الأرض

خَبرٌ في الأرض أوحته السما
لأولي العلم برُسل الفكر
أن هذي الأرض كانت أولا
ما ترى بحرًا بها أو جبلا
أو سهولًا أو رُبًا أو سُبلا
أو رياضًا زهرها الغضُّ نما١
من سحاب جادها بالمطرِ
إنما كانت كتلك الأخوات
من نجوم سائرات دائرات
حول شمس هي إحدى النيرات
كنَّ من قبلُ عليها سُدُما٢
كتلة واحدةً في النظر
ثم بعدُ انفصلت من ذا السديمْ
قِطعٌ منها صغير وجسيمْ
ضمن أفلاك بها الدور تُديم
فاستقر الكل فيها أنجما
حول غير الشمس لم يَسْتدر٣
أولًا «نِبتُون» منه انفصلا
ثم «أورانِسُ» يهدي زُحَلا٤
ثم للمشتري مرِّيخٌ تلا
ثم هذي الأرض فالزُّهرة ما
بعدها غير أخيها الأشهر٥
وأخو الزُّهرة بالشمس اقتدى
ولها أقربَ سيار غدا
وهي سارت خلفهُ طول المدى
فأمام الأرض ذانِ انتظما
خلفها المريخ ثم المشتري
أرضنا كانت لَظى مشتعله
مُذْ مِنَ الشمس غدت منفصلهْ
لم تزل في دورها منتقلة
كتلةٌ فيها اللهيب احتدما
وهي ترمي في الفضا بالشرر
كان فيح النار منها مصعدا
وهَجًا في الجو عنها مبعدا
حيث لا يمكن أن ينعقدا
فوقها منه بخارٌ ديَما٦
هاطلات بالحيا المنهمر٧
بقيت حينًا وهذا أمرها
وهي بالإشعاع يخبو حرُّها٨
وانثنى يبرد من ذا ظهرها
فاكتست قشرًا يحاكي الأدما٩
واستمرت بطنها في سُعر١٠
ثم قد صار على مر الزمان
قشرها يغلظ آنًا بعد آن
بيد أن النار عند الهيجَان
قد أعادت قشرها منخرما
بصدوع مُدهشات البصر١١
شخصت أطراف هاتيك الصدوغ
بجبال شمخت منها الفروع
ولها في العين أشكال تروغ
تقذف الأفواه منها حُممَا١٢
صار منهن ركام الحجرِ١٣
حصلت من قذف هاتيك الموادْ
حيث يجمدنَ جبال ووهاد١٤
وركاز وصخور وجماد
بعضها دَقَّ وبعضٌ عظما١٥
وهو صلب الجسم صعب المكسرِ
وهناك انعقدت فيها الغيومْ
من بخار كان في الجوِّ يعوم
ردَّه البردُ مياهًا في التخوم
فجرى السيل عليها مفعِما١٦
كل غور فوقها منحدرِ١٧
عمَّها السيل فغطى حين سالْ
سطحها مجترفًا منها الرمال
فَطَما الماء ولكنَّ الجبال
شخصت في الماء لَمَّا أن طَمَا١٨
وعلتْ كالسُّفْن فوق الأبحرِ
غمر الماءُ بها ما غمرا
ثم خلَّى بعضها منحسرا١٩
محدثًا في السطح منها جزُرا
أنزل الماء بها ما حطما٢٠
من طُفالٍ وحُتات المدَرِ٢١
بسيول الماء كم فيها ارتكمْ
من رمال رسبت فيها أكم٢٢
ولكم خدَّت أخاديدَ وكم
قد بَنت من طبقات عَلما٢٣
نضَّدت فيه صفيح المَرمَرِ
ثم صارت وهي من قبلُ مواتْ
تصلُح الأقطار منها للحياة٢٤
فانبرت تُنبت في البدء النبات
ثم أبدت من قواها النسما٢٥
وارتقت فيها لنوع البشرِ٢٦
فغدت إذ ذاك تزهو بالرياضْ
وبها الأدواح تنمو في الغياض٢٧
ثم ترميها أكفُّ الإنقراض
بانحطام حيث تمسي فحما
حجريًّا بمرور الأعصرِ
من حطام الخلق في الأرض هضابْ
كوَّنتهن أكفُّ الإنقلاب٢٨
ما تراب الأرض واللَّهِ ترابْ
إنما ذاك حُطام قدُما
من جسوم باليات الكسرِ
كم على الأرض رُفات بالياتْ
من جسومٍ طحنتها الدائرات٢٩
فاحتفِرْ في الأرض تلك الطبقات
تجد الأنقاض فيها رمما٣٠
هي للأحياء أو للشجر
كل وجه الأرض للخلق قبور
خفف الوطء على تلك الصدور
والعيون النجل منهم والثغور
إنما أنت ستفنى مثلما٣١
قد فَنُوا والموت دامي الظفُرِ
ظلَّت الأرض على كرِّ الدهورْ
تُبحر الأجبل فيها والبحور٣٢
فوقها تُجبَلُ والماء يغور
وعلى ذاك استدل الحُكما
بجبال السَّمكِ المستحجِرِ
علماء الأرض لم تبرح ترى
حيوان البرِّ لمَّا دَثرا٣٣
منه في الأبحر أبقى أثرا
وكذا في البرِّ ألقى العلمَا
أثرًا من حيوان الأبحرِ
كل ما في الأرض من قفرٍ وبِيدْ
وجبال شَهقت فوق الصعيد٣٤
عن زُهاءِ الربع منها لا يزيد
وسوى ذلك منها انكتما
تحت ماء البحر لم ينحسرِ
في صعيد الأبحر المنغمسِ
مثلُ ما يوجد فوق اليَبسِ
من جبالٍ ناتئات الأرؤس
وَوِهادٍ تستزِلُّ القدَما٣٥
وَرُبًا مختلفات القَدَرِ٣٦
ما نرى اليوم من الماء الحميم
والبراكين التي تحكي الجحيم٣٧
ومن الزَّلزال ذي الهول العظيم
دلَّ أن الأرض فيما قدُما
ذات جِرم ذائب مستعرِ٣٨
كل ما كان بحَال السَّيلان
فهو يغدو كرة بالدورَان
وكذاك الأرض في ماضي الزمان
كرويًّا قد عدا ملتئما
جِرمها من سَيلانِ العُنصرِ
ثم إن الأرض من قبل الجمودْ
ولدت منها وليست بالولود٣٩
قمرًا دار عليها بسعودْ
وجلا في الليل عنها الظلَمَا
فهي بنت الشمس أمُّ القمَر٤٠
١  الغض: الطري.
٢  السدم: جمع سديم، وهو الضباب؛ أي كانت النجوم التي هي في العالم الشمسي حول الشمس بمنزلة الغيوم.
٣  الأرض وأخواتها من النجوم السابحة التي يتألف منهما النظام الشمسي، كانت جميعها مع الشمس كتلة واحدة، انفصلت وصار كل نجم على حدة، مرتبطًا مع أخواته بنظام واحد، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى في القرآن الكريم: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا.
٤  نبتون: هو النجم السيار الذي لم يعرف في القديم. أورانس: هو نجم سيار لم يكن معروفًا من قبل، وإنما عرف أخيرًا، ويسمى أيضًا هرشيل باسم مكتشفه، وهذه النجوم التي ذكرها بعد أورانس هي السبعة السيارة الأصلية، التي تخطر حول الشمس، ولم يذكر القمر؛ لأنه قد ثبت أنه يدور حول الأرض، وهي تدور حول الشمس.
٥  أراد بأخيها الأشهر: عطارد، وهو أقرب سيار إلى الأرض، وليس بين الزهرة والأرض سيار سواه.
٦  الديم: جمع ديمة، وهي مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق، والمراد به هنا المطر مطلقًا.
٧  الحيا: المطر. المنهمر: السائل؛ أي أن شدة الحرارة المتصاعدة من الأرض كانت تمنع البخار من أن ينعقد سحابًا ماطرًا.
٨  يخبو: يخمد ويسكن.
٩  يحاكي: يشابه. الأدم: البشرة وهي ظاهر الجلد.
١٠  البطن: مذكر، وتأنيثه لغة، وعليها مشى الشاعر، ويجوز أن يكون الضمير في استمرت عائدًا إلى الأرض، فتكون جملة بطنها في سعر، في موضع الحال من الضمير، السعر: الحر، وأراد به الاشتعال والهيجان، والسعر في الأصل بتسكين العين، وضم هنا للضرورة.
١١  صدوع: شقوق.
١٢  تروع: تخيف. الحمم: جمع حمة، وهي ما تقذفه البراكين عند ثورانها.
١٣  الركام: الشيء المتراكم بعضه فوق بعض.
١٤  الوهاد: الأماكن المنخفضة.
١٥  الركاز: المعدن. دق: صغر.
١٦  التخوم: الفواصل بين الأرضين. مفعمًا: مالئًا.
١٧  الغور: هو ما انحدر من الأرض، متى تسلطت حرارة الشمس على الأرض امتصت رطوبتها فتتصاعد تلك الرطوبة بخارًا في الجو، ومتى بلغ الطبقة الباردة من الهواء يتحلل ويتساقط مطرًا، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى في القرآن الكريم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللـَّه يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ. الودق: المطر.
١٨  طما: ارتفع.
١٩  منحسرًا: منكشفًا.
٢٠  الجزر: جمع جزيرة، على غير قياس، والقياس: جزائر.
٢١  الطفال: بفتح الطاء وضمها هو الطين اليابس. الحتات بضم الحاء: وهو ما تناثر من شيء. المدر: التراب المتلبد.
٢٢  ارتكم الشيء: اجتمع مع ازدحام وكثرة. رسب الشيء في الماء: وصل إلى أسفله. أكم: جمع أكمة، وهي التل.
٢٣  خدت: شقت. الأخاديد: جمع أخدود، وهو شق مستطيل في الأرض. العلم: الجبل.
٢٤  الأرض الموات: وهي الخراب، أو التي لا مالك لها ولا ينتفع بها أحد. الأقطار: النواحي والجهات، مفردها قطر.
٢٥  النسم جمع نسمة وهي نفس الروح، وأراد بالنسم الأرواح أنفسها.
٢٦  يظهر أن الشاعر يميل إلى مذهب النشوء والارتقاء كما يفهم من هذا المقطع، وقد اضطربت الآراء في أن هذا المذهب يعارض نصوص الدين، وعندي أنه لا يعارضها، ولم يزل علماء الكون في حيرة من تحقيق هذا المذهب.
٢٧  الأدواح: الأشجار العظيمة.
٢٨  الحطام: ما تكسر وتفتت من الأشياء اليابسة، وحطام الخلق: ما تكسر من عظامها وتحطم. الهضاب: جمع هضبة، وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض.
٢٩  الرفات: الحطام وهو مفرد مذكر، أراد به الشاعر معنى الجمع، فجمع صفته وأنثها.
٣٠  الأنقاض: الأبنية المتهدمة. الرمم: ما بلي من العظم، مفردها رمة، وأراد بها الشاعر ما هو أعظم.
٣١  النجل: العيون الواسعة الحسنة.
٣٢  تبحر الأجبل: أي تصيرها بحرًا، والأجبل: جمع جبل، تجبل: تصير جبالًا — يعرض للأرض بسبب ما في جوفها من القوى والفواعل المختلفة اضطرابات وانقلابات، وقد تسبب هذه الفواعل تغوير الجبال الشاهقة، في غمرها الماء فتصير بحرًا، وقد تسبب ظهور جبال وجزائر في البحر، وقد استدل علماء الكون على ذلك بما شاهدوه من الأسماك المتحجرة في رءوس الجبال ومن آثار الحيوانات البرية في أغوار البحار.
٣٣  دثر: بلي وامحى.
٣٤  البيد: جمع بيداء، وهي الفلاة لا ماء فيها ولا أنيس. الصعيد: وجه الأرض.
٣٥  ناتئات: مرتفعات. تستزل: تزلق.
٣٦  ربا: جمع ربوة، وهي المرتفع من الأرض.
٣٧  الحميم: الساخن الحار. البراكين: جبال تقذف نارًا ودخانًا وماء ووحلًا ومواد ذائبة، فيبدو منها إذ ذاك مجموع حوادث تظهر فيها النار أعمالها الغريبة، وأسباب تلك الحوادث غير معروفة، وربما بقيت على الدوام إذ لا وسيلة إلى معرفتها، ومفردها بركان، وهو لفظ قد اصطلح عليه، ولفظه العربي فلقان: جمع فلق، بفتح الفاء واللام ومعناه جهنم، ثم استعمل لجبل النار.
٣٨  مستعر: ملتهب.
٣٩  الولود بفتح الواو: الكثيرة الأولاد، الأرض قبل أن تجمد بعد انفصالها عن الشمس انفصل عنها القمر.
٤٠  هي: أي الأرض بنت الشمس؛ لأنها منفصلة عنها وهي أم القمر، لأنه منفصل عنها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤