شارلمان والرشيد

تجاوز الدين وأوامره

وكان الخلفاء من عهد معاوية ومن بعده قد تعدوا الإسلام وأوامره إلى رغباتهم وميولهم، ولم يشِذَّ عن هذا إلا عمر بن عبد العزيز؛ حيث أحاط نفْسه بعشَرة من كبار التابعين والفقهاء العالِمين بأصول الإسلام، حتى لا يَفْعَلَ فعلًا إلا استشارهم وعَمِلَ برأيهم، أما مَنْ عداه مِنْ عَهْد معاوية فكانوا يعملون برأيهم هُمْ، وافَقَ رُوح الإسلام أو خَالَفَه.

فليس الرشيد بِدْعًا مِنَ الخلفاء، وإنما هو نتاج كُلِّ مَنْ قَبْلَه، يسير سيرتهم، ويتبع ما تمليه عليه بيئته … فلو أن خليفة في العصر الحاضر أمر بقتل رجل من رَعِيَّتِه لكان جُرمًا شنيعًا يحِزُّ في صدور الناس ولا ينسَوْنَه.

نعم، يجب أن تُقَاس الأخلاق في كل زمان ومكان بِحَسَبِهَا؛ فلو خَرَجَتِ امرأة سَافِرَة في عَصْرِنَا ما عُدَّ هذا جريمة، بل لو خرجت مُحَجَّبَةً لَعُدَّ حجابها جريمة، والأمر على العكس منذ خمسين عامًا؛ فلو خرجت امرأة حُرَّة سافرة لانتقدها الناس، وَعَدُّوا ما تأتي به مُنكرًا كبيرًا، وهكذا تتطور الأخلاق بتطور الزمان.

وكان الرجل يُعَيَّرُ بأنه لَمْ يُعْرَف أبوه … كم لاقى زياد من العناء لمثل هذا، وهو اليوم في بعض بلدان أوروبا يعامَل كمعاملة مَن عُرِفَتْ آباؤهم.

كل هذا يخفف من الحملة على الرشيد وأمثاله في زلاتهم، كسفكه دماء البرامكة من غير محاكمة ولا معرفة بجُرْم، ومثل مصادرته للأموال وبعثرته مما صادر ونحو ذلك، والله لا يؤاخذ الناس إلا حسب ظروفهم وبيئاتهم ومقدار عقولهم.

علاقة الرشيد بشارلمان

ومما زاد في شهرة الرشيد علاقته بالدول الغربية، وتوارد الوفود عليه وإرسالها؛ فقد تحالف — مثلًا — مع شارلمان إمبراطور فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وسفرت بينهما سفارات طويلة الأمد مرتين: الأولى استغرقت ما بين عامي ٧٩٨ و٨٠١، وكانت السفارة في المرة الأولى مؤلفةً من سفيرين إفرنجيين، ومعهما مترجم يهودي يعرف العربية يقال له إسحاق، وكانت السفارة تتضمن أشياء ثلاثة: أنْ يَعْهد الرشيد إلى شارلمان بالقيام بمصالح العباسيين فيما يفتحه شارلمان من بلاد الأندلس، وأن يثير شارلمان الحزب القائم بالدعوة العباسية في الأندلس؛ وذلك لاشتراك الطرفين في عداء الأندلس؛ الرشيد لخروج بني أمية عليه، وشارلمان لأن الأندلس اقتطعها المسلمون من دولته؛ ذلك أن السفاح لما شدد النكير على الأمويين وَقَتَلَهُمْ فَرَّ عبد الرحمن — الملقَّب فيما بعْد بالداخل — هائمًا على وجهه هو وأخوه، واختفى في بعض البلاد، فلما أحس عبد الرحمن وأخوه بالعباسيين يُقْدِمُون فَرَّا وَعَبَرا النهر، فوعدهما العباسيون بالنجاة، وَصَدَّق أخوه، ورَجَعَ فَذُبِحَ.

ولم يُصَدِّق عبْد الرحمن، وسار إلى فلسطين، ومنها إلى إفريقيَّة، ثم إلى الأندلس، وأَمْكَنَهُ أنْ يُخْضِعها لأمره مُنْتَهزًا فرصة وجود الخلاف في البلاد والنزاع القبلي بين اليمنيين والمُضَريين.

وأخيرًا استولى على قرطبة، ثم بقية الأندلس، ونشر الأمن في أرجائها، وغاظ ذلك المنصور، ثم الرشيد مِنْ بَعْدِه؛ إذ كانت الأندلس قد خرجت من أيدي العباسيين.

وفي سنة ٧٧٧ ائتمر زعماء العرب في الشمال الشرقي من الأندلس، وَأَلَّفوا كتلة قوية، وانتقضوا على عبد الرحمن، وتعاقدوا مع شارلمان الذي كان مُهادنًا للرشيد، ومناصرًا له، فرحب الرشيد بهذه الفكرة.

ولكن زَحْفَ شارلمان، سنة ٧٧٨ باء بالفشل عندما أغلقت مدينة سراقوسطة في وجهه، وهجم على جيشه سكان الجبال، حتى فقد كثيرًا من أتباعه ومتاعه، واستعان عبد الرحمن على الانتصار على شارلمان بجيشٍ مُنَظَّم أَحْسَن تنظيمٍ، ومدرَّبٍ أَحْسَن تدريبٍ، وكان يبلغ نحو أربعين ألف مقاتل من البرابرة الذين استجلبهم من أفريقيا، فلما خُذِلَ شارلمان يئس الرشيد منه ومن الاستيلاء على الأندلس.

وكان الرشيد كأبيه وجده شديد العداوة للأمويين، ومنهم بنو أمية في الأندلس، وشارلمان لحبه في الفتح وأمنيته في رد الأندلس إلى مملكته بعد أن اغْتُصِبَت من المملكة المسيحية.

والأمر الثاني أن يسهل الرشيد لزوار بيت المقدس من المسيحيين الكاثوليكيين، ويُعْفِيهم من القيود والتكاليف التي وضعها الرشيد إذ ذاك على أهْل الذمة.

أما السفارة الثانية فقد أوفدها شارلمان إلى الرشيد، ولقد أُحصيت التحف والهدايا التي بَعَثَ بها الرشيد إلى شارلمان، فكانت بوقًا من العاج، وهو محفوظ للآن في مدينة آج، وسيفا وصينية من الذهب محلاة بقطع من الزجاج المختلفة الألوان، وعليها صورة لكسرى الأول مصنوعة من البللور محفوظة في دير «سنتدفيس»، وقطعة من قطع شطرنج شرقي محفوظة في الدير نفسه، وإبريقًا من الذهب محفوظًا في دير كنتون فللس، وثماني شوكات من التاج الذي يقال: إنهم ألبسوه رأس المسيح عليه السلام عند صلبه.

كما يحدثوننا أن الرشيد أرسل إلى شارلمان في السفارة الأولى هدية فيها فيل يسمى أبا العباس، وهدايا أخرى، وقد أخذ هذا الفيل شهرةً واسعةً؛ لأن الفرنج لم يكونوا رأوا فيلًا قَطُّ.

وكان الرشيد قد أتى به من الهند، وبعد ذلك أرسل شارلمان وفدًا إلى بلاط الخليفة هارون الرشيد، وقد قالوا: إنه مر في طريقه بالأراضي المقدسة، ثم سار إلى بلاط الخليفة في بغداد.

وقد أرسل الرشيد وفدًا آخر إلى شارلمان يحمل هدايا ثمينةً منها رخام ملون بألوان متنوعة جميلة، ومنسوجات من الحرير والكتان، وروائح عطرية وبلسم، وساعة مائية، وأوان نحاسية، وقد أقام السفراء عند الإمبراطور مدةً، ثم أُرسلوا إلى إيطاليا حيث أَبحروا من هناك إلى المَشرق.

وقد أَنْكر بعض الباحثين من الفرنج حكاية هذه الوفود بدعوى أن مؤرخي العرب لم يذكروها في كتبهم، ولكن هذه الحجة لا تُقْنع؛ لأن كثيرًا من الحوادث حدثت في أوروبا ولم يَذْكُرها مؤرخو العرب لجهلهم بها، خصوصًا وأن بقايا هذه الهدايا محفوظة إلى اليوم، ومن المؤكَّد أنها مصنوعة في الشرق، وليس من المعقول أن يشتريها إسحاق اليهودي من ماله وينسبها إلى الرشيد … فإسحاق أعجز وأحزم مِن أنْ يَفْعَل هذا.

وأحيانًا كانت تصفو العلاقات بين الرشيد والبيزنطيين؛ فقد روى سفيرٌ بيزنطيٌّ أنَّ إمبراطور القسطنطينية أوفد إلى الرشيد وفدًا فاستُقبل على بضعة فراسخ من بغداد، ومَرَّ الوفد أمام جيش مؤلف من مائة وثمانين ألفًا مدججين بالسلاح، وقُدِّمَ للوفد أفخم الهدايا من الخليفة الرشيد، منها مائة جواد أصيل مجهزة، وثياب فاخرة، وفُرِشَ له في الطريق ثمانية وعشرون ألف طنفسة تُغَطِّي أرض الطريق، وزُيِّن عدد كبير من السفن كانت تمخر عباب نهر الدجلة، وأنه سُمِعَ بداخل القصر زئير الأسود، ورُئِيَ معها حراسها الأفريقيين مما أدهش الوفد.

وكانت هذه الوفود سواء في القسطنطينية، أو عند شارلمان، تنشر الأحاديث العجيبة عما شاهدوه … فيعظم في عينيهم شأن الرشيد وشأن الشرق.

وكانت عقلية الرشيد إذ ذاك أنضج وأوعى من عقلية الغرب، وكانت صناعتهم أدق وأجمل، حتى ليحدثونا أن الغربيين عَجِبوا عجبًا شديدًا عند رؤيتهم البوصلة، والساعة الدقاقة، وظنوا مِنْ عَجَبِهم أن فيهما شيطانين يحركانهما، ويأتيان بهذه الأعاجيب.

وكان من مقتضى هذه الحضارة التي شاهدناها في القصور والعمارات والأسواق والهدايا أن تصل إلينا آثارها مما يدلنا عليها، ولكن غزوة التتار التي جاءت في آخر الدولة العباسية، وقضت عليها أذهبت آثارها، وأضاعت كنوزها.

figure
الإمبراطور شارلمان يستقبل وفد هارون الرشيد الذي جاءه بالهدايا.
فقد كانت غزوةً عنيفةً جامحةً لم يَسْبِق لها في التاريخ مثيل … قال السيد أمير علي:

إن هولاكو أصْدَرَ عنْد زحفه على بغداد أَمْرَه بنهب المدينة وذبْح أهلها، حتى خرج الشيوخ والأطفال والنساء من المنازل حاملين المصاحف على أَكُفِّهِم وهم يتَوَسَّلون ويتضَرَّعون إلى الجنود بشكل يُفَتِّت الأكباد، ولكن الغزاة لم يعبأوا باستغاثتهم، ووطئوا أجسامهم بحوافر خيولهم، وهجموا على نساء الأشراف والنبلاء.

أما الكنوز الأدبية والفنية ومخلفات المدنية الإسلامية فقد دُمِّرت تدميرًا في خلال بضع ساعات، وطفقت شوارع المدينة تجري فيها الدماء ثلاثة أيام، حتى اصطبغ ماء دجلة بالدم لعدة أميال، وظل التخريب والذبح وانتهاك الحرمات ستة أسابيع، وتقوضت القصور والجوامع إما بالنار أو بالمعاول؛ لأنه كان يغيظهم ما فيها من قبابها الذهبية، وأشعلوا النار في نتائج قرائح العلماء والأدباء، وألقيت الكتب بعضها في النار وبعضها في نهر دجلة.

وهكذا فُقِدَت كنوز خمسة قرون، وفنيت زهرة الأمة فناءً تامًّا …

عهد الرشيد لولديه

واهتدى الرشيد أخيرًا إلى أن يعهد بالخلافة للأمين والمأمون، ويقسم البلاد بينهما، وبعدهما إلى المعتصم، وَفَاتَهُ أنَّ المُلْك لا يحتمل الاشتراك … فلا بد أن يتخاصم الشريكان أو الشركاء، ويتغلب أحدهم، وهذا ما كان بعده.

ففي سنة ١٨٦ هجرية حج الرشيد، ومعه المرشحان للخلافة الأمين والمأمون وقُوَّاده ووزراؤه وقُضاته، فبعد أن قضى مناسك الحج كتب كتابين، أَجْهَدَ الفقهاء والقضاة أنفُسَهُم فيهما لِيَزِيدُوا الكتابة توثيقًا؛ أحدهما على محمد الأمين يَشْتَرِط عليه الوفاء بأن يولي المأمون خراسان وما إليها، ويوصي للمأمون فيه بأموال وضياع وغلات وأدوات الحرب.

والثاني يحوي صورة البيعة لهما، وهي التي أخذها من الخاصة والعامة، وجعل الكتابين في البيت الحرام تأكيدًا لهما، وعليهما توقيع الوزراء والقادة والأمراء ووجوه بني هاشم والقضاة والفقهاء، بعد أن أمر الرشيد بقراءة الكتابين، ووقَّع عليهما، واعترضت زبيدة يومًا أم الأمين بإعطاء أدوات الحرب للمأمون فقال لها: «إني أخاف على المأمون من الأمين، ولا أخاف على الأمين من المأمون.»

واطمأنت نفس الرشيد بعض الشيء.

كتاب المأمون للرشيد

وهذا نص الكتاب الذي كتبه المأمون لأبيه الرشيد؛ يتعهد فيه بتنفيذ العهود التي أُعطيت له ما نفَّذ الأمين العهود عليه:

بسم الله الرحمن الرحيم … هذا كتابٌ كتبه عبد الله ابن هارون — أمير المؤمنين — في صحَّة مِنْ عَقْلِه، وجوازٍ مِنْ أَمْرِه، وصِدْق نِيَّتِهِ فيما كَتَب في كتابه هذا، ومعرفته بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين.

إن أمير المؤمنين وَلَّاني العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين في سلطانه، بعد أخي محمد بن هارون — أمير المؤمنين — وَوَلَّاني في حياته وبعد موته ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، من الصدقات والعشر والبريد والطرز وغير ذلك.

واشترط لي على محمد بن هارون — أمير المؤمنين — الوفاء بما عَقَدَ لي من الخلافة والولاية للبلاد والعباد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، لا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو ابتاع لي من الضياع والعقد والدور والرباع، أو ابتعت لنفسي من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب لا يحاسبني في شيء، ولا يدخل علي، ولا على أحد كان معي ومني، ولا عمالي ولا كُتَّابي، ومَن اسْتَعَنْتُ به من جميع الناس مكروهًا في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال ولا صغير ولا كبير، وكتب بذلك كتابًا وكتبه على نفسه.

وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد بن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ببيعته وولايته، ولا أغدر ولا أنكث، وَأُنَفِّذُ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته وَمُكَاتفته.

وأجاهد عدُوَّه في ناحيتي ما وفى لي بما شرط لي، ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، ورضي له به وقبلته، وإن احتاج محمد بن أمير المؤمنين إلى جُنْد وكَتَبَ إليَّ يأمرني بإشخاصهم إليه أو إلى ناحية من النواحي، أو عدوٍ من أعدائه خالفه وأراد نقص شيء من سلطانه الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وَوَلَّانَاه؛ أن أنفذ ولا أخالفه، ولا أُقَصِّر في شيء كتب به إلي.

وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين أن يولِّيَ رجلًا من ولده العهد من بعدي؛ فذلك له ما وفى بما جعل لي أمير المؤمنين هارون، واشترط لي عليه، وشَرَطَه على نَفْسِه في أمري، وعليَّ إنفاذ ذلك والوفاء به، ولا أنقض ذلك ولا أغَيِّرُه ولا أُبَدِّلُه، ولا أُقَدِّم قَبْلَه أحدًا من ولدي، ولا قريبًا ولا بعيدًا من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدًا من ولده العهد بعدي، فيلزمني ومحمدًا الوفاء بذلك.

وجعلْتُ لأمير المؤمنين هارون — ولمحمد بن أمير المؤمنين — جميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه لي، وعليَّ عهد الله، وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين، وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيِّين والمرسَلِين وخَلْقِه أجمعين مِنْ عُهُودِه ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمَر الله بالوفاء بها؛ فإن أنا نقضت شيئًا مما شَرَطْت، وسَمَّيْت في كتابي هذا أو غيَّرْت أو بدَّلْت أو نَكَثْتُ أو غَدَرْت؛ فبَرِئت مِن الله ومِن ولايته ومِن دِينِهِ ومِنْ محمد رسول الله، ولقيتُ الله يوم القيامة كافرًا به مشركًا، وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنةً طالق ثلاثًا البتة … طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنةً أحرار لوجه الله، وعليَّ المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجةً نَذْرًا واجبًا علي، وفي عنقي، حافيًا راجلًا لا يقبل الله مني إلا الوفاء به، وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنةً هدي بالغ الكعبة، وكل ما عليَّ لعبد الله أمير المؤمنين ما في هذا الكتاب لا أضمر غيره ولا أنوي سواه …

وشهد الشهود الذين شهدوا على أخيه محمد ابن أمير المؤمنين، وقد كانت هذه غلطة كبرى لم يُسْبق إليها؛ فلم يعهد أحد قبل الرشيد لاثنين يتوليان في وقت واحد؛ لأنه كان من البداهة أن الخليفة لا يمكن أن يتسع صدره لمنافس له، وتلك حال طبيعية، ولكنه كان تحت ضغط عقله وعاطفته؛ فهو يحب الأمين، وتطن في آذانه نغمة زبيدة والفضل بن الربيع باستمرار ليعهد إلى الأمين.

وعقل الرشيد يدعوه لأن يبايع أكفأ أولاده، وكان المأمون من غير شك أكفأهم، فسمع لعقله ببيعة المأمون، وسمع لعاطفته ببيعة الأمين، ولو خضع لعقله الأعلى لبايع المأمون وحده، واعتمد على الكفاية وحدها، وعلم أن المُلْك لا يتسع لرجلين كالألوهية، والله تعالى يقول: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا.

ولم يعتبر هارون الرشيد بتجارب الأمم وأحداث الزمان؛ فكان من أشهر الحوادث التي فيها عبرةٌ ما حدث للإسكندر؛ فَقَدْ كان مُلْكُه أكبر مِنْ مُلْك الرشيد، ولما مات اقتسم قوادٌ أربعة مُلْكَه، فَمَلَكَ بطليموس مصر، وجزءًا من سوريا، ومَلَكَ آخر مقدونيا وبلاد اليونان، ومَلَكَ الثالث بَعْض أجزاء آسيا الصغرى، ومَلَكَ الرابع من البحر الأسود إلى نهر السند، ومع ذلك ظلوا يتنافسون ويتقاتلون، حتى انحطت مقدونيا لهذه الفتن الداخلية، وانتهت هذه المأساة باستيلاء الرومانيين على بلاد اليونان، وضمها إلى أملاكها … حتى أصبحَت اليونان جزءًا من مملكة الرومان تفقد استقلالها، وتعيش تحت حكمها، وهكذا أحداث التاريخ.

•••

وشيء آخر جَرَّه هذا التصرف، وهو أن أبناءه هؤلاء لما طمعوا في الملك استثقلوا حياته، وتمنوا موته، حتى شكا الرشيد لبعض خاصته من أولاده وقال: «إنهم يُحْصون عليَّ أنفاسي، إنني الساعة أدعو ببرذون فيجيئوني به أعجف؛ ليزيدوا في علتي.»

ومما زاد الطين بلة أمران:
  • أولاهما: أنه أحيا العصبية البغيضة إلى أقصى حد؛ فتعصب العرب للأمين، وتعصب الفرس للمأمون، وتقاتل قتالًا عنيفًا شديدًا تذكيه هذه العصبية، حتى إذا انتهت الحرب العنيفة لم يَعُد العنصران نافعَيْن كما ذَكَرْنا.
  • وثانيهما: أنه وضع القوة الحربية كلها في يد المأمون، وكانت القوة الحربية التي في يد الأمين مصطنعة؛ لا تمدها إلا العصبية العربية؛ ولذلك انتصر المأمون، يضاف إلى ذلك أن العرب قد غلبهم الفُرْس وأخضعوهم وأذلوهم من أول بدء الخلافة العباسية إلى عهد المأمون، فلم تكُنْ فيهم بقية صالحة.
ويروون أنَّ الكِتَاب لَمَّا رُفِعَ ليُعَلَّق، وَقَعَ … فقيل: إن هذا الأمر سريع الانفضاض، وكذلك كان، فلم تنفع المواثيق والأيمان بجانب ما في النفس البشرية مِنْ طَمَع وحِرْص وكراهية للمشاركة في المُلْك والسلطان، وقد حَدَّثَت الرشيدَ نفْسُهُ بهذا، وتوقَّع الشر بينهما عِلْمًا بالطبيعة البشرية فروى الكسائي قال:

دخلْتُ على الرشيد، فلما قَضَيْتُ حَقَّ التسليم والدعاء، وَثَبتُّ للقيام، فقال: «اقعد!» فلم أزَلْ عنده حتى خَفَّ عامة مَن كان في مجلسه، ولم يَبْقَ إلا الخاصة، فقال لي: «يا علي، ألا تُحِبُّ أن ترى محمدًا وعبد الله؟» قلتُ: «ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين، وأسرني بمعاينة نعمة الله على أمير المؤمنين فيهما»، فأمر بإحضارهما، فلم أَلْبَثْ أن أقبلا ككوكبي أُفُقٍ يزينهما هدوء ووقار، قد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما، حتى وقفا على باب المجلس فسلما على أبيهما بالخلافة، ودعوا له بأحسن الدعاء، فأمرهما بالدنو منه، فَصيَّر محمدًا عن يمينه، وعبد الله عن يساره، ثم أمرني أنْ أستقرِئهما، وأسألهما، فَفَعَلْتُ، فما سألْتُ عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، والخروج منه، فَسُرَّ بذلك الرشيد حتى تَبَيَّنتُه فيه، ثم قال لي: «يا علي! كيف ترى مذهبهما وجوابهما»، فقلتُ: يا أمير المؤمنين هما كما قال الشاعر:

أرى قمرَيْ مجد وفرعَيْ خلافة
يَزِينُهُمَا عرف كريم ومحتد

يا أمير المؤمنين! هُمَا فرعٌ زَكَا أَصْلُه وطابَ مَغْرِسُهُ، وَتَمَكَّنَت في الثرى عروقه، وعذبَتْ مَشَارِبُه، أبوهما أَغَرُّ، نافِذ الأمر، واسِع العلم، عظيم الحِلْم، وسيحكمان بحكمه، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته.

فما رأيت أحدًا من أولاد الخلفاء وأعضاء هذه الشجرة المباركة؛ أعذب ألْسُنًا، ولا أحسن ألفاظًا، ولا أشد اقتدارًا على تأدية ما حفظ منهما، ودعوت لهما دعاءً كثيرًا، وأَمَّنَ الرشيد على دعائي، ثم ضمهما إليه، وجمع يديه عليهما، فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج.

فلما خرجا أقبل عليَّ فقال: «كأنك بهما، وقد حم القضاء، ونزلت مقادير السماء، وبلغ الكتاب أجله، قد تشتتت كلمتهما، واختلف أمرهما، ثم لم يبرح ذلك حتى تُسفَك الدماء، وتقتل القتلى، وتهتك ستور النساء، وَيَتَمَنَّى كثير من الأحياء أنهم في عداد الموتى»، قلت: «أيكون ذلك يا أمير المؤمنين لأمرٍ رُئيَ في أصل مولدهما، أو لأمرٍ وقع لأمير المؤمنين في مولدهما»، فقال: «لا والله، إنما بأثرٍ حَمَلَه العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء.»

ومرة أخرى قال لمروان الخادم: «عليَّ بحيى»، فما لبث أن أتاه، فقال: «يا أبا الفضل! إن رسول الله مات في غير وصية، والإسلام جذعة، والإيمان جديد، وكلمة العرب مجتمعة؛ فقد آمنها الله تعالى بعد الخوف، وأعزها بعد الذل، فما لبث أن ارتد عامة العرب على أبي بكر، وكان مِنْ خَبَرِه ما قد عَلِمْتَ، وإن أبا بكر صَيَّرَ الأمر إلى عمر، فسَلَّمَت الأمة له، ورَضِيَت بخلافته، ثم صيَّرها عمر شورى، فكان بعده ما قد بلغك من الفتن، حتى صارت إلى غير أهلها، وقد عَنيت بتصحيح هذا العهد، وتصييره إلى من أرضى سيرته، وأحمَد طَرِيقَتَه، وأَثِقُ بِحُسْن سياسته، وآمن ضعفه ووهنه، وهو عبد الله «المأمون»، وبنو هاشم مائلون إلى محمد «الأمين» بأهوائهم، وفيه ما فيه من الانقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوت يده، ومشاركة النساء والإماء في رأيه، فإنْ ملْتُ إلى عبْد الله أَسْخَطْتُ بني هاشم، وإن أَفْرَدْتُ محمدًا بالأمر لمْ آمن تخليطه على الرعية، فأشِرْ عليَّ في هذا الأمر برأيك، فلك مشورة يعم فضلها ونفعها، فإنك بحمد الله مبارك الرأي لطيف النظر.»

فقال: «يا أمير المؤمنين! إنَّ كل زلة مستقالة، وكل رأي يُتَلافى خلا هذا العهد، فإنَّ الخطأ فيه غير مأمون، والزلة فيه لا تستدرك، وللنظر فيه مجلسٌ غير هذا، فعلم الرشيد أنه يريد الخلوة، قال الأصمعي: «فأمرني بالتنحي … فقمت، وقعدت في ناحية بحيث أسمع كلامهما، فما زالا في مناجاة ومناظرة طويلتين حتى مضى الليل وافترقا على أن عقد الرشيد الأمر لعبد الله مع محمد.»

وهكذا كان الرشيد كأنه يقرأ حُجُبَ الغيب، وكان يتخوف من النتائج التي قد تنجم من هذا العهد، ويفكر ويطيل التفكير، ويستشير ويكثر الاستشارة.

فما مات الرشيد حتى نقض الأمين العهد، وأراد أن يخلع المأمون، وينفرد بالسلطان، فكان بينهما من الحروب ما لا نتعرض له الآن.

وعلى كل حال، كانت هذه عقدة نفسية عند الرشيد … حلَّها بهذا الشكل الذي لم ينجح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤