بشعرها الأسود القصير المصفف على نحو غريب يشبه شعر المرأة الصينية، الذي يحيط بوجهها الصغير الذابل. شممت رائحة سترتها المبطنة من الصوف المحبوك، ورائحة مواد التبييض على مئزرها، وشعرت بملمس عظامها الرفيعة الناتئة الشائخة. طولها يصل بالكاد حتى ترقوتي.

قلت في ارتباك: «إنه ليوم جميل، قيادة السيارة فيه كانت ممتعة.» وقد كان يومًا جميلًا بالفعل، وكانت القيادة فيه ممتعة بالفعل؛ فلم تكن أوراق الأشجار قد ذبلت بعد، وإنما تغيرت حوافها فقط إلى لون الصدأ، وبدت الحقول بعد حصادها ذهبية اللون مما تبقى من الزرع عليها. إذن، لماذا تبدَّد جمال الطبيعة في حضور أبي وفي منطقته (ودعنا لا ننسَ أيضًا أنه كان في حضور السيدة باري وفي منطقتها)؟ لماذا يبدو ما قلته — أو تحدثت به بصدق وتلقائية — متوافقًا مع احتضاني للسيدة بي؟ ففي أحد الأمرين مبالغة، وفي الآخر زيف عاطفي.

عندما انتهت المناظرة، نهض أبي وأطفأ التليفزيون؛ لأنه لن يشاهد الإعلانات الدعائية إلا في وجود السيدة بي، وحين تتكلم مادحة إياها قائلة إنها تريد أن ترى الطفل الجميل ذا الأسنان الأمامية البارزة، أو تلك الدجاجة تطارد ذلك الشيء الذي لا تذكر اسمه (لم تكن تحاول أن تنطق كلمة «نعامة» أو أنها لا تستطيع أن تتذكرها). وكل إعلان يمتِّعها يُسمح بمشاهدته، حتى إعلان رقائق الذرة الراقصة، وقد يقول هو: «الحقيقة أن فكرة الإعلان ذكية.» أعتقد أن هذا نوع من التحذير لي.

ما رأيه في كينيدي ونيكسون؟

«ما هما إلا مواطنان أمريكيان.»

حاولت أن أفتح المجال للمحادثة قليلًا.

«ماذا تعنين؟»

عندما يسأله أحد عن موضوع يظن أنه لا داعي للحديث فيه — أو عندما يطلب منه أن يدخل في نقاش عن أمر لا يحتاج إلى دليل إثبات — كان يلجأ إلى طريقته المعهودة في رفع شفته العليا من جانب واحد في اشمئزاز مُظهرًا سِنَّيْن كبيرتين ملطختين بآثار التبغ.

كرَّر: «ما هما إلا مواطنان أمريكيان.» وكأنني أنا من نطقت هذه العبارة في البداية.

وهكذا جلسنا، بلا حديث وبلا صمت أيضًا؛ لأنه — كما تتذكر — يتنفس بصخب؛ وكأنه يتنفس فيما يبدو من أعماق أزقَّة مبنية بالحجر تتصاعد منها أنفاسه خلال بوابات ذات صرير، تصدر صوتًا ضعيفًا يشبه سقسقة الطائر الصغير ثم صوت قرقرة ماء؛ وكأن جهازًا غير بشري انطفأ في صدره. أتخيله من أنابيب بلاستيكية وفقاعات ملونة. لا يفترض بك أن تلاحظ أنفاسه، وسأعتادها عما قريب، لكنها تطغى على أي غرفة يوجد فيها، شأنها شأن كرشه الكبير وساقيه الطويلتين وتعبير وجهه. تُرى ما هذا التعبير؟ يبدو كأنه حصل على قائمة من الأخطاء، بعضها قديم لم يطوِهِ النسيان وبعضها متوقع، وقد رسم على وجهه تعبيرًا يقصد به إنذار المرء — صاحب الأخطاء — كم هو صبور على الأخطاء التي يعلم المرء نفسه أنه ارتكبها، وأيضًا على الأخطاء التي لا يراوده شك أنه سيقع فيها. أظن أن كثيرًا من الآباء والأجداد يتكلفون كثيرًا من العناء كي تكون لهم هذه النظرة — حتى أولئك الذين ليس لهم أي سلطة بعيدًا عن بيوتهم، على عكسه — لكنه هو الوحيد الذي يتقنها تمامًا وبشكل دائم.

•••

آر، لدي الكثير هنا لأفعله ولا وقت — كما يقولون — لفتور الهمَّة. حجرة الانتظار قد بليت جدرانها من أثر الأجيال المتعاقبة من المرضى الذين كانوا يسندون بكراسيهم محتكين بها. أعداد قديمة بالية من مجلة ريدرز دايجستس موضوعة على المنضدة. ملفات المرضى محفوظة في صناديق من الكرتون وموضوعة أسفل سرير الفحص، وسلال القمامة — حالها أنكى وأمرُّ — متآكلة من أعلى، وكأن الفئران قرضتها. ولم يكن حال البيت أفضل؛ ففي حوض الغسيل بالطابق السفلي شقوق بنية اللون رفيعة كالشَّعر، وفي المرحاض بقعة صدئة مزعجة. لا بد أنك قد لاحظت أنه أمر أحمق، لكن أكثر ما أزعجني هو كل تلك الكوبونات والمطبوعات الدعائية. إنها داخل الأدراج أو تحت صحون فناجين القهوة أو ملقاة هنا وهناك، مع أن العروض أو التخفيضات التي تعلن عنها قد انتهت منذ أسابيع أو أشهر أو سنين عديدة مضت.

ليس الأمر أنهما ما عادا يتحكَّمان في زمام الأمور، أو أنهما كفَّا عن المحاولة؛ كلُّ ما في الأمر أن كل شيء صار معقدًا. فقد صارا يرسلان ثيابهما إلى المغسلة، وهو تصرف سديد، بدلًا من أن تظل السيدة بي عاكفة على غسل الملابس بنفسها، لكن أبي لا يستطيع أن يتذكر الموعد المحدد لإحضار الثياب، فيُحدِث تلك الجلبة الشائنة المعهودة لعدم وجود ما يكفي من الملابس. والأدهى من ذلك أن السيدة بي تعتقد أن المغسلة تغشها، وتستغرق هذا الوقت الطويل في انتزاع البطاقات من على ثيابهم ثم تثبيتها على ثياب غيرها أقل منها جودة؛ ولذلك لا تفتأ تتشاجر مع عامل توصيل الثياب، متهمة إياه بأنه يتعمد أن يكون بيتهم هو آخر بيت يوصل إليه الملابس، وهذا — على الأرجح — هو ما يفعله.

وكذلك تحتاج الأفاريز إلى تنظيف، وكان من المفترض أن ينظفها ابن أخت السيدة بي، لكنه أصيب في ظهره؛ لذلك فإن ابنه سوف يأتي ليحل محله، لكن ابنه لديه مشاغل كثيرة متأخر في تنفيذها … وهكذا الحال باستمرار.

ينادي أبي ابن ابن أخيه باسم ابن أخيه؛ إنه يفعل هذا مع الجميع. ويسمي جميع محال ومتاجر البلدة بأسماء مالكيها السابقين أو ربما من كانوا يملكونها قبلهم. يعدو هذا كونه مجرد إخفاق بسيط في الذاكرة، فهو أقرب للغطرسة؛ إذ إنه يضع نفسه في مكانة من لا يحتاج لأن يصحح الأمور، أو يلاحظ التغيرات، أو الأشخاص.

سألتُهُ أي الألوان أطلي به جدران حجرة الانتظار: أخضر فاتح أم أصفر فاتح؟ فسألني عمن سيطليها.

«سأطليها بنفسي.»

«لم أعهدك يومًا تجيدين الطلاء.»

«لقد طليت من قبل أماكن عشت فيها.»

«ربما ما تقولينه صحيح، لكنني لم أَرَ مجهودك فيها. وماذا ستفعلين بمرضاي وأنت تطلين الغرفة؟»

«سوف أطليها يوم الأحد.»

«لن يهتم بعضهم عند معرفة أن الجدران ستُطلى.»

«هل تمزح؟ في هذه الأيام وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؟»

«قد لا تكون الأيام والعصر اللذين في مخيلتك. ليس في هذا المكان.»

حينها قلت إنني أستطيع أن أقوم بهذه المهمة ليلًا، فأجابني بأن الرائحة ستظل حتى اليوم التالي وستصيب كثيرًا من المرضى بالغثيان. وهكذا لم أستطع أن أفعل شيئًا، في النهاية، سوى أن أتخلص من أعداد مجلة ريدرز دايجستس، وأستبدل بها أعدادًا من مجلات ماكلينز وشاتيلين وتايم وساترداي نايت. ثم قال إن المرضى يشكون؛ إذ يفتقدون قراءة النكات التي يتذكرونها في مجلة ريدرز دايجستس، وبعضهم لا يحب الكتَّاب الجدد من أمثال بيير بيرتون.

قلت وأنا عاجزة عن التصديق حتى إن صوتي ارتجف: «إنه لأمر سيئ.»

بعد ذلك، صببت تركيزي على خزانة حفظ الملفات الموجودة في غرفة الطعام؛ فقد ظننت أنها — على الأرجح — مليئة بملفات المرضى الذين ماتوا منذ زمن بعيد، وأنني إذا ما استطعت التخلص من هذه الملفات يمكنني حينها ملؤها بملفات أخرى من الصناديق، ثم أنقل الخزانة إلى العيادة؛ حيث مكانها الأصلي.

وحين رأت السيدة بي ما أفعله، ذهبت لتحضر أبي دون أن تخاطبني بكلمة.

فقال: «من قال لكِ إنك تستطيعين العبث كما يحلو لك في هذا المكان؟ لم أَقُل هذا.»

•••

آر، في الأيام التي كنتَ فيها موجودًا هنا، لم تكن السيدة بي في المنزل؛ إذ رحلت للاحتفال بعيد الميلاد مع أسرتها (لديها زوج قضى نصف حياته مريضًا بانتفاخ الرئة، ولم يكن لديها أبناء، بل قطيع من أبناء وبنات الإخوة والأخوات، إلى جانب معارفها). لا أظن أنك رأيتها قط، لكنها رأتك. بالأمس قالت لي: «أين ذلك السيد الذي كان من المفترض أن يعقد خطبته عليكِ؟» لقد رأتني، بالطبع، لا أرتدي خاتمي.

قلت: «أتوقع أن يكون في تورونتو.»

في عيد الميلاد الماضي، كنت أزور ابنة أختي، فرأيناكما تمشيان بمحاذاة ماسورة المياه الرئيسية، فقالت ابنة أختي: «أتساءل، يذهب كلاهما إلى أين؟» إنها تتحدث هكذا بالضبط، بهذا الترتيب العجيب للكلمات، وكلامها لا يبدو طبيعيًّا إلا بعد أن أدوِّنه. أعتقد أنها كانت تقصد بحديثها أننا كنا متجهين إلى مكان ما لنقيم علاقة، لكن الحقيقة أننا لم نكن نفعل ذلك في هذه الأيام — كما تتذكر — وكنا نتمشى لنبتعد عن المنزل. كلا، بل خرجنا من المنزل كي نستكمل شجارنا الذي كان بوسعنا السيطرة عليه وكبحه فترة طويلة.

بدأت السيدة بي في العمل لدى أبي في ذات الوقت الذي بدأت فيه الدراسة تقريبًا. وقبلها جاءت أكثر من امرأة شابة للعمل لدينا، لكنهن رحلن الواحدة تلو الأخرى كي يتزوجن أو يعملن في المصانع الحربية. عندما كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، وحين كنت أذهب إلى بيوت بعضٍ من صديقاتي، قلت لأبي: «لماذا تتناول الخادمة الطعام معنا؟ الآخرون لا يسمحون للخدم بتناول الطعام معهم.»

فقال: «عليك أن تنادي السيدة باري بلقب السيدة باري، وإذا كنتِ لا تحبين أن تتناولي الطعام معها، فاذهبي وتناوليه في سقيفة تخزين الحطب.»

بعدها اعتدتُ قضاء أوقات طويلة معها في محاولة دفعها للتحدث معي، لكنها في أغلب الأحوال لم تكن تتجاوب، وحين كانت تتحدَّث كنت أسعد بحديثها أيما سعادة؛ إذ كنت أستمتع بتقليدها في المدرسة.

(أنا) شعرك شديد السواد يا سيدة باري.

(السيدة بي) كل أفراد عائلتي سود الشعر، كلهم شعورهم سوداء لا تشيب أبدًا. هذا الأمر وراثي من طرف أمي؛ يظل شعرهم أسود حتى وهم في الأكفان. عندما مات جدي، أبقوه في المقبرة طوال الشتاء دون دفن؛ لأن أرض المقبرة ظلت متجمدة طوال الشتاء، ثم جاء الربيع فهمُّوا بأن يواروه تحت الثرى لكن أحدهم قال: «لنُلقِ عليه نظرة لنرى ما فعل به الشتاء.» لذا، فقد جعلنا أحدهم يرفع غطاء النعش، فوجدنا جثمانه بخير حال. وجهه لم يسود أو ينحل، ولم يصبه أي سوء، وشعره كان أسود. أسود.

كنت أستطيع كذلك أن أقلد ضحكاتها القصيرة التي تضحكها، ضحكات قصيرة مقتضبة كالنباح، ليس الغرض منها التعليق على أمر طريف، بل تستخدمها كنوع من أنواع علامات الترقيم الصوتية.

لكن قرابة الوقت الذي عرفتك فيه، كنت قد سئمت من فرط تقليدي لها.

بعد أن أخبرتني السيدة بي تلك المعلومات عن شعرها، قابلتها في أحد الأيام خارجة من دورة المياه الموجود في الطابق العلوي. كانت تهرول كي تجيب الهاتف، ذلك الهاتف الذي كنت ممنوعة من الرد عليه. كان شعرها ملفوفًا في منشفة لأعلى، وعلى جانب وجهها تتقاطر قطرات مياه غامقة، لونها يميل إلى الأرجواني، حتى إنني ظننتها تنزف.

وكأن دمها غريب مختلف عن دم الناس، قاتم من الخبث الذي يبدو متأصلًا في طبعها في بعض الأحيان.

فقلت لها: «رأسك ينزف.» وردَّت عليَّ: «أفسحي الطريق.» ثم أسرعت لترد على الهاتف. ذهبتُ إلى دورة المياه، فوجدت بقعًا أرجوانية في الحوض وصبغة الشعر على الرف. لم نتبادل كلمة عن هذا الموضوع، واستمرت في حديثها عن احتفاظ أفراد عائلة أمها بسواد شعرهم إلى أن يوضعوا في أكفانهم، وأنها ستكون مثلهم.

•••

في تلك الأعوام، كان أبي يستخدم طريقة غريبة في التعامل معي ومحادثتي؛ كان أحيانًا يمرُّ بالغرفة التي أجلس فيها، فيقول متظاهرًا بأنه لم يَرَني:

أكبر عيوب هنري كينج
أنه يلوك قطعًا صغيرة من الخيط …

وأحيانًا كان يخاطبني بصوت مسرحي خفيض: «مرحبًا أيتها الفتاة الصغيرة، أتريدين قطعة من الحلوى؟»

فكنت أرد بصوت طفلة صغيرة تتدلل: «نعم يا سيدي.»

فيرد مطيلًا بعض الحروف: «حسنًا، لن تنالي أي حلوى.»

كان يقول:

«سولومون جراندي، وُلد يوم الإثنين …»

ثم يشير لي بإصبعه كي أُكمل الأغنية:

«عُمِّد الثلاثاء …»
«تزوَّج الأربعاء …»
«مرض الخميس …»
«ساءت حالته الجمعة …»
«مات السبت …»
«ودُفن الأحد …»

ثم نردد معًا بصوت كأنه الرعد: «وهذه كانت نهاية سولومون جراندي.»

وحين ننتهي من هذه الأغنية، لا يعلِّق أحد أو يقول أي شيء. حاولت أن أناديه سولومون جراندي على سبيل المزاح، لكنه بعد المرة الرابعة أو الخامسة قال لي: «كفاكِ، هذا ليس اسمي، أنا أبوكِ.»

ومن بعدها، لم نغنِّ هذه الأغنية معًا مرة أخرى.

عندما قابلتك في الجامعة لأول مرة — وكنتَ وحيدًا مثلي — بدوت كأنك تذكرتني، لكنك لم تقرر أن تقولها لي؛ حينها كنتَ قد انتهيت لتوك من تدريسنا تلك المحاضرة الوحيدة، حالًّا محل محاضرنا الأساسي الذي كان مريضًا، وكانت المحاضرة عن الإيجابية المنطقية، وحينها تندَّرت بشأن إحضار أستاذ من كلية اللاهوت كي يدرِّس مثل هذه المادة.

بدوت مترددًا في إلقاء التحية عليَّ؛ لذا قلتُ لك: «ملك فرنسا السابق أصلع.»

كان هذا هو المثال الذي ذكرته لنا على عبارة ليس لها أي معنى؛ لأن موضوعها لا وجود له. لكنك رمقتني بنظرة اندهاش وحرج، وسرعان ما أخفيتها بابتسامة عملية. ماذا ظننت بي؟

فتاة ذكية مزعجة.

•••

آر. ما زال بطني منتفخًا قليلًا. ليس عليه أي علامات، لكنني أستطيع أن أقبض على اللحم الزائد بيدي. فيما عدا هذا، كل شيء على ما يُرام. عاد وزني إلى وضعه الطبيعي أو أقل منه بقليل، لكن مع هذا أعتقد أنني أبدو أكبر من سني، أعتقد أنني أبدو أكبر من فتاة في الرابعة والعشرين. ما زال شعري طويلًا غير مصفف على الطريقة العصرية، بل هو في الواقع فوضوي المظهر. هل تركته كذلك لأجل ذكراك؛ لأنك لم تكن تحب أن أقصَّه؟ لا أدري.

على كلٍّ، فقد بدأتُ أمشي مسافات طويلة حول البلدة على سبيل التريض. اعتدت في طفولتي أن أذهب في الصيف إلى أي مكان أريده. لم تقيِّدني أي قواعد، ولم أفكر في مراعاة الفروق الطبقية بين الناس. ربما كان هذا لأنني لم أرتَدْ أي مدرسة في هذه البلدة، أو لأن منزلنا يقع خارج البلدة في آخر الزقاق الطويل. خالجني إحساس بعدم الانتماء بينما ذهبتُ إلى إسطبلات الخيول المجاورة لمضمار سباق الخيول؛ حيث كان الرجال هناك إما مالكي خيول أو مدربين مستأجرين، أما بقية الأطفال الآخرين فكلهم كانوا صبية. لم أعرف أيًّا من أسمائهم، لكنهم جميعًا كانوا يعرفون اسمي. بعبارة أخرى، كانوا مضطرين لأن يتحملوني لأجل أبي. سُمح لنا بأن نضع الطعام والسماد خلف الخيل، وكنا نرى في هذا ضربًا من المغامرة. ارتديت إحدى قبعات الجولف القديمة الخاصة بأبي، وسروالًا قصيرًا واسعًا. كنا نصعد إلى السطح فيتصارعون ويدفع أحدهم الآخر، لكن لم يقترب مني أحد منهم. وبين الفينة والأخرى، ينهرنا الرجال طالبين منا أن نغرب عن وجوههم، وكانوا يقولون لي: «أيعرف أبوك أنك هنا؟» ثم يشرع الصبية يتمازحون بأصوات كأنهم يتقيئون، وكنت أعرف أنهم يسخرون مني بهذه الأصوات؛ لهذا كففت عن الذهاب إلى هناك. تخليت عن فكرة كوني فتاة الغرب الذهبي. ذهبت إلى المرسى وأخذت أنظر إلى القوارب التي تعبر البحيرة، لكنني لا أعتقد أنني بالغت وحلمت بأن أصبح عاملة على قارب. كذلك فإنني لم أخدعهم ليظنوا أنني أكثر من مجرد فتاة. ذات مرة، مال نحوي رجل وصاح قائلًا:

«مرحبًا، هل نما عليه شعر أم ليس بعد؟»

قلت: «معذرةً؟» لم أشعر بالخوف أو الإهانة قدر شعوري بالارتباك من اهتمام رجل بالغ يعمل عملًا مسئولًا بشعيرات تنمو بين فخذيَّ، ومن اشمئزازه منها كما أوحى لي صوته بكل تأكيد.

تهدَّمت إسطبلات الخيل الآن، ولم يَعُد الطريق المؤدي إلى الميناء منحدرًا كما كان، وصارت هناك صومعة حبوب جديدة تعمل بالآلات، وتقسيمات جديدة لضواحٍ شبيهة جدًّا بضواحي البلدات الأخرى؛ ولهذا أَحَبَّها الجميع. ولم يَعُد هناك من يسير على قدميه في الطرقات الآن؛ فالكل يقود السيارات. أيضًا تخلو طرقات الضواحي الجديدة من أرصفة للمشاة، والأرصفة الموجودة في الشوارع القديمة لم يعد يسير عليها أحد؛ لأنها مُصدعة وغير مستوية بفعل الثلج، بل ومختفية تحت العشب والتراب. انطمر الطريق الطويل غير الممهد الذي تظلله أشجار الصنوبر بطول زقاقنا تحت أكوام من أعواد الصنوبر والشجيرات البرية وسيقان توت العليق البري. على مدى عشرات السنين، كان الناس يسيرون على هذا الطريق ذاهبين إلى الطبيب بعد أن يخرجوا من البلدة سائرين على امتداد قصير لرصيف المشاة على الطريق السريع (لم يكن هنالك امتداد آخر سوى ذاك الذي يؤدي إلى المقابر)، ثم يسيرون بين صفَّي أشجار الصنوبر في ذاك الجانب من الزقاق. كل هذا لرؤية طبيب يسكن هذا المنزل منذ أواخر القرن الفائت.

طوال فترة ما بعد الظهيرة، كان يرتاد العيادة جميع أنواع المرضى الصاخبين المثيرين للازدراء؛ أطفالًا وأمهات وعجائز، أما المرضى الهادئون فكانوا يأتون فرادى في المساء. اعتدت وقتها أن أختبئ بجوار شجرة كمثرى محاطة بمجموعة من شجيرات الليلك لأتلصص عليهم؛ لأن الفتيات الصغيرات يحببن التلصص. اختفت شجيرات الليلك الآن، اجتُثت لتسهيل عمل ابن بنت أخت السيدة بي في جزِّ الأعشاب بجزازة العشب الكهربائية. كنت أتلصص على السيدات اللائي كن يتأنَّقن، وقتها، لزيارة الطبيب. أتذكَّر طراز الملابس السائد في تلك الفترة؛ الفترة التي تلت الحرب مباشرةً: التنورات الطويلة والأحزمة المربوطة بإحكام والبلوزات الأنيقة — وأحيانًا كن يرتدين قفازات قصيرة بيضاء، حيث كانت النساء في ذاك الزمان يرتدين القفازات في الصيف أيضًا، ولا يقتصر ارتداؤها على الكنيسة فقط، وكذلك القبعات لم تكن تُرتدى في الكنيسة فقط — قبعات الباستيل المصنوعة من القش التي كانت تحدِّد الوجه، والثياب الصيفية ذات الأهداب البسيطة، من أعلى عند الكتفين في شكل حَرملة صغيرة، ومن أسفل حزام يبدو كشريط يلف الخاصرة. وكانت الحَرملة ترفرف مع الريح، فترفع السيدة يدها في قفازها المشغول بالكروشيه لتشيح الحرملة عن وجهها؛ وكانت هذه الحركة رمزًا لجمال أنثوي يصعب الوصول إليه؛ لحظة تلاقي نسيج الثوب الرقيق بالشفاه الناعمة. ربما كان شعوري هذا نتيجة عدم وجود أم في حياتي، لكنني لم أعرف أحدًا له أم تشبه هؤلاء السيدات. كنت أجلس القرفصاء تحت الشجيرات آكل ثمار الكمثرى الصفراء المنقطة وأتطلع غزلًا في هؤلاء السيدات.

كانت إحدى معلماتنا في المدرسة تجعلنا نقرأ أناشيد قديمة مثل: «باتريك سبنس» و«الغرابان»، وكان في المدرسة إقبال على تأليف الأناشيد:

أسير في الردهة
لأقابل صديقتي
ذاهبةٌ إلى دورة المياه
لأقضي حاجتي …

كانت كلمات الأناشيد تتسارع في ذهني متراصَّة في قوافيها قبل أن أجد فرصة كي أعرف معانيها؛ لهذا كنت أؤلفها وفمي مملوء بالكمثرى الناضجة:

مشت وقطعت طريقًا طويلًا
تركت المدينة وراءها
تركت بيتها وغضب أبيها
ذهبت تلاقي مصيرها …

لكن عندما كانت الدبابير تضايقني أعود إلى المنزل، لأجد السيدة باري في المطبخ؛ تدخن السيجار وتستمع إلى الراديو إلى أن يناديها أبي. كانت تظل حتى ينصرف آخر مريض وتتأكد من ترتيب المكان. وإذا ما صاح بها أحد من العيادة، تضحك ضحكتها الصغيرة الشبيهة بالنباح، وتقول: «صِحْ كما يحلو لك.» لم أكن أعبأ بأن أصف لها ثياب النسوة اللاتي رأيتهن أو مظهرهن العام؛ لأنني كنت أعرف أنها لا يمكن أن تعجب بأي أحدٍ لجمال شكله أو أناقة ثيابه. وما كانت تعجب أيضًا بقدرتهن ومعرفتهن بشيء غير ضروري، كإتقان لغة أجنبية ما، لكنها كانت تعجب فقط باللاتي يُجدن لعب الورق ويتقنَّ وبسرعة صناعة المشغولات بالكروشيه. وكانت ترى أنه لا توجد فائدة من كثير من الناس. كذلك قال أبي أيضًا. لا فائدة منهم. جعلني هذا أريد أن أتساءل: ماذا إذا كانت هناك فائدة منهم؟ فما عساها تكون؟ لكنني كنت أعرف أن أيًّا منهما لن يجيبني، بل وسيطلبان مني أن أكفَّ عن التذاكي:

أتى عمه إلى فريدريك هايد
يترنح مخمورًا في الوحل
أخذ يهزه من جنب إلى جنب
آلمه كثيرًا من الضرب …

إذا ما قررت أن أبعث بكل هذا إليك، فما الوجهة التي أرسل إليها؟ عندما أفكر في كتابة العنوان كاملًا على مظروف الخطاب، أعجز ولا أفعل شيئًا. كم هو مؤلم أن أفكر أنك موجود في ذات المكان وحياتك تسير بشكل طبيعي بدوني! والأسوأ أن أفكر أنك غير موجود وأنك في مكان آخر أجهله!

•••

عزيزي آر، عزيزي روبين، كيف تظن أنني لم أعرف؟ لقد كان الأمر واضحًا أمامي طوال الوقت. لو التحقت بالمدرسة هنا، لعرفت بلا شك. لو كان لدي أصدقاء، لأخبرَتْني قطعًا إحدى الفتيات الأكبر مني سنًّا في المدرسة الثانوية.

رغم ذلك، كان لدي سعة من الوقت خلال العطلات، ولو لم أكن منغلقة إلى هذه الدرجة على نفسي أتسكع في طرقات البلدة أؤلف الأناشيد، لخمَّنت الأمر بنفسي. والآن حين أفكر في الأمر، أدرك أن بعض هؤلاء المريضات المسائيات؛ هؤلاء السيدات، كن يأتين على متن قطار. لقد ربطتُ بينهن وملابسهن الجميلة بالقطار المسائي. كان هناك قطار يغادر في ساعة متأخرة من الليل لا بد أنهن كن يغادرن فيه. وبالطبع، كان من السهل عليهنَّ أن يأتين بسيارة تقلُّهن حتى نهاية زقاقنا.

علمت — من السيدة بي، على ما أظن، وليس منه — أنهن كن يأتين لأبي ليحصلن على حقن الفيتامينات. عرفت هذا لأنني كنت كلما سمعت صوت امرأة تصيح أفكر أنها الآن تأخذ الحقنة، وكنت أندهش قليلًا من أن هؤلاء النساء الراقيات الرزينات غير قادرات على تحمل وخزات الإبر.

وحتى الآن، استغرق الأمر مني أسابيع عديدة كي أعتاد النظام الذي تسير به الأمور في هذا البيت، إلى درجة أنني صرت لا أجرؤ على أن ألتقط فرشاة دهان، وأتردد قبل أن أعدل وضع درج غير مستوٍ أو أتخلص من إيصال مشتريات بقالة قديم دون أن أستأذن السيدة بي (التي لا تستطيع أبدًا أن تقرر ما تفعل)، إلى درجة أنني توقفت عن محاولة إقناعهما بأن يقبلا القهوة المغلية (إنهما يفضلان القهوة سريعة التحضير؛ لأن لها نفس المذاق).

اليوم، الأحد، على طاولة الغداء وضع أبي شيكًا بجانب طبقي. السيدة باري لا توجد هنا أبدًا أيام الآحاد. نتناول في هذا اليوم غداءً باردًا أُعدُّه بنفسي من شرائح اللحم والخبز والطماطم والمخللات والجبن، وذلك عندما يعود أبي من الكنيسة. لم يطلب مني قط الذهاب معه إلى الكنيسة، لعله يظن أنه إذا طلب مني ذلك، فسيتيح لي بذلك فرصة الإعراب عن بعض الآراء التي لا يهتم بسماعها.

كان الشيك بمبلغ خمسة آلاف دولار.

وقال لي: «هذا لكِ كي يكون لديكِ بعض المال. يمكنكِ وضعه في البنك أو استثماره كيفما تشائين. فلتتعرفي على الأسعار؛ إنني لا أتابع هذا الأمر. وستحصلين، بالطبع، على المنزل أيضًا؛ بعد عمر طويل، كما يقولون.»

رشوة؟ هذا ما ظننته. مال كي أبدأ مشروعًا صغيرًا أو أذهب في رحلة ما. مال أدفعه مقدمًا لمنزل صغير يكون ملكًا لي أو أعود إلى الجامعة للحصول على ما أَطلَق عليه درجاتي الجامعية غير القابلة للبيع والشراء.

خمسة آلاف دولار للتخلص مني.

شكرتُهُ، ولإطالة الحديث معه بشكل أو بآخر سألته عما فعله بأمواله؛ فأجابني أنه لم يفعل شيئًا جديرًا بالذكر.

واستطرد قائلًا: «عليكِ بسؤال بيلي سنايدر، إذا كنتِ تبغين النصح.» ثم تذكَّر أن بيلي سنايدر لم يعد يعمل في مجال المحاسبة؛ فقد تقاعد عن العمل.

فقال لي: «ثمة شخص مستجد يحمل اسمًا غريبًا؛ اسمًا مثل يبسلانتي، لكنه ليس يبسلانتي.»

فقلت له: «يبسلانتي اسم مدينة في ميشيجان.»

وردَّ أبي: «نعم، إنه اسم مدينة في ميشيجان، لكنه كان اسمًا لرجل قبل أن يكون اسمًا لمدينة.» يبدو أنه كان اسمًا لقائد إغريقي حارب ضد الأتراك في مطلع القرن التاسع عشر.

قلت له: «نعم، تذكرت الآن … حرب بايرون.»

فقال أبي متعجبًا: «حرب بايرون؟ لماذا تطلقين عليها هذا الاسم؟ بايرون لم يَخُض أي حروب، ولقي حتفه جراء الإصابة بمرض التيفوس، وبعد أن توفي، جعلوا منه بطلًا مغوارًا، وقالوا إنه توفي أثناء دفاعه عن الإغريق وما إلى ذلك.» قال أبي ذلك على نحو مشاكس عنيف، كما لو كنت أحد المسئولين عن هذا الخطأ وهذه الضجة المثارة حول بايرون، لكنه استعاد هدوءه فيما بعد، وقصَّ عليَّ — أو بالأحرى ذكَّر نفسه — مراحل الحرب ضد الإمبراطورية العثمانية؛ فتحدث عن الباب العالي، وأردتُ أن أخبره بأنني لم أكن على يقين قط مما إذا كان هذا الباب بابًا فعليًّا أم أنه يرمز إلى القسطنطينية أو بلاط السلطان؟ لكن من الأفضل دائمًا عدم مقاطعة أبي أثناء تحدُّثه؛ فعندما يبدأ في التحدث بهذا الشكل، يسود نوع من الهدنة أو فرصة لالتقاط الأنفاس في حرب سرية غير مُعلنة بيننا. كنت أجلس في مواجهة النافذة، وتمكنت من رؤية أكوام أوراق الشجر الصفراء المائلة للون البني — متناثرة على الأرض — عبر الستائر الشفافة في ضوء الشمس الساطع (لعلنا لن نشهد مثل هذا اليوم لفترة طويلة؛ إذ لا يبشر بذلك صوت الرياح الذي سمعناه في تلك الليلة)، وذكَّرني ذلك بارتياحي وسعادتي السرية التي كنت أشعر بها في طفولتي كلما تمكنت من جعله يستطرد في الحديث على هذا النحو بطرحي سؤالًا ما عليه أو عن طريق الصدفة كهذه المرة.

ومن الأمثلة على ذلك حديثه عن الزلازل؛ فهي تحدث في الحواف البركانية، لكن أحد أعتى هذه الزلازل حدث في وسط القارة، بمقاطعة نيو مدريد في ولاية ميزوري عام ١٨١١. عرفت ذلك منه، وكذلك معلومات عن الأودية المتصدعة، وحالة عدم استقرار التربة التي لا توجد أي دلالات عليها، والكهوف التي تتشكل داخل حجر الجير، والمياه الجوفية، والجبال التي تتآكل بمرور الوقت وتتحول إلى حطام.

وهناك أيضًا الأرقام؛ فقد سألته ذات مرة عن الأرقام، وقال لي إنها تُعرَف بالأرقام العربية، وما من أحد يجهل ذلك. وأضاف أن الإغريق كان بإمكانهم تطوير نظام جيد للأرقام، لكنهم لم يتوصلوا إلى مفهوم الصفر.

«مفهوم الصفر» عبارة احتفظتُ بها في ذاكرتي لأعود إليها يومًا ما فيما بعد.

لا شك أنه عند وجود السيدة بي معنا، لا يكون هناك أي أمل في الحصول على مثل هذه المعلومات من أبي.

فكان يقول لي في هذه الأوقات: «لا عليكِ، فلتكملي طعامك.»

كان يفعل ذلك وكأن أي سؤال أطرحه له مغزًى خفي، وأظن أن هذا هو ما كان عليه الحال بالفعل. فقد كنت أحاول توجيه دفة المحادثة بيننا، ولم يكن من اللياقة عدم إشراك السيدة بي في الحديث؛ ومن ثمَّ، كان علينا الإذعان لموقفها تجاه أسباب الزلازل أو تاريخ الأرقام (الموقف الذي لم يقتصر على عدم الاكتراث فحسب، بل أيضًا الازدراء)؛ ليكون لهذا الموقف الغلبة في النهاية.

•••

وبذلك، نعود للحديث عن السيدة بي مجددًا؛ السيدة بي في الوقت الحالي.

وصلتُ إلى المنزل الليلة الماضية الساعة العاشرة مساءً. كنت في اجتماع الجمعية التاريخية، أو بالأحرى اجتماع لمحاولة تأسيس هذه الجمعية وتنظيمها. حضر الاجتماع تلك الليلة خمسة أشخاص، من بينهم اثنان يسيران على عكازين. وعندما فتحت باب المطبخ، رأيت السيدة بي في مدخل الباب المؤدي إلى الرواق الخلفي الذي يصل بين العيادة من ناحية ودورة المياه والجزء الأمامي من المنزل من ناحية أخرى. كانت تحمل إناءً كبيرًا مغطًّى في يديها في طريقها إلى دورة المياه، وكان بوسعها المضي قدمًا باجتياز المطبخ الذي دخلتُ إليه في تلك اللحظة. وما كنت لألمحها إن فعلت، لكنها توقفت متسمرةً في مكانها فجأة، واستدارت ناحيتي قليلًا، وقد ارتسم على وجهها عبوس؛ لأنها فوجئت برؤيتي.

لقد أوقعتُ بها.

هرولت، بعد ذلك، مسرعةً إلى دورة المياه.

اتسمت كل تصرفاتها بالافتعال والتصنُّع؛ المفاجأة والإجفال والإسراع في الخطى، بل والطريقة التي حملت بها أيضًا الإناء كي أتمكن من ملاحظته؛ كلها تصرفات متعمدة من جانبها.

كان بإمكاني سماع صوت همهمة أبي في العيادة، متحدثًا إلى أحد المرضى. رأيت أنوار العيادة مضاءة أثناء دخولي المنزل، ورأيت سيارة المريضة بالخارج؛ فلم يعد أحد يسير على قدميه الآن.

خلعت معطفي، وصعدت إلى الطابق العلوي. كان شغلي الشاغل آنذاك هو عدم السماح للسيدة بي بتحقيق ما تبغيه. ما من أسئلة، أو إدراك صادم، ما من «ما الذي تحملينه في هذا الإناء يا سيدة بي؟» أو «ما الذي تدبرانه أنتِ وأبي؟» (لم أكن أدعوه «أبي» قط)، وانشغلت على الفور بالبحث في أحد صناديق الكتب التي لم أفرغها بعد. كنت أبحث عن مذكرات آنا جيمسون؛ إذ كنت قد وعدت أحد الذين حضروا الاجتماع، والذي لم يكن عمره يتجاوز السبعين عامًا، بإحضارها له. هو يعمل مصورًا ويعلم بعض الأمور عن تاريخ كندا العليا؛ وكان يراد أن يصبح مدرس تاريخ، لكنه يعاني من لعثمة منعته من ذلك. أخبرني بذلك في نصف الساعة التي وقفنا فيها على الرصيف نتبادل أطراف الحديث، بدلًا من اتخاذ خطوة أكثر جدية بالذهاب إلى مكان ما لاحتساء القهوة. وعند توديع أحدنا الآخر، أخبرني بأنه ودَّ لو دعاني لاحتساء القهوة، لكنه يجب عليه العودة إلى المنزل ليحل محل زوجته في رعاية طفلهما الذي يعاني من المغص.

أفرغتُ صندوق الكتب بالكامل قبل أن أصل إلى ما أريد؛ كان الأمر أشبه بالبحث عن آثار من عصر قديم. أخذتُ أبحث فيها جميعًا إلى أن رحلت المريضة واصطحب أبي السيدة بي إلى منزلها، وصعد إلى الطابق العلوي؛ استخدم دورة المياه، وخلد إلى النوم. أخذت أقرأ قليلًا حتى أصابني النعاس، وكدت أغفو على الأرض.

•••

واليوم، أثناء تناولنا الغداء، قال أبي أخيرًا: «مَن يبالي بالأتراك على أي حال؟ صاروا نسيًا منسيًّا.»

ولزم عليَّ القول: «أعتقد أنني أعلم بما يدور هنا.»

فعاد برأسه إلى الوراء، ونخر كالحصان العجوز.

«تعلمين، أليس كذلك؟ ما الذي تظنين أنك على علم به؟»

فقلت له: «إنني لا أدينك بشيء. لست أمانع.»

«أهكذا إذن؟»

فقلت: «إنني أومن بالإجهاض، وبأنه يجب أن يكون قانونيًّا.»

فقال لي: «لا أريد سماع هذه الكلمة منكِ مرة أخرى في هذا المنزل.»

فسألته: «ولِمَ؟»

«لأنني مَن يقرر ما يُقال في هذا المنزل.»

«أنت لا تفهم ما أقوله.»

«ما أفهمه أنكِ صرتِ وقحة، وفقدتِ ما لديك من عقل. تعليم كثير، وعقل صغير.»

لكنني لم أصمت، وقلت له: «ينبغي أن يعلم الناس.»

«حقًّا؟ ثمة فارق بين المعرفة والثرثرة. ضعي هذا الكلام في ذهنك، ولا تتحدثي في هذا الموضوع مجددًا أبدًا.»

•••

لم نتحدث مجددًا طوال ما تبقَّى من ذلك اليوم. طهوت لحمًا مشويًّا كالمعتاد على العشاء، وتناولناه دون أن ينبس أيٌّ منا ببنت شفة. لا أظن أنه وجد صعوبة في ذلك على الإطلاق، وكذلك أنا؛ لأن كل شيء بدا غبيًّا ومهينًا، وكنت أشعر بالغضب، لكنني لن أظل على هذا الحال إلى الأبد، وربما أعتذر عما بدر مني (قد لا يدهشك سماع ذلك). صار من الجلي للغاية أنه قد حان موعد مغادرتي المنزل.

أخبرني الرجل الذي قابلته ليلة أمس أنه عندما يشعر بالراحة والسكينة، تختفي لعثمته تمامًا، مثلما كان الحال وهو يتحدث معي، حسبما قال. يمكنني على الأرجح إيقاعه في غرامي، إلى حدٍّ ما. يمكنني فعل ذلك بغية الترفيه؛ فتلك هي نوعية الحياة التي يمكنني الحصول عليها هنا.

•••

عزيزي آر، لم أغادر المنزل لأن سيارتي الميني كوبر لم تكن في حالة تسمح بأن تقلَّني، فأرسلتها للفحص. هذا فضلًا عن أن الطقس قد تغيَّر، وصارت الرياح عاتية كعادتها في فصل الخريف؛ تثير مياه البحيرة، وتضرب الشاطئ بقوة؛ فأصابت السيدة باري على درجات سلم منزلها الأمامية، وعصفت بها على الرصيف، فكُسِر مِرفقها؛ مرفقها الأيسر. بيد أنها قالت إن بوسعها العمل باستخدام ذراعها اليمنى، لكن أبي أخبرها بأن الكسر مضاعف، وينبغي عليها الراحة طوال هذا الشهر. وسألني عما إذا كان لدي مانع في تأجيل مغادرتي للمنزل. كانت هذه كلماته بالضبط «تأجيل مغادرتي». لم يسألني عن المكان الذي أخطط للذهاب إليه؛ كان يعلم فقط بأمر السيارة.

أنا أيضًا كنت أجهل المكان الذي سأذهب إليه.

فوافقت على البقاء ما دام لي نفع في المكان؛ ومن ثم، صار هناك احترام بيننا في الحديث؛ وقد كان في الواقع أمرًا مريحًا. حاولت فعل ما كانت ستفعله السيدة بي في المنزل. تخلَّيت عن أي محاولة لإعادة التنظيم، أو التحدث عن إجراء الإصلاحات (كانت الأفاريز قد نُظِّفت بالفعل؛ عندما جاء قريب السيدة بي، شعرت بالذهول والامتنان)، وتمكَّنت من إغلاق باب الفرن مثلما كانت تفعل السيدة بي بوضع كتابين ثقيلين — عن مجال الطب — على كرسي بدون مساند ودفعه قبالة الفرن لإبقاء الباب مغلقًا. طهوت اللحم والخضراوات كما تفعل، ولم أفكر قط في جلب ثمر أفوكادو أو زجاجة من لُب ثمرات الخرشوف أو رءوس الثوم إلى المنزل، بالرغم من ملاحظتي توافر كل هذه الأشياء الآن في المتجر. أعددت القهوة سريعة التحضير، وحاولت احتساءها لأرى ما إذا كان بإمكاني الاعتياد عليها، وتمكَّنت بالطبع من ذلك. نظفت العيادة في نهاية كل يوم، وتوليت أمر غسل الملابس. وكان العامل بالمغسلة يفضل التعامل معي؛ لأنني لم أكن أتهمه بأي شيء.

سُمِح لي أيضًا بالرد على الهاتف، لكن إذا كان المتصل امرأة تطلب التحدث مع أبي، ولا ترغب في الكشف عن أي تفاصيل عن حالتها، كان عليَّ تسجيل رقمها وإخبارها بأن الطبيب سيعاود الاتصال بها. وهذا ما كنت أفعله، وفي بعض الأحيان كانت المرأة تغلق السماعة قبل أن أنهي المكالمة. وعندما أخبرت أبي بذلك، قال لي: «ستعاود الاتصال على الأرجح.»

لم يكن هناك عدد كبير من هذا النوع من المريضات، اللاتي يسميهن أبي الحالات الخاصة. لا أعلم العدد بالضبط؛ ربما واحدة في الشهر. أما أغلب الحالات التي كان يعالجها أبي، فقد كانت حالات التهاب في الحلق، أو تقلص في القولون، أو خُراج في الأذن، أو تسارع في نبضات القلب، أو حصوات على الكلى، أو قرحة في المعدة.

•••

آر، طرق أبي الليلة باب غرفتي. طرقه مع أنه لم يكن مغلقًا تمامًا. كنت أطالع أحد الكتب آنذاك، فطلب مني — دون توسل بالتأكيد، وإنما بنوع من الاحترام المعقول — مساعدته في العيادة.

كانت تلك هي الحالة الخاصة الأولى في غياب السيدة بي.

فسألته عما يريدني أن أفعله.

قال لي: «ليس عليكِ سوى الحفاظ على ثباتها؛ فهي صغيرة السن، وليست معتادة على الأمر بعد. فلتغسلي يديكِ جيدًا باستخدام الصابون الموجود في الزجاجة بدورة المياه في الدور السفلي.»

كانت المريضة مستلقية على سرير الفحص، تغطيها ملاءة من أول خصرها حتى أسفلها. أما الجزء العلوي من جسدها، فكان مغطًّى بالكامل بسترة من الصوف المحبوك ذات لون أزرق داكن — مغلقة أزرارها حتى أعلاها — وبلوزة بيضاء مزينة بالدانتيل عند حافة ياقتها. انسدلت هذه الملابس فوق عظمة الترقوة الناتئة وصدرها الذي كاد يكون مسطحًا. كان شعرها أسود، وقد أحكمت جذبه إلى الخلف، وربطته على شكل جديلة، وثبَّتته بدبوس أعلى رأسها. وهذا الشكل المحتشم المزري جعل عنقها يبدو طويلًا، وأوضح بنية العظام البارزة لوجهها ذي البشرة البيضاء؛ ومن ثمَّ، بدت عن بُعد وكأنها امرأة في الخامسة والأربعين من عمرها، لكن عند الاقتراب منها، اتضح أنها لا تزال في ريعان شبابها، ربما في العشرينيات من العمر. كانت قد علَّقت تنورتها خلف الباب، وبدا من خلفها طرف السروال الداخلي الأبيض الذي علَّقته بعناية تحتها.

أخذت ترتجف بقوة، مع أن جو العيادة لم يكن باردًا.

قال أبي: «والآن يا مادلين، أول شيء يجب أن نفعله هو رفع ركبتيك لأعلى.»

تساءلتُ عما إذا كان يعرفها، أم أنه يسأل المريضة فحسب عن اسمها، ويدعوها بأي اسم ترد عليه به؟

قال لها: «برفق، برفق!» ووضع الرِّكاب في المكان المخصص له، ثم أدخل قدميها فيه. كانت ساقاها عاريتين، وبدتا وكأنهما لم تتعرضا لأشعة الشمس قط، وكانت لا تزال ترتدي حذاءها الخفيف.

ارتجفت ركبتاها كثيرًا في هذا الوضع الجديد حتى إنهما اصطكتا معًا.

قال لها أبي: «عليكِ التزام الثبات أكثر من ذلك؛ فلا يمكنني، كما تعلمين، القيام بمهمتي إلا إذا قمتِ أنتِ بما عليكِ فعله. هل ترغبين في وضع بطانية عليكِ؟»

ثم قال لي: «فلتحضري لها بطانية. ستجدينها على الرف السفلي هناك.»

أحضرت البطانية ووضعتها على الجزء العلوي من جسد مادلين. لم تنظر إليَّ. وكانت أسنانها تصطك بعضها ببعض، وقد زمَّت شفتيها محكمةً إغلاق فمها.

قال أبي لها: «والآن، عليكِ بإنزال جسمك قليلًا إلى أسفل.» ثم توجه إليَّ بالحديث قائلًا: «أمسكي بركبتيها، وباعدي بينهما برفق.»

فوضعتُ يديَّ على الجزء البارز من ركبتيها، وباعدتُ بينهما برفق قدر الإمكان. وملأ صوت أنفاس أبي الغرفة بتعليقاته المبهمة التي تدل على الانهماك. ووجب عليَّ الإمساك بركبتَي مادلين بقوة كي لا تنتفضا.

سألت مادلين: «أين تلك السيدة العجوز؟»

فأجبتها: «إنها في منزلها؛ وقعت وأُصيبت. وأنا أحلُّ محلها الآن.»

لقد سبق لها، إذن، المجيء إلى هنا.

فقالت لي: «إنها قاسية.»

كان صوتها في الواقع عبارة عن دمدمة، وإن لم يكن عصبيًّا بالقدر الذي توقعتُهُ من ارتجاف جسدها.

قلت لها: «أتمنى ألا أكون بهذه القسوة.»

فلم تُجِبني. والتقط أبي أداة رفيعة تشبه إبرة الخياطة.

وقال: «والآن، الجزء الصعب.» كان يتحدث بنبرة حوارية على نحو أرق من أي مرة سمعتها منه. واستطرد قائلًا: «وكلما زاد تشنُّجك، بات الأمر أصعب؛ لذا عليكِ الاسترخاء. نعم، هكذا! أحسنتِ يا فتاة!»

حاولتُ التفكير في شيء ما أقوله لتهدئتها أو إلهائها؛ فقد أدركتُ في تلك اللحظة ما يفعله أبي. على قطعة قماش بيضاء مفروشة على المائدة المجاورة له، اصطفت مجموعة من الأدوات، جميعها لها نفس الطول، لكن سُمكها متدرج. كانت تلك الأدوات التي سيستخدمها، واحدة تلو الأخرى، لفتح عنق الرحم وتوسيعه. ومن موقعي خلف الحاجز، الذي صنعته الملاءة وراء ركبتَي الفتاة، لم أتمكن من مشاهدة التقدم الفعلي لأبي في استخدام هذه الأدوات. بيد أنه كان بوسعي الشعور بما يحدث من موجات الألم التي أصابت جسدها وتغلَّبت على تشنجات الخوف لديها، فجعلتها أكثر هدوءًا بالفعل.

مِن أين أنتِ؟ ما المدرسة التي ذهبتِ إليها؟ هل تعملين؟ (لاحظتُ خاتم زفاف في يدها، لكن على الأرجح، جميعهن يلبسن مثل هذه الخواتم) هل تحبين وظيفتك؟ هل لديكِ إخوة أو أخوات؟

ما الذي يمكن أن يدفعها إلى الإجابة عن أيٍّ من هذه الأسئلة، حتى وإن لم تكن تعاني الألم في تلك اللحظة؟

التقطت أنفاسها بصعوبة من بين أسنانها، واتسعت عيناها وهي تنظر إلى السقف.

قلت لها: «أعلم، أعلم أنكِ تتألمين.»

قال أبي: «لقد أوشكنا على الانتهاء. أحسنتِ صنعًا يا فتاة! لم يَعُد أمامنا الكثير.»

قلت لها: «كنت سأقوم بطلاء هذه الغرفة، لكنني لم أتمكن من فعل ذلك. ما اللون الذي تختارينه إذا كنتِ مكاني؟»

فتنفَّستْ بعنف على حين غرة.

قلت لها: «أصفر؛ فكرت في الأصفر الفاتح. وما رأيك في الأخضر الفاتح؟»

بحلول ذلك الوقت، كنا قد وصلنا إلى الأداة الأكثر سُمكًا. دفعت مادلين رأسها بعنف إلى الخلف على الوسادة المسطحة، وبسطت عنقها الطويل، ومطَّت شفتيها من الألم وزمَّتهما على أسنانها.

قلت لها: «فكِّري في فيلمك المفضل. ما فيلمك المفضل؟»

سبق أن سألتني إحدى الممرضات هذا السؤال عند وصولي إلى مرحلة بشعة من الألم ظننتها ستلازمني. شعرت في تلك اللحظات أنني لن أنال الراحة أبدًا. كيف يمكن أن يكون للأفلام وجود في العالم بعد هذه اللحظات؟ والآن، أقول نفس الشيء لمادلين التي نظرت إليَّ نظرة خاطفة بتعبير ذاهل لا مبالٍ لشخص يرى أن الإنسان لا يزيد نفعًا عن ساعة متعطلة.

جازفت برفع إحدى يديَّ من على ركبتها، ولمست يدها. وأدهشني مدى السرعة والقوة الذي أمسكت به يدي، وسحقت أصابعي معًا، وأخيرًا صرت ذات نفع.

همستْ من بين أسنانها: «قولي شيئًا … ألقي … على مسامعي.»

قال أبي: «لقد أوشكنا على الانتهاء.»

ألقي على مسامعي.

ماذا كان يُفترض مني أن ألقي على مسامعها؟ أغنية «هيكوري ديكوري دوك»؟

ما ورد على ذهني في تلك اللحظة الأغنية التي اعتدت أنتَ ترديدها؛ «أغنية إينجَس المتجول».

«ذهبت إلى شجرة البندق؛ لأن نارًا اشتعلت في رأسي …»

لم أتذكر ما تلا ذلك من أبيات، ولم أستطع التفكير، ثم تذكَّرت المقطع الأخير بأكمله:

مع أنني شبت من التجول،
في الأغوار وأعالي التلال،
سوف أعثر عليك،
وأُقبِّل وجهك وأضم يديك …

هل لكَ أن تتخيل إلقائي قصيدة أمام أبي؟

لم أعرف رأيها فيها؛ فقد أغمضتْ عينيها.

ظننت أنني سأخشى الموت؛ لأن أمي ماتت على هذا النحو؛ عند الولادة، لكنني ما إن وصلت إلى هذه الدرجة من الألم حتى اكتشفت أن الموت والحياة مفهومان غير مرتبطين. ووصلت إلى أقصى حدود هذا التفكير، واقتنعت بأنه لا يمكنني فعل أي شيء لتحريك ما شعرت بأنه بيضة عملاقة أو كوكب مشتعل، وليس طفلًا على الإطلاق. لقد عَلِق، وأنا أيضًا عَلِقت، في المكان والزمان اللذين سيستمران إلى الأبد. لم يبدُ أمامي أي سبب يجعلني أنجو من هذا الموقف، وجميع احتجاجاتي كانت قد تلاشت بالفعل.

قال أبي: «إنني بحاجة إليكِ الآن. أريدك هنا. فلتحضري الإناء الكبير.»

حملتُ نفس الإناء الذي رأيت السيدة باري تحمله من قبل، وظللت أحمله أثناء كشطه رحم الفتاة باستخدام أداة مطبخ ملائمة (لا أعني أنها أداة مطبخ بالفعل، وإنما كانت تشبه قليلًا الأدوات المنزلية في نظري).

إنَّ الجزء السفلي من جسد أي امرأة شابة حتى ولو نحيفة يبدو في هذا الوضع كبير الحجم وممتلئًا. وفي الأيام التي تعقب الولادة — في جناح التوليد بالمستشفى — ترقد السيدة غير مكترثة بشيء، بل وفي حالة تمرد وعناد، بسبب الجروح الملتهبة والتمزقات العنيفة غير المضمدة، والخيوط الطبية السوداء البادية، وكذلك الأنسجة المخيَّطة المثيرة للشفقة، ومؤخرتها وفخذيها الكبيرتين البائستين. كم كان المشهد من الجانب الآخر من الملاءة مذهلًا حقًّا!

خرجتْ من الرحم تكتلات — تشبه هلام النبيذ — ودماء، والجنين في مكان ما بينهما، كاللعبة الصغيرة الموجودة في علبة حبوب الفطور أو الجائزة الصغيرة المخبأة وسط حبات الفشار؛ فكان أشبه بدمية بلاستيكية دقيقة الحجم، تافهة لا قيمة لها كظفر الإصبع. لم أبحث عنه، وإنما رفعت رأسي لأعلى، مبعدةً إياها عن رائحة الدماء الدافئة.

قال أبي: «والآن إلى دورة المياه. ستجدين غطاءً هنا.» كان يقصد قطعة القماش المطوية الموضوعة بجوار الأدوات الملوثة بالدماء. لم أرغب في أن أسأله: «هل أتخلص من محتويات الإناء في المرحاض؟» إلا أنني سلَّمت جدلًا بأن هذا ما يقصده. حملت الإناء متجاوزةً الرواق حتى وصلت إلى دورة المياه في الدور السفلي، وتخلصت من محتويات الإناء، وكسحت مياه المرحاض مرتين، ثم شطفت الإناء بالماء، وأعدته إلى العيادة. كان أبي يضمد الفتاة آنذاك، ويقدم لها بعض التعليمات. أجاد أبي ذلك، كعادته دائمًا؛ بيد أن وجهه بدا متجهمًا ومرهَقًا للغاية. وتبادر إلى ذهني أنه كان بحاجة إليَّ في ذلك المكان طوال العملية، خشية أن ينهار أثناء العمل؛ فالسيدة بي، على الأقل في الأيام الخوالي، كانت تنتظر على ما يبدو في المطبخ حتى اللحظات الأخيرة من العملية، لكن لعلها تنتظر معه طوال فترة العملية بعدما رأيته الآن.

وإذا حدث وانهار بالفعل، فلا أعلم ما كنت سأفعل حينها.

ربَّت على ساقَي مادلين، وأخبرها بأنها ينبغي عليها الاستلقاء على ظهرها.

وقال: «لا تحاولي النهوض لبضع دقائق. هل رتَّبتِ مع أحد ليقلَّك إلى المنزل؟»

فأجابت بصوت واهن، لكنه ناقم في الوقت نفسه: «من المفترض أن يكون هنا منذ البداية؛ وألا يكون قد غادر المكان بالخارج.»

فخلع أبي رداءه، وذهب إلى نافذة غرفة الانتظار.

وقال لها: «إنه لا يزال هنا.» وهمهم بصوت مستنكر معقد قائلًا: «أين سلَّة الغسيل؟» ثم تذكر أنها في الغرفة ذات الإضاءة العالية حيث كان يعمل، فعاد ووضع الرداء فيها، ثم قال لي: «سأكون ممتنًّا للغاية إن تمكنتِ من تولِّي أعمال التنظيف.» والتنظيف هنا تعني التعقيم ومسح الأرضية بوجه عام.

فوافقت.

فقال أبي: «حسنًا، سأودِّعك الآن، وسوف ترشدك ابنتي إلى الخارج عندما تكونين مستعدة.» اندهشتُ قليلًا لسماع كلمة «ابنتي» منه، بدلًا من اسمي. لا ريب أنني سمعتها منه من قبل عندما كان يقدِّمني إلى أحد الأشخاص، لكنني، مع ذلك، دُهشت لسماعها.

أنزلتْ مادلين ساقَيْها عن سرير الفحص لحظة خروج أبي من الغرفة، ثم سارت مترنحةً، فتقدمتُ لمساعدتها. قالت: «حسنًا، حسنًا! لقد نهضت عن السرير سريعًا فقط. أين وضعتُ تنورتي؟ لا أريد الوقوف هنا بهذه الصورة.»

أحضرتُ لها التنورة والسروال الداخلي من وراء الباب، فارتدتهما دون مساعدة مني، لكنها أخذت ترتعش أثناء فعل ذلك.

قلت لها: «يمكنكِ الانتظار دقيقة، وسوف ينتظر زوجك.»

فردَّت عليَّ قائلةً: «إن زوجي يعمل في الغابات بالقرب من كينورا، وسوف أنتقل للعيش معه الأسبوع المقبل؛ فقد حصل على مكان حيث يمكنني الإقامة معه فيه.»

واستطردت: «والآن، لقد وضعت معطفي في مكان ما هنا.»

•••

الفيلم المفضل لديَّ — الذي تعلمه حسب ظني، والذي كنت سأتذكره عندما سألتني الممرضة عنه — هو «التوت البري». أتذكَّر دار السينما الصغيرة عتيقة الطراز التي اعتدنا مشاهدة جميع الأفلام السويدية واليابانية والهندية والإيطالية فيها، وأتذكر أنها كانت في ذلك الحين قد تحولت لتوها عن عرض أفلام كاري أون، وأفلام فرقة مارتن ولويس، لكنني لا أتذكر اسمها. وبما أنك كنت تدرِّس الفلسفة للقساوسة المستقبليين، فلا شك أن فيلمك المفضل هو «الختم السابع»، أليس كذلك؟ أظن أنه كان يابانيًّا ولا أتذكر عما كانت تدور أحداثه. على أي حال، اعتدنا السير إلى المنزل من السينما التي كانت تبعد عنه نحو ميلين، وكانت تدور بيننا عادةً حوارات محتدمة عن الحب والأنانية والرب والإيمان واليأس. وعند وصولنا إلى المنزل الذي كنت أؤجر فيه غرفة مؤثثة، كان علينا التزام الصمت، وصعود الدَّرج بهدوء تام وصولًا إلى غرفتي.

وما إن ندلف إلى الغرفة حتى تتنفس الصعداء في امتنان وإعجاب.

•••

كنت سأشعر بالتوتر الشديد عند دعوتي لكَ للمجيء إلى هنا في عيد الميلاد الماضي، لو لم يكن الخلاف بيننا محتدمًا بالفعل. كنت سأخشى عليك من مقابلة أبي.

«روبين؟ أهذا اسم رجل؟»

فأجبته: «نعم، إنه اسمي.»

وادَّعى أبي أنه لم يسمع بهذا الاسم من قبل قط.

بيد أنكما، في الواقع، انسجمتما معًا على نحو جيد، ودارت بينكما مناقشة حول الصراعات الحادة بين مراتب مختلفة من الرهبان في القرن السابع الميلادي، أليس كذلك؟ وكان الخلاف بين أولئك الرهبان يدور حول الكيفية التي ينبغي عليهم حلق رءوسهم بها.

دعاك أبي بالشاب الطويل النحيل ذي الشعر المتموج. وكان هذا الوصف منه أشبه بالمجاملة.

وعندما أخبرتُهُ عبر الهاتف فيما بعد أننا لن نتزوج، كان ردُّه: «يا إلهي! هل تعتقدين أنه بإمكانك مقابلة شخص آخر والزواج منه؟» ولو اعترضتُ على ما قاله، لقال لي كعادته إنه كان يمزح. وقد كانت بالفعل مزحة. لم أقابل شخصًا آخر لأتزوجه، لكنني ما كنت على الأرجح في أفضل أحوالي لأحاول فعل ذلك.

•••

عادت السيدة باري بعد أقل من ثلاثة أسابيع، مع أنه كان من المفترض أن تستمر إجازتها شهرًا. بيد أنه صار عليها العمل عدد ساعات أقل يوميًّا مقارنةً بما سبق؛ فقد أصبحت تستغرق وقتًا طويلًا للغاية في ارتداء ملابسها وأداء الأعمال المنزلية؛ ومن ثمَّ، صار من النادر مجيئها إلى هنا (كان مَن يقوم بتوصيلها هو ابن أختها أو زوجته) قبل الساعة العاشرة صباحًا تقريبًا.

«يبدو والدك منهكًا.» كانت تلك أولى كلماتها لي، وأظن أنها كانت محقَّة فيها.

فقلت لها: «ربما ينبغي عليه نيل قسط من الراحة.»

فقالت: «يزعجه الكثيرون.»

أُحضِرت السيارة الميني كوبر من ورشة الإصلاح، وها هي الأموال قد دخلت في حسابي المصرفي، وما وجب عليَّ فعله الآن هو المغادرة، لكن ثمة أفكارًا حمقاء تراودني. ماذا إذا جاءت حالة خاصة أخرى؟ كيف يمكن للسيدة بي مساعدة أبي؟ فهي لا تستطيع استخدام يدها اليسرى بعدُ في حمل أي شيء ثقيل، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال حمل الإناء باستخدام يدها اليمنى فحسب.

•••

آر، اليوم هو أول الأيام التي تلت تساقط الثلوج بغزارة. حدث ذلك أثناء الليل، وفي الصباح أضحت السماء صافية؛ لم تعد هناك رياح، وصار ضوء النهار مبهرًا، فخرجت للمشي باكرًا تحت أشجار الصنوبر. تساقط الثلج من بين أغصانها بلونه البراق كتلك الأشياء التي تُعلَّق على أشجار عيد الميلاد، أو كالماس. كانت الثلوج قد جُرِفت بالفعل من على الطريق السريع، وكذلك الزقاق الذي يوجد فيه منزلنا؛ ومن ثم، كان بإمكان أبي قيادة سيارته إلى المستشفى، وربما كان بإمكاني أيضًا قيادة سيارتي ومغادرة المنزل وقتما أشاء.

مرَّت بعض السيارات إلى داخل المدينة وخارجها، كما هو الحال في أي صباح آخر.

وقبل أن أدخل إلى المنزل، أردتُ معرفة ما إذا كان من الممكن تشغيل سيارتي، وقد دارت بالفعل. وعلى المقعد المجاور لمقعد السائق، رأيت علبة؛ علبة شوكولاتة تزن رطلين وتشبه علب الشوكولاتة التي تُباع في الصيدليات. لم أعرف كيف وصلت إلى السيارة، وتساءلت عما إذا كانت هدية من الشاب الذي التقيته في الجمعية التاريخية. كانت فكرة حمقاء. لكن مَن غيره يمكن أن يفعل ذلك؟

تخلَّصت من الثلج المتراكم على حذائي طويل الساقين على عتبة الباب الخلفي، وذكَّرت نفسي بضرورة وضع مكنسة بالخارج، ورأيت المطبخ منيرًا بضوء النهار الباهر.

اعتقدت أنني أعلم ما كان سيقوله أبي.

«أكنتِ في الخارج تتأملين الطبيعة؟»

رأيته جالسًا على كرسيه أمام المائدة، مرتديًا قبعته ومعطفه. وفي ذلك الوقت عادةً، يكون قد غادر لمتابعة مرضاه في المستشفى.

سألني: «هل جرفوا الثلوج عن الطريق؟ وماذا عن الزقاق؟»

فأجبته بأن كليهما قد جُرِف منه الثلج تمامًا. كان بوسعه رؤية أن الزقاق قد جُرِفت منه الثلوج بالنظر من النافذة. قمت بتشغيل الغلاية، وسألته عما إذا كان يرغب في فنجان آخر من القهوة قبل خروجه.

فأجاب: «حسنًا، طالما أن الثلوج قد جُرِفت، ويمكنني الخروج.»

قلت له: «يا له من يوم!»

«لا بأس به طالما أنكِ لم تَعْلَقي بالثلوج في الخارج.»

أعددت فنجانين من القهوة سريعة التحضير، ووضعتهما على المائدة. جلست في مواجهة النافذة والضوء النافذ إلى المنزل، في حين جلس هو على الجانب الآخر من المائدة، وعدَّل اتجاه كرسيه موليًا ظهره للضوء. لم أتمكن من تبيُّن التعبير الذي ارتسم على وجهه، لكن أنفاسه ظلت معي كالعادة.

شرعت في التحدث عن نفسي. لم تكن لديَّ أي نية لفعل ذلك على الإطلاق؛ كنت أنوي الحديث عن مغادرتي المنزل، لكنني ما إن فتحت فمي حتى بدأت الكلمات تخرج منه. سمعتها بقدرٍ متساوٍ من الجزع والرضا في الوقت نفسه، كما هو الحال عندما يسمع المرء ما يقوله عندما يكون مخمورًا.

قلت له: «لم تعلم قط أنني أنجبت. كان ذلك في السابع عشر من يوليو، في أوتاوا. لطالما فكرت كم كان ذلك مثيرًا للسخرية.»

أخبرته بأن أحدهم قد تبنى الطفل فور ولادته، وأنني لم أعرف هل كان ذكرًا أم أنثى؛ فقد طلبت عدم إخباري بنوع المولود، وألا أراه.

وأضفت: «أقمت مع جوسي. لعلك تتذكر حديثي معك عن صديقتي جوسي. إنها في إنجلترا الآن، لكنها كانت تعيش وحدها في منزل أبيها آنذاك. فقد بُعِث والداها إلى جنوب أفريقيا. وكانت مصادفة جيدة.»

أخبرته عن والد الطفل؛ فقلت له إنه أنت، تحسبًا لاستفساره. وقلت إنه نظرًا لأننا كنا مخطوبين بالفعل — مخطوبين رسميًّا — فقد رأيت أنه ينبغي علينا الزواج.

لكن ذلك لم يكن رأيك، وطلبت مني البحث عن طبيب لإجهاض الطفل.

لم يذكِّرني أبي في تلك اللحظة بأنه ينبغي لي عدم نطق هذه الكلمة أبدًا في منزله.

أخبرته بأنكَ قلت لي إننا لا يمكننا المضي قدمًا في هذا الأمر وإتمام الزواج؛ إذ يمكن لأي أحد إجراء الحسابات، ومعرفة أنني كنت حاملًا بالطفل قبل الزواج؛ ومن ثمَّ، لا يمكننا الزواج إلا عندما أتخلص تمامًا من هذا الحمل.

وإن لم أفعل، فقد تخسر وظيفتك في الكلية اللاهوتية.

يمكن أيضًا أن تمثُل أمام إحدى اللجان التي قد تُصدر بدورها حكمًا بأنك غير مؤهل أخلاقيًّا لأداء وظيفتك كمعلم لصغار القساوسة، وقد يُحكَم عليك بأنك شخصية طالحة. حتى وإن افترضنا عدم حدوث ذلك، وأنك لن تخسر وظيفتك ويتم تعنيفك فحسب — أو حتى لا يتم تعنيفك، وإنما لن تترقى أبدًا — ستكون هناك نقطة سوداء في سجلك المهني. وإن لم يقل لك أحد أي شيء على الإطلاق، فسوف يكون لديهم حجة ضدك، الأمر الذي لا يمكنك احتماله. والطلاب الجدد بالمدرسة ستصل إلى مسامعهم أخبارك من الطلاب القدامى؛ وسوف يتبادلون النكات عنك، وستسنح الفرصة لزملائك للتعالي عليك، وقد يكونون متفهمين على الجانب الآخر، لكن الأمر لن يقلَّ سوءًا عن التعالي عليك. وكنت ستصبح رجلًا مهانًا جدًّا أو إلى حدٍّ ما، وستفشل في حياتك.

وقلت لك إن هذا لن يحدث بالتأكيد.

فأجبتني أن هذا هو ما سيحدث قطعًا، وقلت لي إنه ينبغي عليَّ عدم التقليل أبدًا من وضاعة نفوس البشر، وإن الأمر سيكون مدمرًا لي أيضًا؛ فزوجات الأساتذة الأكبر سنًّا يتحكمن في الكثير من الأمور، ولن يدعوني أنسى، حتى وإن كنَّ طيبات القلب، بل لا سيما إذا كنَّ طيبات.

فقلت لك إنه بإمكاننا الانتقال إلى مكان آخر وحسب؛ مكان لا يعرف فيه أحد بأمرنا.

فأجبتني بأنهم سيعلمون؛ فثمة شخص دائمًا ما يحرص على أن يعلم الناس بمثل هذه الأمور.

هذا فضلًا عن أن ذلك سيعني أنك ستضطر إلى البدء من الصفر مجددًا، وسوف تبدأ براتب أقل، راتب زهيد. كيف يمكننا إذن إعالة طفل صغير في هذه الحالة؟

أدهشتني تلك المجادلات التي لا تتفق مع أفكار الشخص الذي أحببته. سألتُك عما إذا كانت الكتب التي قرأناها معًا، والأفلام التي شاهدناها، والأمور التي تحدثنا عنها، تعني لك أي شيء على الإطلاق؛ فأجبتني بالإيجاب، لكن ما نحن بصدده الآن هو الحياة الواقعية. سألتك عما إذا كنت من الأشخاص الذين لا يتحملون سخرية الآخرين منهم، ويستسلمون أمام مجموعة من زوجات الأساتذة.

أجبتني بأن الوضع ليس كذلك على الإطلاق.

فأطحت بخاتمي الماسي، وتدحرج أسفل إحدى السيارات المتوقفة على جانب الطريق؛ فقد كنا نتجادل أثناء سيرنا في شارع قريب من المنزل الذي توجد به غرفتي المستأجرة. كنا في الشتاء، كما هو الحال الآن؛ ربما يناير أو فبراير، لكن العراك بيننا استمر فترة طويلة بعد ذلك؛ فقد كان من المفترض أن أتوصل إلى معلومات عن الإجهاض من صديقة لها صديقة شاع عنها أنها قد خضعت لهذه العملية، لكنني استسلمت لك، وقررت إجراء العملية. ولم تخاطر حتى بالاستفسار عن الأمر بنفسك، لكنني كذبت، وقلت إن الطبيب قد غادر المدينة. وبعد ذلك، اعترفتُ بكذبي، وقلت لك إنني لا يمكنني الخضوع لهذه العملية.

لكن هل كان ذلك من أجل الطفل؟ إطلاقًا؛ بل السبب أنني على حق في هذا النزاع.

شعرت بالاشمئزاز عندما رأيتك تنزل على ركبتيك لتُدخل يدك تحت السيارة المتوقفة على جانب الطريق وراء الخاتم، وأذيال معطفك ترفرف على مؤخرتك. أخذت تنبش في الثلج بأظافرك بحثًا عن الخاتم، وشعرت براحة شديدة عند عثورك عليه، وكنتَ على استعداد لمعانقتي والضحك معي، معتقدًا أنني سأشعر بنفس الراحة، وأننا سنتصالح في تلك اللحظة، لكنني قلت لك إنك لن تفعل أي شيء يمكنني الإعجاب به في حياتك بأكملها.

ونعتُّك بأستاذ الفلسفة المنافق دائم التبرم.

لكن لم تكن تلك هي النهاية؛ فقد تصالحنا بالفعل، لكننا لم يسامح أحدنا الآخر، ولم نحاول فعل ذلك، بل وفات الأوان على فعله، ورأينا أن كلًّا منا قد استثمر الكثير من الجهد في التأكيد على صحة رأيه؛ فانفصلنا، وشعرنا بالارتياح لذلك. نعم، في ذلك الوقت كنت متأكدة أن ذلك أَشْعَرَ كلينا بالراحة، وكان نصرًا مؤزرًا.

سألت أبي: «أليس ذلك مثيرًا للسخرية؟ أتفكِّر في الأمر؟»

سمعتُ السيدة باري في الخارج تنظف حذاءها طويل الساقين، فطرحت هذا السؤال سريعًا. جلس أبي طوال الوقت في مكانه بلا حركة، مع شعور بالإحراج — على ما أظن — أو نفور شديد.

فتحت السيدة باري الباب وهي تقول: «ينبغي إحضار المكنسة إلى هنا …» ثم صاحت: «ما الذي تفعلينه بالجلوس هنا؟ ما خطبكِ؟ ألا ترين أن الرجل ميت؟»

لم يكن ميتًا؛ وإنما كان في الواقع يتنفس بصوت عالٍ، وربما أعلى من أي وقت مضى. ما رأته السيدة باري، وما كان من المفترض أن أراه حتى وأنا في مواجهة ضوء النهار، لو لم أتجنب النظر إليه أثناء رواية قصتي، هو أنه تعرَّض لصدمة أصابته بالشلل والعمى. جلس مائلًا قليلًا إلى الأمام، والمائدة تضغط على انحناءة بطنه المكتنز. وعندما حاولنا تحريكه من كرسيه، لم نتمكن إلا من هزِّه، فنزل رأسه على المائدة بقوة مقاومة هائلة. لم تنخلع القبعة عن رأسه، وظل فنجان القهوة في مكانه على بعد بضعة سنتيمترات من عينيه التي فقدت الرؤية والتي كانت لا تزال شبه مفتوحة.

قلت للسيدة باري إنه لا يمكننا فعل أي شيء معه؛ فهو ثقيل للغاية. توجهت إلى الهاتف، واتصلت بالمستشفى كي يحضر إلينا أحد الأطباء. لم تكن هناك سيارة إسعاف في البلدة بعد، ولكن لم تُلقِ السيدة باري اهتمامًا بما قلته، وواصلت جذب ملابس أبي، وفك أزرارها، وانتزاع المعطف، والتذمر والتأوه أثناء فعل ذلك جراء المجهود. ركضتُ إلى الزقاق بالخارج، تاركةً الباب مفتوحًا. عدت مرة أخرى، وأحضرت المكنسة، ووضعتها بالخارج بجانب الباب. توجهتُ بعد ذلك إلى السيدة بي، ووضعت يدي على ذراعها، وقلت: «لا يمكنكِ …» أو شيئًا من هذا القبيل، فرمقتني بنظرة قطة حانقة.

حضر أحد الأطباء، وتمكنتُ معه من جرِّ أبي إلى الخارج نحو السيارة، وإجلاسه في المقعد الخلفي، ودلفتُ إلى السيارة بجانبه للإمساك به والحيلولة دون سقوطه للأمام. كان صوت تنفسه أقوى من أي وقت مضى، وكأنه يعترض على أي شيء نفعله، لكن الواقع هو أنه كان بإمكاننا حمله الآن، ودفعه بقوة، والتحكم في جسده كيفما نشاء، الأمر الذي بدا غريبًا للغاية.

تراجعت السيدة بي وهدأت لحظة رؤيتها الطبيب، حتى إنها لم تتبعنا إلى خارج المنزل لرؤية أبي وهو يُنقَل إلى السيارة.

بعد ظهيرة ذلك اليوم نحو الساعة الخامسة، تُوفي أبي. وقيل لي إن ذلك من حسن حظ الجميع.

•••

كان لدي الكثير من الأشياء الأخرى التي أرغب في الإفصاح عنها لأبي لحظة دخول السيدة باري. كنت سأقول: «ماذا إذا تغيَّر القانون؟» فقد يتغير قريبًا. ربما، وربما لا. حينئذٍ، سيتوقف عن العمل، أو بالأحرى سيتوقف عن أداء جزء من عمله. فهل سيشكل ذلك فارقًا كبيرًا له؟

ما الجواب الذي كنت سأتوقعه منه؟

«إن عملي ليس من شأنك.»

أو سأستمر في كسب عيشي.

وسأرد عليه بأنني لا أقصد المال. أقصد المخاطرة، والسرية، والسلطة.

هل بتغيير القانون، وتغيير ما يفعله الشخص، ستتغير شخصيته؟

أم أنه سيبحث عن مخاطر أخرى ليخوضها، وعقدة أخرى ليصنعها في حياته، وفعل رحيم آخر سري وإشكالي يقوم به؟

وإذا تغيَّر هذا القانون، يمكن أن تتغير أمور أخرى أيضًا معه. إنني أفكر فيك الآن؛ ماذا إذا لم تخجل من الزواج بامرأة حامل؟ ما كان هناك أي شيء يدعو للخجل في الأمر. وإذا تقدمنا للأمام بضع سنوات فحسب، فقد يتحول الأمر إلى احتفال. عروس حامل تُكلَّل بالورود وتُقاد إلى المذبح، حتى وإن كان ذلك في كنيسة الكلية اللاهوتية.

بيد أنه إذا حدث ذلك، فسيكون هناك شيء آخر على الأرجح يدعو للخجل أو الخوف، وستكون هناك أخطاء أخرى يجب تجنُّبها.

ماذا عني إذن؟ هل سيلزم عليَّ دائمًا الثقة بصحة موقفي؟ هل سأحرص على الأخلاق الحميدة، وتحمُّل الصعاب، والالتزام بالحق على نحو يمكنني من التباهي بخسائري؟

«تغيير الإنسان» عبارة نردِّدها جميعًا آملين في تحقيقها.

غيِّر القانون، يتغيَّر الإنسان. لكننا لسنا في حاجة لأن يُفرض علينا كل شيء — والقصة بأكملها — من خارج أنفسنا. لسنا في حاجة إلى تشكيل ما نحن عليه — كل ما نحن عليه — على هذا النحو.

إلامَ يشير هذا الضمير «نحن» الذي أتحدَّث عنه؟

•••

عزيزي آر، يقول محامي أبي: «هذا غريب للغاية.» وأنا أدرك أن تلك الكلمة قوية ومؤثرة عندما ينطق بها محامٍ.

يوجد ما يكفي من الأموال في حساب أبي المصرفي لتغطية مصروفات الجنازة؛ أي ما يكفي لدفنه، كما يُقال (لم تكن تلك كلمات المحامي بالطبع، فهو لا يتحدث على هذا النحو)؛ فيما عدا ذلك، ليس هناك الكثير؛ فليست هناك أي شهادات أسهم في خزينة ودائع الأمانات، أو أي سجل استثماري. لا شيء على الإطلاق؛ لا إرث مُوصًى به إلى المستشفى، أو إلى الكنيسة التي كان يرتادها، أو المدرسة الثانوية لتمويل منحة دراسية. والأكثر إثارة للصدمة هو أنه لم يترك أي أموال للسيدة باري. المنزل ومحتوياته ملكي؛ وهذا كل شيء. ولدي الخمسة آلاف دولار التي منحها إياي.

يبدو المحامي محرجًا للغاية، وقلقًا بشأن هذا الوضع. لعله يظن أنني قد أشك في إساءة تصرف من جانبه، وأن أحاول تشويه سمعته. أراد أن يعرف ما إذا كانت هناك خزينة في منزلي (منزل أبي)، أو أي مكان سري على الإطلاق يمكن إخفاء كميات كبيرة من الأموال فيه؛ فأجبته بالنفي. حاول أن يوضِّح لي — على نحو متحفظ وغير مباشر جعلني لا أدرك في البداية ما كان يتحدث عنه — أنه ربما تكون هناك أسباب دفعت أبي للاحتفاظ بما يجنيه من أموال سرًّا؛ ومن ثم، فإن وجود كمية كبيرة من الأموال مخبأة في مكان ما أمر محتمل.

فأخبرته بأنني لا أهتم كثيرًا بالمال.

يا له من قول غريب! ولم يتمكن المحامي من النظر في عيني.

قال لي: «ربما يمكنك الذهاب إلى المنزل والبحث جيدًا، ولا تتجاهلي الأماكن الواضحة؛ فمن الممكن أن توجد الأموال في علبة الكعك، أو في صندوق تحت السرير؛ فالأماكن التي يختارها الناس لإخفاء الأموال مدهشة حقًّا، حتى أكثرهم عقلانية وذكاءً.»

وأضاف أثناء خروجي من الباب: «أو في كيس أي وسادة.»

•••

امرأة على الهاتف ترغب في التحدث مع الطبيب.

«آسفة، لقد تُوفي.»

«أقصد دكتور ستراكن، هل اتصلتُ بالرقم الصحيح؟»

«نعم، لكنه توفي. آسفة.»

«هل هناك شخص آخر؟ هل كان لديه أي شريك يمكنني التحدث معه؟ هل هناك أي شخص آخر يحل محله؟»

«كلا، لا يوجد شركاء.»

«هل يمكنكِ إعطائي أي رقم آخر يمكنني الاتصال به؟ هل هناك طبيب آخر يمكنه …»

«لا، ليست لدي أي أرقام، ولا أعرف أحدًا.»

«لا بد أنكِ تعلمين ما أتصل بشأنه. الأمر مهم للغاية، وثمة ظروف خاصة جدًّا …»

«آسفة.»

«ليست لدي أي مشكلة بشأن المال.»

«كلا.»

«رجاء حاولي التفكير في أي شخص آخر. إذا توصَّلتِ إلى أي شخص فيما بعد، هل يمكنكِ الاتصال بي؟ سوف أترك لكِ رقمي.»

«لا يجدر بكِ تركه.»

«لا يهمني ذلك، فأنا أثق بكِ. على أي حال، الأمر لا يخصني. أعلم أن الكل يقول ذلك، لكن هذه هي الحقيقة. إنه يخص ابنتي؛ وهي تعاني من حالة نفسية سيئة للغاية.»

«يؤسفني ذلك.»

«لو تعلمين ما مررتُ به للحصول على هذا الرقم لحاولتي مساعدتي.»

«آسفة.»

«أرجوكِ.»

«آسفة.»

•••

كانت مادلين آخر الحالات الخاصة التي عالجها أبي، وقد رأيتها في الجنازة. لم تذهب إلى كينورا، أو لعلها عادت من هناك. لم أتعرف عليها في بادئ الأمر؛ لأنها كانت ترتدي قبعة سوداء عريضة الحواف وعليها بعض الريش. لا ريب أنها استعارتها؛ فلم تبدُ معتادة على تدلِّي الريش على عينها. تحدَّثتْ إليَّ في صف الاستقبال بقاعة الكنيسة، وقلت لها العبارة ذاتها التي قلتها للجميع.

«لفتة طيبة منك أن تأتي.»

بعدها انتبهتُ إلى غرابة ما قالته لي.

«كنت أعوِّل على أنك من مُحبِّي الحلوى.»

•••

قلت للمحامي: «لعله لم يكن يحصل دائمًا على أتعاب لقاء عمله. لعله كان يعمل بلا مقابل أحيانًا؛ فبعض الناس يعملون من باب الإحسان.»

اعتاد المحامي عليَّ الآن، فقال: «ربما.»

واستطردتُ: «أو ربما كانت هناك جمعية خيرية يدعمها أبي دون أن يترك لنا أي سجل عنها.»

نظر المحامي في عيني للحظة.

ثم قال: «جمعية خيرية.»

فقلت: «حسنًا، إنني لم أحفر أرضية القبو بعد.» فابتسم مندهشًا من هذا التحول المفاجئ في حديثي.

•••

لم تقدِّم السيدة باري إخطارًا بالاستقالة، وإنما لم تَعُد تأتي إلى المنزل وحسب. لم يعد هناك شيء معين لتفعله؛ نظرًا لأن الجنازة كانت في الكنيسة، والاستقبال في القاعة الملحقة بها. لم تحضر إلى الجنازة، ولا أي فرد من أسرتها. حضر الجنازة عدد كبير من الناس، حتى إنني ما كنت لألاحظ عدم مجيئهم لولا أن شخصًا ما قال لي: «لم أَرَ أيًّا من أقارب السيدة باري، هل رأيتِهِم؟»

اتصلتُ بها هاتفيًّا بعد عدة أيام، وقالت لي: «لم أذهب إلى الكنيسة؛ لأنني كنت أعاني من نزلة برد شديدة.»

قلت لها إن هذا ليس سبب اتصالي بها. وأضفت أنني تمكنت من تدبير الأمر بنفسي، لكنني تساءلت عما كانت تخطط له.

«لا أرى داعيًا للعودة الآن.»

فقلت لها إنها ينبغي عليها العودة للحصول على شيء ما من المنزل والاحتفاظ به كتذكار. كنت قد علمت آنذاك بأمر المال، وأردتُ أن أخبرها بأسفي لأنها لن تحصل على شيء، لكنني لم أعرف كيفية قول ذلك.

فقالت لي: «ثمة أشياء تركتها في المنزل. سوف آتي لأخذها عندما أتمكن من ذلك.»

وما كان منها إلا أن جاءت صبيحة اليوم التالي. وكانت الأشياء التي لزم عليها جمعها هي مماسح ودِلاء وفُرش تنظيف وسلة ملابس. كان من الصعب تصديق أنها تهتم باستعادة مثل هذه الأشياء. ومن الصعب أيضًا تصديق أنها أرادتها لأسباب عاطفية، لكن ربما كانت هذه هي الحقيقة بالفعل؛ فقد كانت أشياء ظلت تستخدمها سنوات، بل طوال كل السنوات التي عملت بها في هذا المنزل حيث قضت عدد ساعات أكثر من تلك التي قضتها في منزلها.

سألتها: «هل من شيء آخر تودين الحصول عليه؟ للاحتفاظ به كتذكار؟»

فنظرت في أرجاء المطبخ، وهي تعض على شفتها السفلى، ولعلها كانت ستبتسم، ثم تراجعت في الأمر.

وقالت: «لا أظن أن ثمة شيئًا آخر هنا يمكنني الاستفادة منه.»

كنتُ قد أعددت لها شيكًا، ولم يتبقَّ سوى كتابة المبلغ عليه. لم أستطع اتخاذ قرار بشأن القدر الذي سأمنحها إياه من الخمسة آلاف دولار الخاصة بي. فكَّرت أن يكون ألف دولار، لكن يبدو ذلك الآن مخزيًا في نظري، ففكرت في مضاعفته.

أخرجت الشيكات التي خبَّأتها في أحد الأدراج، وعثرت على قلم، وكتبت أربعة آلاف دولار.

قلت لها: «هذا لكِ، وشكرًا لكِ على كل شيء.»

أمسكتْ بالشيك في يدها، ونظرتْ فيه نظرة خاطفة، ثم وضعته في جيبها. ظننت أنها ربما لم تستطع قراءة الرقم المكتوب، ثم لاحظت عليها حمرة الوجه الداكنة، وشعور الخزي المتدفق، وصعوبة التعبير عن الامتنان.

تمكَّنتِ السيدة باري من التقاط كل الأشياء التي جمعتها باستخدام يدها السليمة. وفتحتُ الباب لها، وكُلِّي لهفة أن تقول أي شيء، حتى إنني كدت أقول لها: «عذرًا، هذا كل ما يمكنني تقديمه.»

لكنني وجدت نفسي أقول لها: «ألم يتحسن حال مِرفقك بعد؟»

فأجابت: «لن يتحسن أبدًا.» ثم طأطأت رأسها كما لو كانت تخشى تقبيلي لها، وقالت: «حسنًا، شكرًا جزيلًا. وداعًا!»

شاهدتها أثناء سيرها إلى السيارة. افترضتُ توصيل زوجة ابن أختها لها إلى هنا.

لكن السيارة لم تكن سيارة زوجة ابن أختها التي اعتدت رؤيتها، فتبادر إلى ذهني أنها ربما عملت مع شخص آخر، بغض النظر عن حالة ذراعها، ربما يكون شخصًا ثريًّا، ولعل ذلك السبب وراء تعجُّلها، وشعورها بالخزي الذي انتابها سريعًا.

كانت زوجة ابن أختها هي التي خرجت لمساعدتها في حمل ما كان معها من أشياء. لوَّحتُ لها، لكنها كانت مشغولة للغاية بإقحام المماسح والدِّلاء في السيارة.

صِحتُ عاليًا: «سيارة رائعة!» لأنني ظننت أنها ستكون مجاملة تقدِّرها كلتا المرأتين. لم أعرف طراز السيارة، لكنها كانت جديدة تمامًا وكبيرة وبرَّاقة. كان لونها أرجوانيًّا مائلًا للفضي.

فصاحت زوجة ابن الأخت: «نعم، معكِ حق!» وطأطأت السيدة باري رأسها مصدِّقةً على الكلام.

بالرغم من ارتجافي في ملابس المنزل أثناء وقوفي بالباب، شعرت بأنني مجبرة على ذلك لما انتابني من شعور بالأسف والحيرة، فظللت واقفة هناك ولوَّحت للسيارة حتى ابتعدت عن مرمى البصر.

لم أستطع الاستقرار على شيء ما لفعله بعد ذلك، فأعددت بعض القهوة لنفسي، وجلست في المطبخ. أخرجت شوكولاتة مادلين من الخزانة وأكلت قطعتين، بالرغم من عدم اشتهائي الحلوى بالدرجة التي تجعلني أستمتع بالحشو ذي اللونين الصناعيين البرتقالي والأصفر داخلها. تمنيت لو أنني شكرتها، ولا أرى سبيلًا لفعل ذلك الآن؛ فأنا حتى لا أعلم اسمها بالكامل.

قررت الخروج للتزلُّج. كانت هناك محاجر خلف منزلنا، أظن أنني قد أخبرتك بشأنها. ارتديت الزلاجات الخشبية القديمة التي اعتاد أبي ارتداءها عندما كانت الطرق الخلفية لا تُجرَف منها الثلوج في فصل الشتاء، وكان ينبغي عليه عبور الحقول لتوليد سيدة أو استئصال الزائدة الدودية لأحد المرضى. كانت هناك أربطة مثبتة بالعرض فقط بهذه الزلاجات لتثبيت قدميك بها.

تزلجت حتى وصلت إلى المحجر الذي غطت منحدراته الحشائش على مر السنوات، وصارت الآن مغطاة أيضًا بالثلوج. ظهرت عليها آثار سير الكلاب، وآثار أخرى للطيور، ودوائر غير واضحة صنعتها خطوات فأر الحقول أثناء ركضه سريعًا، لكنه ما من أثر لأي بشر. تحركت صعودًا ونزولًا على نحو متكرر، اخترت في البداية منحدرًا آمنًا، ثم توجهت إلى منحدرات أكثر حدة. أخذت أسقط بين الحين والآخر، لكن بخفة على الكميات الكبيرة من الثلج المتساقط حديثًا. وبين إحدى اللحظات التي سقطت فيها واللحظة التي تلتها ووقفت فيها على قدمي، اكتشفت شيئًا ما.

لقد عرفت أين ذهبت الأموال.

«ربما عمل خيري.»

«سيارة رائعة.»

وأربعة آلاف دولار من إجمالي خمسة آلاف.

•••

منذ تلك اللحظة وأنا أشعر بالسعادة.

شعرت بما يمكن أن ينتاب المرء من شعور عند رؤية الأموال وهي تتبعثر من فوق جسر أو تتناثر عاليًا في الهواء. الأموال، والآمال، وخطابات الحب، كلها أشياء يمكن أن يُطاح بها في الهواء وتنزل إلى الأرض بعد أن تتغير. تنزل وقد خفَّت وزنًا وتحررت من سياقها.

الأمر الذي لم يسعني تخيله هو استسلام أبي للابتزاز؛ لا سيما لأناس لا يتسمون بقدر كبير من المصداقية أو المهارة؛ وخاصة عندما يبدو أن المدينة كلها ستأخذ صفَّه، أو على الأقل ستؤثر الصمت.

لكن ما يمكنني تخيُّله هو تلك البادرة الراقية غير المتوقعة التي صدرت عن أبي لاستباق طلب المبتزين أو لمجرد إظهار عدم اكتراثه. والآن، بعد أن تُوفي، أتطلع إلى رؤية المحامي مصدومًا، وإلى بذلي المزيد من الجهد لاستكشاف شخصية أبي.

لا. لا أظن أنه كان سيفكر على هذا النحو، ولا أظن أنني كنت أَرِد على ذهنه كثيرًا، ليس كثيرًا على الإطلاق بالقدر الذي أود تصديقه.

ما كنت أتجنبه هو احتمالية فعله ذلك بدافع الحب.

إنه الحب إذن. ينبغي عليَّ عدم استبعاد ذلك الاحتمال أبدًا.

•••

تسلَّقت منحدرات المحجر لأخرج منه، وما إن خرجت إلى الحقول حتى ضربتني الرياح. عصفت الرياح بالثلج على مسارات الكلاب، وتسلسل آثار فأر الأرض غير الواضحة، والأثر الذي سيكون على الأرجح آخر ما تُحدِثه زلاجات أبي على الثلج.

عزيزي آر، روبين، ما آخر شيء ينبغي عليَّ قوله لك؟

وداعًا وحظًّا سعيدًا.

مع حبِّي.

(ماذا إذا فعل الناس ذلك حقًّا؟ ماذا لو أرسلوا حبهم عبر البريد ليتخلصوا منه؟ في أي صورة سيرسلونه إذن؟ علبة شوكولاتة محشوة بمادة تشبه صفار بيض الديك الرومي، أم دمية من الصلصال بتجويفين مكان العينين، أم باقة من الورود تفوق رائحتها الجميلة رائحة التعفن، أم علبة ملفوفة بورق جرائد مغطًّى بالدماء لن يرغب أحد في فتحها؟)

اعتنِ بنفسك.

وتذكَّر … ملك فرنسا الحالي أصلع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤