من أين وإلى أين؟

من أين من أين يا ابتدائي
ثم إلى أين يا انتهائي؟
أمن فناءٍ إلى وجودٍ
ومن وجود إلى فناءِ؟
أَم من وجودٍ له اختفاءٌ
إلى وجود بلا اختفاء؟
خرجت من ظلمة لأخرى
فما أمامي وما ورائي؟
ما زلت من حيرة بأمري
معانق اليأس والرجاء
إنَّ طريق النجاة وعرٌ
يكبو به الطِّرْف ذو النجاء١
يا قوم هل في الزمان نطسٌ
يهدي إلى ناجع الدواء؟٢
لأيِّ أمرٍ ذهِ الليالي
تأتي وتمضي على الولاء؟٣
فتطلعُ الشمس في صباح
وتغرب الشمس في مساء
أرى ضياءً يروق عيني
ولست أدري كنه الضياء٤
وما اهتزاز الأثير إلَّا
عُلالة نزرة الجَلاء٥
نحن على رغم ما علمنا
نعيش في غيهب العماء٦
نشرب ماء الظنون عبًّا
فلم نعد منه بارتواء٧
تأتي علينا مشاهدات
نروح منهنَّ في مراء٨
وكم نرى فضل فاعلات
من القوى وهي في الخفاء٩
يا ويلة الحسن إنه عن
حقيقة الأمر في غطاء!
فإن أجزاء كل جسم
مبتعدات بلا التقاء
وفي دُقاق الجماد عَرْكٌ
يتَّهم الحسَّ بالخطاء١٠

•••

يا قوة الجذب أطلقيني
من ثِقلة أوجبت عنائي
لولاك لولاك يا شكالي
لطرت كالنور في الفضاء١١
أنت عِماد السماء لكن
خفيت عن عين كل راء
ربطت كل النجوم فيها
بعضًا ببعض ربطَ اعتناء
فدُرنَ في الجوِّ جارياتٍ
كأنها السنُّ فوق ماء
نحن بني الأرض قد علمنا
بأننا من بني السماء
لو كنت في المشتري لبانت
أرضي سماءً بلا اعتراء١٢
فليس فوق وليس تحت
ولا اعتلاءٌ لذي اعتلاء
وإنما نحن فوق نجم
نحيا محاطين بالهواء
فليت شعري أي ارتقاء
للروح يبقى أيُّ ارتقاء!
وأنت يا كهرباء سرٌّ
بدا وما زال في غِشاء١٣
عجائب الكون وهي شتَّى
فيك انطوت أيما انطواء١٤
أضأت إن شئت كلَ داجٍ
لنا وأدنيت كل ناء١٥
فأنت للكائنات روح
إن كانت الروح للبقاء
وكم تقاضاكِ فيلسوف
حقيقة صعبة الأَداء!١٦
فقال والقول منه ظن:
ما الكون إلا بالكهرباء

•••

وليلة بتُّها أنادي
نجومَها أبعد النداء
آخذ منهنَّ بالتَّداني
فكرًا ويأخذنَ بالتنائي
فأنثني باكيًا بشعري
ويطرب الليل من بكائي
وربما كرَّ بعدَ وهْنٍ
فكري فألفِي بعض الشفاء١٧
فأرجع القهقرى أغنِّي
وما سوى الشعر من غناء
أقول، والنسرُ فوق رأسي
وطالع النجم في إزائي:١٨
يا أيها الأنجم الزواهي
للَّه ما فيكِ من بهاء!
أما كفاك السنا جمالًا
حتى تجللت بالسَّناء؟!١٩
يا أنجم النعش فاصدقيني
أمات ذو النعش بانطفاء؟٢٠
إني إذا كنت في حدادٍ
إليك أهدي حسن العزاء
وأنت يا نسر من كلال
وقعت أم طِلبْة الغذاء؟٢١
أخوك هل طائر لوَكْرٍ
أم قاصد منتهى الفضاء؟٢٢
كأنَّ أمَّ النجوم سيفٌ
سُلَّ على الليل ذو مَضاء٢٣
رُصِّع مَتْناه بالدراري
فراق في الحسن والرُّواءِ٢٤
كأنَّ نجم السُّها أديبٌ
في أرض بغدادَ ذو ثواء٢٥
كأنَّ خط الشهاب مُدلٍ
لأسفل البئر بالرِّشاء٢٦
كأنما أنجم الثريا
في شكلها الباهر الضياء
قُفَّازُ كفٍّ به فصوصٌ
من حجر الماس ذي الصفاء٢٧
برئت للموت من حياة
ما نُكِّبت مَهيعَ الشقاء٢٨
لم يكفها أنها احتياج
حتى غدت حَوصةَ البلاء
يا أيُّها المترف المهنَّا
يمرح في ثوب كبرياء٢٩
مهلًا أخا الكبر بعضَ كِبْرٍ
ألست تقْنَى بعض الحياء؟!
أنت ابن فقر إلى أمورٍ
بهنَّ يُدعى بابْنِ الثراء٣٠
١  الطرف: الكريم من الخيل. النجاء: الإسراع والسبق.
٢  النطس: الطبيب الحاذق.
٣  ذه: اسم إشارة بمعنى هذه. على الولاء: متتابعة دون فاصل.
٤  كنهه: حقيقته، والشطر الثاني من البيت فيه استعمال فاعلن على وزن مفعولن، وقد درج على ذلك بعض الشعراء في مخلع البسيط، غير أن علماء الفن لم يذكروا ذلك؛ وفي هذه القصيدة عدة أبيات كذلك.
٥  الأثير في اصطلاح العلم: شيء ألطف من الهواء، مملوء به الفضاء. العلالة: هي ما يتعلل به ويتهلى. نزرة الجلاء: قليلة الوضوح. يقولون: إن الضياء حاصل من اهتزاز الأثير والشاعر يقول: إن قولهم هذا قليل الوضوح، فهم يتلهون بهذا التفسير؛ لأنهم لم يدركوا الحقيقة.
٦  الغيهب: الظلمة.
٧  عب الماء عبًّا: شربه بلا تنفس.
٨  المراء: الخلاف والجدل.
٩  القوى: جمع قوة؛ وأراد بها القوى الطبيعية.
١٠  أراد بدقاق الجماد: ذراته، وذرات كل شيء — على ما حققه العلم — في حراك مستمر، مع أن الحس في الظاهر يدركها ساكنة، وهذا معنى قوله: يتهم الحس بالخطاء.
١١  الشكال: الوثاق يقيد به.
١٢  المشتري: أحد النجوم السيارة.
١٣  غشاء: غطاء.
١٤  شتى: متفرقة.
١٥  داجٍ: مظلم. أدنيت: قربت. ناء: بعيد.
١٦  تقاضاك: طلبك.
١٧  الوهن: الضعف.
١٨  النسر: اسم كوكب. النجم: الثريا. إزائي: مقابلي.
١٩  السنا: الضوء. السناء: الرفعة.
٢٠  أنجم النعش: هي الأنجم التي تسمى ببنات نعش. ذو النعش: هو الميت.
٢١  أراد بالنسر: الواقع، وهو اسم نجم. الكلال: التعب.
٢٢  أخوك: خطاب النسر الواقع، وأخوه هو النجم المعروف بالنسر الطائر.
٢٣  ذو مضاء: حاد قاطع.
٢٤  متناه: جانباه. الرواء: حسن المنظر.
٢٥  السها: نجم خفي تمتحن الأبصار برؤيته. الثواء: الإقامة.
٢٦  مدلٍ: مَنْ أدلى الدلو أو الحبل إذا أرسله في البئر. الرشاء: الحبل.
٢٧  القفاز: لباس اليد، وهما قفازان. الفصوص: جمع فص، بفتح الفاء وضمِّها وكسرها، وهو يركب في الخاتم من المعادن كالياقوت والماس ونحوها.
٢٨  نكبت: مجهول نكبه الطريق، بمعنى نحاه وأبعده عنها. المهيع: الطريق.
٢٩  المترف: المنعم.
٣٠  الثراء: الغنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤