معترك الحياة

هو الدهر لم يترك مشنَّ غوارِه
على سابق من ليله أو نهارهِ١
يثير غبار الحادثات بكرِّه
وهل نحن إلا من مُثار غباره؟!
وكم عبر مطويةٍ في صروفه!
فهل من مُجيلٍ فيه طرف اعتباره؟
خليليَّ إنَّ الأرض غربال قدرة
تجمعت الأحياء بين إطاره٢
تميد به كفُّ الزمان تحرُّكًا
لمحو ضعيف أو لإثبات فاره٣
فيبقى به الأقوى قرينَ ارتقائه
كما يسقط الأوهى رهين اندثاره٤
فلا عيش في الدنيا لمن لم يكن بها
قديرًا على دفع الأذى والمكاره

•••

لعمرك ما هذي الحياة بملبس
لمن حيك من عجز نسيجُ شعاره
ولكن لمن أمسى بأيدٍ وقوَّةٍ
يجرُّ على الأيام فضل إزاره٥
أرى الشمس تُخفي ضوءها كل شارق
وإن كان ينبو الطرف عن مستناره
وما ذاك إلا أنها في تلهُّبٍ
يموج بنور ساطع وَقْدُ ناره
فلم يستطع نجمٌ طلوعًا تجاهها
إذا لم يعُد بالليل غبَّ اعتكاره
كذاك ضعيف القوم إن كان جارُه
قويًّا يكن شِلوًا أَكيلًا لجاره٦
وما الليث لولا بأسه في عرينه
بأشرفَ من ضَبِّ الفلا في وِجاره
ومن غاور الأيام غير مدجَّجٍ
فلا يطمَعَنْ في مغنمٍ من مُغاره٧
ومن لم يُهِن صرفَ الزمان برحلةٍ
تُهنه صروفُ الدهر في عُقر داره٨
وما شرَّف الدر الثمين فريدهُ
إذا هو لم يبرح بطونَ مَحارهِ٩

•••

أرى كلَّ ذي فقر لدى ذي غِنًى
أجيرًا له مستخدمًا في عقاره١٠
ولم يُعطه إلا اليسير وإنما
على كدِّهِ قامت صروح يساره
ويلبس من تَذليله العز ضافيًا
وينظره شزرًا بعين احتقاره
يشُدُّ الغنى أزْرَ الفتى في حياته
وما الفقر إلا مكْسر في فَقاره
وليس الغنى إلا غِنى العلم إنه
لَنورُ الفتى يجلو ظلام افتقاره١١
ولا تحسبَنَّ العلمَ في الناس منجيًا
إذا نَكَّبت أخلاقهم عن منارهِ
وما العلم إلا النور يجلو دجى العمى
ولكن تزيغُ العين عند انكساره١٢
فما فاسد الأخلاق بالعلم مفلحًا
وإن كان بحرًا زاخرًا من بحاره

•••

سل الفلك الدوَّارَ عن حركاتهِ
فهل هو فيها دائر باختيارهِ؟
وهل هو في هذا الفضاء مسافر
له غاية مقصودة من سفاره؟
وهَبْنا جهلنا بدأه من تقادمٍ
فهل يدرك العقل انتهاء مدارهِ؟
متى ينجلي ليل الشكوك عن النُهى
وترفع كفُّ العلم مرخَى ستاره؟
ألا ورْيَ في زند الزمان فنهتدي
بسقط ضئيل من سقيطِ شراره؟
أرى الدهر ليلًا كله غير مبصرِ
وإن كان في رأد الضحى من نهاره
وأهليه ساروا خابطين ظلامَه
وإن ركبوا في السير متن بخاره
لعمرك إن الدهر يجري لغاية
فإن شئت أن تحيا سعيدًا فجارهِ
وها هو ذا يعدو فيبتدر المدى
وينهب أعمار الورى في ابتداره
لقد فاز من بارى جديديه جدَّةً
وخاب الذي في جدِّهِ لم يُبارهِ
وليست حياة الناس إلا تجدُّدًا
مع الدهر في إيباسه واخضراره
وما الناس إلا الماء يُحييه جريُه
ويرديه مُكثٌ دائمٌ في قرارهِ

•••

لك الخير هل للشرق يقظةُ ناهض
فقد طال نوم القوم بين دياره؟
ألم ترَ أنَّ الغرب أَصْلتَ سيفَه
عليهم وهم لاهون تحت غراره؟!
وبادرهم كالسيل عند انحداره
وهم في مهاوي غفلةٍ عن بداره
أما آن للساهين أن يأبهوا له
وقد أصبحوا في قبضة من إساره١٣
تراهم جميعًا بين حَيْوانَ واجمٍ
وآخر يُطري ماضيًا من فخاره١٤
١  الغوار: كالإغارة، مصدر غاور العدو إذا أغار عليهم. ومشن: مصدر ميمي بمعنى الشن، وشن الغارة: تفريقها وصبها من كل جهة. يقول: إن الدهر لا يقعد عن شن الإغارة بحوادثه المتتالية، وهو على جوادين سابقين، هما: الليل والنهار.
٢  يشير بهذا والذي بعده إلى قانون الاصطفاء الطبيعي، وهو قانون بقاء الأنسب، فهو يعمل عمله في الأرض الدائرة حول الشمس، فيضمحل في أثناء دورانها الضعيف من المخلوقات، ويبقى بها القوي القادر على دفع كل ما يقاوم حياته فيها، فهي في ذلك بمنزلة الغربال، الذي يسقط عند تحريكه كل دقيق صغير، ويبقى فيه ما هو كبير. وإطار الغربال: اللوح المحيط به.
٣  تميد به: أي تدور به وتتحرك. والفاره: المليح النشيط، والمراد به هنا: ما يقابل الضعيف، وهو القوي.
٤  الأوهى: الأضعف، وهو مقابل للأقوى في الشطر الأول.
٥  بأيد: أي بقوة، فعطف القوة عليه من قبل عطف التفسير، والباء هنا للمصاحبة، وقوله: يجر على الأيام فضل إزاره: كناية عن القوة والقدرة؛ لأن جر فضل الإزار إنما هو فعل الجبابرة والأغنياء، فكأنه يقول لمن أمسى قويًّا ذا قدرة وعظمة.
٦  ضرب في الأبيات المتقدمة مثلًا لتغلب القوي على الضعيف، بما ذكر من الشمس التي لا تستطيع النجوم طلوعًا تجاهها، فلا تطلع إلا إذا غابت الشمس واعتكر الظلام، ثم قال: وكذلك ضعيف القوم إن جاور القوي كان مغلوبًا له، والشلو: العضو من اللحم.
٧  المدجج: اللابس السلاح.
٨  عقر الدار: وسطها، أي: من لم يرحل لدفع نوائب الدهر عنه، نابته تلك النوائب وهو في وسط داره.
٩  المحار: الصدف الذي يكون فيه اللؤلؤ، واحده: محارة.
١٠  ينتصر بهذا البيت وما بعده لمذهب الاشتراكية، حيث ذكر منزلة الفقير تجاه الغني، وعيش الثاني من كد الأول.
١١  يشير بهذه الأبيات إلى أن الغنى الحقيقي هو غنى العلم لا المال، وأن العلم لا يجدي نفعًا إذا لم يقترن بالأخلاق الفاضلة.
١٢  العلم يشبه بالنور من جهة أنه يجلو ظلام العمى، أي: الجهل، كما أن النور يجلو ظلام الليل، وكذلك يشبه النور من جهة أنه إذا لم يقترن بالأخلاق الفاضلة يؤدي بصاحبه إلى الزيغ عن الهدى، كما أن النور إذا انكسر شعاعه عند نفوذه في الأجسام الشفافة كالهواء والماء تزوغ عين الرائي، أي: تنحرف بسبب انكساره عن رؤية المرئي كما هو في نفس الأمر، وتحرير المعنى أن العلم إذا لم يقترن بالأخلاق الفاضلة يكون كالنور المنكسر، الذي يزوغ به البشر عن إدراك حقيقة المرئي كما هي.
١٣  أن يأبهوا له: أي أن يفطنوا له.
١٤  واجم: أي ساكت لشدة حزن أو غم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤