اليتيم في العيد

أطلَّ صباحُ العيدِ في الشرق يسمعُ
ضجيجًا، به الأفراحُ تمضي وترجعُ
صباحٌ به تُبدي المسرةَ شمسُها
وليس لها إلا التوهُّمَ مطلعُ
صباحٌ به يختالُ بالوشي ذو الغنى
ويُعوزُ ذا الإعدام طِمرٌ مرقَّع١
صباحٌ به يكسو الغنيُّ وليدَه
ثيابًا لها يبكي اليتيمُ المضيَّعُ
صباحٌ به تغدو الحلائلُ بالحُلى
وترفَضُّ من عينِ الأرامل أدمع٢
ألا ليتَ يوم العيد لا كان، إنه
يجدِّد للمحزون حزنًا فيجزع
يُرينا سرورًا بين حزنٍ، وإنما
به الحزنُ جَدٌّ، والسرور تصنُّع
فمن بؤساء الناسِ في يوم عيدهم
نحوسٌ بها وجه المسرَّة أسفع٣
قد ابيضَّ وجهُ العيدِ لكنَّ بؤسَهم
رمى نُكَتًا سودًا به، فهو أبقع٤

•••

خرجتُ بعيدِ النحر صُبحًا فلاح لي
مسارحُ للأضدادِ فيهنَّ مرتع
خرجتُ وقرصُ الشَّمس قد ذرَّ شارقًا
ترى النورَ سيَّالًا به يتدفَّع
هي الشمس خودٌ، قد أطلَّت مصيخةً
على الأرض من أفقِ العلا تتطلع٥
كأن تفاريقَ الأشعَّةِ حولها
على الأفقِ مُرخاةً ذوائبُ أربع٦
ولما بدَتْ حمراءَ أيقنتُ أنَّها
بها خجَلٌ مما تراهُ وتسمع
فرحتُ وراحتْ ترسل النورَ ساطعًا
وسرتُ وسارتْ في العُلا تترفَّع
بحيثُ يسيرُ الناسُ كلٌّ لوُجهةٍ
فهذا على رِسل، وذلك مسرع٧
وبعضٌ له أنفٌ أَشمُّ من الغنى
وبعضٌ له أنفٌ من الفقر أجدع٨
وفي الحيِّ مِزمارٌ لمُشجِي نعيرهِ
غدا الطبلُ في دَردابه يتقعقع٩
فجئتُ وجوفُ الطبل يرغو، وحولَه
شبابٌ، وولدان عليه تجمعوا١٠
لقد وقفوا، والطبلُ يهتزُّ صوتُه
فتهتزُّ بالأبدانِ سوقٌ وأكرُع١١
ترى ميْعةَ الإطرابِ والطبلُ هادرٌ
تفيضُ، وفي أسماعهم تتميَّع١٢
فقد كانتِ الأفراحُ تفتحُ بابَها
لمن كانَ حولَ الطبلَ والطبل يُقرع

•••

وقفت أجيل الطرفَ فيهم فراعني
هناكَ صبيٌّ بينهمْ مترعرع
صبيٌّ صبيحُ الوجهِ أسمرُ شاحبٌ
نحيفُ المباني أدعجُ العينِ أنزَعُ١٣
يزينُ حِجاجيهِ اتِّساعُ جبينهِ
وفي عينهِ برقُ الفَطانة يلمَع١٤
عليهِ دريسٌ يعصِرُ اليتمُ رُدنهُ
فيقطرُ فقرٌ من حواشيه مُدقِع١٥
يُلِيحُ بوجهٍ للكآبةِ فوقَه
غُبارٌ به هبَّتْ من اليُتم زعزَع
على كُثر قرع الطبلِ تلقاهُ واجمًا
كأنْ لم يكنْ للطَّبل ثمَّة مقرع١٦
كأن هديرَ الطبل يقرعُ سمعَه
فلم يُلفِ رجعًا للجوابِ فيرجع
يردُّ ابتسامَ الواقفينَ بحسرةٍ
تكادُ لها أحشاؤُه تتقطَّع
ويُرسلُ من عينيه نظرةَ مُجهِشٍ
وما هوَ بالباكي، ولا العينُ تدمع١٧
له رجفةٌ تنتابهُ وهو واقفٌ
على جانبٍ والجوُّ بالبردِ يلسع١٨
يرى حوله الكاسين من حيثُ لم يجد
على البرد من بُرْدٍ به يتلفَّع١٩
فكانَ ابتسامُ القوم كالثلجِ قارسًا
لدى حسراتٍ منه كالجمرِ تلذَع

•••

فلما شجاني حالُه وأفزَّني
وقفتُ وكُلِّي مجزَعٌ وتوجُّع٢٠
ورحت أعاطيه الحنانَ بنظرةٍ
كما راحَ يرنو العابدُ المتخشِّع
وأفتحُ طرفي مُشْبَعًا بتعطُّف
فيرتدُّ طرفي وهو بالحزن مُشْبَعُ
هناك على مهلٍ تقدَّمتُ نحوهُ
وقلتُ بلطف قولَ من يتضرع:
أيا ابن أخي! من أنت ما اسمُك ما الذي
عراكَ فلم تفرح، فهل أنت مُوجع؟٢١
فهبَّ أمامي من رقادٍ وجُومُه
كما هبَّ مرعوبَ الجنانِ المهجَّع
وأعرضَ عني بعدَ نظرةِ يائسٍ
وراح ولم ينبُس إلى حيثُ يُهرَع٢٢
فعقَّبتهُ مستطلعًا طلعَ أمره
على البعد أقفو الإثر منه وأتبع٢٣
وبيناهُ ماشٍ حيثُ رُحتُ وخلفهُ
أدبُّ دبيبَ الشيخ طورًا وأسرع٢٤
لمحتُ على بعد إشارةَ صاحب
ينادي أن ارجع وهو بالثوب مُلمع
فأومأتُ أن ذكرتهُ موعدًا لنا
وقلت له: اذهبْ وانتظرْ فسأرجع
وعدتُ فأبصرت الصبيَّ معرِّجًا
ليدخل دارًا بابُها متضعضع٢٥
فلما أتيتُ الدارَ بعدَ دخوله
وقمتُ حيالَ البابِ والبابُ مرجَع٢٦
دنوت إلى بابِ الدُّويرةِ مطرقًا
وأصغيتُ، لا عن ريبة، أتسمَّع٢٧
سمعت بكاءً ذا نشيجٍ مردَّدٍ
تكادُ له صمُّ الصفا تتصدَّع٢٨
فحرتُ وعيني ترمقُ البابَ خِلسة
وللنفسِ في كشفِ الحقيقةِ مَطمَع
أأرجعُ أدراجي ولم أَكُ عارفًا
جَليَّةَ هذا الأمرِ أم كيف أصنع؟

•••

فمرَّت عجوزٌ في الطريقِ وخلفَها
فتاةٌ يغشِّيها إزارٌ وبُرقع٢٩
تعرَّضتُها مستوقفًا، وسألتها
عن الاسم، قالت: إنني أنا بَوْزَعُ
فأدنيتُها مني، وقلتُ لها: اسمعي
حنانيكِ ما هذا الحنينُ الموجَّع
فقالتْ: وأنَّت أنَّةً عن تنهُّدٍ
وفي الوجهِ منها للتعجُّبِ موضع
أيا ابنيَ ما يعنيكَ من نوحِ أيِّم
لها من رزايا الدَّهر قلبٌ مفجَّع٣٠
فقلتُ لها: إني امرؤ لا يهمني
سوى من له قلبٌ كقلبي مروَّع٣١
وإني وإن جارت عليَّ مواطني
فؤادي على قطَّانهن مُوزَّع٣٢
أبوزَعُ مُنِّي، عَمْرَكِ اللَّهُ، بالذي
سألتُ، فقد كادت حشايَ تمزَّع
فقالت: أعن هذي التي طال نحبُها
سألتَ فعندي شرحُ ما تتوقع
ألا إنَّها سلمى تعيسةُ معشرٍ
من الصِّيد أقوتْ دارهُمْ فهي بلقع٣٣
وصارعهم بالموتِ حتى أبادَهم
من الدَّهر عجَّارٌ شديدٌ مصرِّع٣٤
فلم يبقَ إلا زوجُها وشقيقُها
خليلُ، وأما الآخرونَ فودَّعوا
ولم يلبثِ المقدورُ أن غالَ زوجَها
سعيدًا فأودى وهي إذ ذاك مرضع٣٥
فربَّى ابنَها سعدًا، وقام بأمره
أخوها إلى أن كاد يقوى ويضلع٣٦
فأذهبَ عنه الخالَ دهرٌ غشمشم
بما يوجِع الأيتام مُغرًى ومُولع٣٧
جرت هَنةٌ منها على خاله انطوى
بقلب رئيسِ الشرطة الحقدُ أجمع٣٨
فزجَّ به في السجنِ بعدَ تجرُّمٍ
عليه بجُرم ما له فيه مصنع٣٩
عزاه إلى إيقاعِه مُوقعًا به
وما هو يا ابن القوم للجرم مُوقع٤٠
ولكنَّ غَدْرَ الحاقدين رمى به
إلى السجن فهو اليومَ في السجن مودَع
فحُقَّ لسلمى أن تنوحَ فإنها
من العيش سُمًّا ناقعًا تتجرَّع٤١
فلا غروَ من أم اليتيم إذا غدت
ضُحى العيد يبكيها اليتيم المضيَّعُ

•••

فعُدْتُ، وقلبي جازع متوجِّع
وقلت، وعيني ثرَّةُ الدمعِ تهمع:٤٢
ألا ليتَ يومَ العيدِ لا كانَ إنهُ
يجدِّد للمحزون حزنًا فيجزع!
وجئتُ إلى ميعادنا عندَ صاحبي
وقد ضمَّه والصحب نادٍ ومجمع
فأطلعتهم طِلْعَ اليتيم فأفَّفوا
وخبَّرتهم حال السجينِ فرجَّعوا٤٣
فقلتُ: دعوا التأفيفَ فالعارُ لاصقٌ
بكم واتركوا الترجيعَ فالأمرُ أفظعُ
ألسنا الأُلى، كانت قديمًا بلادُنا
بأرجائها نورُ العدالة يسطع٤٤
فما بالنا نستقبلُ الضَّيْمَ بالرضا
ونعنو لحكم الجائرين ونخضع٤٥
شربنا حميمَ الذلِّ ملءَ بطونِنا
ولا نحنُ نشكوهُ ولا نحنَ نيْجع٤٦
فلو أنَّ عِيرَ الحيِّ يشرب مثلنَا
هوانًا، لأمسى قالسًا يتهوَّع٤٧
نهوضًا إلى العزِّ الصُّراحِ بعزمةٍ
تخرُّ لمرماها الطُّغاةُ وتركعُ
ألا فاكتبوا صكَّ النهوضِ إلى العلا
فإني على موتي به لموقِّع٤٨
١  الوشي: نوع من الثياب الموشية المحسنة. أعوزه الشيء: احتاج إليه فلم يقدر عليه. الإعدام: الفقر. الطمر: الثوب البالي.
٢  الحلائل: النساء ذوات الأزواج.
٣  أسفع: أسود.
٤  نكتًا: نقطًا سوداء. أبقع: مختلف اللون.
٥  الخود: المرأة الشابة. مصيخة: مستمعة.
٦  الذوائب: الضفائر.
٧  على رسل: أي على مهل.
٨  أنف أشمُّ: مرتفع كبرًا. أجدع: مقطوع، وهو كناية عن الذل.
٩  نعيره: صوته. الدرداب: صوت الطبل.
١٠  يرغو: يضج ويصوت.
١١  سوق: جمع ساق. وأكرع: جمع كراع، وهو مستدق الساق.
١٢  ميعة: كل شيء أوله، تتميع: تتسيل.
١٣  شاحب: أي متغير اللون. أدعج العين: أسودها مع سعة فيها. الأنزع: المنحسر الشعر عن جانبي جبينه.
١٤  حجاجيه: حاجبيه، وأصل الحجاج العظم المحيط بالعين.
١٥  الدريس: الثوب البالي. الردن: أصل الكم. فقر مدقع: شديد كأنه يلصق صاحبه بالدقعاء، وهي التراب.
١٦  واجمًا: ساكتًا عاجزًا عن التكلم من كثرة الغم أو الخوف. ثمة: هناك.
١٧  المجهش: الهام بالبكاء المتهيئ له، وماضيه أجهش.
١٨  تنتابه: تصيبه.
١٩  البرد: الثوب المخطط. تلفع بالثوب: تلفف به.
٢٠  شجاني: حزنني.
٢١  عراك: أصابك.
٢٢  لم ينبس: لم يتكلم.
٢٣  أقفو الإثر منه: أي أتبع أثره.
٢٤  الشيخ: هو الذي انتهى شبابه، وقيل: هو مَنْ بلغ الأربعين، وقيل: الخمسين.
٢٥  عرج: مال من جانب إلى آخر.
٢٦  حيال الباب: قبالته.
٢٧  الدويرة: تصغير دار. أطرق: سكت ولم يتكلم.
٢٨  النشيج: الغصة بالبكاء من غير انتحاب.
٢٩  يغشيها: يغطيها.
٣٠  الأيم: هي مَنْ فقدت زوجها. مفجع: موجع.
٣١  مروع: أصابه الروع وهو الخوف.
٣٢  قطانهم: سكانهم.
٣٣  الصيد: جمع أصيد، وهو الرجل الذي لا يلتفت من كبره، وأراد بالصيد: أولي النعمة. بلقع: خالية من السكان.
٣٤  العجار: المصارع، الذي لا يطاق جنبه في المصارعة.
٣٥  غال: أهلك. أودى: أهلك.
٣٦  يضلع: يقوى وتشتد أضلاعه.
٣٧  الغشمشم: هو مَنْ يركب رأسه فلا يثنيه عن مراده شيء، وقيل: هو الكثير الظلم.
٣٨  هنة: أي شيء ما وهي مؤنث الهن، وكلاهما يكون كناية عن كل اسم جنس، ومعناها شيء. الشرطة: رجال البوليس والضابطة.
٣٩  تجرم عليه: أي ادعى عليه بجرم لم يفعله.
٤٠  موقعًا: منزلًا به ما يسوءه.
٤١  السم الناقع: البالغ القاتل.
٤٢  الثرة من العيون: السحاب الغزيرة. تهمع: تدمع.
٤٣  رجعوا: قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
٤٤  الأرجاء: الأطراف.
٤٥  الضيم: الهوان. نعنو: نخضع.
٤٦  الحميم: الماء الحار.
٤٧  العير: الحمار. قلس: خرج من بطنه طعام أو شراب إلى الفم، سواء ألقاه أم أعاده إلى بطنه، فإن غلب فهو القيء والتهوع.
٤٨  الصك: ما يُكتب عليه الإقرار بالمال وغيره. موقع: كاتب التوقيع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤