هولاكو١ والمستعصم٢

هو الدهر لم يرحم إذا شدَّ في حربِ
ولم يتَّئد إما تمخض بالخطبِ
يُزمجر أحيانًا ويضحك تارة
فيظهر في بُردين لِلجِدِّ والَّلعْبِ
فلا هو في سلْمٍ فنأمَن بطشه
ولا هو في حرب فنقعد للحربِ
يسالم حتى تأخذَ القومَ غِرةٌ
فيهجم زحفًا في زعازعة النكب
أرى الدهر كالميزان يصعد بالحصى
ويهبط بالموزون ذي الثمن المربي٣
أدالَ من العُرب الأعاجم بعدما
أدالَ بني عباسها من بني حَرب٤
ولم أرَ للأيام أشنع سُبَّة
لعمرك من مِلك العلوج على العرب٥
صفت لبني العبَّاس أحواضُ عزهم
زمانًا وعادت بعدُ مخلبة الشرب٦
عنت لهم الدنيا فساسوا بلادها
بعدل أضاء الملك في سالف الحُقْب
فكانوا طفاح الأرض عزًّا ومنعة
خلائف ساسوا بالسيوف وبالكتْبِ
لقد ملكوا مُلكًا بكت أخرَياته
بدمعٍ على المستعصم الشهم مُنصبِّ
تشاغل بالذات عن حَوط ملكه
فدارت على ابن العلقميِّ رَحى الشَغْب
أطال هجودًا في مضاجع لهوه
على ترفٍ والدهر يقظانُ ذو ألْبِ
لقد غرَّه أنَّ الخطوبَ روابضٌ
ولم يدرِ أن الليث يربض للوثب
فكان كمروانَ الحمارِ إذِ انقضت
به دولةٌ مدَّت يدَ الفتح للغرب٧

•••

جرت فتنةٌ من شيعة الكرخ جلَّحت
على شِيعةٍ في الكرخ بالقتل والنهب٨
فقامت لدى ابن العلقميِّ ضغائنٌ
تحجَّرن من تحت النياط على القلب٩
فأضمرَ للمعتصم الغدر وانطوى
على الحقد مدفوعًا إلى الغشِّ والكذب
وخادَعه في الأمر وهو وزيره
مواربة إذ كان مستضعفَ الإرْب
فأبعد عنه في البلاد جنودَه
وشتتهم من أوب أرضٍ إلى أوْب١٠
ودسَّ إلى الطاغي هُلاكو رسالةً
مُغلغلةً يدعوه فيها إلى الحرب١١
وقال له: إن جئت بغداد غازيًا
تملكتها من غير طعنٍ ولا ضرب
فثار هُلاكو بالمغول تؤمه
كتائِبُ خضْرٌ تضرب السهلَ بالصعب
وقاد جيوشًا لم تمرَّ بمخصبٍ
من الأرض إلا عادَ ملتهب الجدب
جُيوش ترد الهضب في السير صفصفًا
وتعرُك في تسيارها الجنبَ بالجنب
فما عتَّمت حتى بنت بغبارها
سماءً على أرض العراق من الترب
ولما أبادت جيشَ بغدادَ هالكًا
على رَغم فتح الدين قائده الندب
أقامت على أسوار بغدادَ بُرهةً
تعض بها عضَّ الثقاف على الكعب
فضاق عليها بالحصار خِناقها
وغصت بكرب يا له اللهَ من كرب!
وقد حُمَّ فيها الأمن بالرعب فانبرت
له رُحَضاء من عيون أولي الرعب١٢
هناك دعا المستعصم القوم باكيًا
بدمع على لَحْيَيْهِ منهملٍ سكب
فأبدى له ابن العلقمي تحزُّنًا
طَوى تحتهُ كشحًا على المكر والخلب
وقال له: قد ضاق بالخطب ذرعنا
وأنت ترى ما للمغول من الخطب
فكم نحن نبقى والعدو محاصِرٌ
نُذلُّ ونشقى في الدفاع وفي الذَّبِّ
وماذا عسى تجدي الحصونُ بأرضنا
وهم قد أقاموا راصدينَ على الدرب
فدع «يا أميرَ المؤمنين» قتالهم
على هُدنةٍ تبقيك ملتئم الشعب
ولسنا «وإن كانت كبارًا قصورنا»
نردُّ هُلاكو بالقتال على العقب
فهادِنه واخرج في رجالك نحوَهُ
وصاهِرْهُ واشدد منه أزرك بالقرب
وإلَّا فإنَّ الأمر قد جدَّ جِده
وليس سوى هذا لصدعك من رأبِ

•••

فلما رأى المستعصمُ الخرقَ واسعًا
وأن ليس للداءِ الذي حلَّ من طِبِّ
مشى كارهًا والموتُ يُعجل خطوه
يؤمُّ لفيفًا من بنينَ ومن صحب
وراح بعقد الصُّلح يجمع شمله
كمن راح بين النُّون يجمع والضَّبِّ!١٣
فأمسكه رهنًا وقتَّل صحبه
هُلاكو ولم يسمع لهم قط من عتب
وأغرى ببغدادَ الجنودَ كما غدا
بأدماء يغري كلبه صاحب الكلب
فظلَّت بهم بغدادُ ثكلى مُرنَّةً
تفجَّع بين القتل والسَّبي والنَّهبِ
وجاسوا خلال الدور ينتهبونها
وصبوا عليها بطشهم أيَّما صبِّ
وأمسى بهم قصر الخلافة خاشعًا
مهتكة أستاره خائف السِّرْب
وباتت به من واكف الدمع بالبكا
عيون المها شتراء منزوعة الهُدْب
وراحت سبايا للمغول عقائل
من اللَّاءِ لم تمدَد لهن يد الثلب
لقد شربوا بالهونِ أوشال عزها
وما أسأروا شيئًا لعمرك في القعب
فقلَّص ظلٌّ كان في الملك وارفًا
وأمْحَل ملكٌ كان مغلولبَ العشب

•••

لقد بات إذ ذاك الخليفة جاثمًا
على الخسف مرقوبًا بأربعةٍ غلْب
وخارت قواه بالسُّعار لمنعه
ثلاثةَ أيام عن الأكل والشرب١٤
فقال، وقد نقَّتْ ضفادع بطنه:
ألا كسرةٌ يا قوم أشفي بها سغبي؟
فقال هلاكو: عاجلوه بقَصعةٍ
من الذَّهب الإبريز واللؤلؤ الرطب
وقولوا له: كل ما بدا لك إنها
لآلئُ لم تعبث بهن يد الثقب
ألست لهذا اليوم كنتَ ادَّخرتها؟
فدونك فانظر هل تنوبُ عن الحَب!
وكنتَ بها دون المماليك معجبًا
وفاتك أن المقتَ من ثمرِ العُجْبِ
ولو كنت في عزِّ البلاد أهنتها
وأنزلت منها الجند في منزل خصب
لما أكلتك اليوم حربي وإن غدت
تذيب لظاها عنصر الحجر الصُّلبِ
سأبذلها دون الجنود أزيدهم
صيالًا بها فوق المطَهَّمة القُبِّ١٥
وسوف وإن لم يبقَ إلا حديثنا
تميزُ ملوك الأرض دأبك من دأبي

•••

هنالك والطوسيُّ أفتى بقتلِه
فرَوه بقتل آدِب أفجع الأدب
أشار هلاكو نحو علج فتلَّه
فخرَّ صريعًا لليدين وللجنب
فأدرج في لِبْدٍ وديس بأرجل
إلى أن قضى بالرَّفْس ثمة والضرب١٦
وقد أثخنت بغداد من بعد قتلِه
جروح بوار جاء بالحجج الشهب١٧
وما اندملت تلك الجروح وإنما
ببغداد منها اليوم ندبٌ على ندبِ
١  هولاكو: هو الذي أسر المستعصم بالخديعة، ثم قتله وامتلك بغداد بعد أن قتل ما لا يحصى من العلماء والصلحاء وعامة الأهلين.
٢  المستعصم: هو آخر خلفاء بني العباس وكان ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراء دولته؛ لسوء تدبيره.
٣  المربي: الزائد.
٤  يقال: أدال الله بني فلان من عدوهم؛ أي جعل الكرة لهم عليهم، وأدال الله زيدًا من عمرو؛ أي نزع الدولة من عمرو وحوَّلها إلى زيد.
٥  السبة: العار. العلوج: جمع علج، وهو الرجل الضخم من كفَّار الأعاجم.
٦  مخلبة: فاسدة ذات حمأة.
٧  مروان الحمار: وهو رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم.
٨  جلح عليه: أي أقدم عليه إقدامًا شديدًا وكاشفه بالعداوة.
٩  النياط: الفؤاد، وعرق نيط به القلب إلى الوتين، فإذا قطع مات صاحبه. وابن العلقمي هذا وزير المعتصم: هو الذي كاتب هولاكو بأن يحضر ويغزو بغداد انتقامًا من الخليفة وابنه أبي بكر.
١٠  الأوب: الجهة.
١١  الرسالة المغلغلة: المحمولة من بلد إلى بلد.
١٢  الرحضاء: عرق يتصبب عقيب الحمى، ومعنى البيت: أن الأمن لما صار محمومًا بالرعب، كانت رحضاؤه الدموع المنسكبة من عيون المرعوبين.
١٣  النون: الحوت. والضبُّ: حيوان يعيش في البر، والمعنى أنه راح يجمع بين الضدين.
١٤  السعار: الجوع.
١٥  صيالًا: شدة واستطالة. والمطهمة: يريد الخيل المطهمة، وهي الخيل البارعة الجمال. والقب: جمع أقب، وهو الضامر، وهو من صفات جياد الخيل، وخاصة جياد الحرب.
١٦  أدرج: لف.
١٧  الحجج: السنون. والشهب: جمع شهباء، وهي البيضاء، كناية عن سنة الجدب والقحط والجوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤