ضلال التاريخ

أقولُ، وطرفي في المحال مُحدِّقُ:
أبالدهر مسٌّ أم بأهليهِ أولَقُ؟!١
أما لِلُغَيْزاءِ الزمان مفسِّرٌ
فقد حار فيها الألمعيُّ المدقِّقُ؟!٢
لقد خامرتني في الزمان وأهله
شكوكٌ عليها يُعذَر المتزندق
أرى الدهرَ في أمرين يعمل دائبًا
صنَاعَ اليدين فيهما يتأنق٣
يُجدِّد للموتى مناقبَ لم تكن
لديهم وللأحياء يُبلي ويُخِلق
فكم من قبور عظَّم الناس أهلَها
بما لم يكن عند النُّهى يتحقق
ورُبَّ امرئٍ قد عاش يستقطر الثنا
فلما قضى سال الثنا يتدفق
سقى الدهر للأموات غرس مناقبٍ
بميْنٍ فظل الغرْس ينمو فيبسُق٤
أرى كلَّ ميتٍ ما تقادم عهده
تُقام له سوقُ الثناء فتنفُقُ٥
فأقربهم عهدًا أقلُّ غَضاضة
وأقدمهم عهدًا أغضُّ وأسمَقُ٦
كأن كرامات الفقيد بواسق
يؤبِّرها كر القرون فتعذق!٧
إذا شطَّ جيلٌ خط من جاء بعده
أكاذيب عنه بالثناء تُزوَّقُ٨
فما كتب التاريخ في كل ما روَت
لقرَّائها إلا حديثٌ ملفَّقُ
نظرنا لأمر الحاضرين فرابَنا
فكيف بأمر الغابرين نصدِّق؟!
وما صدَقتنا في الحقائق أعينٌ
فكيف إذن فيهن يصدق مُهرق؟!٩
وهل قد خُصِصنا دون من مات قبلنا
بخُبث السجايا؟ شدَّ ما نَتَحمَّق!١٠

•••

لعَمْرك أقصاني الزمان المفرِّقُ
فهل أنا من بعد التشاؤم مُعرِق؟١١
خليليَّ هل مَنْ بالرصافة عالمٌ
بأنِّي إلى من بالرُّصافة شيقُ١٢
بلادٌ إذا ما هبَّت الريح نحوها
تمنيتُ لو أنِّي بها أتعلق
أبيتُ على شوق وقلبيَ موثَقٌ
بهمِّي ودمعي فوق خدَّيَّ مُطلق
إذا ما تذكَّرت العجوزَ بكيتُها
بدمعٍ به الأهداب تطفو وتغرق١٣
وما شَرَقي بالدمع يا أمُّ وحدهُ
ولكن بروحي عند ذكراك أشرَق
ويهفو بقلبي الشوق حتى كأنما
تخطَّفه من بين جنبيَّ سوذَقُ١٤
فيا أمُّ صبرًا إن لابنك همَّة
إلى المجد ترمي أو إلى المجد تسبِقُ
تضايقَ عنها الدهر مستعظمًا لها
وأهلوه عنها يا أميمة أضيق
أكلفَ منها الدهر ما لا يطيقه
فليس بعارٍ أنني فيه مخفق
لقد صَغُرت بغداد عن أن تضمَّها
وما وسعتْها بعد بغداد جلَّق١٥

ومنها:

أبت كتب التاريخ للحق مُلتقًى
فبينهما من زُخرف القول مَوبِق١٦
فإن شرَّقت في الحق فهو مغرِّبٌ
وإن غرَّبت في الحق فهو مشرِّق
تجور بها الأهواء جورًا وإنما
على مُزْلقات المَين تمشي فتزْلقُ
فيا أيها التاريخ أغرِق مُغاليًا
فما ضرَّ بعد اليوم أنك مُغرق
قتلت الورى خُبرًا فليس بخادعي
حديثٌ مُطرَّى أو كلامٌ مُنمَّق
ولي في بني الدنيا حَصاةٌ رزينة
إذا طاشَ حِلمٌ لا تطيشُ وتُنزَق١٧

ومنها:

هذاذَيْكَ لا تجفِل مقالَ مؤرِّخ
ولا يستفزَّنك الكلامُ المشقق١٨
كِذابٌ على وجه الطروس مسَطَّرٌ
يَغصُّ به العقل السليم ويشرَق
فدع عنك لغوَ الناطقين وخذ بما
رواه من الآثار ما ليس ينطِق
فإن ذكروا النعمانَ يومًا فلا تثق
بأكثرَ مما قال عنه الخوَرنق١٩
فأصدقُ منهم في المسامع لهجة
ضفادع في المستنقعات تُنقنِقُ
تنوَّرتُ وجهَ الحق في ظلماتهم
فلم أرَ نورًا غير ذا يتألق
ملكت من الدنيا حقيقة أهلها
وإني على الدنيا بها أتصدَّقُ
١  الأولق: الجنون.
٢  لغيزاء: تصغير لغز.
٣  رجل صنع اليدين وصناع اليدين وصنيع اليدين: حاذق ماهر في العمل بهما.
٤  المين: الكذب.
٥  تنفق: تروج.
٦  الغضاضة: مصدر الغض، وهو الطري من النبات واللحم ونحوها.
٧  يؤبِّرها: يلقحها. وتعذق: تثمر.
٨  تزوق: تخلط وتموه.
٩  المهرق: نوع خاص من الصحف، كانوا يكتبون عليه كتب المعاهدات ونحوها.
١٠  شد ما نتحمق: ما أشد حماقتنا!
١١  التشاؤم هنا: الذهاب إلى الشأم، ومعرق: داخل العراق، ويقال: أشأم: فهو مشئم، وأعرق: فهو معرق.
١٢  شيق: مشتاق.
١٣  يريد بالعجوز أمه.
١٤  السَّوذق: الصقر أو الشاهين.
١٥  جلق: دمشق.
١٦  الموبق: الحاجز بين الشيئين.
١٧  حصاة: عقل. وتنزق: تطيش وتضل.
١٨  هذهذ: أسرع، وهذاذيك: إسْرَاعًا بعد إسْرَاعٍ. الكلام المشقق: الفصيح الذي ذهب فيه القائل مذاهب التجميل والتحسين.
١٩  الخورنق: من آثار ملوك الحيرة، يريد لا تثق بأخبار الكتب، وعوِّل على ما ينطق به البناء من عظمة صاحبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤