في الملكوت الأعلى

قالها وهو في الآستانة يرثي بها محمود شوكت باشا الصدر الأعظم، الذي قتله أناس من حزب المخالفين.

لقد بتُّ مطروف النواظرِ بالسُّهد
تقبلني فوق الفراش يدُ الوجدِ
تساورني رَقشاء من لاعبي الجوى
ويقدح في قلبي الأسى واريَ الزند
فأرقبُ تغويرَ النجوم بمقلةٍ
ترَقرقُ فيها الدمع منفرطَ العقد
أقول، وفرعُ الليل أسحم والأسى
يدبُّ دبيب السم في العظم والجلد:١
متى يُسفر الصبح الذي أنا راقبٌ
أليس قميص الليل عنه بمنقَدِّ؟!
إلى أن رأيت الفجر قد لاح خيطه
كما أسلت السيف الجراز من الغمدِ٢
فما أنا إلا غفوة فخيالة
لدى العالم العلوي في ربوة الخلد

•••

رأيت كأني قمت حول سُرادقٍ
من النور مرفوع الدعائم ممتدِّ
أقاموا لواء الحمد فوق عماده
وَخطُّوا على حافاته سورة الرعدِ
وقد أشرقت ملء السموات حوله
قناديل خُضْرٌ تستنير بلا وقد
وقد لاح لي محمود شوكت جالسًا
به فوق كرسيِّ الجلالة والمجد
وفي يده سيفٌ أجيدَ صقاله
على أنه من صنعة الله لا الهند
وفي الرأس تاج بالثناء مرصَّع
فُوَيْق جبين مشرق بسنا الحمد
وقد جلَّلته بردة سندسيَّة
ومن تحتها درع إلهيَّة السرْد
وبين يديه زُهْرَة من ملائِكٍ
مجنَّحة الأيدي غُرانقةٍ مُرد٣
تهنئه بالفوز طورًا وتارة
تحييه بالغضِّ الطريِّ من الورد
وقد قام من حول السرادق موكب
عظيم به اصطفت ألوف من الجند

•••

فلما رآني واقفًا بحياله
وقد كنت بين الجند معتزلًا وحدي
أشار أن اقْربْ يا رُصافيُّ ما لنا
نراك وحيدًا قد وقفت على بُعد؟!
فجئت وجسمي قد تغشَّته رَجفة
كما يرجف المَقرور من شدة البرد
فقمت لديه وانحنيت أمامه
فقبلت بالتعظيم حاشية البُرد
فقال: لقد آنستَ إذ جئتَ إننا
عهدناك في زُوَّارنا مخلص الوُدِّ
ولا ترتجف هوِّنْ عليك فإنما
نزلت قرين الأمن في منزل السعد
فأبلغ تحياتي إلى الوطن الذي
سعيتُ إلى إعلائه باذلًا جهدي
وقل لبنيه: إنني لست حاقدًا
عليهم فمثلي لا يميل إلى الحقد
وإنيَ لمَّا أن تمثلتُ قائمًا
بديوان ذي العرش الذي جل عن ند
طلبت لهم عفوًا من الله سابغًا
وقلت له: يا ربِّ لا تخزهم بعدي
ويا ربِّ إني قد قصدتُ نجاحهم
فحقق لهم يا رب ما كان من قصدي
وإني لأرجو منك مَرحمةً لهم
وإن قتلوني ظالمين على عَمْد
فإني أرى موتي بخدمة أمَّتي
حياة به طعم الشهادة كالشهد
ألا فاهدهم يا رب للمجد والعُلا
فما من مُضلٍّ في الأنام لمن تهدي
وقال: أتدري من هُمُ الجند؟ إنهم
من استشهدوا في حرب أعدائنا اللُّدِّ
ألم ترهم دامين حتى كأنما
تسربل كلُّ لبدَةَ الأسد الوَرد؟٤
فسوف بحول الله أرأب صدعهم
وأغزو العدا فيهم على الضُّمُر الجردِ٥
وأذَّنَ في الحيِّ المؤذِّن غُدوةً
فأيقظني التكبيرُ من سِنَةِ الرقد
فقمتُ وبي من خشية الله رعدة
وأحسست من رؤياي بَردًا على كِبدي
وأصبحت لم أملك بوادرَ عَبرةٍ
تخطُّ سطور الدمع في صفحة الخدِّ
سأبكي وأستبكي الجيوش على فتًى
فقدناه فقدَ الغيث في الزَّمن الصَّلد٦
فتًى كان في أفْق الوزارة كوكبًا
به في دجى الخطب الخلافةُ تستهدي
وقد كان في وجه الخطوب تبسُّمًا
إذا عبست يومًا بأوجُهها الرُّبدِ٧
وما مات محمودُ الخصال وإنما
تنقل من هذا الفناء إلى الخُلد
لئن غُيِّبتْ عنَّا مَرائيه في الثرى
فما غُيِّبت عنا معاليه في اللَّحد
وما هو إلا السَّيف قد كان مُصْلَتًا
على الدهر وهو اليوم قد قرَّ في الغمد
سيبقى له الذكر الجميل مُؤَبدًا
تمرُّ به الأيام حالية الأيدي
١  الفرع: الشعر. والأسحم: الأسود.
٢  الجراز: السيف القطاع.
٣  الغرانقة: جمع غرنيق، وهو الشاب الأبيض الجميل.
٤  الورد: الأحمر من الأسود.
٥  رأب الصدع: أصلحه. والضمر: الخيل اللطيفة الجسم الهضيمة البطن. والجرد: القليلة الشعر.
٦  الصلد: الصلب الأملس، أو الأرض التي لا تنبت شيئًا، ويعني به الزمن الشديد.
٧  الربد: جمع أربد، وهو المغبر اللون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤