الفقر والسقام

أيُّ مضنى يمدُّها باكتئابِ
أنَّة تترك الحشا في التهابِ
يتشكَّى والليل وحْفُ الإهابِ
ضمن بيت جثا على الأعقاب١
صفعته، فمال، كفُّ الخراب٢
تسمع الأذن منه صوتًا حزينا
راجعًا في حشا الظلام كمينا
يملأ الليل بالدعاء أنينا
ربِّ كن لي على الحياة معينا
ربِّ إن الحياة أصل عذابي
وجَعٌ في مفاصلي دقَّ عظمي
ودهاني ولم يرقَّ لعُدمي٣
عاقني عن تكسُّبي قوتَ يومي
ربِّ فارحم فقري بصحَّة جسمي
إن فقري أشد من أوصابي٤
يا طبيبًا وأين مني الطبيبُ؟!
حال دون الطبيب فقر عصيب٥
لا أصاب الفقيرَ داء مصيب
إن سقم الفقير شيءٌ عجيب
بطلت فيه حكمة الأسباب

•••

رجلٌ معسرٌ يسمى بشيرا
كان يسعى طول النهار أجيرا
كاسبًا قوته زهيدًا يسيرا
مالكًا في المعاش قلبًا شكورا
راجيًا في المعاد حسن المآب٦
عالَ أختًا حكتهُ خُلقًا نزيها
عانسًا جاوز الزواجُ سنيها٧
لزمت بيت أمها وأبيها
معْ أخيها تعيش عند أَخيها
مثله في طعامه والشراب
كل يوم له ذهاب ومأتى
في معاش من كدِّه يتأتى٨
هكذا دأبه مَصيفًا ومشتى
فاعتراه داء المفاصل حتى
عاقه عن تعيُّشٍ واكتساب
بينما كان في قواه صحيحا
ساعيًا في ارتزاقه مستميحا٩
إذ عراه الضنى فعاد طليحا
ورمته يد السقام طريحا١٠
جسمه من سقامه في اضطراب
بات يبكي إذا له الليل آوى
بعيون من السهاد نشاوى١١
فترى وهو بالبكَا يتداوى
قطرات من عينه تتهاوى
كشهاب ينقضُّ إثر شهاب١٢
إنَّ سقمًا به وعُقمًا أَلمَّا
تركاه يذوب يومًا فيوما
فهو حينًا يشكو إلى القسم عُدْما
وهو يشكو حينًا إلى العدم سقما
باكيًا من كليهما بانتحاب
ظل يشكو للأخت ضعفًا وعجزا
إذ تعزيه وهو لا يتعزَّى
أيها الأخت عزَّ صبريَ عزَّا
إن للداء في المفاصل وخزا١٣
مثل طعن القنا ووخز الحراب١٤
قد تمادى به السقام وطالا
وتراءى له الشفاء محالا
إذْ قُلابًا به السقام استحالا
كان هَينًا فصار داء عضالا١٥
ناشبًا في الفؤاد كالنُّشاب١٦

•••

ظلَّ ملقًى وأعوزته المطاعم
موثَقًا من سقامهِ بالأداهم١٧
منفقًا عند ذاك بعض دراهم
ربحتها من غزلها الأخت فاطم
قبل أن يُبْتَلى بهذا المصاب
قال والأخت أخبرته بأن قد
كرَبت عندها الدراهم تنفَدْ:١٨
أخبري السُّقم علَّهُ يتبعَّدْ
أيها السقم خلِّ عيشي المنكدْ
لا تُعقني في عيشتي عن طلابي
مرِّضيني شقيقتي مرِّضيني
وعلى الكسب في غدٍ حرِّضيني
وإذا مسَّك الطَّوى فارفضيني
أو على الناس للمبيعِ اعرضيني١٩
علَّهم يشترونني مما بي
رام خبزًا والجوع أذكى الأوارا
في حشاه فعلَّلتهُ انتظارا
ثم جاءت بالماء تُبدي اعتذارا
وهل الماءُ، وهو يطفئُ نارا
يطفئُ الجوع ذاكيًا في التهابِ؟!
خرجتْ فاطمٌ إلى جارتيها
وهي تُذري الدموع من مقلتيها
فأبانت برقَّةٍ حالتيها
من سَقامٍ ومن سُعارٍ لديها٢٠
وشكت بعد ذا خلوَّ الوِطاب٢١
فانثنت وهي بين ذلٍّ وعزٍّ
تحمل التمر في يدٍ فوق خبْزِ٢٢
وبأخرى سمنًا وبعض أرُزٍّ
منحوها به وذو العرش يجزي
مَنْ أعان الفقير حسن الثواب

•••

ليلة تنشر العواطفُ ذُعرا
في دجاها حيث السحاب اكفهرا٢٣
ذا هزيمٌ يمجُّ في الأذن وُقرا
حين تبدي صوالج البرق تترى٢٤
كهربائيَّة سرت في السحاب
مدَّ فيها ذاك المريض الأكفَّا
في فِراش به على الموت أوفى٢٥
طرفها كالسُّها يَبين ويَخفى
حيث يُغضي طرفًا ويفتح طرفا٢٦
عاجزًا عن تكلم وخطاب
فدعته والعين تُذري الدموعا
أخته وهي قلبها قد ريعا
يا أخي أنت ساكن أَفَجُوعَا؟
ساكت أنت يا أخي أم هجوعا؟٢٧
فاشفني يا أخي برجع الجواب
فرأت منه أنَّه لا يجيبُ
فتدانت والدمع منها صبيبُ
ثم أصغت وفي الفؤاد وجيبُ
ثم هابت والموت شيء مهيبُ٢٨
ثم قامت بخشية وارتياب
خرجت فاطمٌ من البيت ليلا
حيث أرخى الظلام سِدلًا فسدلا٢٩
وهي تبكي والغيث يهطُل هطلا
مثل دمع من مقلتيها استهلا
أو كماءٍ جرَى من الميزاب
ربِّ أدرك باللطف منك شقيقي
وامنع الغيث ربِّ عن تعويقي
ومُرِ البرق أن يضيءَ طريقي
ببريقٍ يبديه إثرَ بريق
فعسى أهتدي به في ذهابي
قرعت في الظلام باب الجار
وهي تبكي الأسى بدمعٍ جار
ثم نادت برقَّةٍ وانكسار
أمَّ سلمى ألا بحقِّ الجوار
فافتحي إنني أنا في الباب
فأتتها سُعْدَى وقد عرفتها
وعن الخطب في الدُّجى سألتها٣٠
ثم سارت من بعد ما أعلمتها
تقتفيها وبنتها تبعتها
فتخطين في الدجى بانسياب٣١
جئن والسُّحْب أقلعت عن حياها
وكذاك الرعود قلَّ رغاها٣٢
حيث يأتي شبهَ الأنين صداها
غير أن البروق كان ضياها
مومِضًا في السماء بين الرباب٣٣
فدخلن المحلَّ وهو مخيف
حيث إنَّ السكوت فيه كثيف٣٤
وضياءُ السراج نزر ضعيف
وبه في الفراش شخص نحيف
دبَّ منه الحِمام في الأعصاب٣٥
قالت الأخت أم سلمى: انظريهِ
ثكلت روح أمه وأبيه٣٦
فرأت منه إذ دنت نحو فيه
نَفسًا مبطئ التردد فيه
ثم قد غاله الردى باقتضاب٣٧
وَجمت حيرة وبعد قليل
رمقت فاطمًا بطرفٍ كليل٣٨
فيه حَمْلٌ على العزاء الجميل
فَعَلا صوت فاطمٍ بالعويل
وبكت طول ليلها بانتحاب
فاستمرَّت حتى الصباح تُوالي
زفرات بنارها القلب صالِ٣٩
فأتاها ودمعها في انهمال
بعض جاراتها وبعض رجال
من صعاليك أهل ذاك الجناب٤٠
وقفوا موقفًا به الفقر ألقى
منه ثِقلًا به المعيشة تشقى
فرأوا دمع فاطمٍ ليس يرقا
وأخوها ميْت على الأرض ملقى٤١
مُدْرَج في رثائث الأثواب٤٢
فغدت فاطمٌ ترَنُّ رنينا
ببكاء أبكت به الواقفينا
ثم قالت لهم مقالًا حزينًا
أيها الواقفون هل ترحمونا
من مُصابٍ دها وأي مصاب؟!
أيها الواقفون لا تهملوه
دونكم أدمعي بها فاغسلوه
ثم بالثوب ضافيًا كفنوه
وادفنوه لكن بقلبي ادفنوه
لا تواروا جبينه بالتراب
بعد أن ظلَّ لافتقاد المال
وهو مُلقى إلى أوان الزوال
جاد شخص عليه بعد سؤال
برِيال وزاد نصفَ رِيال
رجل حاضر من الأنجاب٤٣
كفنوه من بعد ما تمَّ غُسلا
وتمشوا به إلى القبر حملا
فترى نعشهُ غداة استقلَّا
نعش مَنْ كان في الحياة مقلَّا٤٤
دون سِتر مكسَّر الأجناب
ناحت الأخت حين سار وصاحت
أختك اليوم لو قضت لاستراحت
ثم سارت مدهوشةً ثم طاحت
ثم قامت ترنو له ثم راحت٤٥
تسكب الدمع أيما تَسْكاب
أيُّها الحاملوه لا مشْيَ رَكْضِ
إن هذا يوم الفراق الْمُمِضِّ٤٦
فاسألوه عن قصده أين يمضي
إنه قد قضى ولم يك يقضي
واجباتِ الصبا وشرخ الشباب٤٧
إن قلبي على كريم السجايا
طاح واللَّهِ من أساه شظايا٤٨
قاتل اللَّه يا ابن أمِّي المنايا
أنا من قبلُ مُذْ حسبت الرزايا
لم يكن رزءُ موتكم في حسابي
إن ليلي وليس من راقديهِ
كلما جاءني وذكَّرنيه٤٩
قلت والدمع قائِلٌ ليَ: إيهِ!
يا فقيدًا أعاتب الموت فيه٥٠
ببكائي وهل يفيد عتابي؟!
رحتُ يومًا وقد مضت سنتان
أتمشَّى بشارع «الْمَيْدان»
مَشْيَ حيرانَ خطوُه مُتدَانِ
أثقلتهُ الحياة بالأحزان٥١
وسقته كأسًا كطعم الصاب٥٢
بينما كنت هكذا أتمشَّى
عرضتْ نظرة فأبصرتْ نعشا
باديًا للعيون غير مغشَّى
نقش الفقر فيه للحزن نقشا
فبدا لوح أبؤسٍ واكتئاب
قلتُ سرًّا، والنعش يقرب مني:
أيها النعش أنت أنعشتَ حزني
للأسى فيك حالة ناسبتني
إن بدا اليوم فيك حزن فإنِّي
أنا للحزن دائمًا ذو انتساب
رحت أَسعى وراءَه مذ تعدَّى
مسرعًا في خطايَ لم آلُ جهدا٥٣
معْ رجالٍ كأنجم النعش عدًّا
هم به سائرون سيرًا مجدَّا٥٤
فنراه يمر مرَّ السحابِ
مذ لَحَدْنَا ذاك الدفين وعدنا
قلت، والدمع بلَّ مِنِّي رُدنا:٥٥
إن هذا هو الذي قد وعدنا
فأبينوا مَن الذي قد لحدنا
فتصدَّى منهم فتى لجوابي
قال: إن الدفين أخت بشير
أخت ذاك المسكين ذاك الفقير
بقيت بعده بعيش عسير
وبطرف باكٍ وقلب كسير
وقضت مثله بداءِ القُلاب
قلت: أقْصِرْ عن الكلام فحسبي
منك هذا فقد تزلزل قلبي
ثم ناجيت والضراعة ثوبي
ربِّ رحماك ربِّ رحماك ربي٥٦
ربِّ رشدًا إلى طريق الصواب
ربِّ إن العباد أضعف أن لا
يجدوا منك ربِّ عفوًا وفضلا
فاعْفُ عن أخذهم وإن كان عدلا
أنت يا ربِّ أنت بالعفو أولى
منك بالأخذ والجزا والعقاب
قد وردنا والأرض للعيش حوضُ
واحد كلنا لنا فيه خوض
فلماذا به مشوب ومحضُ؟
عِظَةٌ حكمة الإله، فبعض٥٧
في نعيم وبعضنا في عذاب
أيها الأغنياء كم قد ظلمتم
نِعمَ اللَّه حيث ما إن رحمتم
سهر البائسون جوعًا ونمتم
بهناءٍ من بعد ما قد طعمتم
من طعامٍ منوَّع وشراب
كم بذلتم أموالكم في الملاهي
وركبتم بها متون السفاه!
وبخلتم منها بحق الإلهِ
أيها الموسرون بعض انتباه!
أفتدرون أنَّكم في تباب؟!٥٨
١  الوحف: الشعر الكثير الأسود. الإهاب: الجلد، يصف شدة ظلام الليل. جثا على الأعقاب: يريد أنه قارب أن يتهدم.
٢  كف: فاعل صفعت.
٣  العدم: الفقر.
٤  الأوصاب: الأمراض.
٥  عصيب: شديد.
٦  أي أن ذلك المضنى الذي مرَّ ذكره في أول القصيدة هو رجل معسر … إلخ.
٧  عال أختًا: كفلها وكفاها معاشها. العانس: هي التي طال مكثها في بيت أهلها بعد إدراكها ولم تتزوج.
٨  يتأتى: يتهيأ.
٩  مستميحًا: طالبًا.
١٠  الطليح: المهزول.
١١  نشاوى: سكارى، جمع نشوان.
١٢  الشهاب: هو ما يُرَى كأنه كوكب قد سقط.
١٣  الوخز: الطعن غير النافذ برمح أو إبرة أو غير ذلك.
١٤  القنا: جمع قناة، وهي الرمح.
١٥  القلاب: داء القلب، داء عضال: شديد متعب غالب.
١٦  ناشبًا: عالقًا.
١٧  أعوزته المطاعم: احتاج إليها فلم يقدر عليها. موثقًا: مقيدًا. الأداهم: القيود.
١٨  كربت: كادت.
١٩  الطوى: الجوع.
٢٠  السعار بضم السين: شدة الجوع.
٢١  الوطاب: جمع وطب، وهو سقاء اللبن من الجلد، وخلو الوطاب كناية عن الفقر والحاجة.
٢٢  انثنت: رجعت.
٢٣  ذعرًا: خوفًا. اكفهر: تراكم واشتدت ظلمته.
٢٤  الهزيم: الرعد وصوته. يمج: يلقي. الوقر: الصمم. صوالج: صولجان وهو ما تضرب به الأكرة، وصوالج البرق: هي الرياح التي تسوق السحب بشدة، فيحصل منه الاحتكاك الذي يولد البرق، فإن كان الاحتكاك أعظم حصل مع البرق صوت الرعد.
٢٥  أوفى: أشرف.
٢٦  السها: نجم خفي تمتحن الأبصار برؤيته، يغضي: يغمض.
٢٧  الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة، وجوعًا: مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله من ساكت، وأصل العبارة: أفأنت ساكت جوعًا أم أنت ساكت هجوعًا؛ أي نومًا؟
٢٨  الوجيب: الخفقان والرجفان.
٢٩  السدل: الستر.
٣٠  الخطب: الأمر.
٣١  الانسياب: الإسراع في المشي.
٣٢  الحيا: المطر. الرغاء: صوت الرعد.
٣٣  الرباب بفتح الراء: السحاب الأبيض الذي أراق ماءه.
٣٤  شبه كثرة السكون بجيش كثيف أو عظيم.
٣٥  الحمام: الموت.
٣٦  ثكلته أمه: فقدته.
٣٧  غاله: أهلكه. الاقتضاب: الاقتطاع والانتزاع.
٣٨  وجمت: سكتت من كثرة الغم والحزن.
٣٩  صال: محترق.
٤٠  الصعاليك: الفقراء، مفردها صعلوك. الجناب: هو المكان القريب من محلة النوم.
٤١  ليس يرقا: لا يجف، وأصله يرقأ بالهمز فخفف.
٤٢  مدرج: مكفن. ورثائث الأثواب: البالي منها.
٤٣  الأنجاب: جمع نجب، وهو السخي الكريم.
٤٤  استقل: ارتفع. مقلًّا: فقيرًا.
٤٥  طاحت: سقطت.
٤٦  الممض: الموجع المؤلم.
٤٧  شرخ الشباب: أوله.
٤٨  طاح: معناها هنا ذهب. من أساه: من حزنه. شظايا: قطعًا، وهو جمع شظية، وتطلق على كل فلقة من شيء.
٤٩  راقديه: النائمين فيه.
٥٠  إيه: كلمة يطلب بها استزادة الحديث.
٥١  متدانٍ: متقارب.
٥٢  الصاب: شجر مر.
٥٣  تعدى: تجاوز.
٥٤  أي: عدد حاملي النعش كعدد أنجم بنات نعش، وهي سبعة.
٥٥  الردن بضم الراء: أصل الكم.
٥٦  الضراعة ثوبي: أي وأنا لابس ثوب الضراعة.
٥٧  مشوب: مخلوط. محض: خالص من الكدورة.
٥٨  التباب: الخسران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤