ما رأيت في بك أوغلي

قالها عندما ذهب إلى حي بك أوغلي في الآستانة سنة ١٨٩٨ وقد كان إذ ذاك معممًا، وذلك قبل أن يستبدل الطربوش.

ذهبتُ لحيٍّ في فَرُوقَ تزاحمتْ
به الخلقُ حتى قلتُ: ما أكثرَ الخلقا!
ترى الناس أفواجًا إليه وإنَّما
إلى التَّلَعات الزهْر في دَرَجٍ ترْقى
يضيء به ثغر الحضارة باسمًا
بلامعِ نورٍ علَّم السحبَ البرقا
رأيت مبانيه وجلْتُ بطُرقه
فما أحسن المبنى وما أوسع الطرْقا!
فكم فيه من صرح ترى الدهر مُتْلِعا
يمدُّ إلى إدراك شرفته العنقا١
قصور عَلت في الجوِّ لم تلْقَ بينها
وبين النجوم الزُّهر في حسنها فرقا
هنالك للأرضين أفق بروجُه
تُضاحك أبراج السموات والأفقا
بروجٌ ولكن شارقاتُ شموسها
تدور بأفْقٍ يجمع الغرب والشرقا
بحيث ترى حُمر «الطرابيش» خالطت
«برانيط» سودًا كالسلاحف أو وُرْقا٢
وتلقى الوجوه البيض حُمرًا خدودها
وتلقى العيون السودَ والأعينَ الزرقا
خدودٌ جرى ماء الشبيبة فوقها
ففيه عقول الناظرين من الغرقى
محاسن كالأزهار قد طلَّها الهوى
وهبَّ نسيم العشق من بينها طلْقا
فمن ذاتِ دَلٍّ أعجز الشعرَ وصفُها
وإن كان فيها الشعر ممتلئًا عِشقا
ومن ذي دلال رنَّح الحسنُ عِطفه
إلى أن رجا من حسنه عِطفه الرفقا

•••

وكم مسرحٍ فيه الحسان تلاعبت
تُمثِّلُ كيف الناسُ تسْعَد أو تشقى
حِسان علت في الحسن خُلْقًا وخِلْقَةً
وهل خِلقة تعلو إذا سفلت خُلقا
تُمثِّل ما قد مرَّ منا وما حلا
وما جلَّ من أمر الحياة وما دقَّا
فتُلقي دروسًا لو وعتها حياتنا
لبُدِّل كِذْبٌ في سعادتها صدقا
إذا مثلت شكوى الحزين بكت لها
عيونُ البلايا والزمانُ لها رقَّا
وإن صوَّرَت حقًّا هوَى كل باطل
على رأسه حتى تجدَّل مُندقَّا٣

•••

وماذا ترى فيه إذا زُرتَ حانةً؟!
ترى الأنس يشدو في فمٍ يجهل النطقا
سَكوتٌ على قرع الكئوس مُغرِّد
بلحن سرور يترك الهم منشقَّا
عليهم سحاب الاحتشام يُظلهم
متى هُم أرادوا سَحَّ من قُبُلٍ وَدْقا
أوانس قد نادمنَ كل غُرانقٍ
فمنهن من تَسقي ومنهنَّ من تُسقى٤
فمن ذا يراهم ثم لم يك واغلًا
عليهم وإن أمسى يُعدُّ الفتى الأتقى
ألستُ بمعذورٍ إذا أنا زرتهم
وساجلتهم شوقًا؟! فقل ويحك الحقا
فقد لامني لمَّا رآني بحبهم
فتًى منه قحف الرأس ممتلئٌ حمقا
فقال: أفي الحيِّ الذي شاع فسقه
تجولُ ألم تمنع عمامتك الفسقا؟!
فقلت: أجل إن العمائم عندنا
لتمنع في لوثاتها الفسق والرزقا٥
ولكنني ما جئتُ إلا توصلًا
لذكرى شقاءٍ في العراقِ به نشقى

•••

شقاء تمطَّى في العراق تمطيًا
وألقى جِرانًا لا يزحزحُ واستلقى٦
فإن العراق اليوم قد نشبت به
نيوب الدواهي فهي تعرقُهُ عَرقا
تمشت به حتى أعادت سواده
بياضًا ومدَّت للبَوار به رِبقا
فلهفي على بغداد إذ قد أضاعها
بنوها فسُحقًا للبنين بها سحقا!
جَزَوْها عقوقًا وهْي أمٌ كريمة
وألأم أبناء الكريمة من عَقَّا
أدامت لها الأحداث مخضًا كأنها
قد اتخذتها الحادثات لها زِقَّا٧
سأبكي عليها كلما جلْتُ سائحًا
وشاهدت في العمران مملكةً ترقى
وأندبها عند الأغاريد شاربًا
من الدمع كأسًا لا أريد لها مَذقا٨
١  المتلع: الذي يمد عنقه؛ ليرى شيئًا عاليًا أو بعيدًا.
٢  الورق: جمع أورق أو ورقاء، وهي التي لونها لون الرماد، مع حمرة خفيفة.
٣  تجدل: سقطت على الجدالة، وهي الأرض. والمندق: المنكسر.
٤  الغرانق: الفتى الشاب التام الحسن.
٥  لاث العمامة يلوثها لوثًا: لفها حول رأسه، اللوثة: المرة من اللوث.
٦  الجران: مقدم عنق البعير، وإلقاء الجران: أن يمس البعير الأرض بمقدم عنقه عند بروكه، وهو كناية عن التمكن والاستقرار.
٧  الزق: وعاء من جلد يحفظ فيه اللبن والخمر ونحوهما.
٨  الأغاريد جمع أغرود، وهو الغناء. والمذق: الخلط، مذق اللبن بالماء: خلطه، يريد أنه إذا تشاغل قوم بسماع الغناء وشرب المدامة، فإن شغله هو أن يصبح باكيًا بلاده، شاربًا من فيض دموعه كأسًا صرفة غير مشوبة بماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤