بعد النزوح

قالها في بيروت سنة ١٩٢٢، وكان قد خرج من بغداد على ألا يعود إلى العراق.

هيَ المواطن أدنيها وتقصيني
مثلُ الحوادث أبلوها وتبليني
قد طال شكواي من دهرٍ أكابده
أما أصادِف حُرًّا فيه يُشكيني؟!
كأنني في بلادي إذ نزلتُ بها
نزلتُ منها ببيت غير مسكون
حتى متى أنا في البُلدان مغتربٌ
نوائب الدهر بالأنياب تدميني؟!
فتارة في المواصي فوق مُوقَرَة
وتارةً في الطوامي فوق مشحون١
كم أغرقتني الليالي في مصائبها
فَعُمت فيهنَّ من صبري بدُلفين!٢
أنا ابن دجلةَ معروفًا بها أدبي
وإن يك الماء منها ليس يُرويني
قد كنت بُلبلهَا الغرِّيدَ أنشِدها
أشجى الأناشيد في أشجى التلاحين
حيثُ الغصون أقلَّتني مُكلَّلة
بالورد ما بين أزهار البساتين
فبينما كنت فيها صادحًا طَربًا
أستنشق الطِّيبَ من نفح الرياحين
إذ حلَّ فيها غُرابٌ كان يُوحِشني
وكان تنعابه بالبين يؤذيني
حتى غدوت طريدًا للغراب بها
وما غدوت طريدًا للشواهين٣
فطرتُ غير مبالٍ عند ذاك بما
تركت من نرجسٍ فيها ونسرين

•••

ويل لبغداد مما سوف تذكره
عني وعنها الليالي في الدواوين
لقد سَقيتُ بفيض الدمع أرْبُعَها
على جوانب ودٍّ ليس يَسقيني
ما كنت أحسب أني مذ بكيت بها
قومي بكيت على من سوف يُبكيني
أفي المروءة أن يَعتزَّ جاهلها
وأن أكون بها في قبضة الهُون؟!
وأن يعيش بها الطُّرطور ذا شمَمٍ
وأن أُسامَ بعيشي جَدْعَ عِرْنيني؟!٤
تالله ما كان هذا قطُّ من شيمي
ولا الحياة على النكراء من ديني
ولست أبذل عرضي كي أعيش به
ولو تأدَّمت زَقُّومًا بغِسْلِين٥
أغنت خشونة عيشي في ذَرَا شرفي
عما أرى بخسيس العيش من لين٦
عاهدت نفسيَ والأيام شاهدة
ألا أقِرَّ على جَوْر السلاطين
ولا أصادقَ كذَّابًا ولو مَلكًا
ولا أخالِط إخوان الشياطين
أما الحياة فشيءٌ لا قرارَ له
يحيا بها المرء موقوتًا إلى حين
سيان عندي أجاء الموت مخترمًا
من قبل عشرين أم من بعد تسعين
ما بالسنين يقاس العمر عنديَ بَل
بما له في المعالي من تحاسين
لو عشت ستين عامًا لاستعضت بها
ستين مكرمة بل دون ستين
فإنما أطول الأعمار أجمعها
للمكرمات من الأبكار والعون
إن اللئيمَ دَفينٌ قبلَ مِيتتهِ
وما الكريم وإن أودى بمدفونِ

•••

ما كنت أحسب بغدادًا تحلِّئني
عن ماء دجلتها يومًا وتظميني٧
حتى تقلَّد فيها الأمر زِعنفة
من الأناس بأخلاق السراحين٨
ما ضرَّني غير أني اليوم من عرَبٍ
لا يغضبون لأمر ليس يرضيني
تالله ما ضاع حقي هكذا أبدًا
لو كنت من عَجَمٍ صُهب العثانين٩
علامَ أمكث في بغداد مصْطبرًا
على الضَّراعة في بُحبوحة الهُون١٠
لأجعلنَّ إلى بيروتَ مُنْتَسبي
لعلَّ بيروت بعد اليوم تُئويني
خابت ببغداد آمالٌ أؤمِّلها
فهل تخيب إذا استذرَتْ بصنِّين؟
فليتَ سوريَّة الوَطْفاء مزنتها
عن العراق وعن واديه تغنيني
قد كان في الشام للأيام مُذْ زمنٍ
ذنبٌ محته الليالي في فِلسطين
إذ كان فيها النشاشيبيُّ يُسعفني
وكنت فيها خليلًا للسكاكيني
وكان فيها ابن جَبْر لا يقصِّر في
جَبر انكسار غريب الدار محزون
إن كان في القدس لي صحْبٌ غطارفة
فكمْ ببيروتَ من غرٍّ مَيامين!
١  المواصي: جمع موصاة، وهي الصحاري المقفرة. والموقرة: الناقة التي حملت عليها الأوقار، وهي الأحمال الثقيلة. والطوامي: جمع طامي، وهو البحر. والمشحون: صفة لمحذوف؛ أي الفلك المشحون.
٢  الدلفين: حيوان بحري يحمل الغرقى إلى الشواطئ، ولعلَّه هنا يريد سفينة تشبه الدلفين في صورتها.
٣  الشواهين: جمع شاهين، وهو من جوارح الصيد.
٤  الجدع: القطع. والعرنين: مقدم الأنف.
٥  تأدمت: اتخذت إدامي، والإدام ما يؤكل بالخبز. والزقوم: شجرة يطعم منها أهل النار المعذبون. والغسلين: ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه.
٦  ذرا شرفي، بفتح الذال: ظله وجانبه.
٧  تحلئني: تمنعني وتطردني.
٨  الزعانف: جمع زعنفة، وهم أراذل القوم. والسراحين: جمع سرحان، وهو الذئب.
٩  الصهب: جمع أصهب، وهو أصفر اللون. والعثانين: جمع عثنون، وهو شعر الذقن.
١٠  الهون: الذل والهوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤