في مشهد الكائنات

جمالك يا وجه الفضاء عجيب

جمالُكَ يا وجهَ الفضاء عجيبُ
وصدرك يأبى الانتهاءَ رحيبُ
وعينُك في أم النجوم كبيرة
تضيء على أن الضياء لهيب١
وما زلتَ تغضيها فنخطئ قصدَنا
وتفتحها براقةً فنصيب٢
فيحمرُّ منها في الغديَّة مَطلعٌ
ويصفرُّ منها في العشيِّ مَغِيب
ويخلفها البدر المنير حفيدُها
وعنها إذا جَنَّ الظلام ينوب٣
وليلٍ كأن البدر فيه مَليحة
أغازلها والنَّيِّراتُ رقيب
سريتُ به والبحرُ رَهوٌ بجانبي
وردنُ النسيم الغضُّ فيه رطيب٤
فشاهدت فيه الحسن أزهرَ مشرقًا
له في العُلا وجهٌ أغرُّ مهِيب
ورحتُ وأهلُ الحيِّ في قبضة الكرَى
وفي الليل صمتٌ بالسكون مشوب٥
فكنت كأني أسمع الصمت ساريًا
له بين أحشاءِ الفضاءِ دبيب٦
ولو أنَّ صمتَ الليل لم يكُ مطربًا
لما هزَّ أعطافَ النسيم هبوب

•••

ألا إنَّ وجه البحر بالنُّور ضاحكٌ
طليق وثغر الماءِ فيه شنيب٧
ترقرق منسابًا به الماءُ والسنا
فلم أدرِ أيُّ اللامعين يسيب؟٨
وللبدر نورٌ يمنح البحرَ رونقًا
فيبدو كأن الماءَ فيه ضريب٩
إذا جمَّش البحرَ النسيمُ تهللت
أساريرُ فيها للضياء وثوب١٠
وقفتُ ولألاءُ المنى يستخفني
فتطرب نفسي والكريم طروب

•••

أردِّد بين البدر والبحر ناظري
فيصعد طرفي مرة ويصوب
تأمَّلت في حسن العوالم مَوهنًا
فجاش بصدري الشعرُ وهو نسيب١١
كأني وعُلويَّ العوالم عاشق
أطلَّ من الأعلى عليه حبيب
فقام له مُستشرفًا ويمينه
تشدُّ ضلوعًا تحتهنَّ وجيب١٢
ولما رأيت الكون في الأصل واحدًا
عجبتُ؛ لأن الخلق فيه ضروبُ
ألا إن بطنًا واحدًا أنتج الورى
كثيرين في أخلاقهم لرغيبُ١٣
وإنَّ فضاء شاسعًا قد تضاربت
بأبعاده أيدي القُوى لرهيبُ
وإن اختلاف الآدميين سِيرَةً
وهم قد تساووا صُورة لعجيب
وأعجب ما في الكائنات ابن آدم
فما غيره في الكائنات مُريب
يذمِّمم فعلَ السوءِ وهو حليفه
ويحمد قول الصدق وهو كذوب

•••

رأيتُ الورى كلًّا يراقب غيرَه
فكلٌّ عليه من سواه رقيب
ومن أجل هذا قد ترى كلَّ فاعل
إلى الناس في كلِّ الفعال يُنيب١٤
فكم حَملٍ في مجمع القَوم يُتَّقى
به ثعلب عند الخلاءِ وذيب١٥
ولو باح كل بالذي هو كاتم
لما كان في هذا الأنام أديب
وليس يجدُّ المرءُ إلا تكلفًا
وذاك لأن الطبع فيه لعوب
ويجتنب المرءُ العيوبَ؛ لأنها
لدى عائبيه لا لديه عيوب
رياء قديم في الورى شَقِيت به
قبائل منهم جمَّةٌ وشعوب
ورُبَّةَ أخلاقٍ يراها خبيثة
أناس وعند الآخرين تطيبُ
وحِلم الفتى عند الضعيف فضيلة
ولكنَّه عند القويِّ مَعيب

•••

وقد يفتري المالُ الفضائل للورى
وليس لهم ممَّا افتراه نصيب١٦
وللفقر بين الناس وجهٌ تبيَّنتْ
بهِ حسنات المرء وهي ذنوب
لقد أحجم المثرِي فسمَّوه حازمًا
وأحجم ذو فقر فقيل: هيوب
وإن يتواضع معدم فهو صاغر
وإن يتواضع ذو الغنى فنجيب
وذو العُدم ثرثار بكثر كلامه
وذو الوجد مِنطيق به ولبيبُ
وللناس عادات كثير تقودهم
فكل امرئ منهم لهنَّ جنيب
وهنَّ إذا ما يأكلون أكيلُهم
وهنَّ إذا ما يشربون شَريب
أبَوْا أن يحيدوا ضِلَّةً عن طريقها
وإن مسَّهم من أجلهنَّ لغوب
هي الداء أعيا الأوَّلين فهل له
على عُقمه في الآخرين طبيب؟
١  لما أثبت للفضاء وجهًا وصدرًا في البيت الأول، ناسب أن يعبر عن الشمس التي في الفضاء بقوله: وعينك، العين لفظ مشترك بين الشمس والباصرة. أم النجوم: المجرة، و«على» في البيت للمصاحبة بمعنى مع.
٢  يقال: أغضى الرجل عينه: أي طبق جفنيها، والضمير من تغضيها عائد إلى العين التي هي بمعنى الشمس في البيت المتقدم، وأراد بإغضائها إخفاءها عند الغروب.
٣  الحفيد: ولد الولد، وجعل البدر حفيدًا للشمس؛ لأنه منفصل عن الأرض المنفصلة عن الشمس، فهو منها بمنزلة ولد الولد.
٤  سريت به: أي فيه. رهو: أي ساكن.
٥  معنى أنهم في قبضة الكرى: هو أن النوم قد استولى عليهم؛ أي: هم نائمون، وأراد بالصمت عدم الصوت، وبالسكون عدم الحركة، ومعنى كون الصمت مشوبًا — أي: مخلوطًا بالسكون — أنه ليس هناك صوت ولا حركة.
٦  أراد بقوله: أسمع الصمت؛ أي أدركه بواسطة السمع، وذلك أن المرء إذا أصاخ في الليل فلم يسمع صوتًا ولا حركة، أدرك أن في الليل صمتًا، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الصمت ليس بعدم محض، وإنما هو عدم الصوت أو الكلام، فبهذا تبين لك معنى قوله: أسمع الصمت.
٧  يقال: ثغر شنيب، أي: فيه شنب، وهو ماء ورقة في الأسنان.
٨  ترقرق: أي جرى جريًا سهلًا. ومنسابًا: أي متدافعًا في جريه. والسنا: النور. يسيب: يجري ذاهبًا كل مذهب.
٩  يمنح: يعطي. ورونقًا: أي حسنًا وإشراقًا. والضريب: الجليد والصقيع.
١٠  التجميش: الملاعبة، يقال: جمش الجارية إذا لاعبها وداعبها بالقرص ونحوه. وتهللت: تلألأت. والأسارير: الخطوط التي تكون في جبهة الإنسان، شبه خطوط الأمواج الصغيرة بخطوط الوجه؛ أي بالأسارير، وقال: إنها تتلألأ بسبب ملاعبة النسيم للبحر، فتلوح أشعة النور متواثبة بين تلك الأسارير.
١١  الموهن: وقت الوهن من الليل، ويكون نحو نصف الليل، وهو في البيت منصوب على الظرفية. وجاش: بمعنى هاج. والنسيب: هو الشعر الرقيق في النساء.
١٢  مستشرفًا: أي منتصبًا رافعًا بصره باسطًا كفَّه فوق حاجبيه كالمستظلِّ، وكذلك يفعل الناظر إذا نظر إلى شيء مرتفع أو بعيد. والوجيب: خفقان القلب واضطرابه.
١٣  رغيب: أي واسع، يقال: هو رغيب البطن؛ أي واسع الجوف.
١٤  ينيب: يرجع، أي لما كان كل من الناس رقيبًا على غيره مترصدًا لسواه، صار كل واحد منهم ينيب في أفعاله إلى الناس؛ ليدفع عنه بذلك سوء ظنهم به، ومن هنا نشأ فيهم الرياء والتمويه، كما فسر ذلك في البيت الذي يليه.
١٥  الباء في قوله: يتقى به: للسببية أو للتجريد؛ مثلها في قولك: لقيت بزيد أسدًا.
١٦  يفتري المال الفضائل: أي يختلقها، فكأنه جعل فضائل الأغنياء كذبًا محضًا تفتريه أموالهم. ومعنى قوله: «وليس له مما افتراه نصيب» أنهم براء من هذا الافتراء؛ إذ ليس لهم نصيب من الفضائل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤