السجن في بغداد

سكنَّا ولم يسكن حَراكُ التبدُّدِ
مواطن فيها اليوم أيمنُ من غدِ١
عفا رسمُ مغنى العزِّ منها كما عفت
«لخولة أطلال ببرقة ثهمد»٢
بلادٌ أناخ الذلُّ فيها بكلكلٍ
على كل مفتول السَّباليْنِ أصيدِ٣
معاهدُ عنها ضلَّ سابق عزها
فهل هو من بعد الضلالة مُهتد؟
أحاطت بها الأرزاء من كل جانبِ
إلى أن محتها معهدًا بعد معهد٤
وحلَّق في آفاقها الجور بازيًا
مُطلًّا عليها صائتًا بالتهدُّد٥
وينقضُّ أحيانًا عليها فتارة
يروح وفي بعض الأحايين يغتدي
فيخطف أشلاءً من القوم حيَّة
ولم يَقُدِ المقتولَ منها ولم يَدِ٦
ويرمي بها في قعر أظلمَ مُوحش
به أين تسقطْ جذوة الروح تُخْمَد٧
هو السجن ما أدراك ما السجن! إنه
جلاد البلايا في مضيق التجلد
بناءٌ محيطٌ بالتعاسة والشقا
لظلم بريءٍ أو عقوبة معتدِ

•••

زر السجن في بغداد زوْرةَ راحمٍ
لتشهدَ للأنكاد أفجعَ مشهدِ٨
محلٌّ به تهفو القلوب من الأسى
فإن زرته فاربطْ على القلب باليدِ٩
مربَّعُ سور قد أحاط بمثله
محيط بأعلى منه شِيدَ بقَرمدِ١٠
وقد وصلوا ما بين ثانٍ وثالثِ
بمعقود سقف بالصخور مُشيَّدِ
وفي ثالث الأسوار تشجيك ساحةٌ
تمور بتيَّارٍ من الخسف مُزبدِ١١
ومن وسط السور الشماليِّ تنتهي
إليها بمسدودِ الرِّتاجين مُوصدِ١٢
هي الساحة النكراء فيها تلاعبت
مخاريق ضيم تخلط الجِدَّ بالدَّدِ١٣
ثلاثون مترًا في جدار يحيطها
بسمكٍ زُهاءَ العشر في الجو مصعدِ
تواصلت الأحزان في جنباتها
بحيث متى يَبلَ الأسى يتجدَّد
تصعَّد من جوف المراحيض فوقها
بخارٌ إذا تمرُرْ به الريح تفسد
هناك يودُّ المرءُ لو قاءَ نفسَه
وأطلقها من أسْرِ عيشٍ مُنكَّدِ١٤
فقف وسطها وانظر حواليك دائرًا
إلى حُجَرٍ قامت على كل مقعد
مقابر بالأحياء غصَّت لحودها
بخمس مئينٍ أنفس أو بأزيدِ
وقد عميت منها النوافذ والكوى
فلم تكتحل من ضوء شمس بمرْود١٥
تظنُّ إذا صدرَ النهار دخلتها
كأنك في قِطع من الليل أسود
فلو كان للعُبَّاد فيها إقامةٌ
لصلَّوا بها ظهرًا صلاة التهجُّد١٦
يزور هبوبُ الريح إلا فِناءَها
فلم تحظَ من وصل النسيم بموعد١٧
تضيق بها الأنفاس حتى كأنما
على كل حيزوم صفائح جلْمَد١٨
وحتى كأن القومَ شُدَّت رقابهم
بحبل اختناق محكم الفتل مُحصدِ١٩

•••

بها كل مخطوم الخُشام مذلَّل
متى قيد مجرورًا إلى الضَّيم يَنْقدِ٢٠
يَبيت بها والهمُّ مِلءُ إهابه
بليلة مَنْبول الحشا غير مُقْصَدِ٢١
يُميت بمكذوب العزاء نهارَه
ويحيي الليالي غير نومٍ مُشرَّدِ
ينوءُ بأعباء الهوان مقيَّدًا
ويكفيه أنْ لو كان غيرَ مُقيدِ٢٢
وتقذفهم تلك القبورُ بضغطها
عليهم لحرِّ الساحة المتوقدِ
فيرجع بعضٌ من حصير ظلالة
ويجلس فيها جلسة المتعبِّد
وليست تقيه الحر إلا تعلَّة
لنفس خلت من صبرها المتبدد٢٣
وبالثوب بعض يستظل وبعضهم
بنسج لعاب الشمس في القيظ يرتدي٢٤
فمن كان منهم بالحصير مظلَّلًا
يعدُّونه ربَّ الطراف الممدد٢٥
تراهم نهار الصيف سُفعًا كأنهم
أثافيُّ أصلاها الطُّهاة بموقَد٢٦
وجوه عليها للشحوب ملامح
«تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد»٢٧
وقد عمَّهم قيد التعاسة موثقًا
فلم يتميز مطلق عن مقيد
فسيدهم في عيشه مثل خادم
وخادمهم في ذُلِّه مثل سيِّد
يخوضون في مستنقعٍ من روائح
خبائث مهما يزددِ الحر تزدد
تدور رءوس القوم من شمِّ نُتنها
فمن يك منهم عادم الشم يُحسد
تراهم سُكارى في العذاب وما هُمُ
سُكارى ولكن من عذاب مشدَّدِ
وتحسبهم دودًا يعيش بحمأةٍ
وما هو من دودٍ بها متولِّد٢٨
ألا رُبَّ حُرٍّ شاهد الحكم جائرًا
يقود بنا قوْدَ الذلول المعبَّد٢٩
فقال ولم يجهر ونحن بمنتدى
به غيرُ مأمون الوشاية ينتدي:٣٠
على أيِّ حكم أو لأية حكمةٍ
ببغداد ضاع الحق من غير منشدِ؟!٣١
فأدنيت لِلنَّجوى فمي نحو سمعه
وقلت: لأن العدل لم يتبغددِ٣٢
رعى اللَّه حيًّا مستباحًا كأنه
من الذعر أسراب النعام المطَرَّدِ٣٣
وما صاحب البيت الحقير بناؤه
بأفزع من رب البلاط الممردِ٣٤
وما ذاك إلا أنهم قد تخاذلوا
ولم ينهضوا للخصم نهضة مُلبدِ٣٥
فناموا عن الجلَّى ونمت كنومهم
سوى نوْحةٍ مني بشعر مغرِّدِ٣٦
وهل أنا إلَّا من أولئك إن مشوا
مشيت وإن يقعد أولئك أقعدِ؟
وكم رُمْتُ إيقاظًا فأعيا هبوبهم!
وكيف وعزم القوم شارب مُرقدِ؟!٣٧
نهوضًا نهوضًا أيها القوم للعُلا
لتبنوا لكم بنيان مجد موطَّدِ
تقدَّمنا قوم فأبعد شوطهم
وقد كان عنا شوطهم غير مُبعدِ
وسدَّ علينا الاعتساف طريقَنا
فأجحف بالغوريِّ والمتنجِّدِ٣٨
أفي كل يوم يَزْحَفُ الدهر نحونا
بجندٍ من الخطب الجليل مجنَّدِ
فيا ربِّ نفِّسْ من كروبٍ عظيمة
ويا ربِّ خفِّفْ من عذابٍ مشدَّدِ
١  التبدد: التفرق. أيمن: أسعد.
٢  عفا: امَّحى. الرسم: ما كان لاحقًا بالأرض من آثار الديار. المغنى: المنزل الذي أقام به أهله ثم رحلوا. خولة: اسم امرأة. الأطلال: جمع طلل، وهو الباقي من آثار الديار. برقة ثهمد: اسم موضع، استعار الشاعر هذا العجز من صدر مطلع معلقة طرفة بن العبد.
٣  أناخ بالمكان: أقام به. الكلكل: الصدر. السبالين: تثنية سبال، والسبال: جمع سبلة، وهي شعر الشاربين. الأصيد: الذي يرفع رأسه زهوًا وعجبًا.
٤  الأرزاء: المصائب.
٥  البازي: اسم فاعل من بزا عليه بمعنى تطاول، وفيه تورية بالبازي، وهو نوع من الطيور الجارحة التي تسمى الصقور. صائتًا: مصوتًا.
٦  أشلاء الإنسان: أعضاؤه. لم يقد المقتول: لم يقتل قاتله. لم يد: لم يعط الدية؛ وهي مال يعطى لولي القتيل بدل النفس.
٧  جذوة الروح: شعلتها.
٨  الأنكاد: جمع نكد، وهو الرجل المشئوم ذو العسر.
٩  تهفو: تضطرب.
١٠  أي: هو مربع سور، يصف بهذا البيت وما بعده بناء السجن وشكله؛ أي: هو سور مربع أحاط بسور آخر مثله، وهذا أيضًا أحاط بسور ثالث أعلى منه.
١١  هو السور الذي تليه ساحة السجن. تشجيك: تحزنك. تمور: تضطرب. الخسف: الإهانة والذل. مزبد: هائج.
١٢  الضمير في قوله: إليها يعود إلى الساحة في البيت السابق. الرتاج: الباب العظيم. موصد: مغلق.
١٣  المخاريق: ما يلعب به الصبيان من الخرق المفتولة. الضيم: الذل. الدد: اللهو.
١٤  قاء نفسه: أي أخرج روحه من جسده كالقيء.
١٥  الكوى: جمع كوة، وهي شيء في الجدار أشبه بالنافذة إلا أنه لا ينفذ. المرود: الميل الذي يكتحل به.
١٦  التهجد: الصلاة في الليل.
١٧  الفناء: الوصيد، وهو ساحة أمام البيت.
١٨  الحيزوم: وسط الصدر. الصفائح: الحجارة العراض. الجلمد: الصخر.
١٩  محصد: محكم الفتل.
٢٠  الخشام: الأنف العظيم. ومخطوم الأنف: أي جعل من أنفه خطام، والمعنى ظاهر. قيد: سحب.
٢١  الإهاب: الجلد. منبول: مصاب بالنبل. والحشا: ما انضمت عليه الضلوع. مقصد: اسم مفعول من أقصده السهم، أي: أصابه فقتله.
٢٢  ينوء بأعباء الهوان: تثقله أحماله.
٢٣  التعلة: ما يتعلل به؛ أي يتلهى.
٢٤  القيظ: شدة الحر. ومعنى قوله: «بنسج لعاب الشمس يرتدي» أنه عاري الجسم لا ثوب له.
٢٥  الطراف: بيت يصنع من الأدم؛ أي الجلد، للملوك والرؤساء خاصة.
٢٦  سفعًا: وجوههم متغيرة موردة. الأثافي: أحجار يوضع عليها القدر، مفردها أثفية. أصلاها: أحرقها. الطهاة: جمع طاهٍ، وهو الطباخ.
٢٧  الشحوب: تغير اللون. الوشم: هو أن تغرز الإبرة في الجلد، ثم تذر عليه مادة خاصة معروفة. هذا العجز تتمة لصدر بيت طرفة المتقدم.
٢٨  الحمأة: الطين الأسود المنتن؛ أي هم يشبهون الدود الذي تولد في غير الحمأة، ثم ألقي في الحمأة فإنه يموت فيها، بخلاف الدود المتولد من الحمأة، فإنه يعيش فيها ولا يموت.
٢٩  الذلول: البعير السهل القيادة. المعبد: المذلل.
٣٠  ينتدي: يجتمع في النادي، والمعنى: قال ذلك القول ونحن في نادٍ يجتمع فيه من لم نكن نأمن تجسسه ووشايته.
٣١  منشد: مصدر ميمي من نشد الضائع؛ أي نادى وسأل عنه.
٣٢  النجوى: حديث السر. لم يتبغدد: لم ينتسب لبغداد، ومعنى الأبيات الأربعة: أن ذلك الحر جهر في ذلك النادي الذي يجمع فيه غير الأمناء قائلًا: لِمَ يضيع الحق في بغداد من غير أن نطلبه ونسأل عنه؟ فقلت له سرًّا: ذلك لأن العدل غير بغدادي.
٣٣  الذعر: الخوف. الأسراب: جمع سرب، وهو القطيع من النعام والنساء وغيرها.
٣٤  الممرد: المملس المنظم.
٣٥  الملبد: من أسماء الأسد.
٣٦  الجلى: الأمر العظيم.
٣٧  أعيا: يريد أعياني؛ أي أتعبني. هبوبهم: استيقاظهم من الخمول، وإسراعهم إلى المعالي. المرقد: دواء، يرقد شاربه أي يُنيمه كالأفيون. يقول: كيف يهبون إلى المجد وهم شاربون من الخمول والاستبداد ما أفقدهم السداد؟!
٣٨  الاعتساف: الظلم. أجحف به: كلفه ما لا يطيق. الغوري: قاصد الغور، وهو المطمئن من الأرض. المتنجد: قاصد النجد، وهو المرتفع منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤