مأساة البرامكة

البرامكة

وقد حَمَل أعباءَ الخلافة عن الرشيد في أول عهْده البرامكةُ؛ فكان يَرجع إليهم في كل أمر، ويَحْمِلون التَّبِعات في كل شأن … واتَّسَع سُلْطانهم، وعلا شَأْنهم، وقَصَدَهُم جميعُ الشعراءِ بالمدائح، وكانوا مِنْ حُسْن السياسة ما حَبَّبَهم إلى الرعية، وكلٌّ من هذه الأسرة اتخذ له صنائع بما غمرهم من أموال.

والبرامكة هؤلاء ينتسبون إلى برمك، وبرمك هذا كان كاهن بيت النار في مدينة بلْخ المسمى النوبهار، وهو مَعْبد للديانة الزرادشتية، وكانت هذه الديانة مملوءة بالطقوس المعقدة وبالسحر وبالأسرار، فلما انتقلوا إلى الإسلام لم تَخلُ صدورهم من آثار هذه العقيدة.

ولمرانتهم على النظم الفارسية الدقيقة، خَدموا المدنية الإسلامية خدمة كبرى؛ بما نُقِلَ إليهم ولهم مِنْ كُتُب الفرس القديمة وعاداتهم وتقاليدهم، كالتي نقلها الجاحظ في كتاب التاج.

ووضعوا أيدِيَهم على مال الدولة كله … حتى كان مِنْ شأنهم إذا أرادوا أن يتصرفوا في شيء منه، وجدوه تحت أيديهم، وإذا أراد الرشيد وقصره أنْ يَتَصَرَّف رَجَعَ في ذلك إليهم، وكان أول مَنْ ظَهَرَ منهم في الإسلام خالد البرمكي، وعلا شأنهم في عَهْد الرشيد على يد يحيى بْن خالد.

ثم كان أَنْ دَخَل في القصر عَدُوُّهم اللدود الفضل بن الربيع، وقد جهدت الخيزران في إبعاده عن القصر، وهو رجلٌ نشأ على الدَّسِّ، وإعمال الحيلة … وَوَرِثَ الدَّسَّ عن أبيه الربيع؛ فقد كان الربيع سببًا في أن يَقْتُلَ المنصورُ أبا أيوب المورياني، وقد جاء القصرَ فوجد البرامكة قد وضعوا أيديهم على كل شيء في الدولة.

فكيف الخلاص منهم والرشيد نفسه خاضع لإرادتهم؟ ولكن لا بأس … فليُعمِل الفضل الحيلة في إغضاب الرشيد عليهم، وكان الفضل شديد الكِبْر، شديد الغيرة من البرامكة، لا يَبْلغ مَبْلَغَهُم في عِلْم ولا نُبْل ولا فَضْل … فَحَسَدَهم، وتمنى زوال نِعْمَتِهِم، فكان يومًا يَدُسُّ إلى الرشيد أن البرامكة يعملون للوصول للخلافة، ويومًا يدس إليه أن البرامكة ملاحدة وثنيون، يَحِنُّون إلى دِين أبيهم القديم؛ بدليل أَنَّ قُصُورهم فيها مخابئ تحت الأرض، تحوي الشعائر القديمة الزرادشتية، فهم يتعبدون فيها خفية عن الناس، ويومًا يحذره من البرامكة بأنهم يؤيدون العلويين سرًّا، ويودون نقل الخلافة إليهم، ويومًا يوعز إلى مُغَنٍّ أن يُغَنِّي الرشيد بهذين البيتين:

ليت هندًا أَنْجَزَتْنا ما تَعِدْ
وَشَفَتْ أَنْفُسَنَا مما تَجِدْ
واستبدَّتْ مرةً واحدةً
إنما العاجز مَنْ لَا يَسْتَبِدّْ

ويوما يوعز إلى مَنْ يُرْسِل إليه قصيدة من غير توقيع يقول فيها:

هذا ابْنُ يحيى قَدْ غَدَا مَالكًا
مِثْلَكَ مَا بَيْنَكُمَا حَدُّ
أَمْرُكَ مَرْدُودٌ إلى أَمْرِهِ
وَأَمْرُهُ لَيْسَ لَهُ رَدُّ

وهكذا، وهكذا من أساليبه الخفية الشريرة، تُعَاوِنُه على ذلك السيدة زُبَيْدَة زوجة الرشيد بأحاديثها في الليل مع زوجها، والطعن على البرامكة؛ وقد كانت تكرههم، وتود زوال سُلْطتهم؛ حبًّا في الرشيد، ورجوع السلطة إليه وإليها.

نكبة البرامكة

فلما اعتزم الرشيد أن ينكب البرامكة، كان قد قرر بعد طول التفكير أنْ لا يُظْهِرَ ذلك لأحد … نادى جعفر بن يحيى — كالمعتاد — وَسلَّمَ عليه فَرَدَّ السلام أحسن رد، ورحب به، وضحِكَ في وجهه، وأجلسه في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدثه وضاحكه، فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي فقرأها عليه، وأخذ رأي الرشيد فيها، وقضى حوائج الناس، ثم استأذنه جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه هذا، فدعا الرشيد بالمُنَجِّمِ — كالعادة — فقال المُنَجِّم: هذا يوم نحس، وهذه ساعة نحس. ولا يبعد أن يكون الرشيد اتَّفَقَ مع المُنَجِّم على ذلك ليصده عن السفر.

ومع ذلك فكان جعفر يعلم أيضًا شيئًا من التنجيم، فأخذ الإسطرلاب من يد المُنَجِّمِ، وقام وحسب النجوم فرآها حقًّا ساعة نحس، ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقواد والخاصة والعامة يعظمونه من كل جانب، إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسرورًا الخادم، وقال له: «امض إلى جعفر، وائتني به الساعة، وقل له: وَرَدَتْ كُتُبٌ مِنْ خراسان، والخليفة يريد رأيك فيها، فإذا دخل الباب الأول فأوْقِفِ الجند، وإذا دخل الباب الثاني فأَوْقِفِ الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تَدَعْ أحدًا يَدْخل عليه من غلمانه، بل يَدْخل هو وحْده، فإذا دخل صحن الدار فمِلْ به إلى القبة التركية، ثم اضرب عنقه، وائتني برأسه. ولا تُوقف أحدًا من خلق الله على ما أمرتك به، ولا تراجعني في أمره، وإن لَمْ تَفْعَلْ أَمَرْتُ من يضرب عنقك» فمضى مسرور، واستأذن على جعفر، ودخل عليه، وقد نزع ثيابه يستريح، فقال له: «يا سيدي أجب أمير المؤمنين!» فانزعج، وقال: «ويلك يا مسرور! أنا خرجت من عنده في هذه الساعة فما الخبر؟» قال: «وردت كتب من خراسان تحتاج إلى النظر السريع» … فطابت نفسه، ودعا بثيابه فلبسها، وتَقَلَّد سيفه، وذهب معه … وفي قلبه بعض الشك.

فلما دخل من الباب الأول أَوْقَفَ مسرورٌ الجندَ، وفي الباب الثاني أَوْقَفَ الغلمان، فلما مَرَّ من الباب الثالث التفَتَ فلم يَرَ أحدًا من غلمانه فندم على ركوبه، وزاد الخوف في نفْسه، وأُدْخِل القبة فقال لمسرور: «ما الخبر؟!» قال له: «قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك، وحمل رأسك إليه الساعة» فبكى جعفر، وجعل يُقبِّلُ يدي مسرور، ويقول: «قد علِمْت كرامتي لك دون جميع الغلمان، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين؛ فلعل أمير المؤمنين أن يكون قد بلَغه عني باطل فدعني أهيم على وجهي» فقال: «لا سبيل إلى ذلك» … قال: «فاحملني إليه، وأوقفني بين يديه؛ فلعله إذا وقع نظُرُه عليَّ أن تدركه الرحمة فيصْفَحَ عني» قال: «لا سبيل إلى ذلك أيضًا» قال: «فتوقف عني ساعة، وارجع إليه، وقل له: قد فرغت مما أمرتني به» فقبل منه ذلك بعد أن حل سيفه ومنطقته وأخذهما، ومضى مسرور، ووقف بين يدي الرشيد فرآه غاضبًا أشد الغضب، فلما رآه قال متلهفًا: «ماذا فعَلْتَ بأمر جعفر؟» قال «يا أمير المؤمنين أنفذت أمرك فيه» قال الرشيد «فأين رأسه؟» قال: «في القبة» قال: «فأتني برأسه الساعة.»

figure
وقال مسرور لجعفر: «قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك …»

فرجع مسرور، وجعفر يصلي؛ فسلَّ سيفه الذي أخذه منه، وضرب عنقه، وأخذ رأسه بلحيته، وطرحه بين يدي أمير المؤمنين، فتنفس الصعداء؛ لأنه أنفذ تدبيره الذي أحكمه، وبكى بكاءً شديدًا على الصداقة الوثيقة التي كانت بينهما، وجعل ينكث الأرض، وقبض على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة، وغلمانهم ومواليهم، واستباح ما عندهم، وَوَجَّهَ مسرورًا إلى المعسكر فأخذ جميع ما فيه من مضارب وخيام وسلاح، وقد أحصوا مَن قَتَلَه الرشيد من غلمانهم ومواليهم بنحو ألف إنسان، وأمر أن لا يرجع أحد من صنائعه إلى وطنه خوف أن يشبوا ثورة، وشتَّت شمْل من بقي في البلاد.

وأُتِيَ بصبيين كانا ولدي جعفر، وكانا حسنين جميلين، فاستنطقهما فوجدهما فصيحين يتكلمان بلغة مدنية جميلة، وينطقان بفصاحة هاشمية، ثم أَمَرَ بضَرْب عنقهما، وأمر أن لا تُذْكَرَ البرامكة في مجلسه، ولا يستعانَ بمن بقي منهم في بغداد، ولكن زبيدة والفضل بن الربيع وغيرهما لم يطمئنوا إلى ذلك، ويحيى باق والفضل يعيش، فإذا خرجا من السجن فربما دبرا الانتقام ممن كان السبب، فدسوا — وخصوصًا زبيدة — ورقة تحت مُصَلَّى الرشيد، وفيها مدحٌ للرشيد على عمله مع البرامكة، وتحريض على المضي في هذه السبيل إلى آخرها؛ فشدد على يحيى — وكان شيخًا كبيرًا — وزاد في حديده وأغلاله، وأَحْضَر الفضل، وضَرَبَه سياطًا حتى كاد أن يهلكه.

•••

وتذكر يحيى مرةً صِلَتَه القديمة بالرشيد فكتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم … إلى أمير المؤمنين، ونسل المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، مِن عبْدٍ أسلمَتْهُ ذنوبه، وأوقعَتْهُ عيوبه، وخذلَهُ شقيقه، ورفَضَه صديقه، وخانه الزمان، وأناخ عليه الخذلان، ونزل به الحدثان … فصار إلى الضيق بعْد السعة، وعالج الموت بعْد الدعة، وشرب كأس الموت مترعة، وافترش السخط بعْد الرضا، واكتحل بالسهر بعْد الكرى.

يا أمير المؤمنين … قد أصابتني مصيبتان: الحالُ والمال؛ أما المال فمنك ولك، وكان في يدي عاريةً منك، ولا بأس برد العواري إلى أهلها، وأما المصيبة بجعفر؛ فبجرمه وجرأته، وعاقبْتَه بما استخف من أمرك، وأما أنا فاذكر خدمتي، وارحم ضعفي، ووَهَنَ قُوَّتي، وهب لي رضاك؛ فمِن مثلي الزلل، ومِن مِثلك الإقالة، ولست أعتبر … ولكني أقر، وقد رجوت أن أفوز برضاك، وتقْبَلَ عذري، وصِدْق نيتي، وظاهر طاعتي، ففي ذلك ما يكتفي به أمير المؤمنين، ويرى الحقيقة فيه، ويبلغ المراد منه.

فوقَّع الرشيد على هذا الخطاب بالآية الآتية: بسم الله الرحمن الرحيم وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ، فيئس يحيى، وظَلَّ في السجن حتى مات … ولئن كانت هذه الرواية أشبه أن تكون موضوعة، فهي تُمَثِّل الحال تمام التمثيل.

•••

وقد يكون الفضل بن الربيع والرشيد معذورَيْن في بعض ذلك؛ لأنهما رأيا أن الدولة العربية تزول شيئًا فشيئًا، حتى لم يبْقَ للعرب في المملكة سلطان، وأن السُّلطة تزيد في الفرس يومًا فيومًا حتى قبض البرامكة على كل ما للدولة من شئون.

قد يضاف إلى ذلك ما يروي بعض المؤرخين من أن الرشيد كان لا يستغني عن جعفر والعباسة، فعقد له عليها؛ حتى يحل اجتماعهما، وأمر أن لا يمسها فتعهد له بذلك، ثم طغى عليهما سلطان الغرام، ولسنا نذهب إلى ما ذهب إليه ابن خلدون من استبعاد هذا؛ فهذه عاطفة إنسانية يقع فيها الشريف والوضيع، والغني والفقير، وكم سمعنا بمثل ذلك في كل العصور، وسلطان الحب فوق كل سلطان، إنما نستبعد ذلك من ناحية أخرى، وهي أن هذا لو كان السبب … لَفَتَكَ الرشيد بجعفر البرمكي وحْده دون يحيى الشيخ، ودون إخوة جعفر.

فلا بد أن يكون السبب مشتركًا، ولسنا نجد سببًا مشتركًا إلا حيازتهم للسُّلطة، خصوصًا وأن مسرورًا الخادم قد سأله بعضُ الخلفاء بعد ذلك عن حادث جعفر والعباسة، فنفاها نفيًا باتًّا، ولمَّح إلى أن السبب هو السُّلطة، وقد كان الرشيد تنازل لهم عن كل سلطان، فَوَلِيَ جعفر الغرب كله من الأنبار إلى إفريقيَّة، وَقُلِّدَ الفضل المشرق كُلَّه من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وهما يُنيبان عنهما من أرادا … والناس إذا رأت السلطان في يد توجهت إليها بالاستجداء والمديح والملق، وكذلك كان شأن البرامكة.

فكان الشعراء يقفون ببابهم أكثر من الشعراء الذين يقفون على باب الرشيد، وقد مُنِح البرامكة سماحةً وكرمًا، وصفهم إبراهيم الموصلي فقال: «أما الفضل فيرضيك بفضله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد»، وكما أسَروا الناس بحُسْن صنيعهم أَسَرُوهم ببلاغتهم، ومأثور كلامهم، وحسن توقيعهم، حتى تناقلت كُتُبُ البلاغة عباراتهم.

إشاعات مغرضة

وقد فَكَّر الرشيد طويلًا في الإيقاع بهم؛ لِعِظَم مكانتهم، وخوْفه من الثورة عليه من أجْلهم، فكان مما احتاط أنْ يُشِيع بيْن الناس كُفْرَهم وزندقتهم، وأنهم يُظهرون الإسلام، ويُبطنون الكفر، وأنَّ عندهم بعض بقايا من الآثار الوثنية ونحو ذلك حتى تكرههم العامة، فأوعز — مثلًا — إلى الأصمعي أن يقول فيهم ما يَحُطُّ من شأنهم كالذي قال:

إذا ذُكر الشِّرك في مَجْلِسٍ
أضاءت وجوه بني بَرْمَكِ
ولو تُلِيَتْ بَيْنَهُمْ آيَةٌ
أتوا بالأحاديث عَنْ مَزْدَكِ

وأشاع في الناس أنهم زنادقة، حتى إن يحيى بن خالد لما نُقِل من سجن إلى سجن، اعتدى عليه رجل، وأظهر له الاحتقار، فخاف يحيى أن يكون قد ظلمه، أو بَخِل عليه … فبعث إليه من يسأله، فلما علم أنه يرميه بالزندقة اطمأن إلى ذلك؛ لأنه علم أنها دسيسة عليه، وبذلك وأمثاله أوجد الرشيد حول البرامكة جوًّا مُسَمَّمًا.

وربما كان من ذلك ما أشاعه عن علاقة جعفر بالعباسة، وَوَعْد جعفر للرشيد بأن لا يَقْرَبَهَا؛ لأنه إلى ذلك العهد كانت الغيرة فاشية في الناس، فلما نكل بهم الرشيد لم يَثُر الناس وقابلوا الأمر بالهدوء.

ولولا نشاط الدعاية ضدهم لثار الناس على الرشيد، وفتكوا به إن استطاعوا، وكان يحيى البرمكي يَحْذَر هذه النتيجة، ويعمل على قَصْر سلطان جعفر؛ فقال للرشيد غيرَ مرة: «يا أمير المؤمنين، إنني أكره مداخل جعفر، ولست آمن أن ترجع العاقبة عليَّ في ذلك منك، فلو أعفيته، واقتصرت على ما يتولاه من جسيم أعمالك لكان أحب إلي، وأولى بتفضلك» فلم يَقْبل الرشيد هذا، وكثيرًا أيضًا ما كان يحيى يقول: «الحكيم من تَوَقَّع الشر»، ويقول: «لا أرحام بين الملوك وبين أحد» خصوصًا وأنه علم أن الرشيد يُصغي إلى الفضل بن الربيع. وقد أحكم الرشيد فِعْلَتَه، ونشر الجواسيس يتجسسون على من يمدحون البرامكة، ويبكون عليهم، ويقطع رأس من بلغه شيء عنه، حتى خشي الناس، وأنكروا الصنيع.

وأُسدلَ الستار على هذه القِتْلة الشنعاء … هذا في نظري أهم سبب لقتل البرامكة، وهو غيرة الرشيد من سلطانهم وتحكمهم فيه، وعلو شأنهم على شأنه، أما ما عداه من الأسباب فأسباب ثانوية، وقد أُولِع المؤرخون أن يجعلوا لكل شيء كبير سببًا واحدًا؛ فلا بد أن يكون لغضب الرشيد على البرامكة سبب واحد، وإذا كان أبو العلاء المعري في شعره كافرًا أحيانًا مؤمنًا أحيانًا، فلا بد أن يكون كافرًا فقط، أو مؤمنًا فقط، فلذلك وقعوا في العناء والأخطاء.

وماذا يجري للدنيا لو كانت هناك أسباب مختلفة تُنْتِج سببًا واحدًا؛ فقد عمل على إسقاط الدولة الأموية أسباب عديدة، وأبو العلاء بكل بساطة مؤمن حينًا كافر حينًا، شأنه في ذلك شأن أكثر العقلاء في الحياة؛ يرون من مظاهر الدنيا ما يحملهم على الكفر أحيانًا، ويرون منها ما يحملهم على الدين أحيانًا، بل حكى لنا الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه آمن إيمان العجائز أحيانًا، وشك أحيانًا، وآمن بالكشف أحيانًا، فَلِمَ لا تكون نكبة البرامكة ناتجةً من جملة أسباب لا سبب واحد، أولها: غيرة الرشيد من سلطانهم، وثانيها: عطْفُهُم على العلويين، وثالثها: علاقة جعفر بالعباسة، إلى غير ذلك، على أنه ما يدرينا لعل الرشيد نشر في الناس علاقة جعفر البرمكي بأخته ليستثير كره الناس لهم، ويستخرج غضبهم ومقتهم، وإلا فلو نظرنا إلى المسألة بالعين العادية لم نجد فيها محلًّا للغضب والمقت.

حتى ولو صح فما في هذا مأخذ على شاب يألف زوجته، ويتصل بها.

قاتل الله السياسة

وليس قَدْرُ جعفر ولا أصوله بأقل من قدر الرشيد نفسه وأخته، إلا أن الرشيد فخور بعربيته، وجعفرًا فخور بفارسيته، والرشيد فخور بابن عباس … وجعفر فخور بجده برمك، والإسلام يقول: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولو خطب الرشيد لأخته ما عثر على مثل جعفر، ولكنها السياسة أرادت أن تُكَرِّه الشعب في البرامكة؛ فاخترعت لها اختراعات متعددة من مثل هذا الزواج الذي ليس فيه ما يؤخذ عليه، ورميهم البرامكة بالزندقة، ونحو ذلك … وكلها خوفًا من الناس أن يثوروا على الرشيد لفتكه بقوم عدول في حكمهم، كرماء لقصادهم، محبين لمن يتصل بهم … وقاتل الله السياسة!

•••

على كل حال غضب الرشيد عليهم من كثرة ما سمع من الفضل بن الربيع، ومن زبيدة وأنصارهما، ونوى أن يسلبهم سلطانهم، ويسترد تصرفه كما يشاء، وأخذ يستشير غيرهم من مثل يزيد بن مزيد الشيباني، وهرثمة بن أعين، فأخذ الرشيد يتغير قلبه على البرامكة، ويستقبح منهم ما كان يستحسن، فحدثنا الجهشياري، أن الرشيد سمع مرة ضجة شديدة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: يحيى بن خالد ينظر في أمور المتظلمين، فدعا له الرشيد، وقال: «بارك الله فيه، وأحسن جزاءه … فقد خفف عني، وحَمَل الثقل دوني، وناب منابي»، ثم ذكره ذِكْرًا جميلًا … وَأَمَّنَ الحاضرون على قوله، وزادوا في ذكر محامده.

هذا أيام الرضا … أما حين تغير قلبه فقد ارتفعت ضجة شديدة كتلك، فقال الرشيد: ما هذا؟ فقيل: يحيى بن خالد ينظر في أمور المتظلمين … فذمه، وسبه، وقال: «فعل الله به، وفعل … استبد بالأمور دوني، وأمضاها على غيْر رأيي، وعمل بما أَحَبَّهُ دون مَحبَّتي، فأَمَّن الحاضرون على رأيه، وزادوا في ذِكْر المساوئ.»

ودخل يحيى مرةً أخرى على الرشيد، وهو خال فانتظر قليلًا … فلم يَفْتح له حديثًا فاستأذن وخرج، فقال الرشيد لبعض الخدم: الحق بيحيى … فقل له: «خُنْتَني فاتهمْتَني» فقال للرسول: «تقول له يا أمير المؤمنين، إذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة … ووالله ما انصرفت عن خلوتك إلا تخفيفًا عنك.»

•••

ومما يؤيد رأينا في أن السبب الأكبر في نكبة البرامكة غيرة الرشيد منهم، وحبه لاسترجاع سلطانهم وأموالهم … ما رواه الجهشياري من أن يحيى لما أحس من الرشيد تَغَيُّره عليه ركب إلى صديق له من الهاشميين، فشاوره في هذا الموقف، فقال له الهاشمي: إن أمير المؤمنين قد أحب جمع المال، وقد كثر ولده … فأحب أنْ يَجْمَعَ لهم الضياع، فلو نظرت إلى ما في أيدي أصحابك من ضياع وأموال فجعلتها لولد أمير المؤمنين، وتقربت بها إليه رجوتُ لك السلامة.

فهذا يدل على أن من أكبر أسباب غضب الرشيد على البرامكة أيضًا حسده لهم وطمعه في أموالهم.

وليس المال يقصد لذاته، وإنما يقصد للسلطان والعظمة … فإذا طَمِع الرشيد في مالهم فطَمَعُه في سلطانهم أشد، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه، خصوصًا وأن الرشيد قد كَبُر وفَهِم المسئولية وقَدَر عليها، فأراد أن يزحزحهم عن سلطانهم، ويَحُلَّ محلهم.

وقد أخذ الرشيد من كل ما فكر وشاور يقضي على البرامكة قضاءً شنيعًا؛ فقتل بعضهم، وسجن بعضهم إلى أن يموت، وقتل من تولاهم من الشعراء، ومن كان يقف ببابهم، وتنتهي بذلك دولة البرامكة، ويسترد الرشيد سلطانه، ويعيد إلى نفسه سلطانهم وعظمتهم.

الناس قسمان!

والناس في كل زمان ومكان ينقسمون إلى قسمين: قسْم — وهم الأغلب — يميلون مع الريح كيف تميل، لهم قدرة على شَمِّها مِن أين تأتي، فهم يَتَّجهون معها كلما هبَّت من ناحية، لا بأس أن يتجهوا في الصباح اتجاهًا وفي المساء اتجاهًا آخر مناقضًا، لا يحركهم إلا تَرَقُّبُهم لمصلحتهم الشخصية، فإذا قال رئيسهم: أَسْوَد قالوا: أَسْوَدُ … وإذا قال: أَبْيَض قالوا أبيض، لا يقمعهم ضمير، ولا تَصُدُّهم أخلاق، وقسْم — وهو القليل — وَفِيّ ثابت على مبدأ … يحتمل العذاب في سبيل ثباته، ليس عبْدًا للمال، ولكنه عبْد للضمير.

وقد كان هذا شأن الناس مع البرامكة … فمنهم من جحد فضلهم، وانقلب عليهم بمجرد أن أحسوا غضب الرشيد عليهم، أو تملُّقًا للفضل بن الربيع؛ لأنه كان يتوقع انتصاره، كالذي يقول:

قُل للخليفة ذي الصَّنا
ئِعِ والعطايا الفاشِيَهْ
وابْنِ الخَلَائِفِ مِنْ قُرَيـْ
ـشٍ والملوك العاليَهْ
رأْسِ الأمور وخيْرِ مَنْ
سَاسَ الأمورَ الماضِيَهْ
إنَّ البرامكة الَّذِيـ
ـنَ رَمَوْا لديك بِدَاهِيَه
عَمَّتْهُمُ لك سَقْطَةٌ
لَمْ تُبْقِ منهم بَاقِيَه
فَكَأَنَّهُمْ مِمَّا بِهِمْ
أعجاز نخل خَاوِيَهْ
صُفْرُ الوجوه عَلَيْهِمُ
خُلَعُ المذلة بَادِيَهْ
مُسْتَضْعَفُونَ مُطَرَّدُو
نَ بِكُلِّ أَرْضٍ قَاصِيَهْ
ومنازلٍ كانوا بها
فَوْقَ الْمَنَازل عَالِيَهْ
أَضْحَوْا وَكُلُّ مُنَاهُمُ
مِنْكَ الرِّضَا والعافِيَهْ

وكالذي يقول على لسان الرشيد:

يا آل بَرْمَكَ إنَّكُمْ
كُنْتُمْ ملوكًا عاتِيَهْ
فَعَصَيْتُمُ وَطَغَيْتُمُ
وَكَفَرْتُمُ نَعْمَائِيَهْ
أَجْرَى الْقَضَاءُ عَلَيْكُمُ
مَا خُنْتُمُوهُ عَلَانِيَهْ
مِنْ تَرْكِ نُصْحِ إِمَامِكُمْ
عِنْدَ الأمور البادِيَهْ

أما الآخرون فكالذي يقول:

إن البرامكة الكرام تعلموا
فِعْل الكرامِ فَعَلَّمُوهُ النَّاسَا
كانوا إذا غرسوا سَقَوْا وإذا بَنَوْا
لم يهدموا مِمَّا بَنَوْه أَسَاسَا
وإذا هُمُ صنعوا الصنائع في الورى
جعلوا لها طُول الْبَقَاء لِبَاسَا

ومن هذا القسم الثاني ما روي عن أبي زكار الأعمى — وكان شاعرًا مُغَنِّيًا — وقد ذَكَروا أنه كان منقطعًا للبرامكة يُشْعِر فيهم ويُغَنِّيهم … وكَمْ بكى على مقابرهم بَعْد موتهم، وقد روى الأغاني أنه لما أَمَرَ الرشيد بقَتْلِ جعفر بن يحيى، دخل عليه مسرور الخادم فوجد عنده أبا زكار الأعمى، وكان يُغَنِّيه بالأبيات الآتية:

فلا تَبْعَدْ فكُلُّ فتًى سيأتي
عليه الموت يَطْرُقُ أو يُغَادي
وكُلُّ ذخيرة لا بُدَّ يومًا
وإن بَقِيَتْ تَصِيرُ إلى نَفَادِ
وهل يُغْنِي مِنَ الحَدَثَان شيءٌ
فَدَيْتُكَ بالطريف وبالتلادِ

فلما أراد أن يقبض على جعفر قال له أبو زكار: «ناشدتك الله إلا ألحقتني به» فقال له مسرور: «وما رغبتك في ذلك؟» فقال: «إنه أغناني عمن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده»، وحكى مسرور ذلك للرشيد فقال: «هذا رجل فيه مصطنع، فاضممه إليك فانظر ما كان يُجريه عليه جعفر فأتممه له»، وهي رواية تخالف بعض الشيء الرواية السابقة في مقتل جعفر.

كما كان من الأوفياء كثير من الصالحين والشعراء، فيروون أنه لما بلغ سفيان بن عُيَيْنَة — الإمام المشهور — خبر جعفر وقَتْلِه وما نزل بالبرامكة، حوَّل وجهه إلى القِبْلة، وقال: «اللهم إنه كفاني مؤنة الدنيا، فاكفه مؤنة الآخرة.»

ورثاهم كثير من الشعراء، فقال الرقاش:

هَدَأَ الخالون مِنْ شَجْوٍ فناموا
وعيني لَمْ يُلَامِسْهَا مَنَامُ
وما سهري لأنيَ مُسْتَهَامٌ
إذا أَرِقَ المحِبُّ المُسْتَهَامُ
وَلَكِنَّ الحوادث أَرَّقَتْنِي
فَلِي سَهَر إذا هَجَدَ النيامُ
أُصِبْتُ بِسَادَةٍ كانوا نُجُومًا
بِهِمْ نُسْقَى إذا انقطع الغَمَامُ
على المعروف والدنيا جميعًا
وَدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السلامُ
فَلَمْ أَرَ قَبْلَ قَتْلِكَ يا ابنَ يَحْيَى
حُسَامًا فَلَّهُ السيفُ الحُسَامُ
أما والله لولا خَوْفُ وَاشٍ
وَعَيْنٍ للخليفة لا تَنَامُ
لَطُفْنا حول جِذْعِكَ واسْتَلَمْنَا
كما للناس بالحَجَر اسْتِلَامُ

وقال دعبل الخزاعي:

ولما رَأَيْتُ السَّيْفَ صَبَّحَ جعفرًا
ونادى منادٍ للخليفة يا يحيى
بَكَيْتُ على الدنيا وأَيْقَنْتُ أَنَّمَا
قصارى الفتى فيها مُفَارَقَةُ الدنيا

وقال صالح بن طريف:

يا بني بَرْمَكٍ واهًا لَكُمْ
وَلِأَيَّامٍ لَكُمْ مُقْتَبِلَهْ
كَانَتِ الدنيا عَرُوسًا بِكُمْ
وَهِيَ الْيَوْمَ شلول أَرْمَلَهْ

وقد صودرت أموالهم، وأصبح مَنْ لم يُقتل منهم يَستجدي، وشوهدت أُمُّ جعفر تستجدي غنيًّا يوم الأضحى؛ فسألها عن حالها، فقالت: «والله لقد جاء عليَّ يوم مثل هذا وعندي أربعمائة وصيفة، وأنا أستقلهن، وأذبح الذبائح الكثيرة، وأوزع اللحوم، واليوم لا أملك إلا فروتين أفترش إحداهما وألتحف بالأحرى، وهكذا تُعَامَلُ الأيام!»

وكان للبرامكة حفيد اشتهر بالشعر والظرف يلقب جحظة البرمكي، وهو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى البرمكي، وكان يستجدي الأمراء بعد أن كان الشعراء يستجدون آباءه، ويعتز بالنسب إليهم، ويُبْكيهم على ما فعلت الدنيا بهم كقوله:

أنا ابْنُ أُنَاسٍ مَوَّلَ الناس جُودَهُمْ
فَأَضْحَوْا حديثًا للنوال المُشَهَّرِ
فَلَمْ يَخْلُ مِنْ إحسانهم لَفْظُ مُخْبِرٍ
وَلَمْ يَخْلُ مِنْ تَقْرِيظِهِمْ بَطْنُ دَفْتَرِ

وقوله:

أصبحت بَيْن معاشرٍ هجروا النَّدَى
وتقبلوا الأخلاق مِنْ أَسْلَافِهِمْ
قومٌ أحاول نَيْلهم فكأنما
حَاوَلْتُ نَتْفَ الشَّعْر مِنْ آنَافِهِمْ
هاتِ اسْقِنِيهَا بالكبير وغَنِّنِي
ذَهَبَ الذين يُعَاشُ في أَكْنَافِهِمْ

واشتد الرشيد على البرامكة شِدَّةً ليس فيها تسامُح، ولا لِين، ولا كَرَم؛ فقد نهى عن ذكر اسمهم، وعن وقوف الشعراء ببابهم أو مقابرهم، وعن رثائهم، ولعل عُذْره في ذلك أَنَّ البرامكة كانوا قبضوا على زمام كل الأمور، واصطنعوا كثيرًا من الشعراء والفنانين، وكان لهم أنصار من الفرس يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم، ويعتَزُّون بِعزَّتهم، فلعل هذا كله يسبب ثورة تطيح بعرش الخلافة نَفْسِها.

ومن أجل ذلك أيضًا خشي أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني، ومع هذا بلغ من بعض الناس الوفاء حتى عرَّضوا أَنْفُسَهُم للقتل مِنْ حُسْنِ ما فَعَلَ البرامكة معهم.

مآثر البرامكة

ومن ذلك ما يُروى أن بعض الحرس وجد إنسانًا واقفًا في بعض الخرابات وفي يده رثاء للبرامكة، فأخذ الحارس الرجل، وأتى به الرشيد، فقال له: «أما سمعت تحريمي لرثائهم؟» فقال الرجل: «إِنْ أَذِنْتَ لي يا أمير المؤمنين في حكاية حالي حكيتها، ثم بعد ذلك أنت ورأيك» فقال: «قل!» قال: «كُنْتُ مِنْ أَصْغَر كُتَّابِ يحيى بن خالد وَأَرَقِّهِمْ حالًا»، فقال لي يحيى: «أريد أَنْ تُضِيفَنِي في دارك يومًا!» فقلت: «يا مولانا أنا دون ذلك! … فداري لا تصلح لهذا» قال يحيى: «لا بد من ذلك»، قلت: «فإن كان لا بد فأمهلني مدة حتى أُصْلِحَ من شأني ومنزلي، ثم بعد ذلك أنت ورأيك» قال: «كم أُمْهِلُكَ؟» قُلْتُ: «سَنَة»، قال: «كثير»، قُلْتُ: «فَشُهور»، قال: «نعم.»

فمضيت وشَرَعْتُ في إصلاح المنزل، وتهيئة أسباب الدعوة، فلما تهيأت أعلنت الوزير بذلك، فقال: «نحن غدًا عندك» فمضيت، وتهيأت في الطعام والشراب، وما يحتاج إليه، فحضر الوزير في غده، ومعه ابناه: جعفر والفضل، وعِدَّة يسيرة من خواصه وأتباعه، فنزل عن دابته، وقال: «يا فلان إني جائع فعَجِّلْ لي بشيء»، وقال لي الفضل ابنه: «الوزير يحب الفراريخ المشوية فعجل منها ما حضر» فدخلت، وأحضرت منها شيئًا فأكل الوزير، ثم قام يمشي، وقال: «يا فلان فرجنا في دارك.»

فقُلْتُ: «يا مولانا هذه داري ليس لي غيرها» قال: «بل لك غيرها» قُلْتُ: «والله ما أَمْلِك سواها» فقال الوزير: «هاتوا بَنَّاءً» فلما حضر قال له: «افتح في هذا الحائط بابًا» فمضى ليفتح، فقُلْتُ: «يا مولانا كيف يجوز أَنْ يُفْتَحَ باب إلى بيوت الجيران، واللهُ أوصى بحفظ الجار؟» قال: «لا بأس في ذلك»، ثم فتح الباب، فقام الوزير وابناه فدخلوا فيها، وأنا معهم، فخرجوا منها إلى بستان حَسَنٍ كثير الأشجار والماءُ يتدفق فيه، وبه من المقاعد والمساكن ما يروق كُلَّ ناظر، وفيه من الأثاث والفرش والخدم والجواري كل جميل بديع، فقال: «هذا المنزل وجميع ما فيه لك!»

فَقَبَّلْتُ يده ودعوت له، فقال لابنه جعفر: «يا بُنَيَّ هذا منزل وعيال، فالمادَّة مِن أين تكون له؟» فقال جعفر: «قد أعطيته الضيعة الفلانية بما فيها، وسأكتب بذلك كتابها»، والتفت إلى الفضل، وقال له: «يا بُنَيَّ فمِن الآن إلى أن يَدْخُلَ دَخْلُ هذه الضيعة ما الذي يُنْفِقُ؟» فقال الفضل: «عليَّ عَشَرة آلاف دينار أَحْمِلُها إليه»، فقال: «فعَجِّلَا له ما قُلْتُمَا.»

فَكَتَب لي جعفر الضيعة، وحَمَل الفضل المال إليَّ فأُثْرِيتُ، وارتفع حالي، وكَسَبْتُ بَعْدَ ذلك معه مالًا طائلًا أنا أَتَقَلَّبُ فيه إلى اليوم، فوالله — يا أمير المؤمنين — ما أجد فرصة أَتَمَكَّنُ من الثناء عليهم والدعاء لهم إلا انتهزتُها؛ مكافأةً لهم على إحسانهم، ولن أَقْدِرَ على مكافأتهم، فإن كُنْتَ قاتلي على ذلك فافعل» فَرَقَّ الرشيد لذلك وأَطْلَقَهُ.

قسوة الترك

ولما نكب الناس بالبرامكة، وعاش من عاش منهم حتى رأوا سلطان الترك؛ أنشدوا قول القائل:

رُبَّ يومٍ بَكَيْتَ منه فَلَمَّا
صِرْتَ في غَيْرِهِ بَكَيْتَ عليه

فإن شِدَّة الأتراك وقَسْوَتَهُمْ مَكَّنَتْهُمْ مِنْ أن يقتلوا الخليفة بعد اثنتي عشرة سنة من سُلْطانهم.

وقد أكثر الترك من مصادرة الناس لأموالهم … وكان من مصائب الرجل أن يكون غنيًّا، وقد صادروا الكُتَّاب، وصادروا الأمراء الكبار، وأخيرًا تجرأوا فصادروا أم الخليفة المتوكل؛ لكثرة أموالها، حتى اضْطُرَّتْ إلى الهرب إلى مكة، وكانت تدعو وهي في مكة على التركي الذي سلبها أموالها، وهو صالح بن وصيف التركي، وتقول: «اللهم اخْزِ صالحًا كما هَتَكَ سترى وقَتَلَ ولدي، وشتَّتَ شملي، وأَخَذَ مالي، وغرَّبَني عن بلدي» مما لم يفعله — ولا بعضًا منه — الفُرْسُ في أيام سلطتهم، حتى إن البحتري لما شاهد قَتْلَ الترك للمتوكل خرج هائمًا على وجهه إلى إيوان كسرى، وفي ذلك إشارة إلى تفضيله حُكْم الفُرْس على حُكْم التُّرك، وقال قصيدته السِّينِيَّة المشهورة يصرح فيها بأن الفُرْس ليسوا بقومه، ولكن لهم فَضْل بما أَيَّدوا مِنْ مُلْكِهِمْ، وخدموا دولتهم … مع أنه ليس من جنسهم، وعلى العكس من ذلك كان التُّرْك، وإنما دعاه إلى ذلك — كما يقول — أنه كان يألف الأشراف مِنْ كُلِّ جِنْس، ويحب الأصول مِنْ كُل قوم؛ يقول:

ذاك عندي وليست الدار داري
باقترابٍ منها ولا الجنس جِنْسِي
غَيْر نُعْمى لأهلها عِنْد أَهْلي
غَرَسُوا مِنْ ذَكَائها خَيْر غَرْسِ
أَيَّدُوا مُلْكَنَا وَشَدُّوا قُوَاه
بِكُمَاةٍ تَحْتَ السَّنَوَّرِ حَمْسِ
وأراني مِنْ بَعْدُ أَكْلَفُ بِالْأَشـْ
ـرَاف طُرًّا مِنْ كُلِّ سِنْخٍ وَإِسِّ

وهكذا شتان بين سلطة العرب في عهد الأمويين، وسلطة الفُرْس في عهد الدولة العباسية الأولى، وعهد الأتراك في الدولة العباسية الثانية؛ فحكم البرامكة الذين نكبهم الرشيد لم يعوَّض في عَدْلِهم وكَرَمِهِم، والمحافظة على الخليفة الذين يعملون تحت سلطانه …

تدهور الدولة العباسية

وقد ذَكَر أحد المستشرقين أنَّ عهد الرشيد كان مبدأ انحطاط الدولة العباسية، وقد فكرت في ذلك، وأَطَلْتُ التفكير: هل هذا صحيح؟ وما هو السبب؟ لأنه لم يَذْكُر سببًا؛ هل لأنه في عهد الرشيد انقطعت بلاد المغرب عن المملكة؟ ولكن هذا وحده لا يكفي سببًا للانهيار؛ وإلا كان خروج الأندلس — وهي أعظم من المغرب — هي بدء الانهيار، أو يريد انتشار اللهو انتشارًا كبيرًا كالذي كان عند الرومانيين من أسباب سقوطهم … وهذا أيضًا غير صحيح؛ فإن اللهو والترف كان حظ الخلفاء، ومن يتصل بهم فقط، أما الشعب كله فأغلبه بائس فقير جاد … أو يريد تحقيق قول الشاعر:

ما طار طَيْر وارْتَفَعْ
إلا كَمَا طَارَ وَقَعْ

وهذا أيضًا غير صحيح؛ لأن عظمة الحضارة في عصر المأمون، كانت أكبر منها في عهد الرشيد.

وإنما السبب الذي يجعل هذا الرأي صحيحًا — في نظري — هو أنه في عهد الرشيد تجلت العصبيات، وبلغت فيه الذروة … فالأمويون كانوا متعصبين تعصبًا عربيًّا؛ فالولاة عرب وكل شيء عربي، أما الموالي فأذلاء خافتو الأصوات، حتى لَيظن العربي أن أخاه المولى لا يستحق أَنْ يَرِثَ كما يَرِثُ، وكان العربي أحيانًا لا يريد أَنْ يُصَلِّي وراء الإمام المولى.

فلما جاءت الدولة العباسية انتقلت العصبية للعرب إلى عصبية للفرس؛ فكانت التقاليد والأعياد، وغير ذلك فارسية، وانحط شأن العرب؛ لأن الدعوة العباسية قامت بأهل خراسان فحفظ العباسيون لهم جميلهم، وجاء البرامكة فزادوا هذه العصبية قوةً، فهم كانوا ينشرون الثقافة الفارسية، ويؤيدون كل ما هو فارسي، حتى رُوي أن الرشيد مرةً أراد أن يهدم إيوان كسرى فارتاع من ذلك البرامكة … وقال له يحيى: «لا تهدم بناءَ دارٍ دلَّ على فخامته شأنُ بانيهِ الذي غَلَبْتَه، وأخذْتَ مُلْكَهُ» قال الرشيد: «هذا مِنْ مَيْلِك إلى المجوس، لا بُدَّ مِنْ هَدْمِه» فَقُدِّرَ للنفقة على هَدْمه شيئًا اسْتَكْثَره الرشيد فأَمَرَ بتَرْك هَدْمِه، فقال له يحيى: «لم يَكُنْ ينبغي أنْ تَأْمُرَ بِهَدْمِه، أمَا وقد أمرت فليس يحسُن أنْ تُظْهِر عَجْزًا مِنْ هَدْم بِناء بناه عَدُوُّك» فلم يَقْبُلْ قَوْلَه، ولَمْ يَهْدِمْه.

فلما نُكِب البرامكة — وكانوا فُرْسًا — ضَعُفت العصبية للفُرْس أيضًا كما ضَعُفَتْ للعرب مِنْ قَبْل، وكان القتالُ بيْن الأمين والمأمون — الذي سببُهُ غَلَطُ الرشيد في توليتهما العهد مِنْ بَعْدِهِ — سببًا آخر في ضعف العصبيتين … فقد تَعَصَّب العرب للأمين، وتَعَصَّب الفُرْس للمأمون، فضعفت العصبيتان معًا؛ لأن القتال العنيف يُضْعِف الغالب والمغلوب، ولذلك لما جاء المُعْتَصِم لَمْ يستطع أن يَعْتَمِد على العرب ولا على الفُرْسِ، وأتى بعنصر ثالث وهو الأتراك، واعتمد عليهم، وقد تعصبوا لعنصرهم، وحاولوا إذلال العرب والفُرْس جميعًا، وَرَفْعِ شأنِ العنصر التركي عليهم، فنكلوا بالعرب ثم بالفُرْس، ثم نكلوا بالخلفاء أَنْفُسِهم … فمنهم مَن قَتَلُوه، ومنهم مَنْ سَمَلُوا عَيْنَيْه، وكلهم قد سلبوا سُلْطَتَه، وجرَّدوه مَنْ حَوْلَه.

وهذا ما يصح من أجله أن يُعَدَّ عهد الرشيد أول عهد بدأت فيه عناصر انحطاط الدولة العباسية، ويكون كلام المستشرق صحيحًا بهذا المعنى؛ فالأتراك نتيجة لنكبة البرامكة، والأتراك هم الذين أضعفوا شأن الخلفاء وأذلوهم، وما زالوا بهم حتى سلبوهم كل سلطة … ثم خُتِمَتِ المأساة بغزوة التتار.

نقطة سوداء

وعلى الجملة كانت نكبة البرامكة نقطة سوداء في تاريخ الرشيد؛ فقد أعلى البرامكةَ، ثم فتك بهم، وقد زلزلت الحادثة الشرق والغرب معًا؛ لأن البرامكة كانوا يحسنون معاملة الرعية، ويتولون كل شؤونهم، ويتقربون إلى الشعراء حتى قلَّ أَنْ نرى شاعرًا لَمْ يَقُلْ فيهم شعرًا، كالذي قاله بعضهم:

ألم تَرَ أَنَّ الشمس كَانَتْ سَجِينَةً
فَلَمَّا وَلَى هارونُ أَشْرَقَ نورُها
بِيُمْنِ أمينِ الله هارونَ ذي النَّدَى
فهارونُ وَالِيها ويحيى وزيرُها

وقول الآخر:

أَتَانَا بنو الأملاك مِنْ أرض بَرْمَكٍ
فَيَا طِيبَ أَخْبَارٍ ويا حُسْنَ مَنْظَرِ
إذا نزلوا بَطْحَاء مَكَّة أَشْرَقَتْ
بيحيى وذي الفضل بْن يحيى وجَعْفَرِ
فَتُظْلِمُ بَغْدَادٌ وتَجْلُو لنا الدُّجى
بِمَكَّة ما حَجُّوا ثَلَاثَةَ أَقْمُرِ
فما خُلِقَتْ إلا لِجُودٍ أَكُفُّهُمْ
وَأَقْدَامُهُمْ إلا لِأَعْوَادِ مَنْبَرِ

وقول الآخر:

رَأَيْتُ يحيى أَتَمَّ الله نِعْمَتَهُ
عليه يُؤْتِي الذي لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدُ
ينسى الذي كان مِنْ مَعْرُوفه أبدًا
إلى الرجال ولا ينسى الذي يَعِدُ

وقول الآخر:

أَجَدَّكِ هَلْ تَدْرِينَ إِنْ زُرْتِ لَيْلَةً
كَأَنَّ دُجَاها مِنْ قُرُونِكِ يُنْشَرُ
صَبَبْتُ لها حتى تَجَلَّتْ بِغُرَّةٍ
كَغُرَّةِ يَحْيَى حِينَ يُذْكَرُ جَعْفَرُ

إلى كثير من أمثال ذلك.

فالنقمة عليهم رَوَّعَتِ الناس، من تقريبٍ شديدٍ إلى تنكيلٍ شديدٍ، من غيرِ مَا ذنب معروف جَنَوْهُ.

وأما الغربيون فقد رَوَّعَهُمُ الحادث؛ لأنه لم يكُنْ في نظرهم عادلًا؛ فلم يُحَاكَمُوا بتهمة معينة، ولا سُمِعَت أقوالهم، ولا عُرِفَت أسباب النقمة عليهم، وتجلى المَنْظَر عن قوم في السماء وُضِعوا في الحضيض، ومِنْ أَيْدٍ تُقَبَّلُ إلى خدود تُرغَم … فنَقَمُوا على الرشيد فِعْلَته.

دفاع عن الرشيد

والحقُّ أن هذا عيب الحاكم المستبِد دائمًا؛ فهو عرضة لأنْ يَفْعَل أقصى الخير وأقصى الشر، وهذه الحادثة مما شهَّرت الرشيد، فالإنسان العظيم يشتهر بما يأتي مِن خيْر وشر، ولكنَّ عيْب هؤلاء المؤرخين أنهم يقيسون دائمًا الزمن الماضيَ السحيق في القِدَمِ بزمنهم، غيرَ مقدِّرين فروق الزمان والمكان، وبهذه النظرة عابوا على الإسلام — مثلًا — إقراره الرقيق وتعدُّد الزوجات، ونحو ذلك.

ولم ينظروا إلى الرقيق قبل الإسلام، وما فَعَلَه الإسلام، ولا إلى تعدُّد الزوجات قبل الإسلام وبعده، كذلك لم ينظروا إلى كل ظروف الرشيد، وما يُحيط به من شئونٍ عائليةٍ واجتماعيةٍ وغيْر ذلك، وقد كان الرشيد في أيامه مثالًا للملك الحاكم بأمره … فيه مزاياه، وفيه عيوبه، وما كان لأي رجل من رجال العصر الحاضر أنْ يَفْعَل غيْر ما فَعَل لو عاش في زمنه، وتَخَلَّق بأخلاقه، وأُحِيطَ بالبيئات التي أحاطت به.

فلنأخذ الأمور كما جرت، ولنقسها بمقياس زمانها لا بمقياس زماننا نحن، خصوصًا وأننا لم نسمع من الرشيد حُجَجَهُ فيما فَعَل، كما لم نسمع من البرامكة دفاعهم عن أنفسهم، وقد فَعَل أبو جعفر المنصور مِثْل ذلك في أبي مسلم الخراساني، وهو الذي قامت الدولة العباسية بفضله وفضل أمثاله، وكذلك قَتَل وزيره أبا أيوب المورياني، ووكل المهدي بمن سماهم الزنادقة، وهي أمور خفية جدًّا لا يعلمها إلا الله، والمتَّهَم، وكثيرًا ما يكون الشخص حُرَّ التفكير نوعًا ما فَيُتَّهَمُ بالزندقة، ويُقْضَى عليه.

نَعَمْ، إن الخطأ لا يُبَرِّر الخطأ … ولكن سُقْنَا هذا لنبين أن ما فَعَلَه الرشيد بالبرامكة هو طبيعة العصر وسُنَّةُ ذلك الزمان، بل نجد في عصرنا الحاضر أمثال ذلك … فقد نكل ملك فرنسا بالمسيو فوكيه، ونكل هتلر باليهود، ونحو ذلك كثير.

على أن المؤرخين يروون عن الرشيد ندمه على فعلته، وضِيق صدره مما كان، حتى ربما كان ذلك سببًا من أسباب رحيل الرشيد بعد قليل من النكبة من قصر الخلد ببغداد إلى الرقة بالجزيرة … لئلا تقع عينه على مساكنهم، ولا تُثيرُ الحزنَ في نفسه المناظرُ التي كان يراها، والمجالس التي كان يجلسها مع جعفر البرمكي، ونحو ذلك، يضاف إلى سبب انتقاله ثورات الشام المتوالية، وحاجته الشديدة إلى القرب منها لسهولة قمعها.

•••

ولا شك أنه كانت من مزايا البرامكة أنهم تحملوا عبء الدولة كلَّه عن الرشيد أيام كان غضًّا طريًّا لم ينضج بعد، فلما نكل بهم كان في سنٍّ ناضجة يستطيع أن يتحمل العبء الكبير الذي خلفوه؛ فقد كان في يدهم مناصب الوزارة، ومناصب الجيش الكبرى والإدارة، فحمل الرشيد كل ذلك.

وقد صمم الرشيد على قتل جعفر، وسجن يحيى، وبقية أولاده، فصادر أموالهم الكثيرة، ونكل بمن مدحهم، أو ظَلَّ يمدحهم بعد نَكْبَتِهِم إلا القليل، وأصبحت هذه الأُسْرة أُسْرة بائسة ذاقت من البؤس والشقاء بمقدار ما ذاقت من النعيم والرفاهية.

وتوفي يحيى، وهو في السجن … ولحق به ابنه الفضل.

المواليا

وكان مما يُؤثَرُ أنه في عهد الرشيد ظَهَر نوع جديد من الشعر يقال له المواليا، ظهر في بغداد بعد الفتك بالبرامكة؛ فقد ذكروا أن الرشيد لَمَّا قَتَل جعفرًا البرمكي أَمَرَ أَنْ لا يُرثَى بشِعرٍ، فرثته جارية له في بيتين على وزن خاص، وجعلت تنشدهما، وتقول: يا مواليا يا مواليا … إلخ … فلا كان شِعرًا ولا كان نثرًا، وهما:

يا دارُ أين ملوك الأرض أينَ الفُرْسْ
أين الذين حَمَوْها بالقنا والتُّرْسْ
قالت تُرَاهم رمم تحت الأراضي الدرْسْ
سكوت بعْد الفصاحة ألسنتهم خُرْسْ

وهذا النوع هو الذي تطور فيما بعد، وتطور اسمه مِنْ مواليا إلى مواويل، جمع مَوَّال.

الثورات في عهد الرشيد

وقد تعددت الثورات في عهد الرشيد لأسباب مختلفة، أوقعت الدولةَ أحيانًا في أزمات حرجة لولا حزم الرشيد وهِمَّته ورجاله … منها: غيظ الروم من عظمة المملكة الإسلامية وتفوقها، والاهتمام بدس الدسائس لإضعافها، ومنها: ميل الشاميين للدولة الأموية وحزنهم عليها، وغضبُهُم من الإيقاع بالأمويين، وتمنيهم أن تعُود السلطة للعرب، يدل على ذلك ما عُرف عن الدولة العباسية من غلبة سلطان الفرس عليها … حتى لَيَرْوُونَ أن رجلًا من الشاميين صرخ في المأمون عند زيارته للشام يقول له: انظر إلينا كما نَظَرْت إلى الفُرْس، ومنها: الحزب العلوي الذي كان يكره العباسيين أشد الكره بعد أن ضحك العباسيون عليه، ثم تخلوا عنه.

وقد ظلوا يحافظون على بيتهم، ويتطلعون إلى الحكم، وكلما مات إمام مستتر، أو قُتل، خلَفَه إمام آخر ينتظر للوقت المناسب.

ومنها: خروج الخوارج الذين ظلوا من عهد أن تكوَّنوا في عصر عليٍ يحافظون على مذهبهم، ويخرجون من حين إلى آخر، يودون تحقيق أمنياتهم، واستيلاء أحد من رجالاتهم على الدولة فيقضي فيها بكتاب الله وسنة رسوله، ولو كان عبدًا حبشيًّا، لا يَرْضَون عن أمويين ولا عن عباسيين؛ لأنهم في نظرهم كافرون، أو على الأقل ظالمون، أسرفوا في الشراب، وأسرفوا في النساء والغناء، وما إلى ذلك من بذخ … فوجبت إزالتهم عن المُلك وتولية من يصلح لهذا الغرض على مبادئهم.

ومنها أن بعض البلاد البعيدة رغبت في الاستقلال عن الخلافة، وحُكْم نفسها بنفسها، وعدم الخضوع للسيطرة العباسية عليها، إلى غير ذلك …

•••

كل هذا كانت تواجهه الدولة العباسية … وبكلمة أَوْجَز كان يواجهه الرشيد من حين إلى حين؛ فما نشبت ثورة وخمدت إلا قام غيرها، وبجانب ذلك كان الرشيد نفسه يريد أن يُضْعف الروم حتى لا يدسوا له الدسائس؛ فأنشأ مدينة تسمى العواصم للإعداد لغزو الروم منها، وكان يُدَبِّر لهم غزوة في الصيف تُسَمَّى الصائفة قد يقود جيشها بنفسه فيَغْنَم الغنائم الكثيرة التي كانت تُعَدُّ بابًا كبيًرا من أبواب الدخل، وغزوة في الشتاء تسمى الشاتية، ونحو ذلك.

  • فمن النوع الأول: مثلًا — أن ثار أهل الخزر في أيام الرشيد بتحريض من البيزنطيين، وعقدوا معهم شِبْهَ تحالُف، وأغاروا على أرمينية، وأفسدوا في البلاد، وأعملوا فيهم السيف، ومثَّلوا بالسكان الآمنين على نحوٍ لم يَسْبِق له نظير، فاضطر الرشيد أن يبعث إليهم حملات قوية تعاملهم بالقسوة والرعب، فانتصروا عليهم، وأخمدوا ثورتهم.
  • ومن النوع الثاني: ما قام به أهل الشام من ثورات متعددة، ثورةٍ بعد ثورة، مما جَعَل الرشيد يُفَضِّل انتقاله من بغداد وسكناه في الرقة كما ذكرنا.
  • ومن النوع الثالث: ما قام من ثورات علوية تريد الاستيلاء على الخلافة، وقد ظهر في أيام الرشيد الإمام موسى الكاظم الذي سُمِّيَ كاظمًا لصبره وكَظْمِ غَيْظِه ودماثة خُلُقِهِ، ومقابَلته الإساءة بالإحسان، وكان محبوبًا من جميع أهل المدينة، فخشي منه الرشيد، وأمر بالقبض عليه، وأتى به إلى بغداد، وسلَّمه إلى أخت السندي بن شاهك … وكانت امرأة فاضلة عاملت سجينها بالعطف والإحسان، فظل مسجونًا حتى تُوُفِّي في منزل سجينته، وخلَفه في إمامة الشيعة ابنُه عَلِيٌّ الرضا، وكان أعلم أهل بيته في الفقه والآداب.
  • ومن النوع الرابع: ما ظهر من الوليد بن طريف الشاري الشيباني، وقد كان زعيم الخوارج في أيامه، وكان شجاعًا فتاكًا يقيم بنصيبين والخابور، فخرج في خلافة الرشيد في حشد حاشد، فأرسل إليه هارونُ يزيدَ بن مزيد الشيباني فظهر عليه يزيد وقَتَلَه.

    وكان للوليد هذا أخت تسمى الفارعة تجيد الشِّعر، وتَسْلك سُبُل الخنساء في مراثيها لصخر، وقد رثت أخاها الوليد في قصيدة من قصائدها بقولها:

    فيا شَجَرَ الخابور مَا لَكَ مُورِقًا
    كأنكَ لَمْ تَجْزَع لِمَوْت طَرِيفِ
    فتًى لا يُحِبُّ الزاد إلا مِنَ التُّقَى
    ولا المالَ إلا مِنْ قنا وسُيُوفِ
    حَلِيف الندى ما عاش يَرْضَى به النَّدى
    فإن مات لا يَرْضى النَّدى بِحَلِيفِ
    فَقَدْنَاكَ فقْدَان الشباب وَلَيْتَنَا
    فَدَيْنَاكَ مِنْ فَتَيَاتِنَا بِأُلُوفِ
    وما زال حتى أَزْهَقَ الموتُ نَفْسَهُ
    شَجًى لِعَدُوٍّ أو نَدًى لِضَعِيفِ
    ألا قَاتَلَ الله الحشا حَيْثُ أَضْمَرَتْ
    فتًى كان لِلْمعروف غيرَ عيوفِ
    فإن يك أَرْدَاه يَزِيدُ بْنُ مِزْيَدٍ
    فَرُبَّ زُحُوف لَفَّهَا بِزُحُوفِ
    عليكَ سلامُ الله وَقفًا فإنني
    أرى الموتَ وَقَّاعًا بِكُلِّ شَرِيفِ

    وكان الوليد يوم الوقعة ينشد:

    أنا الوليد بْنُ طريفِ الشاري
    قَسْوَرَةٌ لا يُصطَلَى بناري
    جُورُكُمُ أَخْرَجَنِي مِنْ داري

    وقد تزعمت الفارعة حركة الثوار بعد مقتل أخيها، وتولت القيادة بنفسها، واشتبكت مع جيش الرشيد في معركتين داميتين حتى نَهَرَهَا أحد أقاربها … فأمرها أن تُلْقِيَ السلاح، وتَعُود إلى خدرها، وكانت وسيمة الطلعة، رشيقة القوام، أديبةً ظريفةً، تحفظ الشِّعر وتقوله.

  • ومن النوع الخامس: أن بلاد تلمسان بالمغرب أرادت أن تنفصل عن الدولة العباسية فثارت، وحَمَّلت الدولة مبالغ طائلة لإخضاعها، وكانت مصر تدفع نحو مائة ألف دينار سنويًّا من إيرادها الخاص لسد عجز حكومة أفريقيا، حتى تَمَكَّن إبراهيم بن الأغلب من الاتفاق مع الرشيد على تهدئة الثورة، وتَحَمُّل المبلغ الذي تدفعه مصر، وتقديم أربعين ألف دينار سنويًّا إلى حكومة بغداد.
  • ومن النوع السادس: أن الرشيد كان يهتم أكبر اهتمام بالروم، خصوصًا بعْد أنْ أَخَلُّوا سنة ١٨٠ بشروط الهدنة التي كانت إيريني قد عَقَدَتْها مع المنصور؛ إذ أغاروا على البلاد الإسلامية فبعث إليهم الرشيد مَنْ هَزَمَهُم، واستولى على مدينة لهم بِقُرب أنقرة، وعلى أنقرة نفسها، وأعاد احتلال قبرص بعد أن خرجت من أيدي المسلمين … وألزم الروم بدفع الجزية، وتبادُل الأسرى، ولكن نقفور ملك الروم كتب إلى الرشيد — فيما يرويه مؤرخو المسلمين — رسالةً غير مؤدبة يقول فيها:

    مِن نقفور مَلِك الروم إلى هارون مَلِك العرب.

    أما بعْد … فإن الملكة التي كانت قبلي أَقَامَتْكَ مَقام الرخ، وأَقَامَتْ نَفْسَها مَقَامَ البيدق؛ فَحَمَلَتْ إليك مِنْ أموالها ما كُنْتَ حقيقًا بِحَمْل أمثاله إليها، ولكن ذلك ضعف النساء وحُمْقُهُنَّ، فإذا قَرَأْتَ كتابي، فاردُدْ ما حُصِّلَ قِبَلَكَ من أموالها، وافتدِ نَفْسك بما تَقَعُ به المصادرة لك … وإلا فالسيف بيننا وبينك.

فغضب الرشيد من هذا الكتاب غضبًا شديدًا، حتى لم يجرؤ أحد على النظر إليه من غضبه … وكتب إليه كتابًا غير مؤدب أيضًا — والبادي أظلم — يقول فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم … من هارون الرشيد إلى كَلْب الروم.

قد قَرَأْتُ كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه.

وقد بَرَّ الخليفة بإيعاده، وشَخَصَ بنفْسه على رأْس جيشه، حتى وصل إلى «هرقلة» — إحدى البلاد البيزنطية — فدارت بين الفريقين معركة حامية؛ أسفرت عن هزيمة الروم هزيمة مُنْكَرَة، وقد تبين من هذه الحروب أن الفنون الحربية عند المسلمين كانت أرقى منها عند الروم، وتَوَسَّلَ نقفور إلى الرشيد أَنْ يَقْبَل منه جزية أكثر من تلك التي قَبِلَهَا من إيريني، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وقد كانت تنشأ ثورات أخرى، مَنْشَؤُها محاولة إرجاع الدولة العباسية إلى عهد الفُرْس الماجد الزاخر، وهذا داء قديم.

وكثير ممن اتُّهموا بالزندقة، وقُتِلوا عليها في عهد المهدي، كانوا أشخاصًا حاولوا مثل هذه المحاولة، وكانت ثورات سياسية … إنما صُبِغت بالصبغة الدينية لاستمالة الرأي العام. وقد اتُّهِم البرامكة بمثل هذه التهمة بجانب التهم التي عددناها، وذلك مثل ثورة الخرمية في طبرستان … فقد تحركوا بناحية أذربيجان تدعوهم إلى ذلك القومية — على ما يظهر — فوجَّه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عَشَرة آلاف فارس فأسر وسبى حتى انتهى أمرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤