ما هكذا١

أصبحتُ أوسِعُهم لومًا وتثريبا
لما امتطوا غارب الإفراط مركوبا
وألهبتْ منهم الأهواء جارية
إلى التفرق ألهوبًا فألهوبا٢
وأرسلوهنَّ مُرخاة أعنتها
يُوغلن في الأمر إحضارًا وتقريبا
فأرهجوا الشر حتى إن هَبوته
مدت سرادقها في اللوح مضروبا٣
راموا الصلاح وقد جاءُوا بلائحة
خرقاء تترك شمل الشعب مشعوبا
قد كلَّفوا شططًا فيها حكومتهم
وخالفوا الحزمَ فيها والتجاريبا
عَدُّوا النصارى وعدُّوا المسلمين بها
ونحن نعهدُهم طرًّا أعاريبا
قد حكَّموا الدين فيها فهي مُعرِبة
عما يكون لدعوى القوم تكذيبا
مَن مُبلغُ القوم أن المصلحين لهم
أمسَوا كمن لبس الجلباب مقلوبا؟
ما بالهم وطريق الحق واضحة
لا يسلكون إلى الإصلاح مَلحوبا؟٤
أو في مصالح دنياهم وهم عربٌ
جاءوا على حسب الأديان ترتيبا؟
ما ضرَّهم لو نحَوْا في الأمر جامعةً
تنفي الكنائس عنها والمحاريبا
لكنهم أمة تأبى مشاربهم
إلا التعصبَ للأديان مشروبا
قد حاولوا الحقَّ واشتطُّوا بمطلبه
حتى بدا وجهه كالليلِ غربيبا٥
قد يطلب الحق طيَّاشٌ فيبطله
ما كل طالب حق نال مطلوبا
قاموا يريدون إصلاحًا فقمتُ لهم
أستنطق الشعر تأهيلًا وترحيبا
ورحت أحْثُثُهمُ حدوًا بقافية
غازلتُ في صدرها الآمال تشبيبا
حتى إذا محضوا آراءهم ظهرت
للناس زُبدَتها ثأيًا وتخبيبا٦
ساروا وسرتُ فكان السير مختلفًا
يرمي لوجهين تشريقًا وتغريبا
كانوا أحق البرايا مطلبًا فغدَوا
من أبطل الناس في الدنيا مطاليبا
راموا انشقاق العَصا بالشَّغب ملتهبًا
والحقد مضطرمًا والضَّغن مشبوبا
إني لأبصر في بيروت قائبة
للشر موشكةً أن تخرج القوبا٧
أو أُكْرة من «دِناميتٍ» إذا انفجرت
فنارها تنسفُ الشبان والشِّيبا
وقد رأيت أناسًا واصلين بها
وهم بباريزَ مِلبارود أنبوبا٨
وآخرين بمصرٍ يطلبون لها
تفرقعًا يجعل المعمور مَخروبا
ويترك الناس في دهياءَ مظلمة
يرتدُّ منها بياض الشمس حُلْبوبا٩
قل للعريسيِّ، والأنباء شائعةٌ
والصحف تروي لنا عنه الأعاجيبا:
علامَ تعقد في باريز مؤتمرًا
ما كنت فيها برأي القوم مندوبا؟
وهل تعمَّد «حقي العظم» فَعْلته
لما نمى خبرًا «للطان» مكذوبا؟١٠
إذا راح يستنجد الإفرنج منتصفًا
كأنه حَملٌ يستنجد الذيبا

•••

خافوا التذبذبَ في أعمال دولتهم
من أن يُجرَّ على الأوطان تخريبا
وكان خوفهمُ حقًّا لوَ انَّهمُ
لم يعدلوا عن طريق الحق تنكيبا
لكنَّهم جاوزوا نهجَ الصواب إلى
وادي تُهُلِّكَ فاستقصوا به الحوبا١١
ولم يُبالوا بما أبدُوه من جَنَفٍ
أن يمسيَ الوطن المحبوب محروبا
فهم كمن فرَّ من قَطْرٍ يبلِّله
ثم انتحى السيلَ أو جاء الميازيبا
لو كان في غير باريزٍ تألُّبُهُم
ما كنت أحسبهم قومًا مناكيبا
لكنَّ باريز ما زالت مطامعها
ترنو إلى الشام تصعيدًا وتصويبا
ولم تزل كل يوم من سياستها
تلقي العراقيل فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم
جيش يدُكُّ من الشام الأهاضيبا؟

•••

يا أيها القوم لا يغرُرْكُمُ نفر
ضَجُّوا بباريز إفسادًا وتشغيبا
جاءت رسائلهم بالشر مُغرية
تفتنُّ في المكر أسلوبًا فأسلوبا
فطالعوهنَّ بالأيدي مطالعة
تسطو عليهن تمزيقًا وتأريبا
إن يصدقوا إنهم لا يلبسون سوى
مَحضِ النصيحة في الدعوى جلابيبا
فسوف يقرعُ كلٌّ سنَّه ندمًا
ويُسْبلُ الدمعَ في الخدين مسكوبا
١  لما اطلع الشاعر على لائحة الإصلاحيين في بيروت ورأى فسادها، قال هذه القصيدة يؤنبهم ويفند رأيهم في ذلك، وفي عقدهم مؤتمرًا في باريس.
٢  ألهبت منهم الأهواء: في الكلام استعارة بالكناية، حيث شبَّه الأهواء بالخيل العادية، ومعنى ألهبت: اجتهدت في عدوها حتى أثارت الغبار، والألهوب: اسم بمعنى الإلهاب.
٣  أرهجوا الشر: أي أثاروا رهج الشر؛ أي غباره. والهبوة: الغبرة، واللوح بضم اللام: الهواء بين السماء والأرض.
٤  ملحوبًا: أي واضحًا، وهو صفة موصوف محذوف، أي: طريقًا ملحوبًا.
٥  الغربيب: الأسود.
٦  الثأي: الضعف والركاكة. والتخبيب: الغش والإفساد.
٧  القائبة: البيضة. والقوب: الفرخ.
٨  ملبارود: أصله: من البارود، فحذف نون من الجار، واتصلت بالمجرور خطًّا، وقد جاء استعمالها كذلك في شعر الأقدمين. وجملة: «وهم بباريز» معترضة. وأنبوبا: مفعول لواصلين. وملبارود حال من أنبوبا.
٩  الحلبوب: الأسود الحالك.
١٠  لما عقد المتهوسون من العرب في باريز، أرسل حقي العظم إذ ذاك بمصر تلغرافًا إلى جريدة الطان الباريزية، يطلب فيه من الحكومة الفرنسية أن تتدخل في أمر سورية، ففي هذا البيت وما بعده إشارة إلى هذا التلغراف الذي أرسله حقي العظم.
١١  وادي تهلك، بضم التاء والهاء وتشديد اللام المكسورة: هو الباطل، ويستعمل ممنوعًا من الصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤