رثاء شوقي شاعر مصر الأكبر

ألقيت في الحفلة التأبينية الكبرى في نابلس سنة ١٩٣٢.

الشعر بعد مصابه بكبيرهِ
في مصر جل مصابه بأميرهِ
بيناه يبكي حافظًا بشهيقه
إذ قام يبكي أحمدًا بزفيره
لم يقضِ بعض حداده لنصيره
حتى أحدَّ أسًى لفقد مجيره
ما إن خبت في الأفق شعلة نوره
حتى انطوت في الجو لمعة نوره
بالأمس ظل مرزَّأً بمبينه
واليوم بات مفجعًا بمنيره
أخذت فرزدقهُ المنون وضاعفت
جُلى مصيبته بأخذِ جريره
رزآن ملتهبان قد نضحتهما
عين العلا من دمعها بغزيره
فالشعر بعدهما استطال بكاؤه
وتموَّجت بالحزن كل بحوره
وهزاره ترك الصداح وليثه
أمنت أعاديه سماع زئيره

•••

يا نيِّرًا فجع القريض بموته
فبكته عين وزينه وكسيره
وخلت سماء الشعر بعد أفوله
من مشرقات شموسه وبدوره
ومؤمَّرًا لم تنتفض بوفاته
في الشعر بيعته على تأميره
إذ لن يقوم نظيره من بعده
هيهات أن تأتي الدُّنا بنظيره
لك في الخلود مكانة ما نالها
فرعون في ديماسه وحفيره
إن الدفين مضمخًا بحنوطه
دون الدفين محنطًا بشعوره
إن المتوَّج فوق عرش ذكائه
يعلو المتوَّج فوق عرش سريره
ما مات من تركت لنا أقلامه
صورًا خوالد من بنات ضميره
صورًا تمثل ذاته وصفاته
حتى يقمن لنا مقام نشوره
فكأنه وهو الدفين بقبره
حيٌّ يعيش بحزنه وسروره
وكأنه في القوم ساعة حفلهم
متكلم بنظيمه ونثيره
لأبي عليٍّ من قريحة شعره
وحيٌ أتى من جبرئيل شعوره
كم قد رمى الغيب الخفي فؤاده
بذكائه فأصاب كشف ستوره
وتصور المعنى الدقيق فردَّه
كالصبح مفتلقًا أوانَ ظهوره
يأتيك بالمعنى الجميل قد اكتسى
من وشي سندس لفظهِ وحريره
فالشعر قد دكت جبال فنونه
إذ موت شوقي كان نفخة صوره
يا راحلًا ترك القوافي بعده
محتاجة المحيا إلى تفكيره
لهفي على ذيَّالك القلم الذي
يتطرب الأرواح لحن صريره
الشعر كنت أميره وسميره
فمن المسامر بعد فقد سميره
حرَّرته من رق كل تصنع
فبدت فنون الحق في تحريره
سخَّرت من أوتاره ما لم يكن
ليطيع غيرك قط في تسخيره
ولكم شدوت بنغمةٍ من بُمَّهِ
ولكم صدحت بنغمة من زيره
تتمايل الأبدان في إنشاده
طربًا وليس يمل من تكريره

•••

يا أهل مصر عزاءكم فمصابكم
أمر قضاه الله في تقديره
الشعر قد ثُلَّت بمصر عروشه
بوفاةِ سيدهِ وموت أميره
علمان من أعلامه كنا به
يتنازعان السبق في تحبيره
لكليهما الهرمان قد خشعا أسًى
والنيل مدَّ أنينه بخريره

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤