خواطر شاعر

تجاه شاعرية الريحاني

لعمرُك ما كلُّ انكسارٍ له جبْرُ
ولا كلُّ سرٍّ يُستطاع به الجَهرُ
لقد ضربت كفُّ الحياة على الحِجا
سِتارًا فَعِلْمُ القوم في كنهها نزْر١
فقمنا جميعًا من وراءِ سِتارها
نقول بشوقٍ: ما وراءَك يا ستْر؟
حكتْ سَرحة فنواءَ نُبصر فرعَها
ولم ندر منها ما الأنابيشُ والجِذْر٢
وقد قال بعضُ القوم: إن حياتنا
كلَيْلٍ وإن الفجر مطلعهُ القبرُ
فإن كان هذا القول فيها حقيقةً
فيا شدَّ ما قد شاقني ذلك الفجْر
وروح الفتى بعد الردَى إن يكن لها
بقاءٌ وحسٌّ فالحياة هي الخُسْر
وإن رَقِيتْ نحو السماء فحبَّذا
إذا أصبحت مأوًى لها الأنجمُ الزهْر

•••

وأعجب شأن في الحياة شعورُنا
وأعجب شأنٍ في الشعور هو الحِجْر٣
وللنفس في أفق الشعور مخايلٌ
إذا بَرقت فالفكر في برقها قطْر
وما كلُّ مشعور به من شئونها
قديرٌ على إيضاحه المنطِقُ الحرُّ
ففي النفس ما أعيا العبارة كشفهُ
وقصَّر عن تبيانه النظمُ والنثر
ومن خاطرات النفس ما لم يقُمْ به
بيانٌ ولم ينهض بأعبائه الشعر
ويا رُبَّ فكر حاك في صدر ناطقٍ
فضاق من النطق الفسيح به الصدر
ويا ربَّ معنًى دقَّ حتى تخاوصت
إليه من الألفاظ أعينُها الخُزر٤
أرى اللفظ معدودًا فكيف أسومُه
كِفاية معنى فاقد العد والحصر؟!٥
وأفق المعاني في التصوُّر واسعٌ
يتيه إذا ما طار في جوِّه الفكر
ولولا قصور في اللُّغا عن مرامنا
لما كان في قول المجاز لنا عذر
ولست أخصُّ الشعر بالكَلِم التي
تُنظَّم أبياتًا كما تنظم الدُّر
وذاك لأنَّ الشعر أوسع من لُغًا
يكون على فعل اللسان لها قصْر
وما الشعر إلا كل ما رنَّح الفتى
كما رنَّحت أعطافَ شاربها الخمر
وحرَّك فيه ساكنَ الوجد فاغتدى
مَهِيجًا كما يستنُّ في المَرح المُهر
فمن نفثاتِ الشعر سجعُ حمامة
على أيْكةٍ يُشجي المشوقَ لها هدر٦
ومن شذَراتِ الشعر حومُ فراشةٍ
على الزهر في روض به ابتسم الزهر
ومن ضَحكات الشعر دمعة عاشقٍ
بها قد شكا للوصل ما فعل الهجْر
ومن لمعات الشعر نظرةُ غادةٍ
بنجلاء تسبي القلب في طرفها فتر٧
ومن جَمرات الشعر رنَّة ثاكلٍ
مُفجَّعة أودَى بواحدها الدهر
ومن نفحات الشعر ترجيعُ مطرِبٍ
تعَاوَرَ مجرى صوته الخفضُ والنبْر
وإنَّ من الشعر ائتلاقَ كواكبٍ
بجُنح الدجى باتت يضاحكها البدر
وإن لريحانيِّنا شاعريةً
من الشعر فيها ما يقال هي الشعر
وما الشعر إلا الروضُ أما أمينُنا
فريحانة، والخلق منه هو النشر
وإن لم يكن شعري من الشعر لم يكن
لَعَمْرُ النهَى للشعر عند النهى قدْر٨
١  يقول بهذا البيت والذي بعده: إن لنا من حياتنا سترًا مسدولًا على عقولنا، فليس لنا من العلم بما وراء ستر الحياة إلا النزر اليسير، ولكن عندنا شوق كبير إلى معرفة ما وراء الحياة.
٢  السرحة: الشجرة العظيمة. وفنواء: كثيرة الأفنان، واسعة الظل. وأنابيش: أصول الشجرة تحت الأرض، واحدها: أنبوش. بَيَّن في البيتين السابقين جهلنا بما بعد الحياة، أي: بمنتهاها، وبيَّن بهذا البيت جهلنا بما قبلها.
٣  الحجر، بكسر فسكون: العقل.
٤  تخاوصت: أي غضت من بصرها شيئًا. والخزر: جمع خزراء، وهي العين الصغيرة الضيقة، ومعنى البيت: أن من المعاني ما يدق حتى تقصر عن بيانه الألفاظ.
٥  أسومه: أي أكلفه. يقول: إن الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية، فكيف يحيط المتناهي بغير المتناهي.
٦  الهدر: صوت الحمام.
٧  نجلاء: عين واسعة.
٨  النهى: جمع نهية، وهي العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤