بني الأرض

بني الأرض هل من سامع فأبثَّهُ
حديثَ بصيرٍ بالحقيقة عالم؟
جُبلنا على حبِّ الحياة وإنها
مخيفة أحلام أطافت بحالم
سعى الناس والأقدار مخبوءةٌ لهم
وناموا وما ليل الخطوب بنائم
جرت سفن الأيام مشحونة بنا
على بحر عيش بالردى متلاطِم

•••

تأمَّلتُ في الأحياءِ طرًّا فلم أجد
بهم باسمًا إلا على ألف واجم
وربَّ سعيد واحدٍ تمَّ سعدُهُ
بألف شقيٍّ في المعيشة راغم
وما المرءُ إلا دَوْحةٌ في تنوفةٍ
مُلوَّحةٌ أغصانها بالسمائم١
لها ورقٌ قد جفَّ إلا أقلُّه
وعيدانها بين النُّيوب العواجمِ٢
ولا بدَّ أن تُجْتثَّ يومًا جذورُها
وتَقلعها إحدى الرياح الهواجم

•••

أرى العُمر مهما ازداد يزداد نقصه
إذن نحن في نقصٍ من العمر دائم
ولولا انهدامٌ في بناء جسومنا
لما احتيج في تعميرها للمطاعم
لحى اللَّه بأساءَ الحياة كأننا
نُكبَّلُ من حاجاتها بالأداهم٣
نروح كما نغدو نجاهد دونها
أمورًا دعتنا لارتكاب الجرائم
فلو كنتُ في هذا الوجود مخيَّرًا
وفي عَدمي لاخترته غير نادم٤
هل الموت إلا سالكٌ وحياتنا
إليه سبيلٌ مستبينُ المعالم؟
وما زال هذا الدهرُ غضبانَ آخذًا
على الناس من سيف المَنون بقائم٥
تبصَّر تجدْ هذي البسيطةَ منزلًا
كثير اليتامَى عامرًا بالمآتم
وليس الذي آسى له فقد هالك
ولكن ضياعُ المفجَعات الكرائم
أراملُ تستذري الدموع وحولها
يتامى كأفراخ القطا والحمائم
وكائنْ ترى مخدومة في جلالها
سعتْ حيث أبكاها الردَى سعيَ خادم!٦
فليت المنايا حين قوَّضْن بيتها
بدأن بها من قبل هدم الدعائم!

•••

أرى الخيرَ في الأحياء ومْضَ سحابةٍ
بدا خُلَّبًا والشرَّ ضربةَ لازم
إذا ما رأينا واحدًا قام بانيًا
هناك رأينا خلفه ألفَ هادم
وما جاء فيهم عادلٌ يستميلهمْ
إلى الحق إلا صدَّه ألف ظالم
جهِلت كجهل الناس حكمةَ خالق
على الخلق طُرًّا بالتعاسة حاكم
وغاية جهدي أنني قد علمته
حكيمًا تعالى عن ركوب المظالم

•••

دأبت لنفسي في الحياة كأنني
من العيش مُلقًى في شُدوق الضراغم
يخاصمني منها على غير طائلٍ
أناس فأُبدِي الصفحَ غير مخاصم
وأقنع بالقوت الزهيد لطيبه
حذارَ وقوعي في خبيث المطاعم
وأترك ما قد تشتهي النفس نَيْلَه
لما تشتهيه قِلة في دراهمي
وكم ليَ في بغدادَ من ذي عداوةٍ
وما أنا في شيءٍ عليه بجارم!٧
إذا جئت بالقلب السليم يجيئني
بقلبٍ له من كثرة الحِقد وارم
١  الدوحة: الشجرة العظيمة. التنوفة: المفازة والفلاة لا ماء فيها ولا أنيس.
٢  النيوب: جمع ناب، وهي السن التي خلف الرباعية. العواجم: الأسنان؛ لأنها تعجم المأكول.
٣  يقال: لحى الشجرة: بمعنى قشرها، ويستعمل اللحي بمعنى الشتم والسب مجازًا كما هنا. الأداهم: القيود.
٤  اخترته: أي اخترت العدم.
٥  قائم السيف: مقبضه.
٦  كائن: بمعنى كم للتكثير.
٧  جارم: مذنب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤