حُلْم أمِّي

أثناء الليل — أو أثناء نومها — هطلت الثلوج بغزارة.

أطلَّت أمي من النافذة الكبيرة المُقنطَرة، التي تشبه نوافذ القصور أو المباني العامة عتيقة الطراز. نظرتْ نحو الأسفل إلى المروج الخضراء، والشجيرات، والأسيجة، وحدائق الأزهار، والأشجار، وقد غطَّتها جميعًا الثلوج التي تراكمت عليها وطوَّقت حوافها، دون أن تحرِّك لها الرياح ساكنًا. ولم يكن بياضها بالذي يزعج العينين — كما هو الحال في ضوء الشمس — بل كان بياضًا كلون الثلج في ظل السماء الصافية قبيل الفجر. خيَّم السكون على كل شيء؛ وبدت الأجواء كتلك التي تتغنى بها ترنيمة عيد الميلاد «يا مدينة بيت لحم الصغيرة!» فيما عدا النجوم التي غادرت صفحة السماء.

بيد أن خطأً ما شاب هذا المشهد؛ فجميع الأشجار، والشجيرات، والنباتات كانت وارفة الأوراق كحالها في فصل الصيف، أما الحشائش، التي كانت تحت هذه النباتات في بقاع متفرقة مستظلةً بها وكأنها تحتمي من الثلوج، فقد بدت خضراء ونضرة. طغت الثلوج بين عشية وضحاها على رفاهة الصيف في تغيُّر طرأ على أحد فصول العام دون تفسير أو توقُّع. كان الجميع قد رحلوا أيضًا عن المكان — وإن لم تستطع تذكُّر مَن هم «الجميع» — وصارت أمي وحدها في المنزل العالي الفسيح بين أشجاره وحدائقه المنمقة.

رأت أن أيًّا كان ما حدث، فسوف تعلمه سريعًا، لكن لم يأتِ أحد، ولم يدقَّ الهاتف؛ ولم يُرفع مِزلاج بوابة الحديقة. لم تستطع سماع أصوات أي سيارات، ولم تعرف حتى الاتجاه المؤدي إلى الشارع، أو الطريق، حال كونها في الريف. ولزم عليها مغادرة المنزل حيث صار الهواء خانقًا وساكنًا.

عندما خرجتْ من المنزل، تذكَّرتْ أنها تركت طفلة رضيعة في الخارج بمكان ما قبل هطول الثلوج بفترة طويلة. صاحَب هذه الذكرى وهذا اليقين رعبٌ اعتراها، كما لو كانت قد استيقظت من حلم. استيقظت من حلم داخل حلمها لتصطدم بمسئوليتها وخطئها. لقد تركت طفلتها الرضيعة بالخارج طوال الليل، ونسيتها. تركتها دون شيء يحميها في مكان ما، كما لو كانت دمية سئمت منها. وربما لم تفعل ذلك الليلة الماضية، وإنما الأسبوع أو الشهر الماضي. وربما تركتها طوال أحد فصول العام أو على مدى فصول عدة. لقد انشغلت بأمور أخرى، وربما تكون قد سافرت بعيدًا وعادت لتوِّها، وقد نسيت ما عادت من أجله.

ذهبت للبحث تحت الأسيجة والنباتات عريضة الأوراق. تصورت حالة الضعف والذبول التي ستكون عليها الطفلة من التجمد. لعلها ستجدها قد ماتت، ووهنت وتحولت بشرتها إلى اللون البني، وصار رأسها كحبة الجوز، وارتسم على وجهها الصغير الصامت تعبير لا يدل على الألم وإنما التفجُّع، كعجوز مريض حزين. لن تُظهِر أي لوم أو اتهام لها — لأمها — وإنما نظرة صبر وعجزٍ انتظرت بهما إنقاذها أو قدرها.

كان الحزن الذي اعترى أمي حزنًا على انتظار الطفلة لها، وعدم علمها بهذا الانتظار الذي مثَّلت لها فيه أملها الوحيد، بينما نسيتها هي تمامًا. طفلة صغيرة حديثة الولادة عاجزة حتى عن الاحتماء من الثلوج. شعرت بصعوبة في التنفس لما انتابها من أسًى وحزن. لن يبقى بداخلها متسع لأي شيء على الإطلاق، سوى إدراكها للجُرم الذي ارتكبته.

ومن ثمَّ، كان عثورها على طفلتها نائمة في مهدها أشبه بإرجاء تنفيذ حكم بالإعدام عليها. كانت نائمة على بطنها، ورأسها إلى أحد الجانبين، وكان لون بشرتها شاحبًا وجميلًا كقطرات الثلج، وأسفل رأسها مائلًا للحمرة كضوء الشمس عند الفجر. نبت شعر أحمر، كشعرها، على رأس طفلتها التي تنعم بالأمان التام ولا يمكنها أن تخطئها. شعرت بالسعادة آنذاك لاكتشاف أنها قد غُفِر لها.

تلاشت الثلوج والحدائق وارفة الأشجار والمنزل الغريب تمامًا. والأثر الوحيد المتبقي من اللون الأبيض الذي رأته كان لون الغطاء في المهد. كان غطاءَ أطفال من الصوف الأبيض الخفيف، متغضِّنًا حتى نصف ظهر الطفلة. ونظرًا لأن الطقس كان حارًّا قائظًا — كما هو الحال في فصل الصيف — لم تكن الطفلة ترتدي سوى حفاضة وسروالًا بلاستيكيًّا للحفاظ على جفاف الملاءة، وزيَّنت السروال رسومٌ لفراشات.

سحبت أمي — التي كانت لا تزال تفكر بلا شك في الثلوج والبرد الذي يصاحبها عادةً — الغطاء لأعلى لتغطي ظهر الطفلة وكتفيها العاريتين ورأسها ذا الشعر الأحمر من أسفل.

•••

في العالم الواقعي، حدث ذلك في الصباح الباكر من أحد أيام شهر يوليو عام ١٩٤٥. كانت الطفلة نائمة، مع أنها اعتادت طلب رضعتها الأولى في ذلك التوقيت من صبيحة أي يوم آخر، لكن الأم، بالرغم من وقوفها على قدميها وعينيها المفتوحتين، فإنها كانت لا تزال تغطُّ في نوم عميق داخل رأسها، ما حال دون تساؤلها عن سبب عدم طلب طفلتها الرضعة. لقد أُنهِكت قوى الأم والطفلة جراء معركة طويلة، الأمر الذي نسيته الأم حتى في تلك اللحظات. تعطلت بعض الوظائف في رأسها، وسيطرت على عقلها وعلى طفلتها أقصى درجات السكون. لم تدرك الأم — أمي — ضوء الشمس الذي أخذ يتزايد مع مرور كل لحظة، ولم تفهم أن الشمس تشرق أثناء وقوفها في ذلك المكان. لم تحرِّكها أي ذكرى عن اليوم السابق أو ما حدث في منتصف الليل. سحبت الغطاء لأعلى على رأس الطفلة وغطت ملامحها النائمة الوديعة القانعة، ومشت بخطًى خافتة عائدةً إلى غرفتها، واستلقت على السرير، ودخلت مرة أخرى في حالة من اللاوعي.

لم يشبه المنزل الذي حدث فيه ذلك المنزل الذي ظهر في الحلم على الإطلاق؛ إذ كان منزلًا خشبيًّا مطليًّا بالطلاء الأبيض، ومكونًا من طابق واحد وعُلِّيَّة. وبالرغم من ضيق مساحته، فقد كان مناسبًا، وبه شرفة على بُعد بضعة أقدام من الرصيف، ونافذة بارزة في غرفة الطعام تطل على فناء صغير مُسيَّج. كان المنزل بشارع خلفي في بلدة صغيرة يتعذر — على الغريب — تمييزها من بين الكثير من البلدات الصغيرة الأخرى التي يفصل بينها عشرة أميال أو خمسة عشر ميلًا في الأرض الزراعية التي اكتظت بالسكان في السابق بالقرب من بحيرة هورون. نشأ أبي وأختاه في هذا المنزل، وكانت أمه وأختاه لا يزلن يعشن فيه عندما انضمَّت إليهن أمي — وأنا أيضًا بما أنني كنت جنينًا بداخلها آنذاك — بعد أن لقي أبي مصرعه في الأسابيع الأخيرة من الحرب في أوروبا.

•••

وقفت أمي جيل بجوار مائدة الطعام في ضوء ما بعد الظهيرة الباهر. امتلأ المنزل بالناس الذين دُعوا إليه بعد انتهاء مراسم حفل التأبين في الكنيسة. أخذوا يحتسون الشاي والقهوة، وبين أصابعهم الشطائر الصغيرة، أو شرائح خبز الموز أو خبز المكسرات أو الكعك الإسفنجي. أما كعك الكاسترد أو الزبيب المخبوز من العجين سهل التفتت، فكان من المفترض تناولها بأشواك الحلوى من على أطباق خزفية صغيرة مزينة برسوم زهر البنفسج التي رسمتها حماة جيل عليها عندما كانت عروسًا. التقطت جيل كل شيء بأصابعها، وتساقط فتات العجائن وإحدى حبات الزبيب من يديها، فلطخت قماش القطيفة الأخضر الذي صُمم منه فستانها. كان فستانًا مثيرًا على نحو لا يليق بالمناسبة، وأيضًا فإنه ليس فستان حمل على الإطلاق، بل رداء فضفاض مُصمَّم للحفلات الموسيقية التي كانت جيل تعزف فيها على الكمان أمام الجماهير. وبسببي، ارتفعت حاشية الثوب من الأمام، لكنها لم تكن تملك من الملابس ما هو كبير وأنيق بما فيه الكفاية لارتدائه في حفل تأبين زوجها سوى هذا الفستان.

ما كل هذا النهم؟ لم يَسَعِ الناس سوى الانتباه للكميات الكبيرة من الطعام التي كانت جيل تتناولها. قالت إيلسا لمجموعة من ضيوفها: «إنها تأكل لشخصين»؛ كي لا يحرجوها بأي شيء يقولونه أو لا يقولونه عن زوجة أخيها.

شعرت جيل بالغثيان طوال اليوم حتى أدركت على حين غرة أثناء وجودها في الكنيسة أنها تتضوَّر جوعًا؛ وذلك عندما كانت تفكر في مدى سوء العزف على آلة الأرغن. وطوال عزف ترنيمة «أيتها القلوب الباسلة»، أخذت تفكر في شريحة هامبورجر سميكة تتقاطر منها عصارة اللحم والمايونيز، ثم صارت تفكر في بديل لما تشتهيه؛ وصفة طعام من الجوز والزبيب والسكر البني — مزينة من أعلى بمسحوق جوز الهند له مذاق شديد الحلاوة — أو بعض قطع خبز الموز الذي يقلل من الشعور بالتوتر أو القليل من الكاسترد. وبالطبع، ما من شيء كان سيرضيها، فواصلت التخيل. فعند إرضاء جوعها الفعلي، يظل جوعها التخيلي مستمرًّا، وتتزايد سرعة اهتياجها إلى حد النهم، ما يجعلها تتخم فمها بما لم يعد بإمكانها تذوقه. لم تجد تفسيرًا لهذا الاهتياج سوى أنه يتعلق بارتدائها الفرو وضيق الملابس. سياج أزهار البرباريس الكثيفة المتصلبة تحت أشعة الشمس — الذي تطل عليه النافذة — وملمس الفستان القطيفة الذي يلتصق بإبطيها المتعرقين، وخصلات الشعر المتموج — الذي كان بنفس لون الزبيب المحشو به الكعك — المرفوعة لأعلى رأس أخت زوجها، إيلسا، بل وزهور البنفسج المرسومة على الأطباق الخزفية أيضًا؛ وتبدو كقشور يمكنك نزعها من على الطبق؛ كلُّ هذه الأشياء بدت بشعة وقابضة لصدرها — في نظرها — بالرغم من علمها بأنها أشياء طبيعية تمامًا. لكنها ربما حملت رسالة ما عن حياتها الجديدة غير المتوقعة.

لماذا غير متوقعة؟ فهي تعلم منذ فترة بشأن حملها بي، كما أنها تعلم أن جورج كيركم قد يلقى حتفه؛ فهو في سلاح الطيران (والناس من حولها في منزل آل كيركم بعد ظهيرة هذا اليوم يتحدثون — وإن لم يكن معها بوصفها أرملته أو مع أختيه — عن أنه من ذلك النوع من الناس المتوقع موتهم دومًا. والسبب في نظرهم أنه وسيم ومتقد النشاط ومصدر الفخر لأسرته التي تُعلِّق عليه كل الآمال). كانت تعلم ذلك، لكنها واصلت حياتها العادية، حاملةً الكمان الخاص بها في صباح أيام الشتاء المظلمة، تستقل الترام إلى معهد الموسيقى حيث تتمرن ساعة تلو الأخرى — وأصوات الآخرين تحيط بها — لكنها تظل وحدها في غرفة تملؤها الأوساخ لا يصحبها فيها سوى ضجيج جهاز التدفئة المركزية فحسب. كانت أصابعها يتغير لونها من البرد في البداية، ثم تصير جافة نتيجة للحرارة والجفاف بالداخل. واصلت حياتها في غرفة مستأجَرة، بها نافذة لم تُثبَّت كما ينبغي، ما جعلها تسمح بدخول الحشرات في الصيف، ويتناثر الثلج على عتبتها في الشتاء. وواصلت أحلامها — عندما لا تشعر بالغثيان — بالسجق وفطائر اللحم وقطع الشوكولاتة الداكنة الكبيرة. وفي معهد الموسيقى، تعامل الناس مع حملها بحرص، كما لو كان ورمًا. لم يظهر الحمل عليها إلا بعد فترة طويلة على أي حال، كما هو الحال مع حالات الحمل الأولى بوجه عام لدى الفتيات ذوات البنيان الضخم والحوض الواسع. وحتى مع تقلباتي في بطنها، ظلت تعزف الموسيقى أمام الجماهير. فعزفت عزفًا منفردًا لأهم مقطوعة موسيقية لها — وهي مقطوعة كونشرتو مندلسون للكمان — وهي ممتلئة الجسم على نحو مهيب، وشعرها الأحمر الطويل مسترسل على كتفيها، ووجهها عريض ومشرق، والتعبير المرتسم عليه يدل على التركيز الكامل الجدي.

أولت بعض الاهتمام آنذاك بالعالم من حولها، وفكرت خارج نطاق دائرتها؛ إذ علمت أن الحرب أوشكت على الانتهاء، ففكرت في احتمالية عودة جورج بعد ولادتي. وكانت تعلم أنها لن تتمكن من الاستمرار في العيش بالغرفة التي عاشت فيها آنذاك، وسينبغي عليها الانتقال للعيش معه في مكان آخر. كذلك علمت أنني سأكون هناك معهما، لكنها رأت في ميلادي نهاية لشيء ما أكثر من كونه بداية؛ فسوف يكون نهاية للركل في الجزء المؤلم دائمًا بجانب بطنها، والألم الذي تشعر به من أسفل في أعضائها التناسلية عند وقوفها لاندفاع الدم في هذا المكان (كما لو كان بداخله ضمادة مشتعلة)، ولن تصير حلمتا ثدييها كبيرتين وداكنتين وجافتَي الملمس بعد الولادة، ولن تطوِّق بالأربطة ساقيها بسبب اتساع شرايينهما وامتلائها بالدم، قبل نزولها من الفراش كل صباح. ولن تضطر للتبول كل نصف ساعة أو نحو ذلك، وسوف تنكمش قدماها لتلائما أحذيتها كما كانت من قبل. كانت تعتقد أنها بولادتي ستستريح من متاعبي.

وبعد أن علمت بعدم عودة جورج من الحرب، فكرت في إبقائي فترة من الوقت في نفس الغرفة التي كانت تعيش فيها، واشترت كتابًا عن الأطفال، بالإضافة إلى الأشياء الأساسية التي سأحتاج إليها. كانت هناك سيدة عجوز في المبنى ستتولى مهمة رعايتي عند خروج أمي لتدريباتها الموسيقية. وكانت أمي تحصل على معاش أرملة محارب، وفي غضون ستة أشهر ستكون قد تخرَّجت في معهد الموسيقى.

لكن إيلسا حضرت بالقطار، واصطحبت أمي معها، وقالت لها: «لا يمكننا تركك على هذا الحال هنا وحدك؛ فالجميع يتساءل عن سبب عدم مجيئك أثناء غياب جورج، وحان الوقت الآن للانتقال للعيش معنا.»

•••

قال جورج لجيل في إحدى المرات: «أهلي مخبولون؛ فإيونا تعاني التوتر، وإيلسا كان من المفترض أن تكون رقيبًا أول في الجيش، أما أمي فعجوز مُخرِّفة.»

وأضاف أيضًا: «ورثت إيلسا الذكاء، لكنها اضطرت لترك المدرسة والعمل في مكتب البريد عند وفاة أبي. وورثتُ أنا الوسامة، ولم يتبقَّ شيء لإيونا المسكينة سوى البشرة المعيبة والأعصاب المتوترة.»

التقت جيل بأختيه للمرة الأولى عندما جاءتا إلى تورونتو لتوديع جورج عند سفره. لم تحضرا حفل الزفاف الذي كان قد عُقِد قبل ذلك الحين بأسبوعين، ولم يحضره أحد، في الواقع، سوى جورج وجيل والقس وزوجة القس وأحد الجيران الذي دُعي ليكون الشاهد الثاني عليه. أما أنا، فكنت من بين الحضور أيضًا؛ إذ كنت في أحشاء جيل، لكنني لم أكن السبب وراء الزفاف، ولم يعلم أحد بوجودي آنذاك. وبعد ذلك، أصرَّ جورج على أن يلتقط مع جيل لنفسيهما صور زفاف في إحدى كبائن التقاط الصور الذاتية، متعمدَيْن عدم إظهار أي تعبير على وجهيهما. لقد كان دومًا مَرِحًا ومازحًا. وعندما نظر إلى الصور، قال لها: «سوف تفي هذه بالغرض.» وتساءلت جيل عما إذا كان هناك شخص معين يقصده جورج بهذه العبارة؛ هل يقصد إيلسا؟ أم الفتيات الجميلات اللطيفات المرحات اللاتي كن يلاحقنه، ويكتبن له الخطابات الغرامية، وينسجن له جواربه مربعة النقش؟ كان جورج يرتدي تلك الجوارب متى تمكَّن، ويضع الهدايا في جيوبه، ويقرأ تلك الخطابات بصوت عالٍ في الحانات على سبيل المزاح.

لم تتناول جيل أي شيء على الفطور قبل حفل الزفاف، وفي منتصف الحفل أخذت تفكر في فطائر البان كيك ولحم الخنزير.

•••

بدت الأختان طبيعيتين على نحو فاق ما توقَّعته جيل. بيد أن جورج ورث بالفعل الوسامة؛ إذ كان يتمتع بتموج حريري في شعره الأشقر الداكن، ولمعة مبهجة في عينيه، وملامح واضحة يُحسَد عليها. وكان عيبه الوحيد أنه لم يكن طويل القامة؛ فبلغ من الطول ما سمح له بالنظر في عيني جيل والعمل طيارًا في القوات الجوية.

قال لها في إحدى المرات: «إنهم لا يتطلبون رجالًا طوال القامة للعمل بمهنة الطيار؛ فقد تغلَّبت على المتقدمين الآخرين، أولئك الملعونين طوال القامة النِّحاف. وأيضًا فإن الكثير من ممثلي السينما قصار القامة، ويقفون على صناديق في مشاهد التقبيل.»

(كان جورج شديد الصخب في دور السينما، وكان يبدي استياءه من مشاهد التقبيل، ولم يكن محبًّا للقبلات في الحياة الواقعية أيضًا، وإنما كان يفضل بدء الأمر دون مقدمات، على حد تعبيره.)

كانت الأختان قصيرتَي القامة أيضًا، وتمت تسميتهما على اسم مكانين في اسكتلندا، حيث قضى والداهما شهر العسل قبل أن تخسر الأسرة أموالها. كانت إيلسا أكبر من جورج باثني عشر عامًا، وإيونا بتسعة أعوام. ووسط الزحام في محطة قطار يونيون ستيشن، بدتا قصيرتَي القامة، وممتلئتين، ومتحيرتين. كانت كلٌّ منهما ترتدي قبعة وبزة جديدتين، كما لو كانتا هما المتزوجتين حديثًا. وشعرتا بالانزعاج لنسيان إيونا قفازَيها الأنيقين بالقطار. كانت بشرة إيونا معيبة بالفعل، وإن لم تظهر بها آنذاك أي بثور، وربما كانت أيام إصابتها بحبِّ الشباب قد ولَّت. بيد أن بشرتها امتلأت بالكتل الدهنية مع آثار ندبات قديمة، وبدت ربداء تحت بودرة الوجه الوردية. أما شعرها، فانزلق من تحت قبعتها في خصلات لولبية منسدلة. كانت عيناها دامعتين؛ إما بسبب توبيخ إيلسا لها أو لسفر أخيها لخوض الحرب. أما إيلسا، فكان شعرها مصففًا في خصل متموجة بعناية، تعلوها قبعة، وكانت لها عينان شاحبتان فطنتان ارتدت عليهما نظارة ذات إطار متلألئ، ووجنتان مستديرتان متوردتان، وغمازة بذقنها. تمتعت كلتا الفتاتين بجسم ممتلئ؛ وثديين ناهدين، وخصر صغير، وفخذين عريضتين. لكن هذا الجسم بدا على إيونا وكأنه شيء حصلت عليه عن طريق الخطأ، وحاولت إخفاءه بالانحناء بكتفيها للأمام وعقد ذراعيها على صدرها. أما إيلسا، فقد تعاملت مع انحناءات جسدها على نحو واثق وليس مثيرًا في الوقت نفسه، كما لو كانت مصنوعة من نوع متين من السيراميك. وكان لكلتيهما نفس لون الشعر الأشقر الداكن — مثل جورج — دون لمعة عينيه، ولم يبدُ أنهما تشاركانه نفس حس الفكاهة أيضًا.

قال جورج: «حسنًا، سوف أرحل الآن لأموت بطلًا بميدان باشنديل.» فقالت له إيونا: «يا إلهي! لا تقل ذلك. لا تتحدث على هذا النحو.» بينما استهجنت إيلسا قوله وصاحت ساخرةً مما قاله.

وقالت: «بوسعي رؤية لافتة «المفقودات» من هنا، لكنني لا أعلم ما إذا كانت هذه اللافتة تتعلق بالأشياء التي فُقِدت في المحطة أم تلك التي يعثرون عليها في القطارات. باشنديل كانت في الحرب العالمية الأولى.»

فقال جورج وهو يضرب بيده على صدره: «حقًّا؟ هل أنتِ متأكدة؟ هل تأخرتُ على المعركة لهذا الحد؟»

وبعد بضعة أشهر من ذلك اليوم، لقي حتفه بعد اشتعال الطائرة التي حلق بها في إحدى الجولات التدريبية فوق البحر الأيرلندي.

•••

ارتسمت الابتسامة دائمًا على وجه إيلسا في حفل التأبين، وكانت تقول: «حسنًا، أنا فخورة. بالطبع فخورة. ولست الوحيدة التي فقدت شخصًا عزيزًا عليها. لقد فعل ما وجب عليه فعله.» رأى بعض الناس روحها المعنوية المرتفعة أمرًا صادمًا قليلًا، في حين رثى آخرون لحالها؛ فبعد كل هذا الاهتمام بجورج، وادخار المال لإرساله إلى كلية الحقوق، يخدعها ليشترك في الحرب ويتركها ليُقتَل. لم يستطع الانتظار.

ضحَّت أختاه بتعليمهما، بل وبتقويم أسنانهما أيضًا؛ فبالرغم من أن إيونا دخلت كلية التمريض بالفعل، فإنه اتضح أنها كانت ستستفيد بتقويم أسنانها استفادة أكبر. والآن، انتهى الأمر بها وبإيلسا أختين لأحد أبطال الحرب. الجميع يؤكد ذلك؛ جورج بطل. ويرى الشباب أن وجود بطل في الأسرة أمر عظيم، ويعتقدون أن أهمية هذه اللحظة ستدوم مع إيلسا وإيونا إلى الأبد، وستتعالى أنغام ترنيمة «أيتها القلوب الباسلة» حولهما دائمًا. أما الأشخاص الأكبر سنًّا، ممن يتذكرون الحرب السابقة، فيعلمون أن كل ما سيتبقى لهم في النهاية هو مجرد اسم على النصب التذكاري. أما الأرملة، التي تعول نفسها، فهي التي ستحصل على المعاش.

أصابت إيلسا حالة من التوتر، ويرجع أحد أسباب ذلك إلى عدم نومها ليلتين متتاليتين لأداء أعمال التنظيف؛ ليس لأن المنزل لم يكن نظيفًا بما فيه الكفاية، بل لأنها شعرت بالحاجة لغسل كل طبق وأصيص وحلية بالمنزل، وجلي الزجاج الموجود على كل صورة، وسحب الثلاجة والتنظيف خلفها، وغسل درجات سلم القبو، وسكب مادة التبييض في صندوق القمامة. ورأت أيضًا أنه يلزم عليها تفكيك أجزاء الثريا فوق مائدة الطعام، وغمر كل قطعة منها في الماء والصابون، ثم شطفها، وتجفيفها، وإعادة تركيبها. ونظرًا لعملها في مكتب البريد، لم تتمكن من البدء في هذه الأعمال إلا بعد العشاء. وبالرغم من أنها صارت الآن مديرة المكتب، وكان بإمكانها منح نفسها إجازة في ذلك اليوم، فإنها لم تفعل؛ فهذا من شيمها.

والآن، فقد بدت مثيرة بأحمر الشفاه الذي وضعته، ومتوترة في فستانها الأزرق الداكن المصمَّم من قماش الكريب، وياقته الدانتيل. لم تستطع البقاء ساكنة في مكانها، وإنما أخذت تعيد ملء أطباق التقديم وتمرِّرها بين الضيوف، وتستنكر أن يكون الشاي قد برد، فتسرع لإعداد المزيد منه. اهتمت براحة ضيوفها، وأخذت تسألهم عن أحوالهم مع الروماتيزم وغيره من الأمراض البسيطة الأخرى التي يعانون منها. ابتسمت في وجه مأساتها، وقالت مرارًا وتكرارًا إن مصيبتها يعاني الكثيرون مثلها، وينبغي عليها عدم الشكوى بما أن هناك العديد من الآخرين في نفس المركب، وأن جورج ما كان ليرغب في حزن أصدقائه عليه، وإنما كان يود أن يمتنُّوا لانتهاء الحرب تمامًا. قالت ذلك بصوت عالٍ وحازم يحمل نبرة تأنيب ودِّي اعتاد الناس عليها منها في مكتب البريد. فجعلتهم بذلك يشكُّون في قولهم شيئًا لا يصح قوله، كما يحدث لهم في مكتب البريد حيث تشعرهم أحيانًا بأن خط أيديهم سيئ للغاية، أو أن الطرود التي يودون إرسالها قد رُبطت على نحو غير متقن.

أدركت إيلسا أن صوتها عالٍ، وأنها تبتسم كثيرًا، وأنها قد صبَّت الشاي لأناس أوضحوا عدم رغبتهم في الحصول على المزيد. وبينما كانت في المطبخ لتسخين إبريق الشاي، قالت: «لا أعلم ما خطبي؛ إنني متوترة للغاية!»

وجَّهت هذا الحديث إلى دكتور شانتس، وهو جارٌ لها يقع منزله على الجانب الآخر من الفناء الخلفي لمنزلها.

قال لها: «سرعان ما سينتهي الأمر. هل ترغبين في حبة برومايد؟»

تغيَّر صوته عندما فُتِح باب المطبخ الذي يؤدي إلى غرفة الطعام، وخرجت منه كلمة «برومايد» على نحو يدل على الحزم والمهنية.

تغيَّر صوت إيلسا أيضًا، من البؤس إلى الشجاعة، وقالت له: «شكرًا لك! سوف أحاول تحمُّل الأمر دون أي أدوية.»

•••

تمثَّلت مهمة إيونا في مراقبة أمها، والتأكد من عدم سكبها الشاي الذي تشربه؛ الأمر الذي قد تفعله ليس لحماقتها بل لنسيانها. كان عليها أيضًا مراقبتها لإبعادها عن الحفل إذا بدأت في البكاء. بيد أن سلوك السيدة كيركم كان، في الواقع، راقيًا أغلب الوقت، وعملت على خدمة الضيوف على نحو أسرع من إيلسا. وعلى مدى ربع ساعة، أدركت الموقف — أو بدا عليها ذلك — وتحدَّثت بشجاعة واقتناع عن أنها ستظل تفتقد ابنها دائمًا، لكنها ممتنة لأنها لا تزال بصحبة ابنتيها: إيلسا الفتاة الكفء التي يمكن الاعتماد عليها والمذهلة كعادتها دومًا؛ وإيونا ذات القلب الطيب الحنون. تذكرت أيضًا التحدث عن زوجة ابنها، التي تزوجها حديثًا، لكنها قالت شيئًا دلَّ على اضطرابها، وذلك عندما ذكرت ما لا تذكره معظم النساء في سنِّها في أي تجمع اجتماعي وفي حضور الرجال؛ إذ نظرت إلى جيل وإليَّ، وقالت: «وجميعنا سنستريح قريبًا.»

لكن بعد تجولها بين الغرف والضيوف، نسيت تمامًا ما يحدث، ونظرت في أرجاء المنزل، وقالت: «لماذا نحن هنا؟ يا له من جمع كبير من الناس! بِمَ نحتفل؟» وعند إدراكها أن الاحتفال له علاقة بجورج، قالت: «هل هذا حفل زفاف جورج؟» ومع إدراكها هذه المعلومة الجديدة، فقدت بعضًا من رشدها، فسألت إيونا: «هذا ليس حفل زفافك، أم أنه كذلك؟ كلا، لا أظن؛ فأنتِ لم تحظَي برفيق من قبل، أليس كذلك؟» طغت على صوتها نبرة تشي بحاجتها إلى مواجهة الحقائق وبأنها تأخرت كثيرًا عن معرفة مجريات الأمور. وعندما وقعت عيناها على جيل، ضحكت.

«هذه ليست العروس، أم أنها هي؟ يا إلهي! لقد اتضح الأمر الآن.»

لكنها تذكرت الحقيقة بعد ذلك فجأة، مثلما نسيتها بالضبط.

فسألت: «هل من أخبار عن جورج؟» وفي تلك اللحظة، بدأ البكاء الذي خشيت إيلسا منه.

فقالت إيلسا: «فلتبعديها عن المكان، إذا بدأت في لفت الأنظار بتصرفات تثير السخرية.»

بيد أن إيونا لم تتمكن من إبعاد أمها عن المكان — فهي لم تستطع قط فرض سيطرتها على أي أحد في حياتها — لكن زوجة الدكتور شانتس أمسكت بذارع السيدة العجوز.

سألت السيدة كيركم بخوف: «أمات جورج؟» فأجابتها السيدة شانتس: «نعم، لكن أتدرين؟ زوجته ستنجب طفلًا عما قريب.»

اتكأت السيدة كيركم عليها، وتغيرت قسمات وجهها، ثم قالت برفق: «هل لي أن أتناول بعض الشاي؟»

•••

أينما توجهت أمي ببصرها في ذلك المنزل، رأت صورة لأبي. الصورة الأخيرة والرسمية له وهو يرتدي زيَّه الرسمي وُضِعت على مفرش مطرز على ماكينة الخياطة محكمة الإغلاق بالقرب من نافذة غرفة الطعام. وضعت إيونا الورود حولها، لكن إيلسا أبعدتها؛ إذ قالت إنها تجعله يبدو كقديس كاثوليكي. وأعلى درجات السلم، ثمة صورة أخرى له وهو في السادسة من عمره على الرصيف خارج المنزل جالسًا في عربة الأطفال. وفي الغرفة التي نامت فيها جيل، هناك صورة له بجوار دراجته حاملًا حقيبته المطبوع عليها «فري بريس». أما غرفة السيدة كيركم، فاحتوت على صورة له وهو يرتدي ملابس الأوبريت الذي شارك فيه وهو في الصف الثامن بالمدرسة، وفوق رأسه تاج ذهبي اللون من الكرتون. فنظرًا لعدم قدرته على الغناء، لم يتمكن من الحصول على أحد الأدوار الرئيسية بالأوبريت، لكنه اختير بالطبع لأداء أفضل دور ثانوي؛ وهو دور الملك.

وفوق البوفيه، ثمة صورة أخرى له ملطخة ببصمات الأصابع كانت قد التُقِطت له في استوديو للتصوير الفوتوغرافي عندما كان في الثالثة من عمره؛ طفلًا صغيرًا أشقر غير واضح الملامح ويجرُّ دمية من القماش من إحدى ساقَيْها. فكَّرت إيلسا في إبعاد هذه الصورة؛ لأنها قد تثير البكاء، لكنها فضَّلت تركها بعد ذلك كي لا تترك بقعة فاتحة اللون في ورق الحائط في المكان الذي وُضِعت فيه. ولم يَقُل أي أحد أي شيء عن هذه الصورة سوى السيدة شانتس؛ وذلك عندما كفَّت عن الحديث، ثم قالت ما اعتادت قوله أحيانًا من قبل، دون بكاء وإنما بإعجاب رقيق.

«يا إلهي! كريستوفر روبين.»

اعتاد الناس عدم الانتباه كثيرًا لما تقوله السيدة شانتس.

في جميع صوره، يبدو جورج متألقًا؛ هناك دائمًا خصلات براقة من شعره الأشقر منسدلة على جبهته، إلا إذا كان يرتدي قبعته العسكرية أو تاجه. حتى عندما كان طفلًا صغيرًا، بدا وكأنه موقن بأنه شخص مرح وداهية وساحر، شخص لا يترك الناس وشأنهم أبدًا، ويدفعهم للضحك دائمًا، ويكون ذلك على حسابه في بعض الأحيان، لكنه في الغالب على حساب الآخرين. تذكَّرت جيل كيف كان يشرب الخمر، ولا يبدو مخمورًا أبدًا، وكيف اهتم بدفع الآخرين للسُّكر كي يعترفوا له بمخاوفهم، أو أكاذيبهم، أو عذريتهم، أو تدليسهم، وتحويله هذه الأمور فيما بعد إلى نِكات، أو نعت هؤلاء بألقاب مهينة ادَّعى أصحابها — من ضحاياه — استمتاعهم بها؛ ولذا، كان لديه عدد هائل من التابعين والأصدقاء، الذين ربما رجع تعلُّقهم به إلى الخوف، أو ربما لأنه كان يضفي حيوية على ما حوله، كما كان يُقال عنه دومًا. فحيثما وجِد، كان محور الاهتمام، وأشاع من حوله روح المخاطرة والبهجة.

ماذا كان بوسع جيل فعله حيال حبيب بهذه الطباع؟ كانت في التاسعة عشرة من عمرها عندما التقت به، ولم يتقرب إليها أحد من قبل. لم تستطع فهم ما جذبه إليها، ورأت أنه ما من أحد تمكَّن من فهم ذلك أيضًا. لقد كانت بمثابة اللغز لمعظم مَن كانوا في سنها، لكنه لغز ممل؛ فهي فتاة كرَّست حياتها لدراسة الكمان، ولم يكن لديها أي اهتمامات أخرى.

لكن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا؛ فقد كانت تستلقي باسترخاء تحت ألحفتها الرثة وتتخيل حبيبًا ما. بيد أنه لم يكن قط حبيبًا مهرجًا متألقًا مثل جورج؛ فكانت تفكر في شخص ضخم دافئ المشاعر، أو موسيقيٍّ شهير يكبرها بعقد من الزمان ويتميز بالفحولة. كانت مفاهيمها عن الحب أوبرالية، وإن لم يكن هذا هو نوع الموسيقى الذي تفضِّله. أما جورج، فقد كان يطلق النكات أثناء جماعها؛ ويتبختر في أنحاء الغرفة بعد انتهائه؛ ويصدر أصواتًا وقحة وطفولية. لم تشعرها هذه التصرفات الطائشة من جانبه بالقدر نفسه من المتعة الذي حظيت به في تخيلاتها، لكنها في الوقت نفسه لم تُصِبها بالإحباط التام.

ما شعرت به حقًّا هو الذهول من السرعة التي جرت بها الأمور. لقد توقعت أن تكون سعيدة — وممتنة — عندما أدركت الواقع المادي والاجتماعي من حولها. بدا اهتمام جورج بها وزواجها به امتدادًا رائعًا لحياتها. كان الأمر أشبه بدخولها غرفًا زاخرة بالإضاءة والروعة المذهلة. وبعد ذلك، وقعت الكارثة غير المتوقعة التي كانت أشبه بانفجار قنبلة أو هبوب إعصار مفاجئ أطاح بهذا الامتداد الجديد لحياتها برمته. تلاشى وانهار وما عادت تملك شيئًا سوى حياتها القديمة نفسها والخيارات التي أتيحت لها من قبل. خسرت شيئًا ما بالتأكيد، لكنه لم يكن بالشيء الذي تمسَّكت به حقًّا، أو اعتبرته أكثر من مخطط افتراضي للمستقبل فحسب.

صار لديها الآن في حفل التأبين ما يكفي من الطعام لتناوله. شعرت بالألم في ساقَيْها جراء الوقوف طويلًا، وسألتها السيدة شانتس التي كانت تقف بجوارها: «هل سنحت لك فرصة الالتقاء بأيٍّ من أصدقاء جورج هنا؟»

كانت تعني الشباب الذين وقفوا وحدهم عند مدخل الردهة؛ فتاتان حسنتا المظهر، وشاب لا يزال يرتدي الزي البحري الرسمي، وآخرون. عندما نظرت إليهم جيل، اتضح لها أنه ما من أحد حزين حقًّا لوفاة جورج. ربما إيلسا حزينة، لكنها لها أسبابها الخاصة. لم يحزن أحد، ولا حتى الفتاة التي أخذت تبكي في الكنيسة وبدا أنها لن تكفَّ عن البكاء بعض الوقت. تتذكر تلك الفتاة الآن حبها لجورج، وتعتقد أنه كان مغرمًا بها أيضًا — بالرغم من كل شيء — دون أن تخاف مما قد يفعله أو يقوله جورج ليثبت عدم صحة ما تقوله. ولم يعد أحد منهم الآن مضطرًّا للتساؤل — عندما تدوِّي ضحكات مجموعة من الناس الملتفين حول جورج — علامَ يضحكون أو ما الذي يخبرهم به جورج. ولن يبذل أيٌّ منهم الجهد لمجاراته أو للتوصل إلى ما يجعلهم ينالون رضاه بعد الآن.

لم تفكر جيل في احتمالية تغير شخصية جورج، لو أنه نجا من الموت. ويرجع السبب في ذلك إلى أنها هي نفسها لم تفكر في تغيير شخصيتها.

أجابت عن سؤال السيدة شانتس على نحو يفتقر إلى الحماس: «كلا.» وهو ما جعل السيدة شانتس ترد عليها قائلةً: «إنني متفهمة؛ فمن الصعب الالتقاء بأناس جدد؛ لا سيما … لو أنني مكانك، لنلت قسطًا من الراحة.»

كانت جيل شبه متأكدة من أن السيدة شانتس كانت ستقول: «لذهبت لاحتساء مشروب.» لكن ما من مشروبات تُقدَّم في الحفل سوى الشاي والقهوة. لم تشرب جيل الخمر كثيرًا على أي حال، غير أنه كان بوسعها تمييز رائحته في أنفاس مَن أمامها، وقد اعتقدت أنها شمَّته في أنفاس السيدة شانتس.

سألتها السيدة شانتس: «لِمَ لا تذهبين؟ مثل هذه المناسبات تسبب توترًا شديدًا. سوف أخبر إيلسا بذلك. فلتذهبي الآن.»

•••

السيدة شانتس امرأة ضئيلة الجسم ذات شعر رمادي ناعم، وعينين لامعتين، ووجه مغطًّى بالتجاعيد حاد الملامح. اعتادت قضاء شهر كامل وحدها في فلوريدا كل شتاء. كانت امرأة ثرية. والمنزل، الذي أسسته مع زوجها، خلف منزل آل كيركم، كان ممتدًّا بالعرض على مساحة كبيرة وغير مرتفع، وكان مطليًّا بلون أبيض ناصع للغاية، وله زوايا منحنية وامتدادات من قوالب الزجاج المربع الصالح للبناء. وكان دكتور شانتس يصغرها بعشرين أو خمسة وعشرين عامًا. وهو شاب وسيم مفعم بالنشاط، قصيرٌ وممتلئ القوام، ذو جبهة مرتفعة ناعمة وشعر أشقر متموج. لم يكن لديهما أي أطفال. ومن المعروف أنها لديها أطفال من زواجها الأول، لكنهم لا يأتون لزيارتها. وفي الحقيقة، كان دكتور شانتس صديق ابنها الذي حضر إلى منزله أثناء دراستهما بالجامعة، ووقع في غرام والدة صديقه، ووقعت هي في غرام صديق ابنها، فحصلت على الطلاق، وها هما الآن متزوجان، ويعيشان عيشة رغدة في منأًى عن الناس.

اشتمَّت جيل رائحة ويسكي بالفعل في أنفاس السيدة شانتس؛ فقد كانت تُحضر معها قنينة خمر في أي تجمُّع تذهب إليه وتشعر أنها لن تستمتع به، حسبما قالت؛ فالشراب كان يمنعها من الضحك دون توقف أو تحريف ما تقوله — ما يؤدي إلى إساءة الفهم — أو اختلاق العراك أو التلويح بذراعيها في وجوه الناس. والحقيقة هي أنها ربما تكون دائمًا مخمورة قليلًا، لكنها لا تكون أبدًا في حالة ثمالة تامة؛ فقد اعتادت احتساء الكحول على نحو معقول ومُطمئن؛ كي لا يسيطر على خلايا مخها بالكامل أو تحرم خلاياها منه. وما كان يبوح بسرِّها فقط هو الرائحة (التي أرجعها الكثير من الناس في هذه البلدة المملة إلى دواء ما لزم عليها تناوله، أو ربما مرهم تدهن به صدرها). ربما فضحها أيضًا تأنِّيها في الحديث ومباعدتها بين الكلمات ببضع ثوانٍ. وكانت تقول، بالطبع، أشياء ليس من عادة امرأة نشأت في هذه الأرجاء قولها. كانت تتحدث عن نفسها، وعن أن الناس يظنون خطأً بين الحين والآخر أنها والدة زوجها. وعند علمهم بالحقيقة، يشعرون بالخجل الشديد. لكن ثمة امرأة — ربما تكون نادلة — رمقتها بنظرة احتقار ولسان حالها يتساءل: «ما الذي يفعله بتضييع حياته معكِ؟»

اعتادت السيدة شانتس الرد على مثل هؤلاء الناس قائلةً: «أعلم أن هذا ليس عدلًا، لكن الحياة ليست عادلة، وقد تعتادون عليها أيضًا بدوركم.»

لم تتمكن السيدة شانتس بعد ظهيرة ذلك اليوم من العثور على أي مكان يمكنها ارتشاف الويسكي فيه على نحو ملائم؛ فمن الممكن أن تمرَّ السيدات بالمطبخ، بل وغرفة التخزين الضيقة أيضًا التي تقع خلفه، في أي وقت؛ ومن ثم، لزم عليها الصعود إلى دورة المياه في الطابق العلوي، ولم يحدث ذلك كثيرًا. وعندما فعلت ذلك في وقت متأخر من بعد ظهيرة ذلك اليوم، بعد أن اختفت جيل بقليل، وجدت باب دورة المياه مغلقًا، ففكرت في احتساء الخمر في إحدى غرف النوم، وتساءلت أي الغرف فارغة وأيها تشغلها جيل. سمعت، بعد ذلك، صوت جيل الصادر من دورة المياه وهي تقول: «لحظة واحدة!» أو شيئًا من هذا القبيل. قالت عبارة عادية للغاية، لكن نبرة صوتها شابها التوتر والخوف.

ارتشفت السيدة شانتس رشفة سريعة في الرواق حيث وقفت، متحجِّجةً بالحالة الطارئة التي تواجهها.

«جيل؟ هل أنتِ بخير؟ هل تسمحين لي بالدخول؟»

كانت جيل جاثمة على الأرض مستندةً إلى يديها وركبتيها، محاولةً مسح بركة المياه الصغيرة التي أفلتت منها على أرضية دورة المياه. كانت قد قرأت عن نزول الماء عند الوضع، مثلما قرأت أيضًا عن الانقباضات، ومرحلة نزول الدم، ومرحلة الاندفاع، والمشيمة، لكنها فوجئت بنزول سائل دافئ من مهبلها، كما فوجئت في المراحل الأخرى. اضطرت إلى استخدام مناديل المرحاض؛ لأن إيلسا كانت قد أبعدت كل المناشف العادية، ووضعت مكانها قطعًا صغيرة ناعمة من المناديل المُطرَّزة تُسمَّى مناشف الضيوف.

أمسكت بحافة حوض الاستحمام لتنهض، وفتحت مزلاج الباب، وبدأ المخاض في تلك اللحظة. لم تشعر بألم بسيط في البداية أو أي بشائر، ولم تمرَّ بأي مرحلة أولية معتادة أثناء الوضع؛ وإنما كان وضعها أشبه بالهجوم الوحشي ومخاضها يمزقها إربًا.

قالت السيدة شانتس وهي تحاول دعمها قدر الإمكان: «هدِّئي من روعك … أخبريني فقط أيٌّ من هذه الغرف غرفتك، وسوف نساعدك للاستلقاء فيها.»

وقبل حتى أن تصلا إلى الفراش، غرزت جيل أصابعها في ذراع السيدة شانتس النحيلة من الألم حتى تحوَّلت بشرة ذراعها إلى اللونين الأسود والأزرق.

قالت السيدة شانتس: «يا إلهي! المخاض سريع. ليس من المعتاد أن يكون وضع الطفل الأول بهذه الشدة. سوف أذهب لاستدعاء زوجي.»

وهكذا، وُلِدتُ في هذا المنزل قبل الموعد المحدد لولادتي بعشرة أيام، إن كانت حسابات جيل صحيحة. تمكَّنت إيلسا من إخلاء المنزل من الضيوف قبل أن يمتلئ بضجيج جيل وصرخاتها المستنكِرة، وأنينها وتأوهاتها الفاضحة العالية التي تلت.

كان من المعتاد آنذاك نقل الأم ووليدها إلى المستشفى بعد الولادة، حتى وإن كانت الأم قد وضعت فجأة في المنزل، غير أنه تفشى في البلدة في ذلك الوقت نوعٌ ما من الأنفلونزا الصيفية، وازدحمت المستشفى بأسوأ الحالات؛ لذا قرَّر دكتور شانتس أنه من الأفضل بقائي أنا وجيل بالمنزل. وقد كانت إيونا قد أنهت جزءًا من تدريبها كممرضة، وبوسعها الحصول على إجازتها التي بلغت مدتها أسبوعين لرعايتنا.

•••

لم تعرف جيل شيئًا عن الحياة وسط عائلة؛ إذ كانت قد نشأت في ملجأ للأيتام، ومن سن السادسة إلى السادسة عشرة كانت تنام في مسكن جماعي تابع له، وكانت المصابيح في هذا المسكن تُضاء وتُطفأ في أوقات محددة، والتدفئة المركزية لا تعمل أبدًا قبل أو بعد موعد معين. وكانت هناك مائدة طويلة مغطاة بمفرش من المشمع يتناول عليها الأيتام الطعام ويقومون بأداء واجباتهم المدرسية. وعلى الجانب الآخر من الشارع الذي وُجِد فيه الملجأ، كان هناك مصنع. أحبَّ جورج ذلك، وقال إن هذه الظروف تصنع فتاة قوية، واثقة بنفسها، صلبة، منغلقة على ذاتها، لا تتوقع أي هراء رومانسي. بيد أن المكان لم يكن يُدار بقسوة كما اعتقد جورج على الأرجح، والأشخاص الذين أداروه لم يكونوا بخلاء. اصطُحبت جيل إلى حفل موسيقيٍّ برفقة آخرين عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، وهناك قررت تعلُّم العزف على الكمان. كانت آنذاك تتسلى بالفعل بالعزف على البيانو في الملجأ. واهتم شخص ما بها بالقدر الذي جعله يهديها كمانًا مستعملًا، ويمنحها بعض الدروس للعزف عليه. وأدى ذلك، في النهاية، إلى حصولها على منحة في معهد الموسيقى. وأُقيم حفلٌ حضره الرعاة والمديرون بالملجأ، ارتدت فيه النساء أفضل الفساتين، وقُدِّم فيه شراب بَنش الفواكه والكعك، وأُلقيت فيه الخطابات. وكان من المفترض أن تلقي جيل خطابًا قصيرًا تعبِّر فيه عن امتنانها، لكنها رأت في الحقيقة أن ما حدث كان أمرًا مُسلَّمًا به. وكانت موقنة أنها والكمان مرتبطان على نحو طبيعي ومصيري، وكانا سيلتقيان دون أي مساعدة بشرية.

حظيت في المسكن ببعض الأصدقاء، لكنهم غادروا المكان مبكرًا للعمل في المصانع والمكاتب، ونسيتهم. وفي المدرسة الثانوية، التي كان الأيتام يُرسَلون إليها، تحدَّثت معها إحدى المعلمات. ووردت في الحديث كلمتا «عادية» و«متعددة الإمكانيات». بدا الأمر وكأن المعلمة ترى أن الموسيقى وسيلة للهروب من شيء ما أو تعويض لشيء ما؛ ربما الإخوة والأخوات والأصدقاء والعلاقات الغرامية. واقترحت على جيل توزيع طاقتها على الكثير من الأمور، بدلًا من التركيز على شيء واحد فقط. اقترحت عليها التخلص من توترها، ولعب الكرة الطائرة، والانضمام إلى أوركسترا المدرسة إذا كانت الموسيقى هي ما تبغيه.

بدأت جيل في تجنُّب تلك المعلمة على وجه الخصوص؛ فكانت تصعد الدرج أو تدور حول المبنى كي لا تتحدث معها. وتوقفت أيضًا عن قراءة أي صفحة ظهرت بها كلمتا «متعددة الإمكانيات» أو «عادية».

وفي معهد الموسيقى، سارت الأمور على نحوٍ أكثر سلاسة؛ فالتقت هناك بأشخاص ليسوا متعددي الإمكانيات، ولديهم دافع قوي لما يفعلونه مثلها. وكوَّنت بعض الصداقات القليلة التنافسية دون أن تعي ذلك. وكان لأحد أصدقائها أخ أكبر في القوات الجوية، تصادَف كونه ضحية لجورج كيركم ومتيَّمًا به. حضر ذلك الأخ برفقة جورج إلى عشاء عائلي بمساء أحد أيام الآحاد، وكانت جيل مدعوَّة إليه، وكانوا سيقصدون مكانًا آخر لاحتساء الخمر. وهكذا التقى جورج بجيل؛ هكذا التقى أبي بأمي.

•••

لزم وجود شخص في المنزل طوال الوقت لمراقبة السيدة كيركم؛ لذا، عملت إيونا في النوبة الليلية بالمخبز. كانت تزين الكعكات — بما في ذلك أجمل كعكات الزفاف — وتضع أول أرغفة الخبز في الفرن الساعة الخامسة صباحًا. ويداها، اللتان ارتجفتا بشدة على نحو حال دون تقديمها كوبًا من الشاي لأي أحد أثناء حفل التأبين، اتسمتا بالقوة والمهارة والتمهل، بل والإلهام أيضًا، عند قيامها بأي عمل وحدها.

وفي صبيحة أحد الأيام بعد أن ذهبت إيلسا إلى عملها — كان ذلك خلال الفترة القصيرة التي قضتها جيل في المنزل قبل ولادتي — همست إيونا من غرفة النوم أثناء مرور جيل أمامها، نادتها وكأنها ستُسِرُّ لها قولًا، لكن مَن كان في المنزل آنذاك لتُخفي السرَّ عنه؟ من المستبعد أن تكون السيدة كيركم.

بذلت إيونا جهدًا في فتح درج عالق بمكتبها. قالت وهي تقهقه: «تبًّا! ها هو ذا.»

امتلأ الدرج بملابس أطفال؛ لم تكن قمصانًا وملابس نوم بسيطة كالتي ابتاعتها جيل من أحد المحلات التي تبيع الملابس المستعملة وبواقي المصانع في تورونتو، وإنما قلنسوات منسوجة من التريكو، وسترات صوفية، وجوارب صوفية محبوكة، وأغطية حفاضات من الصوف، وثياب صغيرة يدوية الصنع. وكانت جميع الملابس ملونة بكل الألوان الفاتحة الرقيقة الممكنة، ومجموعات الألوان المتداخلة أيضًا دون التقيد باللونين الأزرق أو الوردي، مع حواف مزينة بالكروشيه وتطريز دقيق على شكل زهور وطيور وحملان. ما كادت جيل تعلم بوجود مثل هذه المستلزمات للأطفال، ولعلها كان بإمكانها أن تعلم بها، إذا أجرت بحثًا دقيقًا في أقسام الأطفال أو دققت النظر في عربات الأطفال، لكنها لم تفعل.

قالت إيونا: «لا أعلم بالطبع ما لديك من مستلزمات الطفل، ولعل لديك الكثير من الأشياء بالفعل، أو لعلك لا تحبين الأشياء يدوية الصنع، لا أعلم …» كانت قهقهتها أشبه بعلامات الترقيم في حديثها، فضلًا عن كونها امتدادًا لنبرة الاعتذار في صوتها. كل كلمة تقولها، وكل نظرة، وكل إيماءة بدت محجوبة بمعسول الكلام أو التنفس بصوت مسموع في دلالة على الاعتذار، ولم تعلم جيل كيفية التعامل مع هذا الأمر.

قالت لها بشيء من الفتور: «إنها جميلة حقًّا.»

«لم أعرف حتى ما إذا كنتِ بحاجة إليها. لم أعرف ما إذا كانت ستعجبك في المقام الأول.»

«إنها جميلة.»

«ليست جميعها من صنع يديَّ؛ فقد ابتعت بعضًا منها. ذهبت إلى بازار الكنيسة والبازار الملحق بالمستشفى، وظننت أنها ستكون لطيفة، لكنها إن لم تَنَل إعجابك أو كنتِ لا تحتاجينها، فيمكنني التبرع بها لأوجه الخير.»

فقالت جيل: «إنني أحتاجها بالفعل؛ فلم أشترِ أي شيء مثلها على الإطلاق.»

«حقًّا؟ ما صنعته ليس رائعًا، لكن ما صنعته السيدات في الكنيسة أو ملحق المستشفى قد يكون جيدًا. ربما ستجدينه كذلك.»

هل هذا ما عناه جورج عندما تحدث عن توتر إيونا؟ (وفقًا لإيلسا، يرجع سبب انهيار إيونا العصبي في كلية التمريض إلى حساسيتها المفرطة قليلًا وقسوة المشرف عليها قليلًا.) قد يظن المرء أن صخبها في الحديث معها يعود إلى حاجتها للاطمئنان، لكن أيًّا كان الاطمئنان الذي تحاول منحه إياها، فهو يبدو غير كافٍ أو لا يصل إليها. شعرت جيل وكأن كلمات إيونا وقهقهتها وأنفاسها المسموعة وتعرُّقها (لا شك أن يديها كانتا تتعرقان أيضًا) أشياء تتسلل إليها — إلى جيل — كحشرات العثِّ التي تحاول الانسلال تحت جلدها.

لكنها اعتادت هذه الأمور مع الوقت، أو أن إيونا هي التي قللت منها قليلًا. شعرت كلتاهما بالراحة عند انغلاق الباب وراء إيلسا في الصباح، كما لو كانت معلمة تغادر الفصل المدرسي. واعتادتا احتساء كوب ثانٍ من القهوة معًا، بينما تغسل السيدة كيركم الأطباق. كانت تغسلها ببطء شديد، مع نظرها حولها بحثًا عن الدرج أو الرف الذي ينبغي وضع ما غسلته فيه أو عليه، مع بعض الهفوات أحيانًا. مارست بعض الطقوس أيضًا أثناء ذلك، وهي الطقوس التي لم تَنْسَها قط؛ مثل نثر رواسب القهوة على إحدى الشجيرات الموجودة بالقرب من باب المطبخ.

همست إيونا: «إنها تعتقد أن القهوة تساعد الشجيرة على النمو، حتى وإن وضعتها على الأوراق، وليس على التربة ذاتها. ويلزم علينا كل يوم أخذ الخرطوم وشطف ما سكبته عليها.»

رأت جيل أن إيونا تشبه الفتيات اللاتي تعرَّضن في أغلب الأحيان للإزعاج في الملجأ، وتُقْنَ دومًا لإزعاج الآخرين، لكن ما إن يدفع المرء إيونا لتجاوز عقبة اعتذاراتها المتوترة أو الاتهامات البسيطة الموجهة إليها («بالطبع، أنا آخر شخص يمكن أن يستشيروه بشأن أي شيء في المتجر»، «بالطبع، إيلسا لن تستمع إلى رأيي»، «بالطبع، جورج لم يُخفِ قط مدى نفوره مني») حتى يمكنها التحدث عن أمور مثيرة للاهتمام قليلًا. فأخبرت جيل عن المنزل الذي كان ملكًا لجدهم وصار الآن الجناح المركزي بالمستشفى، وعن الصفقات المشبوهة التي جعلت والدهم يخسر وظيفته، وعن العلاقة الغرامية التي جمعت بين اثنين متزوجين في المخبز. ذكرت إيونا كذلك التاريخ السابق — المُفترَض — لآل شانتس، بل وحقيقة تعامل إيلسا الرقيق مع دكتور شانتس أيضًا. يبدو أن علاج الصدمات الذي تلقَّته إيونا بعد انهيارها العصبي قد أحدث خللًا في حسن تمييزها وقدرتها على حفظ الأسرار، والصوت الذي نتج عن هذا الخلل — بعد استبعاد كل ترَّهات الادعاءات — كان شريرًا وماكرًا.

كان بإمكان جيل أيضًا قضاء أوقاتها في الثرثرة؛ إذ كانت أصابعها متورمة آنذاك على نحو حال دون محاولتها العزف على الكمان.

•••

جاءت بعد ذلك ولادتي، ومعها تغيَّر كل شيء؛ لا سيما حياة إيونا.

تعيَّن على جيل ملازمة الفراش مدة أسبوع، لكن حتى بعد تركها له، كانت تتحرك كسيدة عجوز متيبسة العضلات، وكانت تتنفس بحذر في كل مرة تلقي فيها بنفسها على أي كرسي لتجلس. قُطِب جرحها بأكمله بالغُرز على نحو مؤلم، ورُبِط بطنها وثدياها بإحكام كالمومياء، كما كان معتادًا آنذاك. نزل اللبن بغزارة من ثدييها؛ وتسرَّب عبر الأربطة وعلى ملاءة السرير. أرخت إيونا الأربطة، وحاولت وضع حلمة ثدي أمي في فمي، لكنني رفضت ذلك؛ رفضت ثدي أمي، ودوَّت صرخاتي عاليًا في المكان. ربما بدا لي آنذاك الثدي المتصلب الكبير كوحش بخطم ينقب في وجهي. حملتني إيونا، وأعطتني بعضًا من الماء المغلي الدافئ، فهدأت. بيد أن وزني بدأ يقل؛ إذ لم يكن ممكنًا أن أعيش على الماء؛ لذا، مزجت إيونا بعضًا من حليب الأطفال الصناعي، وأخذتني من بين ذراعَي جيل حيث تيبَّس جسدي وأخذت أتأوَّه. وعملتْ على هدهدتي وتهدئتي وملامسة وجنتي للحلمة المطاطية الصناعية، وكان ذلك ما فضلتُه. شربتُ اللبن الصناعي بنهم ولم أتقيأه، وصارت ذراعا إيونا والحلمة التي كانت مسئولة عنها ملاذي المفضل. ولزم ربط ثديي جيل على نحو أكثر إحكامًا، بالإضافة إلى إمساكها عن السوائل (جدير بالذكر هنا أن ذلك حدث في الصيف الحار) وتحملها الألم حتى جفَّ اللبن بثدييها.

دندنت إيونا: «يا لكِ من طفلة مزعجة، أترفضين لبن أمكِ اللذيذ؟»

سرعان ما زاد وزني وقوتي، وصار بإمكاني البكاء بصوت أعلى. كنت أبكي إذا حاول حملي أحد غير إيونا. نبذتُ إيلسا والدكتور شانتس بيديه الدافئتين الودودتين، لكن نفوري من جيل كان الأكثر لفتًا للانتباه.

عندما كانت جيل تنزل من السرير، كانت إيونا تهم بمساعدتها للجلوس على المقعد الذي اعتادت هي نفسها الجلوس عليه عادةً لإطعامي؛ وكانت تضع بلوزتها حول كتفَي جيل وزجاجة اللبن في يدها.

بيد أن ذلك لم يكن يجدي نفعًا؛ فلم أكن أنخدع به. كنت أضرب بوجنتي الزجاجة وأفرد ساقَيَّ وأصلب بطني ليصير كالكرة. لم أرتضِ عن إيونا بديلًا، وأخذت أبكي، ولم أستسلم.

كانت صرخاتي لا تزال صرخات ضعيفة لطفلة حديثة الولادة، لكنها أحدثت إزعاجًا في المنزل، وكانت إيونا الوحيدة القادرة على إيقافها؛ فإن لمسني أحد أو تحدث إليَّ غير إيونا، كنت أبكي. وعند النوم، إذا لم تهدهدني إيونا، كنت أبكي حد التعب وأنام عشر دقائق، ثم أستيقظ متأهبة لمواصلة البكاء. لم أمرَّ بأوقات جيدة وأخرى مزعجة؛ وإنما أوقات بها إيونا وأخرى بدونها، وكانت هذه تزداد سوءًا إذا قضيتها مع أشخاص آخرين؛ لا سيما مع جيل.

كيف إذن كان لإيونا العودة إلى العمل عند انتهاء إجازتها التي امتدت أسبوعين؟ لم يكن بإمكانها ذلك، وكان ذلك أمرًا غير قابل للجدل، ولزم على المخبز تعيين شخص آخر. وتحولت إيونا من الشخص الأكثر إهمالًا إلى الأكثر أهمية في المنزل؛ فكانت الشخص الذي يفصل بين من يعيشون في المنزل وبين الضجيج الدائم والشكوى المتعذر حلها. كان عليها البقاء مستيقظة طوال الوقت للحيلولة دون تعرض أيٍّ من أفراد المنزل لأي نوع من الإزعاج. أصاب ذلك دكتور شانتس بالقلق؛ وإيلسا نفسها شعرت بذلك أيضًا.

«إيونا، لا ترهقي نفسك كثيرًا.»

لكن ثمة تغييرًا رائعًا حدث؛ شحب وجه إيونا، لكن بشرتها تورَّدت، كما لو كانت قد تخطت مرحلة المراهقة أخيرًا، وصار بوسعها النظر في عيني أي أحد. اختفى الارتجاف، والقهقهة، والخنوع الماكر في صوتها الذي صار آمرًا ناهيًا كصوت إيلسا، وأكثر مرحًا منها (لا سيما عند توبيخها إياي بسبب موقفي من جيل).

قالت إيلسا للناس: «تنعم إيونا بسعادة غامرة؛ فهي تعشق الطفلة الصغيرة.» لكن سلوك إيونا، في حقيقة الأمر، بدا طائشًا على نحو يحول دون الإعجاب به؛ فلم تهتم بقدر الضوضاء التي تحدثها أثناء تهدئتها لي، وكانت تصعد الدرج سريعًا وهي تنادي لاهثةً: «إنني قادمة! إنني قادمة! كفِّي عن البكاء.» وكانت تحملني دون احتراس بيد واحدة، بينما تؤدِّي مهمة أخرى تتعلق برعايتي باليد الأخرى. سيطرت على المطبخ، واستحوذت على الموقد لتعقيم الرضعات، والمائدة لمزج اللبن الصناعي، والحوض لتنظيف جسم الطفلة بالماء. وكانت تسبُّ وتشتم بمرح، حتى في وجود إيلسا، عند وضعها شيئًا ما في غير موضعه أو سكبها إياه.

وعند شروعي في البكاء، كانت إيونا تعرف أنها الوحيدة التي لن تنفر مني ولن تشعر بالخطر المستبعد المتمثل في انهزامها أمام صيحاتي وعدم قدرتها على تهدئتي، وإنما كانت الوحيدة التي يقفز قلبها من السعادة، وتشعر بالرغبة في الرقص لإحساسها بالقوة التي تملكها والامتنان لذلك.

ما إن نُزِعت الأربطة عن جسد جيل ورأت تسطُّح بطنها حتى نظرت إلى يديها، فلاحظت اختفاء التورم تمامًا؛ فنزلت إلى الطابق السفلي، وأخرجت الكمان الخاص بها من الخزانة ونزعت عنه غطاءه؛ فقد صارت مستعدة لمحاولة العزف عليه.

حدث ذلك بعد ظهيرة أحد أيام الآحاد. غفت إيونا قليلًا، وأذنها منتبهة كعادتها تحسبًا لبكائي. كانت السيدة كيركم نائمة أيضًا، وإيلسا تطلي أظافر يديها في المطبخ. بدأت جيل في العزف على أوتار الكمان.

لم يكن لدى أبي أو أسرته أي اهتمام حقيقي بالموسيقى، بل كانوا يجهلون هذه الحقيقة. ظنوا أن التعصب، بل والعدائية التي شعروا بها تجاه نوع معين من الموسيقى (الأمر الذي اتضح في الكيفية التي نطقوا بها كلمة «كلاسيكي») أمر يرجع إلى قوة الشخصية واستقامتها والعزم على عدم الانخداع بأي شيء، وكأن الموسيقى التي تصدر عن لحن بسيط تحاول فرض شيء ما على المرء. كان الجميع يعلم ذلك في قرارة أنفسهم، لكن بعض الناس — من باب الغطرسة وافتقارهم للبساطة والأمانة — لا يعترفون أبدًا بهذه الحقيقة. ومن هذا التصنُّع والتعصب المتزعزع ظهرت جميع ألحان الأوركسترا السيمفونية، والأوبرا، والباليه، والحفلات الموسيقية التي أشعرت الناس بالملل.

شعر أغلب الناس في هذه المدينة بنفس الشعور، لكن نظرًا لأن جيل لم تنشأ في هذا المكان، فلم تفهم عمق هذا الشعور وإلى أي مدًى هو مسلَّم به. لم يتباهَ أبي به قط، أو يُظهره كفضيلة؛ لأنه لم يهتم بالفضائل. أحب فكرة اشتغال جيل بالموسيقى؛ ليس من أجل الموسيقى في حد ذاتها، بل لأنها جعلتها اختيارًا مختلفًا، كما هو الحال مع ملابسها وأسلوب حياتها وشعرها الغجري. باختياره لها، أظهر للناس رأيه فيهم، ولأولئك الفتيات اللاتي سعَيْن لإيقاعه في شباكهن رأيه فيهن، ولإيلسا أيضًا.

أغلقت جيل أبواب غرفة المعيشة الزجاجية المغطاة بالستائر، وأخذت تعزف بهدوء تام. ولربما لم يصدر أي صوت على الإطلاق. وإذا سمعت إيلسا أي شيء في المطبخ، فقد تظن أن مصدر الصوت من خارج المنزل؛ ربما المذياع عند الجيران.

بدأت جيل، بعد ذلك، في عزف النغمات الموسيقية. ومع أن أصابعها لم تعد منتفخة، فقد شعرت بأنها متيبسة. شعرت بهذا التيبس في جسمها بالكامل. ولم تكن وقفتها طبيعية بشكل كامل؛ إذ شعرت بالآلة الموسيقية معلَّقة عليها على نحو يوحي بعدم الثقة، لكنها لم تهتم، وعزمت على عزف النغمات الموسيقية الخاصة بها؛ فقد كانت متيقنة من أن هذا الشعور راودها من قبل، بعد إصابتها بالأنفلونزا أو عند شعورها بالتعب الشديد بعد إرهاق نفسها في التمرين أو حتى بدون سبب على الإطلاق.

لكنني في تلك اللحظات استيقظت من النوم دون تذمُّر من شيء معين ودون سابق إنذار أو مقدمات. بدأ الأمر بصرخة واحدة تبعها هدير من الصرخات التي ملأت المنزل. كانت صرخة لم تشبه أي صرخة أصدرتُها من قبل، وكان الأمر أشبه بالتحرر من ألم مؤكد وحزن أنزل عقابه على العالم بوابل من الويلات المرسلة من نفس معذبة.

استيقظت إيونا على الفور، وقد أصابها الرعب للمرة الأولى من ضجة أحدثتها، فصاحت متسائلة: «ما الأمر؟ ما الأمر؟»

هرعت إيلسا لإغلاق النوافذ وهي تصيح: «إنه الكمان! إنه الكمان!» وفتحت بقوة أبواب غرفة المعيشة.

«جيل! جيل! هذا مريع حقًّا. أكثر من مريع. ألم تسمعي طفلتك؟»

جذبت بعنف الستارة التي كانت خلف زجاج نافذة غرفة المعيشة كي تتمكن من إسدالها. كانت تجلس برداء الكيمون لطلاء أظافرها؛ وبينما تحاول إسدالها، لمحها صبي على دراجة بالخارج، ورأى الكيمون المفتوح ليكشف قميصها التحتي.

فقالت: «يا إلهي!» لم يسبق لها من قبل فقدان سيطرتها على نفسها إلى هذا الحد. وأضافت موجهة حديثها لجيل: «هل يمكنكِ إبعاد هذا الشيء؟»

فأنزلت جيل الكمان من يديها.

وركضت إيلسا إلى الردهة وهي تنادي على إيونا.

«إنه يوم الأحد. ألا يمكنكِ إسكاتها؟»

سارت جيل في صمت وتأنٍّ إلى المطبخ، فوجدت هناك السيدة كيركم تقف على قدميها مرتدية الجوارب دون حذاء، وتتشبث بالطاولة.

سألتها: «ما خطب إيلسا؟ ماذا فعلت إيونا؟»

خرجت جيل وجلست على عتبة المنزل الخلفية، ونظرت إلى الجدار الخلفي لمنزل آل شانتس الأبيض البراق وقد انعكست عليه أشعة الشمس. وانتشرت تلك الأفنية والجدران الساخنة للمنازل الأخرى، وبداخلها أشخاص يعرفون بعضهم بعضًا جيدًا بالشكل والاسم والتاريخ. وعند تجاوز ثلاثة مربعات سكنية شرق هذه البقعة، أو خمسة غربًا، أو ستة جنوبًا، أو عشرة شمالًا، تظهر حدود حقول المحاصيل الصيفية التي نمت عاليًا من الأرض، وسيَّجت حقول القش والقمح والذرة. ففي هذه البلدة بأكملها، لا مجال لاستنشاق الهواء بسبب الرائحة النفَّاذة للمحاصيل والحظائر والحيوانات المتدافعة التي تمضغ الطعام بأصوات عالية. وعلى مرمى البصر، تبدو مزارع الأشجار كبِركٍ من الظلال تنعم بالسلام وتصلح لأن تكون مأوًى، لكنها في الواقع تعجُّ بالحشرات.

كيف يمكنني وصف ما تعنيه الموسيقى لجيل؟ إنها ليست — في نظرها — كالمشاهد الطبيعية والصور الذهنية والمحادثات مع الآخرين، بل هي أقرب للمشكلة التي يجب عليها حلها بحزم وجرأة، وحملتها على عاتقها كمسئوليتها في الحياة. ومن ثم، إذا نُزِعت منها الأدوات التي تخدمها في حل هذه المشكلة، فسوف تظل المشكلة قائمة كما هي وسيتحمَّلها آخرون، لكنها ستُنزَع منها فحسب. وكانت هذه العتبة الخلفية والحائط البراق أمامها وصوت صراخي أشبه بالسكين الذي ينزع من حياتها كل شيء لا فائدة منه؛ كل شيء لا فائدة منه لي.

نادتها إيلسا عبر الباب الشبكي: «ادخلي! ما كان ينبغي عليَّ الصراخ فيكِ. ادخلي الآن! سوف يرانا الناس.»

وعندما حلَّ المساء، كان من الممكن تجاوز هذا الأمر برمته بسلاسة. قالت إيلسا للدكتور شانتس وزوجته: «لا بد أنكما سمعتما الصراخ الذي دوَّى في المنزل عندنا اليوم.» كانا قد دعاها للجلوس في فناء منزلهم المرصوف، بينما عملت إيونا على تهدئتي كي أنام.

«من الواضح أن الطفلة لا تهوى الكمان، ليست كأمها.»

ضحك الجميع، حتى السيدة شانتس.

«إنه ذوق مكتسَب.»

سمعتهم جيل، أو على الأقل سمعت الضحكات، وتكهنت بما كان يُضحكهم. كانت مستلقية في سريرها تقرأ رواية «جسر سان لويس راي» التي أحضرتها لنفسها من خزانة الكتب دون أن تدرك ضرورة الاستئذان من إيلسا أولًا. وبين الحين والآخر، فقدت تركيزها وسمعت الضحكات بفناء آل شانتس، ثم تمتمة إيونا بالغرفة المجاورة متعبِّدة، فأصابها التجهُّم وتعرَّق جسدها. ولو أنها في قصة خرافية، لنهضت من الفراش بقوة شابة عملاقة، وهاجت في أرجاء المنزل لتكسر الأثاث والأعناق.

•••

عندما بلغتُ من العمر نحو ستة أسابيع، لزم على إيلسا وإيونا اصطحاب أمهما إلى إحدى الزيارات السنوية لبعض الأقارب بمدينة جويلف لليلة واحدة. وأرادت إيونا اصطحابي، لكن إيلسا استعانت بالدكتور شانتس لإقناعها بأنه ليس من المستحسن اصطحاب طفلة صغيرة في مثل هذه الرحلة في الطقس الحار؛ ومن ثم، فضَّلت إيونا البقاء في المنزل.

فقالت لها إيلسا: «لا يمكنني القيادة ورعاية أمي في الوقت نفسه.»

وأضافت قائلةً إن إيونا صارت متعلقة للغاية بي، وإن رعاية الطفلة مدة يوم ونصف لن يمثل عبئًا كبيرًا على جيل.

«أليس كذلك يا جيل؟»

فصدَّقت جيل على كلامها.

حاولت إيونا التظاهر بأن رغبتها في البقاء معي ليست هي السبب في موقفها، وإنما يرجع ذلك إلى أنها عندما قادت السيارة في أحد أيام الطقس الحار، أُصيبت بالغثيان.

قالت إيلسا: «لا تقودي السيارة؛ ليس عليك سوى الجلوس فيها فحسب. وماذا عني؟ إنني لا أفعل ذلك بغية المتعة، وإنما لأن أقاربنا يتوقعون منا ذلك.»

كان على إيونا الجلوس بالمقعد الخلفي بالسيارة الذي زاد من شعورها بالغثيان حسب قولها، لكن إيلسا قالت إنه ليس من اللائق جعل أمهما تجلس بالخلف. ومع أن السيدة كيركم أوضحت أنها لا تمانع، فإن إيلسا رفضت. أنزلت إيونا زجاج السيارة عندما قامت إيلسا بتشغيل السيارة، وحدقت في نافذة غرفة الطابق العلوي حيث أنزلتني من يدها لأنام بعد حمام الصباح وتناول اللبن الصناعي. لوَّحت إيلسا لجيل التي وقفت عند الباب الأمامي للمنزل.

وصاحت: «وداعًا أيتها الأم الصغيرة!» بصوت مبتهج متحدٍّ ذكَّر جيل قليلًا بجورج. ويبدو أن رؤيتها مغادرتهنَّ المنزل، والابتعاد عما انطوى عليه المنزل من خطر الإخلال بالنظام الأسري الذي طرأ مؤخرًا، قد رفع من معنويات إيلسا. ولعل عودة إيونا أيضًا إلى وضعها الطبيعي قد منح إيلسا شعورًا جيدًا؛ شعورًا بالاطمئنان.

•••

غادرت الأسرة المنزل نحو الساعة العاشرة صباحًا، وكان هذا اليوم هو الأطول والأسوأ في حياة جيل على الإطلاق؛ حتى إنه لا وجه للمقارنة بينه وبين يوم ميلادي وما شهدته من معاناة أثناء وضعي؛ فقبل أن تصل السيارة إلى البلدة التالية، استيقظتُ من النوم في حالة سيئة، وكأنني شعرت بابتعاد إيونا عني. كانت إيونا قد أطعمتني قبل ذلك الحين بفترة قصيرة، ما جعل جيل تستبعد احتمالية أن أكون جائعة، لكنها اكتشفت، بعد ذلك، أنني مبتلَّة. وبالرغم من أنها قد قرأت أنه لا حاجة لتغيير حفاضة الطفل الصغير في كل مرة يبلل فيها نفسه، وأن هذا الأمر لا يكون دائمًا السبب وراء بكائه، فقد قررت تغيير الحفاضة لي. لم تكن تلك المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك، لكنها لم تفعله بسهولة قط. وكانت إيونا، في الواقع، تتولى الأمر غالبًا وتنجزه. أما أنا، فبذلت أقصى ما في وسعي لإفساد الأمر عليها؛ فأخذت أضرب بذراعَيَّ وساقَيَّ، وحنيت ظهري، وحاولت جاهدةً الاستدارة على الجانب الآخر، ولم أنقطع عن الصراخ عاليًا بالطبع. ارتجفت يدا جيل، وواجهت صعوبات في إتمام الأمر. تظاهرت بالهدوء، وحاولت التحدث إليَّ، وتقليد الطريقة التي تتحدث بها إيونا معي وتدليلها إياي، لكن دون جدوى؛ فهذا الرياء غير المتقن أثار حنقي أكثر وأكثر. وبعد تثبيت الحفاضة، حملتني وحاولت وضعي على صدرها وكتفها، لكنني تيبَّست في مكاني، وكأن جسدها مليء بالإبر المتأججة بالحرارة. فجلستْ وأخذت تهدهدني، ثم وقفت وأخذت تأرجحني لأعلى ولأسفل. غنَّت لي كلمات رقيقة لإحدى أغاني الهدهدة، لكنها كلمات مرتعشة ملأها الحنق والغضب اللذان شعرت بهما، بالإضافة إلى ما يمكن وصفه بالاشمئزاز.

كان كلٌّ منا أشبه بالوحش في نظر الأخرى.

وأخيرًا، وضعتني في الفراش برفق يفوق ما كانت ترغب فيه، وهدأتُ لأنني بذلك سأتخلص منها. فخرجتْ من الغرفة على أطراف أصابعها، ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأتُ في البكاء مجددًا.

واستمر الأمر على هذا الحال. ما كنت أواصل البكاء، لكنني كنت أستريح قليلًا بين الحين والآخر دقيقتين أو خمس أو عشر دقائق أو عشرين دقيقة. وعندما حان وقت تقديمها زجاجة اللبن لي، قَبِلتها منها، واستلقيت على ذراعها متصلِّبةً، أتنفس بصوت مسموع تحذيري أثناء شربي اللبن. وعندما فرغت من شرب نصف الزجاجة، عدت إلى مضايقتي لها. وانتهيت، أخيرًا، من شرب الزجاجة بأكملها بذهن شارد، مع مواصلة النواح طوال الوقت. غلبني النعاس، وأنزلتني جيل من يديها، ونزلت بخطًى خافتة على السلم؛ وقفت في الردهة وكأنها تحدِّد سبيلًا آمنًا للمضي فيه. تعرَّق جسدها جراء المحنة التي كانت تواجهها، بالإضافة إلى الطقس الحار لذلك اليوم. تحرَّكت وسط هذا الهدوء الثمين الذي كان من السهل القضاء عليه في أي لحظة، نحو المطبخ، وأقدمت على وضع إبريق القهوة على الموقد.

وقبل الانتهاء من إعدادها، أنزلتُ صرخاتي المدوية كالصاعقة فوق رأسها.

فأدركتْ نسيانها شيئًا ما؛ ألا وهو جعلي أتجشَّأ بعد شرب اللبن. فصعدتِ السلم ثابتة العزم، وحملتني، وسارت بي وهي تربِّت على ظهري المنتفض من الغضب وتدلِّكه. وبعد فترة، تجشَّأتُ، لكنني لم أتوقَّف عن البكاء، فاستسلمتْ للأمر، وأنزلتني من يدها.

ما الذي يجعل بكاء الطفل الرضيع بهذا القدر من القوة؟ ما الذي يجعله قادرًا على القضاء على النظام الذي يعوِّل المرء عليه، سواء داخل نفسه أو خارجها؟ إنه أشبه بالعاصفة؛ عاصفة شديدة هوجاء، لكنها صادقة وغير مصطنعة في الوقت ذاته. إنه بكاء تأنيبي أكثر منه توسُّليًّا، وينتج عن غضب يصعب التعامل معه، غضب يحق للطفل عند الولادة ولا مكان فيه للحب أو الشفقة، وبإمكانه سحق مخك داخل الجمجمة.

كل ما كان بإمكان جيل فعله هو التجول في أرجاء المكان، إلى أعلى وإلى أسفل على سجادة غرفة المعيشة، وحول مائدة الطعام، وخروجًا إلى المطبخ حيث توضِّح لها الساعة مدى البطء الذي يمرُّ به الوقت. لم تستطع الثبات في مكان واحد لتحصل على أكثر من رشفة واحدة من القهوة. وعندما أصابها الجوع، لم تستطع التوقف لإعداد شطيرة لنفسها، وإنما أخذت تأكل رقائق الذرة من بين يديها، مخلِّفةً آثارًا وراءها في جميع أنحاء المنزل. الأكل والشرب وفعل أي شيء عادي آخر بدا خطرًا كفعله على قارب صغير وسط عاصفة هوجاء أو في منزل تنهار أعمدته بفعل رياح عاتية. لا يمكن للمرء في هذه الحالة تحويل انتباهه عن العاصفة، وإلا فسوف تطيح بآخر وسائله الدفاعية. وسعيًا منه للحفاظ على قواه العقلية، يحاول التركيز على بعض التفاصيل الهادئة من حوله، لكن دويَّ صوت الرياح — أو بالأحرى دوي صرخاتي — قادر على أن يسكن في أي وسادة أو رسم على السجادة أو دوامة صغيرة في زجاج النافذة. فلا هروب مني.

كان المنزل مغلقًا بالكامل. انتقل بعض من شعور الخزي الذي راود إيلسا إلى جيل، أو لعلها تمكنت من خلق شعور الخزي الخاص بها. أمٌّ لا تستطيع تهدئة طفلتها، يا له من أمرٍ مخزٍ؟ أبقت على الأبواب والنوافذ مغلقة. ولم تُدِر المروحة لأنها في الواقع نسيت وجودها؛ فلم تعد تفكر في الراحة الواقعية. لم تفكر أن يوم الأحد في هذا الأسبوع هو أحد أيام الصيف الأكثر حرارةً، وربما يكون هذا سبب انزعاجي. أيُّ أمٍّ متمرسة وتتمتع بغريزة الأمومة كانت ستوفر لي بعض التهوية بالتأكيد، بدلًا من إعطائي أسباب الغضب على هذا النحو. أيُّ أمٍّ متمرسة كانت ستفكر في الحر المثير للضيق، بدلًا من اليأس التام.

وفي وقت ما بعد ظهيرة ذلك اليوم، اتخذت جيل قرارًا أحمق، أو لعله كان بائسًا فحسب؛ فلم تغادر المنزل وتتركني بداخله، وإنما نظرًا لأنها رأت نفسها حبيسة المنزل بسببي، فكَّرت في خلق مساحة لنفسها كمهرب لها داخل المنزل. أخرجت الكمان، الذي لم تلمسه منذ اليوم الذي حاولت العزف فيه عليه، وحوَّلته إيلسا وإيونا إلى أضحوكة في الأسرة. لم يستطع عزفها إيقاظي؛ لأنني كنت مستيقظة بالفعل، وما كان بإمكانه أيضًا إثارة غضبي على نحو يفوق ما كنت عليه بالفعل.

أسدت إلي معروفًا بطريقة ما؛ إذ توقفت عن محاولة تهدئتي الزائفة، والتظاهر بغناء أغاني الهدهدة أو الاهتمام بآلام بطني، وملاعبتي لاكتشاف ما يزعجني. وعقدت العزم، بدلًا من ذلك، على عزف مقطوعة كونشرتو مندلسون للكمان، وهي المقطوعة التي عزفتها في حفلها الموسيقي، وعليها عزفها مرة أخرى في الاختبار الذي سيؤهلها للحصول على شهادة التخرج.

اختارت جيل مقطوعة ماندلسون بدلًا من كونشترو بيتهوفن للكمان التي أكنَّت لها شغفًا أكبر؛ لأنها كانت تعتقد أن مقطوعة ماندلسون ستمنحها درجات أعلى، وأن بإمكانها إتقانها — وقد أتقنتها بالفعل — على نحو أكبر. كذلك فإنها كانت موقنة من أنها ستؤدي عرضًا مذهلًا وتبهر الممتحنين دون أدنى خوف من حدوث أي كارثة أثناء العزف. وقد توصَّلت إلى أن ذلك لم يكن بالعمل الذي سيزعجها طوال حياتها؛ فهو ليس بالشيء الذي ستبذل فيه الجهد وتحاول إثبات نفسها فيه إلى الأبد.

سوف تعزف فحسب.

أخذت تعزف بعض الألحان، وحاولت تجاهل صوتي. علمت أن جسمها يعاني من التيبس، لكنها مستعدة هذه المرة للعزف. توقعت أن تقلَّ مشكلاتها عند انهماكها في الموسيقى.

بدأت في العزف، واستمرت حتى نهاية المقطوعة. وكان عزفها بشعًا يعذِّب أذن مَن يسمعه، لكنها استمرت في العزف، معتقدةً أن الأداء سيتغير بالتأكيد، وأن بإمكانها تغييره، لكنها لم تستطع. فكان كل شيء دون المستوى؛ عزفها سيئ للغاية مثل عزف جاك بيني في إحدى محاكاته الساخرة الجريئة، والكمان كالذي نزل به السحر، فصار يكرهها ويردُّ عليها بألحان مشوهة ومشاكسة لكل لحن تحاول عزفه. ما من شيء أسوأ من ذلك يمكن أن يحدث لها؛ إنه أسوأ من نظرها في المرآة ورؤيتها لوجهها، الذي يعول على جماله، وقد نحل وبدا عليه الإرهاق وينظر إليها شزرًا. كان ذلك أشبه بالخدعة التي لا يمكنها تصديقها، فتحاول دحضها بالنظر بعيدًا ثم معاودة النظر في المرآة مرارًا وتكرارًا. وعلى النحو ذاته، استمرت في العزف في محاولة لدحض الخدعة التي تواجهها، لكن دون جدوى؛ فعزفها يزداد سوءًا، وتتساقط قطرات العرق على وجهها وذراعيها وجانبَي جسدها، وتنزلق يدها عن الكمان. باختصار، لم يكن هناك حدٌّ أقصى لسوء عزفها.

لقد قُضي عليها تمامًا. والمقطوعة التي أتقنتها إتقانًا تامًّا قبل ذلك الحين بعدة أشهر ولم يعد بها أي شيء يصعب عليها أو يتطلب حذرها، قضت عليها تمامًا الآن، ورأت نفسها فيها شخصية سُلِبت ونُهِبت ودُمرت بين عشية وضحاها.

لكنها لم تستسلم، وعزفت على أسوأ نحو ممكن. ففي هذه الحالة من الإحباط، بدأت تعزف مجددًا، لكنها هذه المرة ستحاول عزف مقطوعة بيتهوفن. وبالطبع، لم يُجدِ ذلك نفعًا، بل زاد الأمر سوءًا. وبدت وكأنها تنتحب، بل وتموج كالبحر الهائج من الداخل. أنزلت القوس والكمان من يدها على أريكة غرفة المعيشة، ثم التقطتهما وزجَّت بهما تحت الأريكة لتبعدهما عن نظرها؛ لأنها تصوَّرت نفسها تحطمهما على ظهر أحد الكراسي في عرض درامي يثير الغثيان.

لم أتوقف عن البكاء طوال هذا الوقت، وما كنت لأفعل ذلك في مواجهة هذه المنافسة.

استلقت جيل على الأريكة غير الوثيرة المغطاة ببياضات مطرزة ذات لون أزرق فاتح، حيث لا يستلقي أو يجلس أحد إلا عند استقبال الضيوف. وغطَّت في النوم فعليًّا. استيقظت بعد فترة لا تعلمها، ووجهها الساخن في مواجهة بياضات الأريكة المطرزة التي طُبعت رسومها على وجنتها. سال بعض من لعابها على الأريكة ولطَّخ البياضات. استمرت الضجة التي أحدثتُها، تارة عالية وتارة منخفضة كالصداع الذي على هيئة دقات مطرقة. أصيبت جيل أيضًا بالصداع. نهضت وشقَّت طريقها بصعوبة — هكذا بدا الأمر — وسط الهواء الساخن وصولًا إلى خزانة المطبخ حيث احتفظت إيلسا بالمسكِّن. ذكَّرها الهواء الخانق بالمجاري. ولِمَ لا؟ فبينما كانت نائمة، لوَّثتُ حفاضتي، وملأتْ رائحتها الكريهة المنزل بمرور الوقت.

تناولتِ المسكِّن، ودفَّأت زجاجة لبن أخرى، ثم صعدت السلم. غيَّرتْ حفاضتي دون أن ترفعني من المهد. كانت الملاءة والحفاضة متسختين تمامًا. لم يُحدِث المسكِّن تأثيرًا بعد، وازداد الصداع حدة أثناء انحنائها. أزالت الأوساخ، ونظَّفت أجزاء جسمي الملتهبة، ووضعت لي حفاضة جديدة، ثم أخذت الحفاضة والملاءة المتسختين إلى دورة المياه لتنظِّفهما في المرحاض، فوضعتهما في الدلو المحتوي على المطهِّر، الذي امتلأ عن آخره بالفعل بسبب عدم غسل ملابس الطفلة كالمعتاد ذلك اليوم. وبعد ذلك، عادت إليَّ حاملةً الزجاجة. هدأتُ مرة أخرى كي أرتشف اللبن من الزجاجة، وكان من العجيب أن تظل لديَّ الطاقة لفعل ذلك، لكن هذا ما حدث؛ فقد تأخرتِ الرضعة أكثر من ساعة عن موعدها، وشعرتُ بجوع حقيقي يمكنني إضافته إلى شكاواي المتعددة؛ أو ربما هزم هذا الجوع كل تلك الشكاوى. انتهيت من شرب اللبن، وأنهيت الزجاجة، ثم غلبني النعاس نظرًا لما كنت أشعر به من إنهاك. وهذه المرة، استغرقتُ في النوم.

خفَّ الصداع الذي شعرتْ به جيل، فغسلت الحفاضات والقمصان والثياب والملاءات الخاصة بي، وهي تترنح. دعكتها وشطفتها، بل وغَلَت الحفاضات أيضًا كي لا أصاب بالطفح الجلدي الناتج عن ارتداء الحفاضات. عصرتها بيديها ونشرتها داخل المنزل؛ لأن اليوم التالي هو يوم الأحد، ولن ترغب إيلسا عند عودتها في رؤية أي شيء منشور بالخارج يوم الأحد. علاوةً على ذلك، فضَّلت جيل عدم الظهور بالخارج، لا سيما الآن وقد اشتدت حلكة الليل وخرج الناس للجلوس خارج منازلهم للاستمتاع بانخفاض درجة الحرارة؛ فقد خشيت من رؤية الجيران لها، بل ومن تحية آل شانتس الودودين لها أيضًا، بعدما سمعوه بالتأكيد اليوم.

مرَّ هذا اليوم ببطء شديد، استغرق وقتًا طويلًا كي ينتهي، ويخبو ضوء الشمس الكاسح، وتختفي الظلال الممتدة وتفسح الحرارة الشديدة المجال لبعض النسيم البارد اللطيف. وفجأة ظهرت مجموعات من النجوم في السماء، وبدت الأشجار وكأنها تزداد حجمًا كالسحب في السماء، وتضفي سلامًا على الأرجاء، لكن ذلك لم يستمر طويلًا، ولم تشعر به جيل. فقبل انتصاف الليل، علا صوت بكاء ضعيف. لم يكن بكاءً مترددًا، لكنه ضعيف على الأقل أو تجريبي، كأنني فقدت مهارتي بالرغم من ممارستي البكاء طوال اليوم، أو كأنني أتساءل عما إذا كان الأمر يستحق فعلًا ما أبذله من مجهود. لأنعم إذن ببعض الراحة، أو الاستجمام المزيف، أو الاستسلام، لكنني واصلت البكاء بعد ذلك بكل قوتي وعلى نحو معذِّب وبلا شفقة. كان ذلك عندما بدأت جيل في إعداد المزيد من القهوة لتتخلص من آثار الصداع التي لا تزال تشعر بها، وتصورت تلك المرة أنها قد تستطيع الجلوس إلى المائدة واحتساء القهوة.

وعند سماعها البكاء، أطفأت الموقد.

حان موعد احتساء زجاجة اللبن الأخيرة لذلك اليوم. وإن لم تتأخر الرضعة السابقة، لكنت مستعدة الآن لتناول هذه الرضعة. وربما أكون مستعدة بالفعل. وحين قامت جيل بتدفئة الزجاجة، فكَّرتْ في الحصول على المزيد من حبوب المسكِّن، ثم فكرت أن هذا قد لا يفي بالغرض وأنها بحاجة لشيء ما أقوى؛ لذا قصدت خزانة دورة المياه، لكنها لم تجد فيها سوى عقار بيبتو بيسمول، ومليِّنات، وبودرة للقدمين، وعقاقير لا تؤخذ إلا بإذن الطبيب ما كانت لتلمسها، لكنها كانت تعلم أن إيلسا تأخذ عقارًا قويًّا لآلام الطمث، فذهبت إلى غرفتها، وبحثت في أدراج مكتبها حتى وجدت زجاجة من حبوب تسكين الآلام فوق كومة من الفوط الصحية؛ الأمر الذي بدا منطقيًّا. كانت حبوبًا لا تؤخذ أيضًا إلا بأمر الطبيب، لكن الملصق الموجود عليها يشير إلى ما تُستخدَم لعلاجه بوضوح. أخذت حَبَّتين، وعادت إلى المطبخ لتجد الماء في الوعاء حول زجاجة اللبن قد بدأ في الغليان، وصار اللبن ساخنًا للغاية.

أمسكت بالزجاجة تحت مياه الصنبور لتبريدها، وصرخاتي تنزل عليها كضجيج الطيور الجارحة فوق نهر هائج. نظرتْ إلى حبَّتَي المسكِّن اللتين وضعتهما على الطاولة، وأخذت تفكر حتى توصلت في النهاية إلى فكرة معينة. أخرجت السكين، وكشطت جزءًا من إحدى الحبتين، ثم نزعت حلمة الزجاجة، والتقطت ما كشطته من حبة الدواء على نصل السكين، ونثرته كالتراب الأبيض فوق اللبن، ثم بلعت الحبة الأخرى وما تبقى من الحبة التي كشطتها، وصعدت بالزجاجة إلى أعلى. رفعت جسدي الجامد على الفور من المهد، ووضعت الحلمة في فمي المليء بالاتهامات. كان اللبن لا يزال دافئًا على نحو لم يَرُق لي. ومع أول رشفة، أخرجتُهُ من فمي، لكنني بعد ذلك أحببت مذاقه وقررت أن أبتلعه بالكامل.

•••

إيونا تصرخ. جيل تستيقظ من النوم وقد ملأت المنزل أشعة الشمس الحارقة وصرخات إيونا.

كان من المُخطَّط أن تزور إيلسا وإيونا وأمهما أقاربهم في مدينة جويلف حتى وقت متأخر من فترة بعد الظهيرة كي يتجنَّبن قيادة السيارة أثناء حرارة النهار، لكن ما حدث هو أن إيونا بعد تناول الفطور أخذت تثير ضجة؛ فقد أرادت العودة إلى المنزل من أجل الطفلة، وقالت إنها لم تستطع النوم طوال الليل من القلق. وكان من المحرج الاستمرار في الجدال معها أمام الأقارب؛ ومن ثم، استسلمت إيلسا لها، ووصل الثلاثة إلى المنزل في وقت متأخر من الصباح، وفتحن باب المنزل ليجدن الهدوء قد خيَّم عليه.

قالت إيلسا: «أفٍّ! هل هذه رائحة المنزل دومًا؟ أم أننا اعتدنا عليها لدرجة حالت دون ملاحظتنا لها؟»

مرَّت إيونا مطأطئة رأسها بجوارها، وصعدت السلم.

ودوَّت صرخاتها.

«ماتت! ماتت! قاتلة!»

لم تعلم شيئًا عن الحبوب، لماذا إذن تصرخ «قاتلة»؟! البطانية هي السبب؛ فقد رأتها تغطي رأسي؛ لذا، فإنها تتحدث عن اختناق، وليس تسمُّم. وفي أقل من نصف ثانية، تحول رد فعلها من «ماتت» إلى «قاتلة». يا له من تحول سريع! رفعتني من المهد وبطانية الموت ملفوفة حولي، ثم حملت هذه الصرة الملفوفة في البطانية ودفعتها نحو جسدها، ثم ركضت وهي تصرخ إلى خارج الغرفة لتدخل غرفة جيل.

استيقظت جيل بصعوبة — كأنها تحت تأثير مخدر — بعد اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة ساعة من النوم.

صرخت إيونا في وجهها: «لقد قتلتِ طفلتي.»

لم تصحِّح جيل ما قالته إيونا؛ فلم تَقُل لها «بل طفلتي.» مدَّت إيونا يدها التي تحملني إلى الأمام على نحوٍ اتهامي لتريني لجيل، لكن قبل أن تتمكن جيل من إلقاء أي نظرة عليَّ، انتزعتني إليها مجددًا. أنَّت إيونا وانحنت للأمام في ألم كأنها ضُرِبت بالرصاص في بطنها. ظلت تحملني بين يديها وهي تنزل متعثرةً على السلم حتى اصطدمت بإيلسا التي كانت في طريقها إلى أعلى. وكانت إيلسا في حالة ذهول تام؛ تعلَّقت بدرابزين السلم، ولم تنتبه لها إيونا؛ فيبدو أنها كانت تحاول دفع تلك الصرة — التي أنا بداخلها — في فجوة جديدة مخيفة وسط جسدها. وخرجت منها كلماتٌ وسط التأوهات المترتبة على إدراكها الحديث لما حدث.

«طفلتي. الحبيبة. العزيزة. آه. يا ويلتي! خنقتْكِ. بالغطاء. الطفلة. الشرطة!»

كانت جيل قد نامت بدون غطاء عليها ودون تغيير ملابسها وارتداء رداء النوم؛ ومن ثم، كانت لا تزال ترتدي السروال القصير والقميص عاري الظهر والذراعَيْن اللذين ارتدتهما بالأمس. ولما استيقظت، لم تكن متأكدة مما إذا كانت قد استيقظت من النوم ليلًا أم من قيلولة في وسط النهار. لم تكن متأكدة أيضًا من المكان الذي توجد فيه أو حتى أي يوم هو ذا. ماذا قالت إيونا؟ تلمَّست جيل طريقها من تحت غطاء صوفي دافئ، وهي ترى — دون أن تسمع — صرخات إيونا التي كانت أشبه بالومضات الحمراء أو العروق الساخنة في جفنَيْها. تعلَّقت برفاهية عدم الحاجة للفهم، لكنها أدركت حينذاك أنها فهمت ما يحدث، وأن كل ذلك يتعلق بي.

لكن جيل اعتقدت أن إيونا مخطئة؛ فقد وصلت إلى الجزء الخاطئ من الحلم؛ فهذا الجزء قد انقضى تمامًا.

والطفلة بخير. لقد اعتنت بها جيل. خرجت ووجدتها ودثَّرتها في مهدها. وكل شيء على ما يرام.

في الردهة أسفل السلم، أخذت إيونا تصيح بكل ما أوتيت من قوة ببعض الكلمات في عبارة كاملة: «لقد سحبَتِ الغطاء على رأس الطفلة بالكامل، وخنقَتْها.»

نزلت إيلسا من على السلم مستندة إلى الدرابزين.

وقالت لإيونا: «فلتنزليها! أنزليها من يديك!»

فحضنتني إيونا بقوة وتأوَّهت، ثم حملتني إلى الأمام لتريني لإيلسا، وقالت لها: «انظري! انظري!»

أشاحت إيلسا برأسها جانبًا، وقالت: «لن أنظر إليها.» فاقتربت منها إيونا لتدفعني في وجهها. كنت لا أزال ملفوفة بالكامل في الغطاء، لكن إيلسا لم تعلم ذلك، وإيونا لم تلاحظ أيضًا أو لم تهتم.

والآن، صارت إيلسا هي التي تصرخ. ركضتْ إلى الجانب الآخر من مائدة الطعام وهي تصرخ: «أنزليها من يديك، أنزليها! لن أنظر إلى الجثة!»

دخلت السيدة كيركم من المطبخ، وهي تقول: «ما خطبكما أيها الفتاتان؟ لا أستطيع تحمُّل ذلك.»

فقالت إيونا: «انظري.» تجاهلت إيلسا واستدارت حول المائدة لتريني إلى أمها.

بينما ذهبت إيلسا تجاه الهاتف في الردهة وأعطت عامل التشغيل رقم الدكتور شانتس.

فقالت السيدة كيركم وهي تزيح الغطاء بقوة: «يا إلهي، الطفلة!»

فقالت إيونا: «لقد خنقَتْها.»

وردَّت السيدة كيركم: «يا إلهي!»

تحدَّثت إيلسا مع الدكتور شانتس عبر الهاتف. قالت له بصوت مرتجف أن يحضر إلى المنزل على الفور. وبعد أن أنهت المكالمة، نظرت إلى إيونا، وأخذت تتنفس بسرعة شديدة لتستعيد توازنها، وقالت: «والآن، كفِّي عن الصراخ.»

فصرخت إيونا صرخة عالية في تحدٍّ، وركضت مبتعدةً عنها عبر الردهة وصولًا إلى غرفة المعيشة. كانت لا تزال متشبثة بي.

وظهرت جيل أعلى السلم، ولمحتها إيلسا.

وقالت لها: «انزلي هنا.»

لم تكن لديها أي فكرة عما ستفعله مع جيل أو ما ستقوله لها عند نزولها من أعلى. بدت وكأنها ترغب في صفعها، لكنها قالت: «لا فائدة الآن من أي تصرف هستيري.»

التفَّ قميص جيل جزئيًّا حول جسدها، وتدلَّى جزء كبير من أحد ثدييها منه.

قالت لها إيلسا: «هندمي نفسك. هل نمتِ بملابسك؟ تبدين مخمورة.»

شعرت جيل بأنها لا تزال تسير في ضوء الثلوج التي رأتها في حلمها، لكن هؤلاء المخبولات اقتحمن الحلم.

تمكنت إيلسا الآن من التفكير في بعض الأمور التي ينبغي فعلها. أيًّا كان ما حدث، فلن تكون هناك جريمة قتل؛ فالأطفال يموتون دون سبب أثناء النوم، فقد قرأت عن ذلك من قبل. ولن تكون هناك شرطة، أو تشريح؛ مجرد جنازة بسيطة هادئة وحزينة. لكن العقبة الوحيدة هي إيونا. يمكن أن يعطي الدكتور شانتس إيونا حقنة الآن لتنام، لكنه لن يستطيع إعطاءها حقنة كل يوم.

الحل إذن هو إيداع إيونا مستشفى مورسفيل؛ وهو مستشفًى للمجانين كان يُسمَّى في السابق مصحة الأمراض العقلية، وسيُسمَّى فيما بعد مستشفى الأمراض النفسية، ثم وحدة الصحة العقلية، لكن معظم الناس يطلقون عليه مورسفيل فقط، نسبةً إلى القرية القريبة منه.

كان الناس يقولون إن فلانًا سيذهب إلى مورسفيل، أو لقد أرسلوها إلى مورسفيل، أو استمري على هذا النحو وسوف ينتهي بك الحال في مورسفيل.

سبق لإيونا الذهاب إلى مورسفيل بالفعل، ويمكنها العودة إليه. يمكن للدكتور شانتس إيداعها وتركها هناك حتى يُبَتَّ في شأن إمكانية خروجها منه. سيُقال إنها تأثرت بوفاة الطفلة وسيطرت عليها الأوهام. وعندما يثبت ذلك، لن تمثل تهديدًا، ولن يلقي أحد بالًا لما تقوله. سوف يُقال إنها مصابة بانهيار عصبي، وفيما يبدو ربما يكون هذا هو ما حدث في الواقع؛ فربما تكون في طريقها للانهيار العصبي بالفعل، بالوضع في الاعتبار كل هذا الصراخ والركض في أرجاء المنزل. وربما لا تكون الحالة مؤقتة وتستمر معها، وربما لا يحدث ذلك، ولكن، تتوافر كافة أنواع العلاج الآن؛ سوف تهدِّئ الأدوية من روعها، وعلاج الصدمات أيضًا — إن كان الأفضل في علاجها — قد يساعد في محو بعض الذكريات. وهناك كذلك العمليات الجراحية التي تُجرَى عند الضرورة للأشخاص الذين يعانون من حالات عضال من الاضطراب والبؤس، لكنهم لا يجرون مثل هذه العمليات في مورسفيل، وإنما يرسلون المريض إلى المدينة.

وفي كل تلك الأمور، التي تبادرت إلى ذهنها في لحظة واحدة، ستعتمد إيلسا على الدكتور شانتس، وعلى عدم فضوله عند تقديم المساعدة ورغبته في أن تسير الأمور كما تريد، لكن ذلك ليس صعبًا على أي شخص يعلم ما مرَّت به في حياتها، وما بذلته في سبيل جعل تلك الأسرة جديرة بالاحترام، والمصائب التي تعرَّضت لها؛ بدءًا من أعمال أبيها المشبوهة واضطرابات أمها العقلية، وصولًا إلى انهيار إيونا العصبي في كلية التمريض وذهاب جورج إلى الحرب التي لقي فيها حتفه. فهل تستحق إيلسا التعرض لفضيحة أخرى؛ فضيحة تنشرها الصحف، ومحاكمة، وربما أيضًا إيداع زوجة أخيها السجن؟

سيستنكر الدكتور شانتس ويرى أنها لا تستحق ذلك؛ ليس فقط لأنه يستطيع عدَّ هذه الأسباب مما لاحظه باعتباره جارًا تربطه علاقات ودية مع الأسرة، وليس فقط لأن بإمكانه تقدير فكرة أن الناس الذين يعيشون بدون احترام يشعرون بالفتور في حياتهم آجلًا أو عاجلًا.

وإنما الأسباب التي دفعته لمساعدة إيلسا انعكست جميعها في صوته أثناء مجيئه راكضًا من الباب الخلفي في تلك اللحظة، عبر المطبخ، مناديًا اسمها.

قالت جيل التي صارت الآن أسفل السلم: «الطفلة بخير.»

فقالت لها إيلسا: «اصمتي تمامًا حتى أخبرك بما يتعين عليكِ قوله.»

وقفت السيدة كيركم في مدخل الباب بين المطبخ والردهة، في طريق الدكتور شانتس.

قالت له: «كم أنا سعيدة برؤيتك. إيلسا وإيونا غاضبتان ويتعاركان. وجدت إيونا طفلة على باب البيت، وتقول الآن إنها ميتة.»

أمسك الدكتور شانتس بالسيدة كيركم، وأزاحها جانبًا، وقال مجددًا: «إيلسا؟» ومدَّ ذراعيه أمامه، لكن انتهى به الحال واضعًا يديه بقوة على كتفيها.

خرجت إيونا من غرفة المعيشة خاوية الوفاض.

سألتها جيل: «ماذا فعلتِ بالطفلة؟»

فأجابتها إيونا بوقاحة: «خبأْتُها.» وعبست في وجهها على النحو الذي يعبس به شخص خائف ليتظاهر بالشر.

قالت إيلسا: «سوف يعطيكِ الدكتور شانتس حقنة؛ وسوف يضع ذلك حدًّا لتصرفاتك.»

تلا ذلك مشهد عبثيٌّ ركضت فيه إيونا في الأرجاء، مندفعةً نحو الباب الأمامي، وقفزت إيلسا لتقف في طريقها، ثم صعدت إيونا الدرج، وهناك أمسك بها الدكتور شانتس، وجعلها في قبضته ممسكًا بذراعيها وهو يقول: «والآن يا إيونا، فلتهدئي! ستصبحين بخير بعد قليل.» فصرخت إيونا، وتأوَّهت، ثم هدأت. الضجيج الذي أحدثَتْه، وانطلاقها في كل مكان، وجهودها للهرب؛ كل ذلك بدا مصطنعًا زائفًا. يبدو أنها — بالرغم من حيرتها وقلة حيلتها — رأت أن مجابهة إيلسا والدكتور شانتس تكاد تكون مستحيلة؛ ومن ثم لا يسعها سوى تدبُّر أمرها عن طريق هذه التمثيلية التهكمية، التي أوضحت أنها لا تجابههما على الإطلاق، وإنما تتداعى أمامهما. وربما كان هذا غرضها في الحقيقة. تداعت على نحو محرج وغير لائق على الإطلاق، ما جعل إيلسا تصرخ فيها: «ينبغي عليكِ الاشمئزاز من نفسك.»

وعند إعطائها الحقنة، قال الدكتور شانتس: «أحسنتِ يا إيونا! لقد انتهينا.»

وقال لإيلسا التي كانت تقف وراءه: «اعتنِ بأمك. دعيها تسترِح.»

مسحت السيدة كيركم دموعها بأصابعها. قالت لإيلسا: «أنا بخير يا عزيزتي. كنت أتمنى فقط ألا تتعاركا معًا، وكان عليكِ إخباري بأن إيونا قد أنجبت طفلة، كما كان عليكِ مساعدتها في الحفاظ على رضيعتها.»

دخلت السيدة شانتس — التي كانت حينها ترتدي كيمونو يابانيًّا فوق منامة صيفية — إلى المنزل من باب المطبخ.

وسألت: «هل الجميع بخير؟»

رأت في تلك اللحظة سكينًا على طاولة المطبخ، واعتقدت أنه من الحكمة إبعاده في أحد الأدراج؛ فعندما يكون هناك عراك، يكون السكين آخر شيء يود المرء رؤيته في المتناول.

وسط كل ذلك، اعتقدتْ جيل أنها سمعت صوت بكاء خافتًا، فنزلت السلم متعثرةً استنادًا على الدرابزين لتفادي إيونا والدكتور شانتس — وكانت قد ركضت، بعد أن نزلت، على الدرج في طريقها لأعلى عندما رأت إيونا تركض في الاتجاه نفسه — ثم جلست على الأرض. ولمَّا نهضت، عبرت البابين المزدوجين وصولًا إلى غرفة المعيشة، حيث لم تَرَ في البداية أي أثر لي، لكن البكاء الخافت تكرر، فاتبعت الصوت حتى وصلت إلى الأريكة، ونظرت تحتها.

وهناك وجدتني بجانب الكمان.

أثناء تلك الرحلة القصيرة من الردهة إلى غرفة المعيشة، تذكرت جيل كل شيء، فبدا الأمر وكأن أنفاسها توقفت، ولجم الرعب فمها، ثم عادت للحياة بومضة سعادة وفرح؛ وذلك عندما عثرت على الطفلة حية — كما حدث بالضبط في الحلم — وليست جثة صغيرة هامدة برأس متصلِّب. حملتني، ولم أصلِّب جسدي أو أركل بقدمي أو أحنِ ظهري، فلا أزال أغطُّ في نوم عميق بسبب المسكِّن الذي وُضِع في اللبن وأفقدني الوعي ليلة كاملة ونصف اليوم التالي، والذي لو زادت كميته — قليلًا — عما حصلتُ عليه، لقضى عليَّ تمامًا.

•••

لم يكن الغطاء هو السبب على الإطلاق؛ فلو ألقى أي أحد نظرة جادة عليه لرأى أنه خفيف للغاية وليس منسوجًا بغرز ضيقة تمنع عني الهواء الذي أحتاج إليه لأعيش؛ فكان يمكن التنفس عبر غُرزه على القدر نفسه من سهولة التنفس عبر شبكة صيد السمك.

لعل الإرهاق لعب دورًا في الحالة التي أُصبت بها، فربما يكون قضاء يوم كامل في الصياح، وكأنني أحاول إثبات ذاتي بغضب وصخب، قد أنهك قواي. هذا فضلًا عن المسحوق الأبيض الذي وُضع في اللبن الذي شربته، وأدخلني في سبات عميق لم أحرك فيه ساكنًا وجعلني أتنفس برقة شديدة دفعت إيونا لعدم ملاحظة أنفاسي. ولعل ما يتبادر إلى الذهن الآن هو أن إيونا كان من المفترض أن تلاحظ أن جسمي ليس باردًا، وأن كل هذا النواح والبكاء والركض من المفترض أن يعيدني إلى وعيي سريعًا، لكنني لا أعلم لماذا لم يحدث ذلك. أعتقد أن إيونا لم تلحظ ذلك بسبب هلعها، والحالة التي انتابتها حتى قبل أن تعثر عليَّ. أما سبب عدم بكائي في وقت مبكر عن ذلك، فأجهله، أو لعلني بكيت، لكن لم يسمعني أحد وسط الهرج والمرج الذي ساد المكان، أو لعل إيونا سمعتني، ونظرت إليَّ، ثم وضعتني تحت الأريكة؛ لأن بحلول هذا الوقت كان الاضطراب قد حدث بالفعل.

وبعد ذلك سمعتني جيل. كانت جيل هي من عثرت عليَّ وسمعت بكائي.

حُمِلتْ إيونا إلى نفس الأريكة، ونزعتْ إيلسا حذاءها للحفاظ على بياضات الأريكة المطرزة، وصعدت السيدة شانتس لأعلى لإحضار غطاء خفيف لوضعه عليها.

قالت: «أعلم أنها لا تحتاج إليه للتدفئة، لكنني أظن أنها ستشعر بتحسن عندما تجده عليها عندما تستيقظ.»

قبل كل ذلك، بالطبع، تجمَّع الجميع حولي للتأكد من أنني حية، ولامت إيلسا نفسها لعدم اكتشافها ذلك على الفور، وكرهت الاعتراف بأنها كانت خائفة من النظر إلى طفلة ميتة.

قالت: «لا بد أن عصبية إيونا أمر معدٍ. كان ينبغي عليَّ ملاحظة ذلك بالتأكيد.»

نظرت إلى جيل وكأنها على وشك إخبارها بأن تذهب وترتدي بلوزة فوق قميصها العاري، ثم تذكرت القسوة التي تحدَّثت بها معها، ولم يكن معها حق فيها كما اتضح بعد ذلك؛ ومن ثم، لم تَقُل لها أي شيء. لم تحاول حتى إقناع أمها بأن إيونا لم تنجب طفلة، لكنها قالت للسيدة شانتس بصوت خافت: «حسنًا، لعلها شائعة القرن.»

قالت السيدة كيركم: «إنني في قمة سعادتي لعدم حدوث أي كارثة؛ فقد اعتقدت للحظة أن إيونا قد تخلصت من الطفلة. حاولي ألا تلومي أختك يا إيلسا.»

فقالت لها إيلسا: «لن أفعل يا أمي. تعالَي لنجلس في المطبخ.»

كانت هناك زجاجة من اللبن معدَّة بالمطبخ، وكان من المفترض أن أتناولها في وقت مبكر من ذلك الصباح. وضعتها جيل على الموقد لتسخِّنها، وحملتني على ذراعها طوال الوقت.

بحثتْ على الفور عن السكين عند دخولها المطبخ، وتعجَّبت من عدم وجودها هناك، لكنها تمكنت من مسح الآثار الطفيفة للمسحوق المكشوط من حبة الدواء من على الطاولة؛ أو ظنَّت أنها مسحتها. مسحتها بيدها التي لا تحملني بها قبل أن تفتح الصنبور للحصول على الماء لتسخين الزجاجة.

شغلت السيدة شانتس نفسها بإعداد القهوة. وإلى أن تُعَدَّ، وضعت جهاز تعقيم الرضعات على الموقد، وغسلت زجاجات اللبن التي شربتها اليوم السابق. اتسمت باللباقة والكفاءة، وتمكنت من إخفاء حقيقة أن ثمة شيئًا ما في كل هذه الفوضى واضطراب المشاعر يجعلها تشعر بالسعادة والثقة.

قالت: «أظن أن إيونا مهووسة بالطفلة؛ وشيء كهذا كان لا بد أن يحدث.»

وباستدارتها عن الموقد لتوجِّه آخر هذه الكلمات إلى زوجها وإيلسا، رأت الدكتور شانتس وهو يُنزل يدَي إيلسا اللتين وضعتهما على جانبَي رأسها، ثم يبعد يديه سريعًا على نحو يوحي بشعوره بالذنب. ولو لم يفعل ذلك، لبدا الأمر وكأنه محاولة عادية لتهدئة إيلسا، الأمر الذي له الحق في فعله بالتأكيد بصفته طبيبًا.

قالت السيدة شانتس بتعاطف ودون توقف: «أظن يا إيلسا أن أمك ينبغي أن تنال قسطًا من الراحة أيضًا. سوف أذهب لإقناعها بذلك. فإن استطاعت أن تنام، فربما ستنسى كل ما حدث، وربما ستنساه إيونا أيضًا، إن حالفنا الحظ.»

خرجت السيدة كيركم من المطبخ بمجرد دخولها إليه، وعثرت عليها السيدة شانتس في غرفة المعيشة وهي تنظر إلى إيونا وتعبث بالغطاء لتتأكد من أنه يغطيها جيدًا. لم ترغب السيدة كيركم في النوم، وإنما أرادت تفسير ما حدث، فكانت تعلم أن تفسيراتها ليست سليمة بعض الشيء، وأرادت أن يتحدث معها الناس مثلما كانوا يفعلون من قبل، وليس بأسلوب رقيق ومُرضٍ للذات كما يفعلون الآن، لكن نظرًا لدماثة خلقها المعتادة، وعلمها بأنها لا سلطة لها في المنزل، سمحت للسيدة شانتس باصطحابها إلى الدور العلوي.

كانت جيل تقرأ إرشادات إعداد لبن الأطفال، التي كانت مطبوعة وموضوعة بجانب علبة شراب الذرة، وعندما سمعت صوت الخطوات الصاعدة على الدرج، جال بخاطرها أنها يجدر بها فعل شيء ما والفرصة سانحة أمامها؛ فحملتني إلى غرفة المعيشة، ووضعتني على أحد الكراسي.

وهمست إليَّ بثقة: «والآن، ابقَي هادئة.»

جثت على ركبتيها، وأخرجت الكمان برفق من مخبئه، ووجدت غطاءه وعلبته، ووضعتهما بعيدًا. وظللتُ هادئة — وربما لم أكن قادرة بعدُ على الاستدارة — وصامتة.

على الأرجح لم يستغل الدكتور شانتس وإيلسا فرصة تركهما وحدهما في المطبخ ليتعانقا، وإنما تبادلا النظرات فحسب؛ النظرات التي تدل على المعرفة، لكن دون وعود أو يأس.

•••

اعترفت إيونا أنها لم تجسَّ نبضي، ولم تدَّعِ قط أن جسدي كان باردًا، لكنها قالت إنها شعرت بأنني متيبسة، ثم قالت إنني لم أكن متيبسة وإنما ثقيلة؛ ثقيلة للغاية، ما جعلها تظن على الفور أنني ميتة. شعرتْ بوزني الثقيل وظنَّت أني ميتة.

أظن أن ثمة شيئًا ما في هذه القصة؛ فلا أعتقد أنني كنت ميتة أو أنني عدت للحياة بعد الموت، لكنني أظن أنني كنت في مكان بعيد، ربما كنت سأعود منه وربما لا. أظن أن النتيجة لم تكن مؤكدة، وأن الإرادة كان لها دور في ذلك؛ أعني أن الأمر عاد إليَّ فيما يتعلق بالطريق الذي اخترته في تلك اللحظة.

ولكن حب إيونا، الذي كان بلا شك أصدق صور الحب التي حظيتُ بها، لم يكن هو الدافع وراء قراري؛ فبكاؤها ودفعها لي نحو جسدها لم يُجدِ نفعًا، ولم يكن مقعنًا في النهاية؛ وذلك لأنها لم تكن إيونا التي كان سيقع عليها اختياري (هل كان من الممكن أنني علمت ذلك؟ هل كان من الممكن أنني علمت أن إيونا لن تكون الشخصية التي ستعود عليَّ بأكبر قدر من النفع في النهاية؟) لقد كانت جيل التي ستفعل ذلك. كان عليَّ اختيار جيل وما يمكنني الحصول عليه منها، حتى وإن كان أقل القليل.

أظن أنني في تلك اللحظة فقط أصبحت أنثى. أعلم أن هذا الأمر قد تقرَّر قبل ولادتي بفترة طويلة، وكان واضحًا للجميع منذ بداية حياتي، لكني أعتقد أنه فقط في اللحظة التي قررت فيها العودة، توقفتُ عن صراعي مع أمي (الصراع الذي كان بالتأكيد من أجل إخضاعها لي تمامًا)، وعندما فضَّلتُ النجاة على الانتصار (كان الموت سيصبح انتصارًا)، قَبِلتُ طبيعتي كأنثى.

قَبِلتْ جيل أيضًا طبيعتها كأنثى إلى حدٍّ ما. استعادت وعيها وشعرت بالامتنان، ولم يكن بمقدورها حتى التفكير فيما نجت منه لتوِّها؛ فبدأ حبها لي؛ لأن بديل هذا الحب كان كارثة.

•••

ساورت الدكتور شانتس بعض الشكوك، لكنه تغاضى عنها، فسأل جيل عن حالي في اليوم الماضي. وهل كنت صعبة الإرضاء أم لا، فأجابت بأنني كنت صعبة الإرضاء للغاية. فقال لها إن الأطفال الذين يُولدون قبل أوانهم، ولو بقليل، عرضة للصدمات؛ لذا، ينبغي التعامل معهم بحرص. وأوصاها بأن تجعلني أنام دومًا على ظهري.

لم تكن إيونا في حاجة للعلاج بالصدمات؛ فقد أعطاها الدكتور شانتس الحبوب المناسبة لحالتها، وقال إنها قد أرهقت نفسها للغاية في رعايتي. ولأن السيدة التي عُيِّنت مكانها في المخبز رغبت في ترك العمل — إذ لم تكن تحب العمل ليلًا — عادت إيونا للعمل بالمخبز.

•••

ما يلي هو أفضل ما أتذكَّره عن زياراتي الصيفية إلى عمَّتي عندما كنت في السادسة أو السابعة من عمري. كان يتم اصطحابي إلى المخبز في وقت غريب غير معتاد بمنتصف الليل، وهناك أشاهد إيونا وهي ترتدي قبعتها البيضاء ومئزرها الأبيض، وتعجن الكتلة الكبيرة البيضاء من العجينة التي يتغير شكلها وتظهر فيها الفقاقيع وكأنها كائن حي، ثم تقطِّع الكعك، وتقدِّم لي ما تبقى منه لأتناوله. وفي بعض المناسبات الخاصة، كنت أشاهدها وهي تعد كعكة الزفاف. كم كان هذا المطبخ منيرًا وساطعًا وقد خيَّم ظلام الليل على كل نوافذه! كنت أتناول فتات زينة الكعك من الوعاء؛ ذلك السكر الشهي الذي يذوب في الفم ولا يمكن مقاومته.

رأت إيلسا أنه لا ينبغي لي السهر لوقت متأخر من الليل، وألا آكل الكثير من هذه الحلوى، لكنها لم تفعل أي شيء حيال ذلك، بل تساءلت عن رأي أمي في ذلك، كما لو كانت جيل هي التي تعاني زيادة الوزن، وليست هي. كان لدى إيلسا بعض القواعد التي لم ألتزم بها في المنزل — مثل تعليق السترة، وشطف الكوب قبل تجفيفه حتى لا تظهر به أي بقع يختلف لونها عن لون الزجاج — لكنني لم أَرَ قط شخصيتها القاسية المزعجة التي كانت جيل تتذكرها.

لم يَقُل أحد أي شيء يدل على الاستخفاف فيما يتعلق بالموسيقى التي تعزفها جيل؛ فهي، في النهاية، تكسب قوت يومها منها. لم تهزمها مقطوعة ماندلسون في النهاية، وحصلت على شهادتها وتخرَّجت في معهد الموسيقى، وقصَّت شعرها، وقد صار خفيفًا، وتمكنت من تأجير منزل من طابقين بالقرب من حديقة هاي بارك في تورونتو، وتعيين امرأة للعناية بي بعض الوقت؛ نظرًا لأنها كانت تحصل على معاش أرملة محارب. وحصلت على وظيفة، بعد ذلك، في أوركسترا الإذاعة، وكانت فخورة بأنها عملت طوال حياتها موسيقية، ولم تضطر يومًا لممارسة مهنة التدريس. وكانت تقول إنها تعلم أنها ليست عازفة كمان عظيمة، وإنها لا تملك موهبة أو مستقبلًا مذهلًا، لكنها على الأقل يمكنها كسب قوتها بفعل ما تريده. وحتى بعد زواجها من زوجها الثاني، وبعد انتقالنا معه إلى إدمنتون (وكان يعمل جيولوجيًّا)، واصلت العزف في الأوركسترا السيمفوني هناك، وظلت تعزف حتى قبل ولادة أختيَّ غير الشقيقتين بأسبوع واحد. وقالت إنها كانت محظوظة؛ لأن زوجها لم يعارضها قط في ذلك.

أصيبت إيونا بنكستين أخريين؛ أشدهما عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، وأودعت مستشفى مورسفيل عدة أسابيع. وأظن أنها تعاطت الإنسولين هناك؛ وعادت ممتلئة الجسم وثرثارة. ذهبتُ لزيارة المنزل حين كانت هي في المستشفى، وصاحبتني جيل وأختي الصغيرة حديثة الولادة. وفهمت من الحديث الذي دار بين أمي وإيلسا أنه لم يكن مستحسنًا إحضار طفلة إلى المنزل لو أن إيونا كانت موجودة؛ فقد «يثيرها» ذلك. ولا أعلم ما إذا كان للسبب الذي جعلها تعود إلى مورسفيل أي علاقة بالأطفال.

شعرتُ بالإقصاء في تلك الزيارة؛ فكانت جيل وإيلسا تدخنان معًا، وتجلسان حتى وقت متأخر من الليل تحتسيان القهوة وتدخنان السجائر على مائدة المطبخ، أثناء انتظارهما موعد رضعة الطفلة الساعة الواحدة (أرضعتْ أمي تلك الطفلة من ثدييها؛ وشعرتُ بالسعادة لعلمي أنني لم أحصل على مثل هذه الوجبات الحميمية من ثديَي أمي). أتذكر نزولي الدرج عابسةً لعدم تمكني من النوم، ثم ثرثرتي وحديثي الجريء بعدم جدية وأنا أحاول فرض نفسي عليهما في محادثتهما، لكنني أدركت أنهما كانتا تتحدثان عن أشياء لا تودان سماعي لها. لقد صارتا صديقتين حميمتين على نحو غير مفهوم.

أمسكتُ بإحدى السجائر، فقالت أمي: «فلتذهبي الآن، واتركي هذه السجائر هنا. إننا نتحدث.» وطلبت مني إيلسا أن أحضر لنفسي مشروبًا من الثلاجة، مياهًا غازية أو جعة زنجبيل. ففعلت، وبدلًا من أن أصعد به إلى أعلى، ذهبت إلى الخارج.

جلستُ على عتبة المنزل الخلفية، لكن صوت السيدتين انخفض على الفور، ولم أتمكن من تبيُّن أي شيء من أصواتهما المنخفضة النادمة أو المطمئِنة؛ ومن ثم، ذهبت للتجول في الفناء الخلفي، متجاوزةً بقعة الضوء التي انعكست من الباب الشبكي.

المنزل الأبيض العالي، ذو الزوايا المشيدة بقوالب الزجاج يسكنه الآن أشخاص آخرون. انتقل آل شانتس بعيدًا ليعيشا على الدوام في فلوريدا، وكانا يرسلان لعمتي برتقالًا قالت عنه إيلسا إنه سيجعلني أشعر بالتقزز من البرتقال الذي نشتريه في كندا. حفر السكان الجدد للمنزل حمام سباحة استخدمتْهُ في أغلب الأحيان الابنتان المراهقتان الجميلتان — اللتان كانتا تنظران إليَّ مباشرةً عند مقابلتي لهما في الشارع — وصديقاهما الشابان. نمت بعض الشجيرات عاليًا بين فناء منزل عمتي وفناء هذا المنزل، لكن ظل بإمكاني مشاهدتهم وسماع صيحاتهم وهم يركضون حول الحمام ويدفعون بعضهم بعضًا فيه لتتناثر المياه عاليًا. ازدريت هزلهم؛ لأنني كنت آخذ الحياة بجدية ولدي مفهوم أكثر سموًّا ورقة للرومانسية، لكنني تمنيت لفت انتباههم كما يفعلون، وأن يرى أحدهم المنامة الباهتة التي أرتديها وهي تتحرك في الظلام، ويصرخ بجدية معتقدًا أنني شبح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤