المطلَّقة

بدت كالشمس يحضنها الغروبُ
فتاةٌ راع نضرتها الشحوبُ١
منزَّهةٌ عن الفحشاء خَوْدٌ
من الخِفرَات آنسة عروبُ٢
نَوارٌ تستجدُّ بها المعالي
وتبلى، دون عفتها، العيوب٣
صفا ماءُ الشباب بوجنتيها
فحامتْ حول رونقهِ القلوب
ولكنَّ الشوائب أدركته
فعاد وصفوُه كدرٌ مشوب٤
ذوى منها الجمال الغضُّ وجدًا
وكاد يجفُّ ناعمُه الرطيب٥
أصابت من شبيبتها الليالي
ولم يُدرك ذؤابتها المشيب٦
وقد خلَبَ العقول لها جبينٌ
تلوحُ على أسرَّته النُّكوب٧
ألا إنَّ الجمالَ، إذا علاه
نقابُ الحزن، منظرُه عجيب

•••

حليلةُ طيِّبِ الأعراقِ زالت
به عنها، وعنه بها، الكروب
رعى ورعت، فلم ترَ قطُّ منه
ولم يرَ قطُّ منها ما يريب
توثَّق حبلُ ودِّهما حضورًا
ولم يَنكثْ توثُّقَه المغيبُ٨
فغاضتْ زوجها الخلطاءُ يومًا
فأمرٍ، للخلاف به نشوب٩
فأقسمَ بالطَّلاق لهم يمينًا
وتلك أَليَّةٌ خطأٌ وحوب١٠
وطلقها على جهل ثلاثًا
كذلك يجهل الرجل الغضوب
وأفتى بالطلاق طلاقَ بتٍّ
ذوو فُتيا يعصِّبُهم عصيب١١
فبانتْ عنه، لم تأتِ الدَّنايا
ولم يعلق بها الذَّامُ المعيب١٢
فظلَّت وهي باكية تنادي
بصوتٍ منه ترتجفُ القلوب

•••

لماذا يا نجيب صرمت حبلي
وهل أذنبتُ عندك يا نجيب؟!١٣
وما لكَ قد جفوتَ جفاءَ قالٍ
وصرتَ إذا دعوتُكَ لا تجيب؟!١٤
أَبنْ ذنبي إليَّ، فدتك نفسي
فإني عنه بعدئذٍ أتوب
أما عاهدتني باللَّه أن لا
يفرِّق بيننا إلَّا شَعُوب١٥
لئنْ فارقْتني وصدَدْت عني
فقلبي لا يفارقه الوَجِيب١٦
وما أدماءُ ترتع حولَ روضٍ
ويرتع خلفَها رشأٌ رَبيب١٧
فما لفتَتْ إليه الجِيدَ حتَّى
تخطَّفَه بآزمتيه ذيب١٨
فراحتْ منْ تحرُّقها عليه
بداءٍ ما لها فيه طبيب
تشمَّ الأرضَ تطلبُ منه ريحًا
وتنحَبُ، والبُغامُ هو النحيب١٩
وتمزَعُ في الفلاةِ لغيرِ وَجهٍ
وآونةً لمصرعه تئوب٢٠
بأجزعَ من فؤاديَ يومَ قالوا:
برغمٍ منكِ فارقكِ الحبيب٢١
فأطرق رأسَه خَجلًا وأغضى
وقالَ ودمعُ عينيه سَكوب:
نجيبةُ أقصري عنِّي فإني
كفاني من لظَى النَدَم اللَّهيب
وما واللَّه هَجرُك باختياري
ولكنْ هكذا جرتِ الخُطوب
فليسَ يزولُ حبُّك من فؤادي
وليس العيشُ دونَك لي يطيب
ولا أسلو هواكِ وكيفَ أسلو
هوًى كالرُّوح فيَّ له دبيب
سلي عني الكواكبَ وهي تسري
بجُنْح الليلِ تَطلع أو تغيب
فكم غالبتُها بهواكِ سُهدًا
ونجمُ القطبِ مُطَّلع رقيب
خذي من نورِ «رَنتَجنٍ» شعاعًا
به للعينِ تنكشف الغيوب٢٢
وألقِيهِ بصدري وانظريني
ترَيْ قلبي الجريحَ به ندوب٢٣
وما المكبولُ ألقي في خِضَمٍّ
به الأمواجُ تصعد أو تصوب٢٤
فراح يغُطُّه التَّيار غطًّا
إلى أن تمَّ فيه له الرسوب٢٥
بأهلكَ يا ابنةَ الأمجاد منِّي
إذا أنا لم يعدْ بك لي نصيب

•••

ألا قلْ في الطلاق لِمُوقعيه
بما في الشرع ليس له وجوب
غلوْتم في ديانتكم غُلوًّا
يضيقُ ببعضهِ الشَّرحُ الرَّحيب
أرادَ اللَّهُ تيسيرًا، وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
وقد حلَّت بأمَّتكم كروبٌ
لكم فيهنَّ لا لهمُ الذُّنوب
وَهَى حبلُ الزواج، ورقَّ حتى
يكاد إذا نفختَ له يذوب
كخَيط من لُعاب الشَّمس أدلت
به في الجو هاجرةٌ حَلوب٢٦
يمزِّقه من الأفواه نفثٌ
ويقطعه من النَّسم الهبوب
فِدى ابن القيِّم الفقهاءُ كم قد
دعاهم للصَّواب فلم يُجيبوا٢٧
ففي «إعلامه» للناس رُشدٌ
ومزدجرٌ لمن هو مُستريب٢٨
نحا فيما أتاه طريقَ علمٍ
نحاها شيخُه الحَبْر الأريب٢٩
وبيَّنَ حكمَ دينِ اللَّه لكنْ
من الغالينَ لم تعِهِ القلوب٣٠
لعلَّ اللَّه يُحدث بعدُ أمرًا
لنا، فيخيبَ منهم من يخيب
١  راع: شوه، وراع في الأصل بمعنى أفزع وأخاف. نضرتها: رونقها وحسنها.
٢  الخود: المرأة الشابة. الخفرات: جمع خفرة، وهي المرأة التي تستحي أشد الحياء. الآنسة: التي يؤنس بحديثها. العروب: المرأة المتحببة إلى زوجها.
٣  النوار: المرأة النفور من الريبة، ونوار اسم امرأة كانت زوجًا للفرزدق، فطلقها ثم ندم، وفي البيت إشارة إلى ذلك.
٤  الشوائب: الأمور التي تغير الشيء. مشوب: مخلوط.
٥  ذوى: ذبل.
٦  الذؤابة: الناصية وهي مقدم الرأس، أو هي الطرة.
٧  الأسرة: هي خطوط في الجبهة والكف، وفي كل شيء، والغالب استعمالها لخطوط الجبهة. النكوب: جمع نكب، وهي المصيبة.
٨  توثق: تقوى. ينكث: ينقض.
٩  النشوب: نشب الشيء نشوبًا، بمعنى علق.
١٠  ألية: قسم. الحوب: الذنب، الحلف بالطلاق حرام؛ لذلك كان الحالف به مذنبًا.
١١  عصيب: شديد.
١٢  بانت: بعدت، بسبب هذه الفتيا الباطلة الخاطئة. الذام: العيب، جهل الناس الحكمة من مشروعية الطلاق، وعبد من يُسمَّون بالعلماء ألفاظ الكتب التي درسوها، فأفتوا بغير علم صحيح فضلوا وأضلوا، وأوقعوا الناس في حرج عظيم.
١٣  صرمت: قطعت.
١٤  قالٍ: مبغض.
١٥  شعوب: اسم للموت.
١٦  الوجيب: الخفقان.
١٧  الأدماء: الظبية المشرب لونها بياضًا. الرشأ: ولد الظبية الذي قد تحرك ومشى. ربيب: ملازم لها.
١٨  الجيد: العنق. الآزمتان: النابان.
١٩  تنحب: تبكي وبكاؤها أشبه بالسعال. البغام: صياح الظبية إلى ولدها بأرخم ما يكون من صوتها.
٢٠  تمزع: تسرع. لمصرعه: لمكان هلاكه. تثوب: ترجع.
٢١  بأجزع: الجار والمجرور خبر لقوله: وما أدماء في بيت سابق. يقول عن لسان المطلقة: إن هذه الظبية التي صفتها كيت وكيت ليست بأشد جزعًا واضطرابًا مني حين بلغني أنك طلقتني، فليتبصر بمثل هذا القول المتسرعون بإيقاع الطلاق، وحل عقدة النكاح الموثقة.
٢٢  رنتجن: هو مخترع الأشعة المعروفة باسمه.
٢٣  الندوب: آثار الجروح.
٢٤  المكبول: المقيد. الخضم: البحر. تصوب: تنخفض.
٢٥  الرسوب: الغرق إلى القعر.
٢٦  لعاب الشمس: شيء كأنه ينحدر من السماء وقت شدة الحر، تراه مثل نسج العنكبوت. أدلت: أرسلت. الهاجرة: شدة الحر، والهاجرة الحلوب: هي التي تجلب الغرق لشدة حرارتها.
٢٧  ابن القيم: هو العلَّامة الْمُحَدِّث الفقيه المشهور.
٢٨  يشير إلى كتاب «إعلام الموقعين» لابن القيم المذكور، وهو من أنفس الكتب التي ألفها. ومزدجر: مصدر ميمي من ازدجر، بمعنى زجره ومنعه. مستريب: شاك.
٢٩  أراد بشيخه: الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله.
٣٠  الغالين: هم المتشددون في الدين حتى تجاوزوا الحد، قال تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. لم تعه: لم تحفظه، ولم تتدبر معناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤