لبنان

ولع لبنان بالرصافي، فسارت قصائد شاعر العراق على ألسنة اللبنانيين، وولع الرصافي بلبنان، فجاءته قريحته بقصائد صافية العاطفة كسماء هذه الربوع، عذبة كمائها، عليلة كهوائها، وإلى القراء إحدى فرائد الرصافي بلبنان (الأحرار – بيروت في ٢٦ آب سنة ١٩٣١):

أرى الحسنَ في لبنان أينعَ غرسُهُ
وقارب حتى أمكن الكفَّ لمسُهُ
إذا ما رأته عينُ ذي اللُّبِّ مشرقًا
تنزَّت به في مدرَجِ الحبِّ نفسه
زكا مَغرِسًا فالذامُ ليس يؤمُّه
وطاب جَنًى فالسوء ليس يمسُّه١
قسا صخره لكن تفجَّر ماؤه
فلانَ بكفِّ العيش منه مَجسُّه
لقد لبس الجوَّ اللطيفَ فزانه
بما فيه من غُرِّ المحاسن لِبسه
ففي الليل لم يزعجك برد نسيمه
وفي الظهر لم تلفحك بالحر شمسه
وقد عُبِّدَت للسالكين طريقه
وحُرِّر أهلوه وبورك أُنْسُه
فمن كان في طُرْق التواصل عَثرةً
فقد جاز في شرع المحبة دعْسُه
تضيء نجومُ السعد واليُمن فوقه
فينجاب شؤمُ الدهر عنه ونحسه
ويهمس في أذن الطبيعة جوُّه
فينضحها فوق الرُّبا الخضر همسهُ
كأنَّ النسيم الطلق بين جِنانه
غناء حبيب يطربُ النفس جَرسهُ
كأن جبال المتن حَدبة عابدٍ
هوى ساجدًا شكرًا وبيروتُ رأسهُ
فقال عن الأضواء في جوف ليله
ببيروتَ إذ يغشى من الليل دَمسهُ
تزوَّج صنِّين الفتى بنتَ جاره
فأضواء بيروتَ الوسيطة عِرْسُه
ونبْع الصفا والقاع فيه كلاهما
من الحسن ملأى بالبدائع كأسهُ
جرى الماء في واديهما متدفقًا
بأنشودة الإطراب تنطق خُرسه
وإن تزُرِ الشَّاغورَ يومًا تَجِدْ به
من الحُسْنِ ما قد خُصَّ بالفضلِ جنسُه
جرى ماؤه العذب الزلالُ محاكيًا
به الماس صفْوًا أو هو الماس نفسه
ترى طبع واديه رءُوفًا بأهله
شديدًا على ما يزعج النفسَ بأسهُ
فمن زاره مستوحشًا فهو أنسه
ومن جاءه مستنزهًا فهو قُدسه
فيا لائمي في حبِّ لبنان إنني
أحسُّ لعمري منه ما لا تحسه
إذا كان لبنان كلَيْلَى مَحاسنًا
فلا تعجبوا من أنني اليوم قَيْسهُ
وإن تحمدوا منه الأيادي، فإنني
أنا اليوم من بعد الأياديِّ قِسُّهُ٢
عجبت لمدفون به بعد موته
ولم ينتفض حيًّا وينشقُّ رَمسه
فمن لم يزره وهو ربُّ استطاعة
تحتَّم في سجْنِ الحماقة حبسه
ومن زاره مستشفيًا زاره الشفا
وإن كان قبلًا يائسًا منه نطسهُ٣
ولو جاءه مَن فيه مَسٌّ وجِنَّة
لما حلَّه إلا وقد زال مَسُّهُ
وما حلَّه مستوحشُ النفس واجمٌ
من الناس إلا تمَّ بالضحك أنسهُ
محل اصطياف الأغنياء من الورى
يعيش عزيزًا فيه من ذلَّ فلسهُ
فمن يبذل الدينار فيما يريده
فمأواه محمودٌ وإلا فعكسهُ
كمثل الذي لا تصرف الفَلسَ كفه
ولو كان دون الفلسِ يُقلَعُ ضرسهُ
كتبت كتاب المدح في وصف حسنه
فضاق ولم يستوعبِ الوصف طِرسهُ
فما كل ما قالت به شعراؤه
سوى ثلث ما يحويه بل هو خُمسهُ
ألا إن في لبنان جوًّا مروَّقًا
إذا ما شفى المسلول لم يخشَ نكسهُ
١  الذام: العيب.
٢  قس بن ساعدة الإيادي خطيب جاهلي مشهورٌ وحكيم.
٣  النُّطس: الأطباء الحذاق المدققون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤