الدهر والحقيقة

أرى الدهر لا يألو بستر الحقائقِ
إذا افترَّ عن صبحٍ تلاه بغاسقِ١
يجرُّ ذيول الخطْبِ فوق طريقها
ليعفوَ منه ما به من سلائق٢
ولو لم يجئنا كل يومٍ مواربًا
لما كان فجر كاذب قبل صادق
كأن ليالي الدهر غضبى على الورى
فتَنْظر شزرًا بالنجوم الشوارقِ٣
وما طلعت كي تهديَ القوم شمسُه
ولكن لتصليهم جحيم الودائق٤
وقد تنطق الأيام بالحق أعجمًا
وتسكت عن تبيانه كل ناطق
وكم مدَّعٍ فضل التمدُّن ما له
من الفضل إلا أكله بالملاعق!
وكم عاقل قد عدَّه الناس أحمقًا
وما هو لو يُبْلى سوى متحامق!٥
وربَّ ذكي لم يكن من ذكائه
سوى ما رووه من ذكاء اللقالق٦
وقد تُعْرِض الأسماع عن ذي فصاحة
وتصغي إلى ذي اللُّكْنةِ المتشادق٧
ومن شِيم الأيام في الناس أنها
تجور عليهم باقتطاع العلائق
وألطف جور الدهر جور نرى به
تدلُّل معشوق وذلة عاشق
وما كان كذب القوم في القول وحده
ولكنه في كتبهم والمهارق٨
وأقبح مَيْنٍ في الزمان خُرافةٌ
تحط بها طرسًا يراعةُ نامقِ
ضلال على مر الجديدين لم تزلْ
مغاربنا من أمره كالمشارقِ
فعدِّ عن الأيام إذ لم تجد بها
سوى لغط يُزري بفضل المناطق
نفضتُ من الدنيا يديَّ؛ لأنني
تعرفت منها ما بها من خلائق
فما أنا وقَّاف بها عند منزل
ولا أنا باكٍ من حبيب مفارق
ولا عذَّبتني في العذيب صبابة
ولا شاقني برق لربعٍ ببارق
تعشقت فيها حسن كل حقيقة
وأعرضت عن حسن الحسان الغرانق٩
ولي عند إخوان الصفا أريحيةٌ
إلى كل خلٍّ في الزمان موافق١٠
إذا ما عقدنا مجلس الأنس بالطلا
فبيني وبين السكر خمس دقائقِ١١
أقوم إلى كُبرى الزجاجات مُدهِقًا
بمستقطر من خالص التمْرِ رائق
فأقرع بالكأس الرويَّةِ جبهتي
بشرب كما عبَّ القطا متلاحق١٢
أسابق ندماني إلى السكر طائرًا
بجنح من الأنس المضاعف خافق
فما هي إلَّا بعد شربي سويعة
وقد دب من رأسي الطلا في المفارق
فنادمت أصحابي على غير حشمةٍ
وقلت لهم ما قلت غير منافق
وأغنيتهم عن نُقلهم في شرابهم
بِمزٍّ طريٍّ من نُقُولِ الحقائق
ولم يبدُ فيَّ السكر عند اشتداده
سوى شكر خلِّي أو سوى حمد خالقي
تعوَّدت سبقي في الفخار فلم أرد
من السكر أن أحظى به غير سابق
كما اعتاد سبقًا في المكارم خزعلٌ
بلا سابق فيها عليه ولاحق
أمير نمته للمكارم والعلا
جحاجحُ من كعب كرام المعارق١٣
كذلك أعلى اللَّه في الناس كعبه
بحظ من المجد المؤثَّل فائق١٤
إذا سار سار المجد في طيِّ بُرْدهِ
يرافقه أكرِمْ به من مرافق!
فيرحل من أنسابه في مواكب
وينزل من أحسابه في سرادق
وإن جاء أغضى من رآه تهيبًا
سوى نظَر منهم بعيني مُسارقِ

•••

أبا الأمراء الصيد جئتك شاكيًا
إليك جنايات الزمان المماذق
أجرني رعاك اللَّه منها فإنِّها
رمت كل عظم فيَّ منها بعارق١٥
أترضى وإني صقر بغداد أنني
تقدَّمني فيها فراخ العقاعق١٦
لئن أنكروا حقي فسوف تُحقُّه
شواهد أقلامٍ بكفي نوامق
أصوغ بها حُرَّ الكلام لخزعلٍ
مديحًا كعقد اللؤلؤ المتناسقِ
١  غاسق: ظلام دامس.
٢  سلائق: جمع سليقة، وهي الطبيعة.
٣  النظر الشزر: ما كان بمؤخرة الطرف، وهو نظر احتقار وكبر. والشارق: الطالع.
٤  الودائق: جمع وديقة، وهي حر نصف النهار.
٥  المتحامق: المتشبه بالحمقى في أفعاله وليس بأحمق.
٦  اللقالق: جمع لقلق، وهو ضرب من الطير طويل العنق والمنقار، يأكل الحيات.
٧  اللكنة: الحبسة في اللسان. المتشادق: المتفاصح.
٨  المهارق: الصحف تتخذ من حرير أبيض مصمغ مصقول، يكتب عليها الكتب المخلدة كالمعاهدات ونحوها.
٩  الغرانق: جمع غرنوقة، وهي الشابة الممتلئة.
١٠  أريحية: ارتياح.
١١  الطلا: الخمر.
١٢  الروية: المملوءة.
١٣  نمته: نسبته. والجحاجح: جمع جحجاج، وهو السيد الكريم. والمعارق: جمع معرق وهو الأصل والحسب.
١٤  المؤثل: الثابت القديم.
١٥  عرق العظم يعرقه فهو عارق: أكل ما عليه من اللحم.
١٦  العقاعق: جمع عقعق، وهو طائر صغير ذو لونين: أبيض وأسود، طويل الذنب، صوته العقعقة، قيل: وهو نوع من الغربان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤